تفسير سورة هل أتى - ج ٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة هل أتى - ج ٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩١
الجزء ١ الجزء ٢

للنبي عيسى عليه‌السلام ، حيث قال فور ولادته : (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (١) .. وكل فضيلة ثبتت لنبي من الأنبياء ، فهي ثابتة لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما دلت عليه الروايات ..

وقد يكون المراد من البعثة ، هو بعثته كرسول وهي تتحقق بإخباره ولو في آخر حياته .. بأنه مبعوث إلى قومه ، أو إلى البشرية كلها .. ولا يحتاج ذلك إلى نزول قرآن .. وفي هذه الحال قد يكون القرآن قد نزل عليه قبل ذلك بسنوات ..

كما أن من الممكن أن ينزل القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مذ كان نبيا أي منذ صغره ، أو بعد ذلك بسنة أو بسنوات كما سيأتي ..

وثالثا : إن الأوضح والأقرب في موضوع النزول الدفعي والتدريجي للقرآن هو :

أن القرآن قد نزل دفعة واحدة على قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّه لم يؤمر بتبليغه ، ثم صارت السورة ، ثم الآيات تنزل تدريجا بحسب المناسبات ..

وربّما يستأنس لهذا الرأي ببعض الشواهد مثل ما ورد في رواية المفضّل ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، قال : «أعطاه الله القرآن في شهر رمضان ، وكان لا يبلّغه إلا في وقت استحقاق الخطاب ، ولا يؤدّيه إلا في وقت أمر ونهي الخ ..» (٢).

رابعا : إن النبيّ كان نبيا منذ صغره ، أو قبل ذلك ، فقد روي عنه أنه

__________________

(١) سورة مريم الآية ٣٠.

(٢) البحار ج ٨٩ ص ٣٨.

١٨١

قال : «كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد» (١).

فلا مانع من أن يكون القرآن قد نزل عليه منذ بدء نبوّته ، ثم صار ينزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله نجوما بعد أن بلغ الأربعين ، لكي يبلّغه للناس ..

ولا بأس بمراجعة ما كتبناه حول هذا الموضوع ، في بحثنا حول السبب في تقديم آية : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (٢) على آية : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) (٣) ، (٤) ..

لم يقل : أنزلنا :

وجوابا عن السؤال عن السبب في أنه قال هنا : «نزّلنا». ولم يقل : أنزلنا .. ثم قال : «تنزيلا» ، ولم يقل : إنزالا ..

نقول :

لعلّ اختيار كلمة «نزلناه تنزيلا» هنا بالذات قد جاء لسببين ..

السبب الأول : أن للقرآن جهة ومرتبة إلهية ، تجعله خارج دائرة قدرات البشر. فكان أن احتاج إلى التنزيل ليصبح في حدود البشرية .. فإن مقام الرسول مهما كان عاليا ، وساميا وعظيما عند الله ، ومهما أعطاه الله تعالى من قدرات وألطاف ، فإنه يبقى في مقام ودرجة المخلوقين والمألوهين .. ويبقى لله سبحانه مقام الخالقية والإلهية .. وما أعظمها من

__________________

(١) كتاب التاج ج ٣ ص ٢٢٩.

(٢) سورة المائدة الآية ٣.

(٣) سورة المائدة الآية ٦٧.

(٤) راجع : الجزء الرابع من كتاب «مختصر مفيد».

١٨٢

درجة وأسماه من مقام!! فلا بدّ من تنزيل ما هو إلهي ليصبح في حدود البشرية .. فكان النزول أولا إلى اللوح ، وأمّ الكتاب ، ليمكن لنفس الرسول أن تناله .. ثم لكي يناله البشر الآخرون ، وكانت له تنزّلات أخرى إلى البيت المعمور في السماء الرابعة ، ثم إلى السماء الدنيا. ثم نزول جبرئيل به سورة سورة ، ثم نزول الآيات نجوما ..

وكان نزول القرآن بواسطة جبرئيل إيذانا بعظمة القرآن ، وبكرامة ومنزلة جبرئيل أيضا ، ثم هو تشريف وتكريم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .. الذي استحق ذلك من خلال عمله وجهده وجهاده في سبيل رضا الله ، ونيل مراتب القرب ، ومقامات الزلفى منه تعالى .. حتى لقد استحقّ أن يكون نبيّا وآدم بين الروح والجسد ، وأن يكون نورا محدقا بعرش العظمة والجبروت ، والقدرة الإلهية ..

وكان من مفردات تكريم الله تعالى له ، أن جعل جبرئيل وهو أعظم الملائكة قدرا ، هو المبلّغ عنه إليه.

أمّا النبي موسى عليه‌السلام ، فرغم ما له من عظيم المنزلة ، وجليل المقام ، قد خلق الله له الكلام في شجرة ، في البداية ..

ويشبه ما ذكرناه هنا في بعض جهاته ، ما ذكرناه حول سبب وقوع المتشابه في القرآن ، فإنّ معاني القرآن كبيرة وسامية ، لا تستطيع ألفاظ وضعها العرب لأمور حسية أو قريبة من الحس أن تستوعبها ، فكان لا بدّ من إخضاعها لدرجات من التنزيل والتلطيف. ليمكن وضعها في قوالب لفظية هذا حالها .. فمست الحاجة إلى الاستفادة من المجاز والكناية ، وسائر أنواع الدلالات ، لتكون هي المفاتيح التي تفتح للراسخين في العلم الأبواب التي يشرفون منها على عالم من المعاني الكبيرة والسامية ، ويعلّمون منها الناس كل على حسب قدره وقدرته ..

١٨٣

السبب الثاني : أنّ هذا التنزيل قد جاء وفق المعطيات التي أوجدتها البيانات التي وردت في السورة ، من أوّلها إلى هذا الموضع ، حيث إنها تحدثت عن نشأة الإنسان في الحياة ، وعن المستوى العظيم للرعاية والهداية الإلهية له في مسيرته في الحياة الدنيا ، والمصير الذي سينتهي إليه الأبرار والفجّار ، مع تقديم وصف دقيق لحالات الأبرار في الجنة ..

وإذا كان تصور الحقائق والدقائق التي وردت في هذه السورة ، يحتاج إلى أرقى درجات الإدراك والمعرفة واليقين ، فإن حاجة الإنسان إلى تحصيل هذا اليقين وترسيخه ، وتعميقه إنما تنبثق من حاجته إلى نيل تلك الأهداف الكبرى التي يريد الله أن ينيله إياها ، والتي يعجز عقله عن تصورها ، ويقصر خياله ووهمه عن اقتحام آفاقها .. الأمر الذي يجعل منه يقينا له تأثيره المباشر على مستوى السعي ، والجهد والإخلاص ، والخلوص في العمل في سبيل الوصول إلى تلك الغايات ، والحصول على هاتيك المرادات ، وتحقيق تلكم الأمنيات.

وذلك معناه : أن مجرد القبول والرضا ، وإظهار القناعة بما أخبرت به هذه السورة المباركة ، وبصدق الوعد الإلهي لا يفي بالمطلوب ، بل الحاجة تبقى ماسّة إلى ما هو أسمى من ذلك وأبعد ..

ولعلّ ظهور المعجزات وحدوث الخوارق للعادات ، يأتي في سلسلة الأسباب والعلل لإيجاد مستويات أعلى من اليقين والاقتناع لدى الناس. وسيكون لهذه المعجزات والخوارق أثر إيجابي في الربط على قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومضاعفة صبره ، وزيادة قدراته على المواجهة ، ومكابدة المشاق ، وتحمل الأذايا في المجالات المختلفة ، وهو الذي يقول :

١٨٤

«ما أوذي نبيّ مثلما أوذيت» (١) ..

أو «ما أوذي أحد ما أوذيت» (٢) ..

وذلك لأن هذا النبي العظيم سيواجه كل جبابرة العالم ، وطغاة الأمم ، وحتى طغيان النفوس الأمّارة بالسوء .. والتي إن أمكن قهرها اليوم ، فإنها ستعاود الوثبة غدا ..

وما ذلك إلا لأن مهمة الأنبياء ليست مجرد تبليغ رسالة ، أو تعليم وتربية جيل من الناس ، أو إقامة دولة ، وفرض قانون ونظام سياسي ، أو اجتماعي ، أو ما إلى ذلك مما يدخل في دائرة اهتمام السياسيين ، أو المصلحين الاجتماعيين ..

بل إن مهمة الأنبياء ، هي صناعة إنسانية الإنسان ، وصياغة شخصيته ، ومفاهيمه وتنشئة مشاعره وعواطفه ، والإمساك والتحكم بأحاسيسه ..

كما أن مهماتهم لا تنحصر بالإنسان الذي يعيش في عصرهم ، بل هم مسؤولون عن هداية ورعاية كل مسيرة الحياة الإنسانية ، ما دام هناك بشر على وجه الأرض.

ولأجل ذلك : تعرض أعمال الأمة على رسول الله صلّى الله عليه

__________________

(١) راجع : مناقب آل أبي طالب ج ٣ ص ٤٢ والبحار ج ٣٩ ص ٥٦ ومستدرك سفينة البحار ج ١ ص ١٠٢ وكشف الغمة ج ٣ ص ٣٤٦ والجامع الصغير ج ٢ ص ٤٨٨ وشرح منهاج الكرامة ص ٢٦٥ وراجع جواهر المطالب ج ٢ ص ٣٢٠.

(٢) راجع : الجامع الصغير ج ٢ ص ٤٨٨ وكنز العمال ط حلب ج ٣ ص ١٢٠ وفيض القدير شرح الجامع الصغير ج ٥ ص ٥٥ وكشف الخفاء ج ٢ ص ١٨٠ وتهذيب الكمال ج ٢٥ ص ٣١٤.

١٨٥

وآله حتى في النشأة الأخرى ، كما أن الإمام عليه‌السلام يرى أعمال الخلائق ، ويلاحقها ، ويتعاطى معها ، من موقع البصير الخبير ، والعارف بالداء والدواء.

وقد كان تنزيل القرآن سورة سورة ، ثم نزوله على سبيل التدريج حين تحقّق ما تنطبق عليه الآيات ، يؤكّد للناس أن هذا القرآن هو من عند عالم الغيب والشهادة ، فيكون ذلك قاهرا لعقولهم ، وموجبا لخضوعهم ، وبخوعهم واستسلامهم له.

وذلك من أسباب تقوية الرسول ، ومعونته وإحكام أمره ، وزيادة درجة الصبر والتحمّل لديه صلى‌الله‌عليه‌وآله .. على طريقة : (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (١) .. فإن تجسّد هذا الغيب على صفحة الواقع حركة وسلوكا ، ومفردات حيّة ناطقة ، تلزم بالحجة ، وتقطع العذر ، وتؤكّد يقين الناس ، وتقوّي موقف الرسول ، إن هذا من شأنه أن يثلج صدره صلى‌الله‌عليه‌وآله .. ويفرح قلبه ، ويزيد من تصميمه ، ويشدّ من عزيمته.

ولعلّ هذا يفسّر لنا قوله تعالى : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٢) ..

نعم إن هذا القرآن الذي حدّث الناس في هذه السورة المباركة ، ـ سورة : «هل أتى» ـ عن هذه الحقائق والدقائق ، قد أنزله الله تعالى بصورة تدريجية ، لكي يظهر بما لا يقبل الشك أنه من عند عالم الغيب

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٦٠.

(٢) سورة الفرقان الآية ٣٢.

١٨٦

والشهادة ، ولذلك كانت تنزل الآيات في السورة قبل حدوث أي شيء ، ويقرؤها النبي على الناس ، ثم تأتي الأحداث ، ويرى الناس كيف أن الآيات السابقة تنطبق على هذا الحدث اللاحق.

فكيف يجوز لمن يرى ذلك أن يتردد في اختيار الإيمان؟ أو كيف لا يكون صبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في هذه الحالة أعظم وأجلّ من أن تدركه العقول ، وتناله الأفهام؟!.

خصوصا مع إدراكنا : أن صبره صلى‌الله‌عليه‌وآله نابع ـ بالدرجة الأولى ـ من أعماق ذاته ، ومن حقيقة طهره ، وكونه إنسانا إلهيا كاملا ، متصلا بالله ، ومتكل عليه في كل أموره.

وكيف لا يتضاعف هذا الصبر يوما بعد يوم ، وحتى لحظة بلحظة؟!.

وبعد هذا فإننا نستطيع أن نعرف بعض السر في عطف الكلام عن مجراه السابق ، إلى الكلام عن تنزيل القرآن.

«نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً» :

ومن أهم فوائد هذا البيان الإلهي لكيفية نزول القرآن ، ومطابقة الآيات لما يحدث في المستقبل : أنه يهيء للقباعة الوجدانية ، وطمأنينة القلب ، والسّلام والرضا في النفس من خلال إعطاء الدليل الملموس على صدق وحقّانية البيان الذي قدّمه .. والقضايا إذا استندت إلى الدليل ، فإنها تصبح أشد رسوخا ، وأعظم أثرا في نشوء وترسيخ حالة الصبر والتحمل للمصاعب والمتاعب.

وقد قلنا : إنه تعالى قد أشار إلى هذا الربط بين النزول التدريجي للقرآن ، وبين أثر ذلك في تحقيق الصبر النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حين فرّع الأمر بالصبر ؛ بالفاء ، فقال : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) ..

١٨٧
١٨٨

الفصل الرابع والعشرون :

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً)

١٨٩
١٩٠

قوله تعالى :

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً).

«فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ» :

والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة ، هو : ان الله تعالى قد أمر رسوله بالصبر لحكم الرب ، لا على حكمه ، فما هو السبب في ذلك ، والجواب :

أنه إذا قيل : اصبر على الأمر الفلاني ، فالمعنى أن عليك أن تتحمل مشقته ، ومتاعبه ، ومسؤوليته ، وقسوته ، وشدائده. ولا يصح أن يكون هذا هو المراد في الآية هنا ؛ إذ لا يمكن أن يكون في حكم الله سبحانه قسوة ، أو أن يوقع في مشكلات.

فالصحيح أن يقال : اصبر لحكم ربّك .. أي : لأجل ولمصلحة هذا الحكم الربّاني .. لأن الصبر مفيد في إنجازه ، وتحقيقه ، وإقامة شرائعه ، والالتزام بها ، وإنفاذها.

أما المتاعب فلم تنشأ من حكم الله ، بل هي من صنع المعتدين ، والآثمين ، أو من نتاج الهوى والعصبيات ، وحبّ الدنيا ، والميل إلى السلامة والراحة. مع أن الخير كل الخير ، والسعادة والصلاح هو في الالتزام بأحكام الله ، وفي إجرائها ، لا في التخلّي عنها ، لأجل دواعي الهوى ، أو ما شاكل.

هذا إذا كان المراد بحكم الرب هو الالتزام بشرائعه وأحكامه.

١٩١

ولكن الظاهر هو أن المراد ب «حكم ربّك» هو تكليفه لك أيّها الرسول بمهمات كبيرة وصعبة ، اقتضاها تبليغك لأحكام الله .. حيث إنك ستواجه المتاعب والنوائب ، وأعظم الأذى والمصائب ، في سبيل إبلاغ الدعوة ونشرها .. وقد فرض الله عليك القيام بهذا الواجب ، وعليك أن تصبر ، لأن هذه الدعوة تحمل معها مواجهات صعبة في كلّ اتّجاه ، إذ لا بدّ من مواجهة الطواغيت ، ومواجهة أهواء الناس وطموحاتهم الباطلة ، والوقوف في وجه انحرافاتهم ، ومواجهة النفس الأمّارة ، و.. و..

وهذا العناء العظيم ، وذلك الجهد الهائل ، وتلك المصاعب والمصائب ، تحتاج إلى التثبيت الإلهي ، وإلى أن يشعر هذا العامل بلطف الله ، ورعايته ، ومحبته ، وحنانه ، ولأجل ذلك جاء التعبير بكلمة :

«ربّك» :

فإن هذا الحكم عليك قد جاء من مقام الربوبية ، ما وافق الحكمة ، ومن موقع التدبير ، والمحبة لك ، واللطف بك ، والرضا عنك ، والحنو عليك ، والتي تريد لك التكامل في مقامات الرضا ، والانتقال من مقام إلى مقام بنفس هذا الجهد الذي تبذله ، وتلك الصعوبات التي تواجهها ..

ولذلك كلّمه تعالى بكاف الخطاب للمفرد ، من أجل المزيد من التحديد لشخص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبما له من حدود وميّزات فردية ، ليعرفه بعنايته المباشرة به.

وهذا الخطاب لا شك أنه لذيذ ومحبوب لنفس الرسول ، وهو يعطيها رضا ، وبهجة ، وسكونا ، وطمأنينة ، وثباتا ، وقوة ، لشعوره بأن عين الله الرؤوف به ، والعطوف عليه ترعاه ، وتلاحق كل حركاته ، وترصد جميع حالاته.

١٩٢

«وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» :

وحين يكون هذا العامل في سبيل الله يواجه أشدّ حالات الحرج ، ويبذل أعظم الجهد لتحقيق ما يتوخّاه ، ويمتثل أمر مولاه .. فإنه يواجه حالات أشد أذى لروحه ، وإيلاما لقلبه ، وحرجا على نفسه ، وهي نصائح أولئك الأعداء له بالتخلّي عن مسؤولياته الإلهية والإنسانية ، والسعي إلى بعث اليأس في قلبه ، وإضعاف عزيمته ، وإصابته بالفشل وبالإحباط من جرّاء ذلك ، وإقناعه بأنه لن يجني سوى المشاكل ، والمصائب ، والبلايا ..

وربّما يواجه أساليب متنوعة في هذا الاتجاه ، فيها الترغيب والإغراء تارة ، والترهيب والوعيد أخرى.

فلذلك جاء الأمر الحازم والحاسم ، ليقول له : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً).

وقد يلاحظ : أن لحن الخطاب الإلهي مع أنبيائه وأوليائه يمتاز بالقوّة وبالحسم أحيانا ، بل هو قد يوحي أو يوهم أنه يتهدّدهم بصورة قوية وقاسية : حتى ليقول الله تعالى لنبيّه : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (١) ..

ويقول : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٢).

ويقول : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) (٣) ..

كما أنه يخاطبهم في أحيان كثيرة بمنتهى اللطف والرأفة ..

__________________

(١) سورة الزمر الآية ٦٥.

(٢) سورة الحاقة الآيات ٤٤ / ٤٦.

(٣) سورة الإسراء الآية ٨٦.

١٩٣

ولكنه حين يخاطب عباده الخطّائين فإنه يتألّفهم ، ويداريهم ، ويهوّن عليهم الأمور ، ويخاطبهم بلين ولطف ، فيقول : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) (١) ..

ثم هو يرغبهم بالتوبة ، ويعدهم المغفرة (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) (٢) .. (تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) (٣) .. وغير ذلك ..

وما ذلك إلا لأنه تعالى يخاطب أنبياءه وأولياءه من موقع الألوهية ، لأنهم في معرفتهم بالله ، وفي حصانتهم ضد نزعات الهوى ، قد وصلوا إلى مراتب سامية من الصفاء ، والنقاء ، والوعي ، تؤهلهم لنيل الحقائق ، والتفاعل معها .. وهذا ما جعل الخطاب معهم خطابا بالحقائق ذاتها على ما هي عليه ، لأنهم أصبحوا فوق مستوى البشر العاديين الذين يحتاجون إلى الخطاب بلغة تستعير مفرداتها من مألوفاتهم في هذه الدنيا ، ومفرداتها ، وحالاتها .. لأنهم منغمسون فيها ، فيحتاجون إلى مزيد من الرعاية لهم ، وتولي تدبير أمورهم ، والإشفاق عليهم ، بسبب شدة بعدهم عن الحقائق ، وعدم قدرتهم على إدراكها ..

على أنه تعالى لا يريد أن يشير إلى أي احتمال لصدور ذلك منهم ، بل هو مبالغة في زجر غيرهم ، فهو تعالى يريد أن يطلق القاعدة ، ويعلن شمولها وسريانها الذي لا يقبل التخصيص ، وصدق الشرطية لا يتوقف على صدق طرفيها ، فهو على حد قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ

__________________

(١) سورة الزمر الاية ٥٣.

(٢) سورة طه الاية ٨٢.

(٣) سورة التحريم الاية ٨.

١٩٤

فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (١) .. فإنه يستحيل أن يكون لله ولد ، ولكن المقصود هو التأكيد الشديد جدا على صحة الشرطية ..

وكذلك الحال في قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (٢) .. فإنه لا يمكن أن يصدر الشرك منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن المقصود هو التأكيد على القاعدة والضابطة ، وسريانها ، وعمومها بأوضح بيان ، وأجلى برهان ..

ثم قال تعالى :

«وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» :

فالآثم هو ذلك الذي يمارس الإثم ، وينغمس فيه مباشرة. وربما تكون دواعيه ودوافعه له شهوانية ، أو بسبب فهم خاطىء قد قصر في مناشئه ومكوناته. أو لخدعة وقع فيها ، أو قلة مبالاة بالرقابة الإلهية .. أو لأجل كفوريته ، وتنكّره لمقام الألوهية ، وطغيانه على الله ، وغير ذلك ..

ثم لا يقتصر على ذلك بل هو يدعو غيره ليشاركه في مآثمه .. وربما بهدف تخفيف الملامة عن نفسه ، أو لأجل أن يجد العضد والمعين ، أو لأجل الإمعان في الطغيان على الله ، أو لغير ذلك من أسباب.

غير أن مما لا شك فيه : أن المآثم حينما تصبح واقعا متجسدا ، فإن داعويتها للآخرين إلى ممارستها تصبح آكد وأشد ، من حيث إن درجة من التخوف والرهبة تزول عنهم ، ولأن ما يتخيلونه من لذائذ لهم فيها ، قد أصبح ماثلا أمامهم بالفعل ، يثير شهيتهم ، ويسيل له لعابهم .. فتصير

__________________

(١) سورة الزخرف الآية ٨١.

(٢) سورة الزمر الآية ٦٥.

١٩٥

الدعوة إلى ارتكاب تلك المآثم ، والتشجيع عليها أكثر فعالية ، وأعظم أثرا.

وقد نهى تعالى عن إطاعة الكفور ، وهو المكثر من الكفر ، أو الشديد فيه ، من حيث إنه يبذل جهدا قويا لتجاهل وطمس معالم نعم الله الظاهرة عليه ، كما أنه يقاوم بشدة دواعي الهداية الفطرية ، والعقلية ، والشرعية من أن تؤثر في ضبط حركته ، والتخفيف من غلوائه وطغيانه. فهو كفور بلحاظ درجات المقاومة ومراتبها ، فكأنّ هذه المراتب تتضاعف : حتى ليصحّ أن يقال لفاعلها : إنه كفور.

كما أنه يكثر من هذا الكفران ، بسبب كثرة تلك النعم ، وكثرة تلك الدواعي التي هيأها الله له ، رحمة به ، وحدبا عليه. فهو كفور من حيث كثرة صدور مظاهر التجاهل لألطاف ونعم الله منه ، وظهورها على جوارحه.

ولكنه .. يسعى دائما للتمرد على ربّه ، والخروج عن زيّ العبودية ، ويبذل جهدا ، ويكرر المحاولة في هذا السبيل.

فإذا اقترنت هذه الشدّة ، وتلك الكثرة ، بصيرورة هذا الكفور داعية إلى التمرد وإلى الطغيان ، وإلى ستر وتجاهل نعم الله ، والتنكر لألطافه ، ورفض كل هداياته .. فإنه يصبح أشدّ كفورية ، ويكون عمله هذا أعظم درجة في القبح والسوء ، لأنّه يجعل نفسه في موقع المواجهة مع فطرته ، وعقله ، ووجدانه .. الذي لا يرضى منه إلا أن يكون شاكرا للمنعم عليه ، مؤديا فروض العبودية لسيده ، وخالقه ، ومالك رقّه.

ومهما يكن من أمر ، فإن قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ..) يدل على أن حامل همّ الدعوة إلى الله ، الذي يعيش حالة الانضباط التام ، والانسجام مع الفطرة ، ومع نواميس الحياة ، ويلتزم بهدى

١٩٦

العقل والشرع .. يواجه دعوات قوية إلى أن يتخلى عن ذلك كله ، وليستبدل الممارسة السليمة ، بارتكاب الآثام. ولينقض بذلك ضوابط الفطرة ، والشرع ، والعقل ، والوجدان ، والفكر.

ومن الواضح :

أن هذا الخطاب الإلهي للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا يعني : أن ثمة أية إمكانية لأن يطيع هذا النبيّ الكريم ، الآثم أو الكفور ..

وذلك لأن الخطابات القرآنية للأنبياء تأتي قوية وحاسمة ، لأنها من موقع ألوهيته تعالى ، وبما هو خالق بارئ مصور ، عزيز ، جبار ، متكبر ، الخ ..

فلا غرو أن نجده سبحانه يدفع بالأمور مع أنبيائه إلى أقصى الحالات ، ومن دون أيّ هوادة أو تخفيف ..

كما أن الله سبحانه يريد أن يعرّفنا حقيقة المعاناة والآلام التي يتعرض لها هؤلاء الدعاة إليه تعالى ، ولعل أشدها عليهم محاولات الآثم والكفور ، جرّ أتباعهم ، ولا سيما المستضعفين منهم ، إلى الإثم وإلى الكفر ..

ثم إن في هذا الخطاب الإلهي إشارة عملية إلى أن المعاملة الإلهية للبشر ، لا تمييز فيها ، فهو لا يغضّ الطرف عن رسله وأنبيائه ، لمجرد أنّ لهم منزلة عنده ، فإنّ منزلتهم إنّما نالوها عن جدارة واستحقاق ، تجلّيا في التزامهم بأوامره ونواهيه التي قد تزيد صعوبتها بالنسبة إليهم عنها بالنسبة لغيرهم ..

وهذا يخالف تماما ما عليه البشر في تعاملهم مع القريبين منهم ، فإنه يختلف عن تعاملهم مع غيرهم.

يضاف إلى ذلك كله : أن الله سبحانه إنّما يخاطب الرسول بما أنه قادر على فعل الشيء ، لا بما أنه معصوم.

١٩٧

وهذا نظير قوله تعالى : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (١) ، فإنه يستحيل صدور الظلم من الله سبحانه ؛ لمنافاته مقام ألوهيته .. ولكن ذلك لا يعني محدودية قدرته سبحانه ، وصيرورته عاجزا على الحقيقة. بل إن الله سبحانه قادر على كل شيء في جميع الأحوال ..

وهذا نظير قولنا : إن الأم يستحيل أن تقتل ولدها تشهّيا منها ، ما دامت تملك العقل ، والتوازن ، وعاطفة الأمومة ، كما أن الإنسان لا يقدم على شرب السم ، والمؤمن الواعي لا يقدم على أكل الميتة ، ولحم الخنزير. ولكن ذلك لا يعني العجز التكويني لهؤلاء عن ذلك كلّه ..

وهذا بالذات هو حال الأنبياء أيضا ، فإنهم لا يعصون الله ، ولا يطيعون الآثم والكفور ، لوجود المنافرة الحقيقية ، والبغض الحقيقي في نفوسهم لمثل هذه الأمور .. دون أن يكون ثمّة عجز تكويني عن ذلك.

فقول الله سبحانه لنبيّه : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) ، قد جاء خطابا إلهيا متوافقا مع مقتضيات الأحكام الظاهرية للبشر ، لأنهم مخاطبون بما يخاطب الله به غيرهم ..

ومكلفون به ما دام أنه يقع في دائرة ما تقتضيه قدراتهم البشرية ، بغض النظر عن عصمتهم ، ومع ملاحظة أن عصمتهم إنما هي اختيارية لهم.

والخلاصة : أن الأنبياء مكلفون ـ كغيرهم ـ بالاجتناب عن جميع المعاصي ، وامتثال جميع الأوامر ، ولكن ذلك لا يعني : أن يكون الأنبياء ـ بملاحظة ملكة العصمة فيهم ـ مظنة صدور ذلك منهم .. بل هو يعني : أن هذه الأمور تقع في دائرة اختيارهم ، في نطاق قدراتهم البشريّة.

__________________

(١) سورة الكهف الآية ٤٩.

١٩٨

صبر الرسول .. ونعيم الأبرار في الجنة :

ولعلّك تقول : ما المناسبة بين حالات الأبرار في الجنة ، وبين تنزيل القرآن تدريجا ، لتحقيق التثبيت لفؤاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ .. مع أننا قد نتوهم أن الأنسب هو ربط ذلك بيقين الناس ، ليكون ذلك مدخلا لطلب المزيد من الصبر منهم ، والثبات والسعي لنيل درجات الأبرار في الجنة.

ونقول في الجواب : إن القرآن أراد أن يفهمنا أن المسؤولية التي يتحملها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في تهيئة النفوس ، وصناعة الشخصية الإنسانية ، وفق المواصفات ، وبالمستوى الذي يفيد في نيل تلك المراتب السامية ـ إن هذه المسؤولية ـ هي الأصعب ، والأشد خطورة ، والأعظم أهمية ..

وتوجيه الخطاب الإلهي للنبيّ لا يعني أنه خاص به ، بل هو يتوجّه للناس أيضا ، على طريقة : إيّاك أعني ، واسمعي يا جارة.

كلمة : «منهم» لما ذا؟! :

وأما لما ذا قال سبحانه : (لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً) ، وقد كان يكفي أن يقول : «لا تطع آثما» ..

فربما يكون ذلك لأجل أن مسار الكلام قد جاء على سبيل التعميم للناس كلهم ، من أجل الإلماح إلى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا يمكن أن يتوهم في حقه أن يلبي المطالب إذا كانت تدخل في دائرة الباطل ، ويكون فيها الإثم ، والعدوان ، والفساد ، من أي جهة جاءته هذه المطالب ، وفي أي ظرف ..

ولكن بما أن من الناس من يطلب منه أمورا تدخل في دائرة الصلاح والخير ، وليست من الباطل في شيء ، فإن كونها كذلك ، لا يوجب المبادرة أيضا إلى تلبيتها ، إذا كان المطالبون بها من أهل الإثم ،

١٩٩

ومن المتشددين في كفرانهم ، والمكثرين منه ، إذ لا شك في أنهم يريدون الحصول عليها ليؤكدوا بها كفرانهم ، وفي نطاق مساعيهم لارتكاب الآثام ..

فإن كان لا بد من القيام بتلك الأعمال ، فلا بد من مراعاة أوامر الله سبحانه فيها ، لا طاعة أولئك الأرجاس ..

ومع غض النظر عن هذا وذاك ، فإنه قد يقال : إن ما يطلبه الآثم ، والكفور ، لا يمكن أن يدخل في دائرة الحق ، والعدل ، والصلاح ، لأن ما يكون له صفة الحق ، والعدل ، والصلاح ، فلا بدّ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من أن يبادر إليه ، ولا ينتظرهم حتى يطلبوا ذلك منه .. وما لم يكن له هذه الصفة ، فإنهم سوف يطلبونه منه ، ولا يصح أن يطيعهم فيه ..

فيكون هذا إعلانا إلهيا بحقيقة هؤلاء الناس ، وتأكيدا لهذه الحقيقة في وعي أهل الإيمان ، ومن يملك ذرة من ضمير ، أو وجدان ..

هل هذا استطراد؟ :

وقد يروق للبعض : أن يعتبر هذه الآية بمثابة استطراد في الكلام ، وانتقال من سياق المدح والثناء على الأبرار وما أعده الله لهم .. إلى ذم فئة بخصوصها ..

غير أننا نقول : إن الكلام من أول السورة إلى هنا ، إنما هو لرد دعوة هؤلاء المنكرين لهذه الحقائق الدامغة ـ لشدة كفرانهم ، ولإمعانهم في الإثم ـ والذين يسعون لإنكار أن يكون هذا الإنسان موردا للرعاية والعناية الربانية ، وذلك من أجل حرفه عن مساره الصحيح ، إلى حد أنهم يتجرؤون على مقام النبوة الأعظم ، ويقدّمون له العروض ، ويطلبون منه ما يتلاءم مع انحرافهم ، وإثمهم ، وكفرانهم لنعم الله وتفضلاته ..

٢٠٠