تفسير سورة هل أتى - ج ٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة هل أتى - ج ٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩١
الجزء ١ الجزء ٢

الفصل الخامس والعشرون :

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)

٢٠١
٢٠٢

قوله تعالى :

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً).

«وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ» :

قلنا فيما تقدم : إن الله تعالى قدّم ما يفيد في إعطاء الوضوح ، واليقين ، والثبات ، الذي هيّأ له التذكير بأن هذا القرآن الذي يتنزّل تدريجا ، يحمل معه ما يدلّ على صدقه ، وظهور حقائقه في الوقائع المتتالية ، بسبب انطباق الآيات عليها ، مع أنها قد نزلت قبلها بزمان.

وقد جعل سبحانه هذا دليلا على لزوم الصبر لحكمه تعالى ، وها هو الآن بعد هذا وذاك ، قد عقب ذلك بالطلب من نبيّه الكريم : أن يذكر اسم ربّه بكرة وأصيلا ..

ولتوضيح أجواء هذا الأمر الإلهي نقول :

قد تحدّثت هذه السورة المباركة عن الإنسان حتى قبل نشوئه ، ثم تابعته في مسيره إلى مصيره ، وبينت حاجته إلى الهداية ، والرعاية الإلهية ، فأصبح واضحا : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي يتحمّل مسؤولية هدايته ورعايته وإعداده ، وإزالة الموانع من طريقه في كلّ هذا المسير الطويل ، ولذلك خلق الله سبحانه نبيه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل خلق الخلق ، لكي يرافق هذا الخلق بروحه الطاهرة ، ثمّ في نشأته البشرية إلى أن قبض الله روحه ، ولكنه أيضا لم ينقطع بالموت عن مواصلة رعاية البشرية ، بل هو لا يزال مرافقا لها ، وسيبقى معها ، حتى حينما

٢٠٣

تنتهي إلى مصيرها النهائي في الآخرة ..

إن مهمّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تنتهي بموته في الدنيا .. بل هو الشاهد على هذه الأمّة ، والمراقب لأعمالها ، والراعي لها حتى في النشأة الأخرى ، وهو الذي يتّخذه المؤمنون وسيلة لهم إلى الله تعالى ، ليقضي حاجاتهم في الدنيا ، وليشفع لهم في الآخرة ، وهو الذي ينجدهم في الشدائد ، بل ويحضرهم عند الموت ، وهو صاحب الحوض في الآخرة ، يسقيهم وصيّه منه ، أو يمنعهم عنه.

فإذا كانت للنبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه المهمة الخطيرة ، فهو يحتاج إلى التثبيت ، وإلى الصبر الذي لا ينتهي عند حدّ ، ـ إذ إن القضيّة ليست مجرّد حدث صعب يمرّ في تاريخ حياته وينتهي .. بل هو حدث مستمر ، دائم التحدّي ، لحظة فلحظة ، وإلى أن تقوم الساعة ـ لأنه يتصدى للطواغيت ، وللأهواء ، وللغرائز. والعدوّ الذي يقاومه ويريد تحصين نفسه منه ، دائم الحضور معهم ، بالغ التأثير عليهم ، وهو عدو لا يكلّ ولا يملّ ، له حالات ومحاولات ، وقوّة وضعف ، مما يعني أنه سيبقى دائما في موقع التمرّد ، والطغيان ، والإغراء.

فلا بدّ من التدرّع بالصبر ، ولبس لبوسه ، دون كلل أو ملل .. ولا بدّ من وسيلة تنتج هذا الصبر ، وتحافظ على قوته ، وتضاعفها باستمرار.

وإذا كانت مهمة الرسول ومسؤوليته لا تنحصر بزمان ، فكيف يمكن إنتاج هذا الصبر الدائم والمستمر ، ليمكن القيام بأعباء هذه المسؤولية ، ومواجهة المغريات والتحديات؟! ..

إن هذا هو ما تكفلت هذه الآية المباركة ببيانه .. فهي تقول : إن على هذا الرسول ـ كما هو على كل البشر ـ واجبات لا بدّ لهم من القيام بها.

٢٠٤

وإن صبره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصبرهم إنما هو بالله سبحانه. وقوته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقوتهم إنما هي به ومنه تعالى. ولذلك قال عزوجل سبحانه لنبيّه هنا :

«وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ» :

إن الملاحظ هو أنه سبحانه قال : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ).

ولم يقل : «اذكر ربّك» ، ربما لأن كلمة «اذكر» قد يراد بها التذكّر في مقابل النسيان ، كما قال سبحانه : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) (١) ، فيكون المطلوب هو إعادة التوجّه إليه بعد الغفلة عنه .. وهذا المعنى غير مراد هنا ، فإن الغفلة عن الله تعالى مما لا يتوهّم في حق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .. إلا إذا كان الله سبحانه يريد بخطابه هذا ، تعليم الآخرين ، وتنبيههم من غفلتهم ..

وأما القول بأنه تعالى : يريد بذلك مواجهة نبيه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالوقائع بطريقة حاسمة ، ومن موقع ألوهيته تعالى ، تماما كقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (٢) وقوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٣).

فهو غير مقبول ، لأن المراد هنا ـ كما يشير إليه سياق الآيات ـ هو إظهار التحنّن على الرسول ، واللطف والرفق به .. وطمأنته إلى المعونة الإلهية والرعاية الربانية ..

__________________

(١) سورة الكهف الآية ٢٤.

(٢) سورة الزمر الآية ٦٥.

(٣) سورة الحاقة الآيات ٤٤ / ٤٦.

٢٠٥

لماذا اسم الله؟! :

وأما السبب في أنه تعالى ، قد أجرى الكلام عن ذكر اسم الله ، فهو أن المقام مقام الذكر المستبطن لمعنى المعرفة ، ومن البديهي : أنه لا يمكن معرفة كنه الله ، وحقيقة ذاته تعالى. بل هو جلّ وعلا يعرف بأسمائه وتجلياتها ، ومنها صفات فعله التي هي بالنسبة لنا أدلّ شيء عليه ، إذ إننا نشعر بالحاجة إلى الرزق فيرزقنا الله ، فنسمّيه بالرزّاق ، ونحتاج إلى الشفاء ، فيشفينا ، فنسمّيه بالشافي ، ونحتاج إلى الرحمة فيرحمنا فنسمّيه بالرحمن ، وبالرحيم .. وكذا الحال بالنسبة للخالق ، والودود ، والمعزّ ، والمذلّ ، والمنتقم ، والكريم ، وغير ذلك ..

إذن ، فنحن نستحضر مفهوم هذه الصفة أو تلك له تعالى في أذهاننا لتكون هي المشيرة إليه ، والدالة عليه سبحانه.

ولكن معرفة الأنبياء والأوصياء له تعالى ، أعمق وأدق من معرفتنا هذه ، فإنهم يعرفونه سبحانه باسمه الألوهي ، وبما يريهم إيّاه من أسرار خلقه ، وملكه ، وملكوته ، وعجائب صنعه ، وآياته. فإن الله سبحانه قد أرى نبينا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله من آياته حين الإسراء والمعراج ، إلى البيت المعمور حيث المسجد الأقصى ، وأراه من آياته الكبرى في معراج آخر إلى سدرة المنتهى ، كما في سورة النجم .. وأرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض.

وقد يعرف الله سبحانه باسمه العظيم ، وباسمه الأعظم .. ولعلّ هذا هو ما تريد الآية أن تلمح إليه ، حيث قالت : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ). ولم تقل : أسماء ربّك .. لكي لا يقال : إن المراد هو الأسماء الحسنى .. كما أنها لم تقل اذكر الله ..

٢٠٦

وعلى كل حال ، فإن ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لاسم ربّه ، ليس لأنه يغفل عنه ، بل لأنه يريد تعميق معرفته في أعماق وجوده.

«ربّك» :

ولا حاجة بنا إلى معاودة التذكير بأن التعبير بكلمة «رب» دون كلمة الإله ، أو الله ، قد جاء ليشير إلى التربية والرعاية الإلهية ، من موقع الحكمة ، والمحبة ، وأنه يبقى موضع العناية والاهتمام الربوبي.

وقد أضاف كلمة «الربّ» إلى كاف الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليشير إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هو نفسه ـ وبما هو شخص له خصوصياته التي تميّزه عن الآخرين ـ مورد العناية ، ومحل اللطف الربوبي ، وليس اللطف عامّا ، ويكون هو من الأفراد الذين يشملهم ذلك العام.

«بُكْرَةً وَأَصِيلاً» :

ثم إن ثمة أكثر من نقطة ترتبط بالبكرة والأصيل ، اللذين ذكرا في الآية المباركة ، وفيما يلي تذكير بما تيسر منها :

١ ـ الوقت ليس مجرّد وعاء :

قد دلّت الآيات الشريفة ، والتشريعات المختلفة ، على أن للوقت وللمكان قيمة واقعية ، ونصيبا حقيقيا ، في تحقيق الغايات من التشريع ، فللصلاة أوقاتها ، كما للحج ، وللصوم ، وغير ذلك ، بحيث لو أن الصائم أفطر قبل الغروب بدقيقة واحدة بطل صومه ، وكذا لو صلّى قبل الظهر بدقيقة واحدة ، بل لا بدّ من إعادة هذه وذاك. مع أن الأفعال المشترطة بالوقت لا تتفاوت فيما بينها.

فدعوى أن الوقت كالمكان مجرّد ظرف لوقوع الفعل ، وليس له أي تأثير في الأمر العبادي ، غير صحيحة ..

٢٠٧

وكما أن للمكان والزمان تأثيرهما في الغايات من التشريع ، فإن لهما قد استهما أيضا ، فالكعبة مقدّسة ومباركة ، والحجر الأسود مقدّس ومبارك ، وللمسجد حرمته.

وقد جعل للصلاة في المسجد قيمة ، وللصلاة في المسجد الحرام ، عند الكعبة قيمة ، وحدد للطواف مكانا لا يصحّ في غيره ، وحدد أيضا للسعي والرجم ، والوقوف أماكن خاصة بهم ، بل هو قد تدخّل في عدد الحصيّات التي ترمى بها الجمار ، وطلب أيضا .. أن تؤخذ من مكان بعينه.

٢ ـ ما المراد بالبكرة والأصيل؟ :

قد يقال : إن الهدف من ذكر البكرة والأصيل في هذه الآية المباركة هو الحثّ على الصلاة في الأوقات الخمس ، لوقوعها جميعا في وقتي : البكرة والأصيل ..

ونقول :

أولا : إنهم يقولون : إن المقصود بالأصيل العصر ، أو ما بعد العصر ، وبالبكور الصباح ..

وهذا معناه : أن أوقات الصلوات الخمس لا يصحّ إرادتها هنا ، لأن الظهر ليس من الصباح ، ولا من العصر ، كما أن العشاء الآخرة ليست منهما ، بل وكذلك صلاة المغرب ، لأن الأصيل هو حيث تميل الشمس ميلا ظاهرا إلى جهة الغرب ، فلا بدّ فيه من وجود الشمس ظاهرة في الأفق ، وصلاة المغرب إنما تكون بعد غيابها.

إلا أن يقال : إن المغرب والعشاء قد أشير إليهما في الآية التالية ، وهي قوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ).

فلو سلمنا ذلك ، ولم نقل : إن المراد هو صلاة الليل ، فإننا نقول : يبقى

٢٠٨

الإشكال في صلاة الظهر ، فإنها ليست بكرة ، وليست أصيلا ، كما هو ظاهر ..

ثانيا : إن الآية لم تذكر الصلاة أصلا .. فلماذا الإصرار على إضافة هذه الخصوصيّة إلى مضمونها؟!

٣ ـ التّنصيص على البكرة والأصيل :

ويبقى سؤال هو : لماذا اختار الله سبحانه التّنصيص على هذين الوقتين : البكرة والأصيل ، دون سواهما؟

ويمكن أن يجاب :

أولا : إن لكلّ وقت إغراءاته ، وصوارفه ، وشياطينه الخاصة به ، التي تزيّن للناس المعاصي المناسبة لتلك الأوقات ، ففي النهار مثلا يواجه الإنسان الناس ، ويتعامل معهم ، ويبيع ويشتري ، و.. و.. فيأتي الشيطان ، ويقول للإنسان : انظر للأجنبية بشهوة ، اكذب على الناس ، تعامل مع الناس بالرّبا ، غشّ الناس ، استهزئ بهم ، أخسر المكيال والميزان ، الخ ..

وفي الليل أيضا هناك شياطين تغري بالمعاصي التي تناسب الليل ، فتقول للإنسان : تجسس ، واسرق ، انظر إلى داخل البيوت ، اذهب إلى سهرات الغيبة ، إزن .. الخ ..

فجاء الأمر بذكر الله في هذين الوقتين ، لإبعاد جميع أنواع الوسوسات الشيطانية عن الذاكر لربه .. ليستقبل يومه وليله بروح صافية ، وبعزيمة قوية ، وراسخة ، وقادرة على مقاومة كل الإغراءات.

وفي هذا من التعليم والإرشاد للناس ، ما لا يحتاج إلى مزيد بيان.

ثانيا : هناك أوقات يرغب الإنسان بأن يبعد فيها عن نفسه همومه وأفكاره ، ويخلد للراحة ، إمّا بالنوم ، أو بالانشغال بما يروّح به عن نفسه ، أي أنه يطلب الاستغراق في الغفلة عن واقعه ، أو الخروج منه.

٢٠٩

ومن هذه الأوقات وقت صلاة الصبح ، ووقت العودة من العمل المرهق طيلة النهار.

فذكر الله سبحانه في خصوص هذين الوقتين يخرج الإنسان عن حالة الغفلة التامّة ، ويحصرها في خصوص الغفلة عن أمر الدنيا ، ويجعله واعيا متيقّظا لأمر الآخرة.

ثالثا : إن هذين الوقتين ، وإن كانا من أوقات الغفلة عادة ، ولكنهما في الحقيقة هما الوقتان اللذان تكون النفس فيهما في أشد حالات الاسترخاء ، والصّفاء والاستعداد لتقبّل أيّ وافد جديد عليها.

فإن الإنسان بدءا من وقت الأصيل يتهيّأ للاختلاء بنفسه ، وللعودة بأفكاره الشوارد إلى دائرته ومحيطه الحقيقي. ويكون مستعدّا للتأمّل ، واللقاء مع الله سبحانه ، والاتّصال به مباشرة بصورة أعمق ، وبسهولة ويسر ، ووضوح وصراحة ، لا تقاس بالصراحة والوضوح فيما لو حاول اللقاء بالله ، وهو في متجره ، أو في دائرته ، أو نحو ذلك. فثمّة صوارف ومعوقات في مواضع العمل ، وقد زالت الآن ، ولأجل هذه الميزات بالذات كانت صلاة الليل من أهم الأعمال العبادية.

إن الله يريد أن يكون الوقت الذي تطلع فيه الشمس بين قرني شيطان ، والوقت الذي تغرب فيه بين قرني شيطان ، وقت خلوة بالله ، وانقطاع إليه ، وتهجّد وعبادة له ، ليرغم بذلك كل مردة الشياطين من الجن والإنس أجمعين ..

والخلاصة : أن الاتصال مع الله ليس جوارحيا بل هو قلبي جوانحي ، وفي العمل الجوانحي تطلب الأوقات التي تناسب هذا الاتصال ، وتزيد من القدرة على تحقيق غاياته. وذلك إنما هو حيث لا يكون القلب

٢١٠

منشغلا بأعباء الجوارح ، ومنهمكا في ترتيب ، وبرمجة ، ومراقبة نشاطاتها ..

وإنّ الليل بل وابتداء من الأصيل وإلى حين البكور ، يكون هو الوقت المناسب للقاء القلوب بالله سبحانه ، والتفاعل معه ، والانجذاب إليه. حيث تكون الجوارح قد سكنت أو كادت ، ولقاء القلوب مع الله سبحانه لقاء واقعي ، وهو لقاء رضي وحميم.

استغراق الوقت في العبادة :

ولا حاجة إلى التذكير بأنّ الله سبحانه لا يريد لهذا الإنسان أن يعيش الغفلة عن الله سبحانه ، بل يريد له أن يكون معه في كل لحظات حياته ، حتى في أكله وشربه ، وعمله ، وفراغه ، ونومه ويقظته ، ولذلك جعل له النوم في شهر رمضان عبادة ، والأنفاس فيه تسبيح ، فالنوم إذا كان في طاعة الله ، فإن الله لا يعده من موارد الغفلة.

وقد نام علي عليه‌السلام على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة الهجرة ، وكان ينام في أيام الحصار في شعب أبي طالب في فراش الرسول ، حتى إذا كان هناك تدبير يستهدف حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل المشركين ، فإنه سوف يصيب الإمام عليا عليه‌السلام ، ويسلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ..

فنوم علي عليه‌السلام هذا .. ليس نوم الغافلين ، بل هو ذكر ، وعبادة ، وفداء ، وجهاد ، وحضور حقيقيّ بين يدي الله جل وعلا.

فالله سبحانه من خلال هذا التوجيه الذي وجهه لرسوله يريد منا ومن كل مؤمن أن لا تكون في حياته غفلة ولو للحظة واحدة ..

وبذلك يكون ما ورد في هذه الآية والتي بعدها كناية عن لزوم ذكر اسم الله مستغرقا لجميع الأوقات في النهار ، ثم يكون السجود والتسبيح

٢١١

مستغرقا أيضا لليل الإنسان كله ، وبذلك يكون دائم الحضور بين يدي الله ، في ساعات العمل ، وفي ساعات الفراغ ، وحين ينام ، وحين يستيقظ ، وفي كل حالاته وشؤونه ..

فلا معنى للتعبير الدارج بين الناس : «ساعة لك ، وساعة لربّك». والتي تعني أنّ الإنسان في الساعة التي له ، يمكنه أن يلهو ، وأن يفعل ما يشاء ..

نعم لا معنى لهذا التعبير ، بل على الإنسان أن يجعل كلّ حياته لله سبحانه ، ذاكرا له ، وحاضرا بين يديه ..

وأما التأكيد على الناس الوارد عن الأئمة عليهم‌السلام بأن يذكروا الله تعالى ، في ثلاثة أوقات ، هي : الوقت ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس ، وساعة ما قبل الغروب ، والثلث الأخير من الليل .. فإن المراد هو التنصيص على خصوص هذه الأوقات ، لأنها من ساعات الغفلة عند الناس عادة .. فكأنه يقول : اذكروا الله في جميع أوقاتكم وخصوصا في هذه الأوقات الثلاثة .. أما الأبرار فلهم شأن وحديث آخر ، إذ إنهم دائما في حالة ذكر لله ، وحضور مستمر بين يديه تبارك وتعالى ..

ولعلّ مما يؤيّد : أنّ المراد هو استغراق الوقت كله في ذكر اسم الله تعالى .. أنه تعالى قد وصل ذلك بقوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ..)

* * *

٢١٢

الفصل السادس والعشرون :

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً)

٢١٣
٢١٤

قوله تعالى :

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً).

«وَمِنَ اللَّيْلِ» :

ويلاحظ هنا : أنه تعالى قد استهل كلامه بكلمة «من» المفيدة للتبعيض ، أي : خذ وقتا أو قطعة من الليل ، وخصصها للسجود لله تعالى .. ثم ذكر أن التسبيح يجب أن يكون في الليل كله ، مهما كان طويلا ، فقال : (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً).

وبذلك تكون حصّة التسبيح هي التي تأخذ الوقت الأطول ..

ثم يلاحظ هنا أيضا ، هذا التّدرج والانتقال. حيث بدأ بذكر اسم الله في الحصة النهارية ، ثم انتقل إلى السجود في بعض آنات الليل. ثم انتقل إلى التسبيح في الليل بطوله .. ولهذا التدرج معناه ، ومغزاه ، كما ربما تأتي الإشارة إليه.

وثمة ملاحظة ثالثة هنا ، هي : أن ذكر اسم الله تعالى قد ورد في النهار فقط ، ولم ترد إشارة إليه في الليل ، كما أنه لم يضف إليه شيء آخر من تسبيح وغيره.

ولكنه بالنسبة لليل ذكر أمرين ، أحدهما السجود لله ، والآخر التسبيح.

فلما ذا التخصيص في النهار بما ذكر ، ولماذا التنويع في الليل على النحو الذي أشرنا إليه ، فإننا لا نشك في أن هذا التنويع مقصود ومتعمد.

٢١٥

ويدل على هذا التعمد : أن هناك أحكاما تختص بعبادات الليل ، ولا تشمل عبادات النهار ، كالجهر بالقراءة ، فإنه واجب في الصلاة الليلية ، لكن الإخفات هو الواجب في النهارية.

وربما يحاول البعض : تعليل ذلك بأن ظهور الإنسان للآخرين ، إنما يكون في النهار غالبا ، فيصبح أكثر تعرّضا لخطر الرياء في الصلاة من خلال تحسين الصوت في القراءة ، والتأني فيها ، ومراعاة قواعد التجويد ، وما إلى ذلك ..

وكذلك الحال بالنسبة لإظهار حالات الخشوع ، والخضوع ، وإجراء الدموع ..

غير أننا نقول :

إن هذا قد يكون من فوائد الأمر بالإخفات نهارا ، والجهر ليلا .. لكنه لا يكفي ليكون هو العلّة التامّة لهذا التشريع.

غير أن مما لا شك فيه : أن للوقت وللمكان خصوصية في التشريع .. ولذلك حدد الشارع للكثير من التشريعات أوقاتا تناسبها.

كما أن هناك خصوصية أخرى ، وهي كثرة المستحبات في الإسلام بحيث لا يمكن لأحد أن يأتي بها جميعا ، فمثلا قراءة القرآن مستحبة دائما ، والصلاة والتسبيح كذلك. فكيف يمكن الجمع بينها؟

ثم إن للكثير من المستحبات درجات عظيمة من الثواب ، ولعل بعضها أكثر ثوابا من بعض الواجبات .. ولعل سبب ذلك : أن الرقيّ ، والسموّ الروحيّ ، والتكامل في الشخصية الإيمانيّة ، إنما يكون للمستحبات الدور الأهم فيه.

ولربما لا يقدر البعض ـ بحكم طبيعة عمله ، أو بحكم ما يملكه من

٢١٦

طاقة جسدية ـ على الاستفادة من بعض أنواعها .. فصاحب الدكّان لا يمكنه أن يشغل نفسه بالصلاة مثلا .. ولكنه يقدر على الصيام ، أو على التسبيح ..

وربما يكون المستوى الثقافي ، والمعرفي قد لا يسمح له بالاستفادة المطلوبة ، أو يحجزه عن المبادرة إليها واختيارها ضعف قدراته الاستيعابية. أو لعلّ نفسه تقبل الآن على هذا النوع من العبادة ، ثم تقبل غدا على نوع آخر ، فلا يحرمه الله تعالى من ذلك في كلتا الحالتين ، فإن للنفس إقبالا وإدبارا.

بل إن من الناس من لا يعرف القراءة ، أو ليست لديه ثقافة تمكنه من إدراك المعارف القرآنية ، ولكنه يميل إلى خدمة الناس ، وقضاء حوائجهم ، أو يميل إلى الصيام المستحب ، أو زيارة المشاهد المشرفة ..

ثم إن لبعض المستحبات ارتباطا بعاطفة الإنسان ، أو بخلقه الإنساني ، مثل مجالس العزاء ، والاهتمام بالأيتام ..

فكل هذا التنويع يعطينا : أنه سبحانه يريد أن يفتح للإنسان جميع أبواب الوصول إليه جلّ وعلا من خلال تشريعه للوسائل المختلفة ، فيختار كل إنسان منها ما يناسب واقعه ، وحاله ، وظروفه ، فيفتح قلبه ، ويعمّق إيمانه بواسطة هذه الطرق إلى الله تعالى ، ويدخل الهدى والإيمان إلى قلبه ، فإن الأبواب إلى القلب مختلفة فتارة تكون ذات سمة عاطفية ، وأخرى فكرية تأملية ، وثالثة تكون ذات قيمة أخلاقية ، أو وجدانية ، أو حالة مشاعرية.

كما أن للحياة الاقتصادية ، وللمواقع الاجتماعية مجالات متنوعة ، يمكن أن تكون هي الأخرى أبواب هداية وسبل نجاة .. وقد قرر الشارع

٢١٧

الكثير من العبادات المالية المختلفة والمتنوعة .. وأشار أيضا إلى استخدام الجاه والموقع لقضاء حاجات المؤمنين ، أو الدفع عنهم ، وما إلى ذلك ..

فكلّ خصوصية في التشريع قد حسب لها حسابها في تيسير الهداية للناس ، حتى الركعتان اللتان هما تحية للمسجد ، وتشريع كراهة الصلاة في معاطن الإبل ، أو في الحمام ، أو ما إلى ذلك ..

وبذلك يتضح : أن الله سبحانه حين يشرّع ذكره ـ فقط ـ لأوقات الغفلة بكرة وأصيلا .. ثم يشرع السجود في بعض الليل ، والتسبيح في الليل الطويل ، فإنه يلاحظ أمورا مهمة تأخذ بنظر الاعتبار حالات النفس ، وظروف الحياة ، وغير ذلك من أمور.

«فَاسْجُدْ لَهُ» :

وقد انتقل سبحانه من ذكره في النهار ، بكرة وأصيلا .. ليترقّى إلى مرحلة أبعد منها ، وهي التي تأتي بعد استحضار الله في القلب بواسطة اسمه ، حيث لا بدّ من الخضوع له سبحانه حينها ؛ خضوعا عباديا ، نابعا من واقع ودرجة المعرفة التي حصل عليها بواسطة ذلك الاسم المشير إلى مقام العزة والعظمة الإلهية.

فطلب منه أن يسجد لله .. ولم يطلب منه الركوع ، ولا القنوت ، بل هو لم يطلب حتى الصلاة ..

ولعلّ السبب في ذلك هو أنّ السجود يمثل أقصى درجات الخضوع .. فإذا كان هناك قنوت ، وقراءة ، وركوع ، ولم يصل الأمر إلى السجود الذي هو غاية الخضوع العبادي والتسليم له تعالى ، فإن هذه العبادات تبقى غير لائقة به تعالى ..

إنّ السجود للشيء تعبير حقيقي عن التسليم والانقياد العبادي

٢١٨

المطلق ، ولا يحتاج في عباديّته إلى جعل إلهي. كما هو الحال في غيره ، فإن الحج مثلا ، لا يعد عبادة إلا إذا قرّر الشارع اعتباره كذلك.

وقلنا : «السجود العباديّ للشيء» ، لكي لا يشتبه مرادنا بكلمة السجود إلى الشيء ، بمعنى جعله قبلة ، حيث يكون المعبود والمسجود له شيئا آخر ، وتكون تلك القبلة مشيرة إليه ، ورمزا دالا عليه.

فالسجود العباديّ يكون بنفسه وبدون جعل جاعل محبوبا غاية الحب ، إذا كان سجودا وعبادة لله تعالى ، ويكون بنفسه مبغوضا غاية البغض ، إذا كان سجودا عباديا لغيره سبحانه.

«وَسَبِّحْهُ» :

ويلاحظ : أنه تعالى بعد أن طلب السجود ، والعبادة ، والخضوع المطلق من الذاكر ، عاد فطلب منه تسبيحه تعالى .. ولم يطلب منه حمدا ، ولا دعاء ، ولا صلاة.

والتسبيح معناه : أنّ جميع صفات الفعل ، وصفات الذات التي دلّت عليها الأسماء لا بد أن تنتهي إلى تنزيه الله سبحانه عن كل نقص ، فإثبات صفة الكريم ، تعني تنزّهه عن الصفة المناقضة لها ، وإثبات صفة العزة تنزّهه عن الذل ، وصفة القوي تنفي الضعف ، وصفة القادر تنفي العجز ، وصفة العدل تنفي عنه الظلم .. وهكذا الحال في سائر الصفات والأسماء.

فإثبات الصفات له سبحانه ملازم لمعرفته تعالى معرفة أتم ، وبمستوى يليق به جل جلاله .. وذلك لأن التنزيه التام من شأنه أن يصون المعرفة الناشئة عن ذكر اسمه ، ويصون عبادته ، والخضوع والتسليم التّام له ..

٢١٩

«لَيْلاً طَوِيلاً» :

ومما تقدم يتضح لنا بعض السبب في أنه تعالى ، قد قرّر أن يكون هذا التسبيح مستغرقا لجميع آنات الليل بما هو ممتد وطويل : (لَيْلاً طَوِيلاً) ، ليصبح كل آن منه مفعما بتنزيهه تعالى .. إذ بالليل يشعر الإنسان بضعفه ، ويشعر بحاجته إلى النوم ، وافتقاره إلى الحافظ والحامي ، وهو الله الذي : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (١).

وليس بالضرورة أن يكون هذا التسبيح عملا جوارحيا ، بل هو بالدرجة الأولى عمل جوانحيّ ، يتّصل بالمعرفة له تعالى معرفة صحيحة ، وصافية ، وخالية من أيّة شائبة ..

وهذا الصفاء لا بدّ له من ظروف وأجواء مناسبة له ، يعيش فيها الإنسان حالة التفكّر العميق ، والتأمّل الواعي .. والإدراك والشعور المتنامي به تعالى ، وهو شعور لا بد أن يبقى ويستمر محتفظا بقوته وبحيويّته .. حيث يكون الوقت المناسب لذلك هو الليل ، من حيث إنه هو الذي يهيّء لاستقرار هذا التنزيه في النفس ، ويطول مكثه في الضمير ، وفي القلب ، وفي المشاعر.

وهذه المعرفة هي الأساس لكل نعمة وتفضّل إلهي ، لأنها هي التي تنتج التقوى ، والتقوى تنتج السلوك والطاعة والالتزام. وهي التي تصنع الأحاسيس والمشاعر.

* * *

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٥٥.

٢٢٠