تفسير سورة هل أتى - ج ٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة هل أتى - ج ٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩١
الجزء ١ الجزء ٢

وقد قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «كونوا لنا زينا» (١) ..

وقد زين الله السماء الدنيا بزينة الكواكب ..

والأرض تتزين أيضا بإخراج زخرفها ..

وقال تعالى : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (٢) ..

من الذي يحلّيهم بالأساور؟ :

وقد جاء التعبير بصيغة الماضي المبني للمجهول .. ربما لأنه يريد بيان النواحي الجمالية ، التي يكرم الله تعالى بها الأبرار ، ولا يقصد بيان من هو واهب هذه النعم ، أو منشأ هذه الكرامات ..

وعلى كل حال ، فإن تحليتهم بالأساور ، من شأنها أن تثير جوا من البهجة والسرور للأبرار أنفسهم ، ببعضهم بعضا. وسرور غيرهم من أهل الإيمان بهم .. كما ألمحت إليه أيضا كلمة : «خضر» ، فإن الخضرة تكون مصدر أنس لمن يراهم من أهل الإيمان ، وسببا في الحسرة والألم لأهل الطغيان ..

«وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ» :

ثم انتقل سبحانه إلى إظهار أمر يلتذ به الأبرار أنفسهم ، دون سواهم ، فذكر الله سبحانه أنه هو الذي يسقي الأبرار ، حيث لم يقل : «يسقون» ، فإنه تعالى ، وإن كان قد قال في آية سابقة : (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً ..) وليس ثمة ما يمنع من أن يكون الذي يسقيهم هو

__________________

(١) شرح الأخبار ج ٣ ص ٥٨٥ و ٥٩٠ والإعتقادات للمفيد ص ١٠٩ والأمالي للطوسي ص ٤٤٠ والبحار ج ٦٥ ص ١٥١ وج ٦٨ ص ٢٧٦ و ٣١٠.

(٢) سورة الأعراف الآية ٣١.

١٦١

ربهم أيضا .. ولكن لم يكن المقام هناك مقام بيان من هو الساقي ، بل كان في مقام بيان إكرامهم ، بطريقة حصولهم على الشراب ، وأنهم لا يحتاجون إلى المبادرة بأنفسهم إليه ، بل سوف يكون ذلك من غيرهم ..

أما ها هنا ، فقد أراد الله سبحانه أن يقرر لهم لذة الشرف بالساقي أيضا ، وهو ربهم تبارك وتعالى .. لأنه تعالى يريد أن يعلن بأن لهم عنده أعلى درجات التكريم ، وأسمى حالات العناية بهم والرعاية لهم ، حتى أنه سبحانه هو الذي يشرفهم فيسقيهم هو الشارب الطهور ..

ثم إنه تعالى لم يقل : «أنا أسقيهم» ، بل قال : «سقاهم ربّهم» ولم يقل : سقاهم الله ، أو سقاهم إلههم ، أو الرب. ربما ليلمح إلى أن هذه النعم ، إنما تعطى إليهم بأعيانهم من موقع الربوبية التي تعني العمل من أجل المربوب ، وإظهارا للاهتمام به ، ودفعا له في صراط التكامل والتنامي ، من موقع الحكمة والمحبة له ، وبهدف ترشيده ، ونقله من حسن إلى أحسن ، ومن كمال إلى كمال أتم.

كما أن هناك عناية بإظهار أن هذه الربوبية ليست مقاما إلهيا منفصلا عنهم ، ولا هي عنوان عام لا ربط له بهم ، بل هي ربوبية لهم بصورة مباشرة ، تتجلى لهم في جميع الحالات وبصور مختلفة وحالات متعددة ، وهي تعنيهم فردا فردا ..

وهذا الشعور لذيذ للأبرار ، محبب لهم ، وهو منشأ لمشاعر مختلفة في اتجاهاتها ، ولكنها مجتمعة في ما تهيئوه من أنس ورضا ..

الشراب الطهور :

و «الطهور» من صيغ المبالغة ، والتكثير في الطاهر ، والمعنى : أنه طاهر بنفسه ، مطهر لغيره.

١٦٢

وهو شراب يتناولونه لمرة واحدة ، ولا يحتاج إلى تكرار .. ولعله لأجل ذلك جاء بصيغة الفعل الماضي : «سقاهم» ، ولم يقل : «يسقيهم».

فما يسقيهم ربهم إياه هو شراب يطهرهم من كل عناء الدنيا ، ومن جميع شوائبها ، فكما أن الماء الطهور يطهر الثوب ، كذلك الشراب الطهور الذي يسقيهم الله إياه مطهر لنفوسهم وأرواحهم من كل ما نالها من تعب وعناء ، وما تعرضت له من أذى في الدنيا وبلاء .. ومذهب لكل ما ينغص عليهم عيشهم ، ويكدر نعيمهم وملكهم ..

وبهذا السقي الربوبي ، الذي تطهر به نفوسهم وأرواحهم ، تتهيأ وتستعد لاستقبال أنواع النعيم ، بصافي الفطرة ، وبكامل القدرة ..

ومن المعلوم أن المبالغة تارة تكون لتأكيد الكثرة أو القلة في الأفراد ، وأخرى تكون لتأكيد حالة الشدة أو الضعف ، أو الصغر أو الكبر ..

فالمبالغة في كلمة صبور ناظرة إلى بيان شدة الصبر. والمبالغة في ملول ، ناظرة إلى كثرة الملل الذي يحصل منه في مرات كثيرة ..

وكذلك حين نقول : صدوق أو كذوب. فإنها ناظرة إلى كثرة أفراد الصدق والكذب التي تصدر منه ..

وفيما نحن فيه نقول : إن الطهورية مبالغة في الطاهر ، من جهة إنه طاهر في نفسه ، ولا ينجسه غيره. كماء البحر ، وقد تكون من حيث أنه طاهر بنفسه مطهر لغيره ، مهما تكثرت أفراد ذلك الغير ، فإن البحر يبقى مطهرا له. وتبقى طهوريته في نفسه ، مهما كثر عروض النجاسات عليه ، فإنها لا تؤثر فيه ..

* * *

١٦٣
١٦٤

الفصل الثاني والعشرون :

(إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً)

١٦٥
١٦٦

قال تعالى :

(إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً).

«إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً» :

إن الإنسان قد يبذل جهدا وتعبا في سبيل الوصول إلى أمر ما ، فإذا نال ذلك الأمر فإنه سيلتذ به ، بصورة أعظم وأتم مما لو حصل عليه بدون تعب وجهد ..

وستتكون فيما بينه وبين ذلك الشيء الذي تعب من أجله علاقة تختلف عن علاقته بالأشياء التي لم يبذل في سبيلها جهدا ، فإن الآتي بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب.

ويصبح التخلي عن هذا الأمر ، أيسر عليه من تخليه عن ذاك ، بسبب ضعف تعلقه به. ولأجل ذلك فإن من يتعب بتحصيل المال لا يكون عادة مبذرا له ، ولا مفرطا فيه. بخلاف من أخذه بلا تعب.

وإن كن هذا لا ينطبق على الأبرار ، ولكن المقصود هو التأكيد على أن العمل في سبيل الحصول على الشيء ، يعطي الإنسان شعورا بالكرامة ، والعزة والشمم .. وهو شعور محبب ولذيذ في حد ذاته ..

وهذا ما يفسر لنا السبب في أنه تعالى يقول هنا للأبرار ، بعد أن ذكر ما أعد لهم من نعيم : (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ..)

ويلاحظ هنا : أن هذه الآية :

١٦٧

١ ـ قد أوردت الكلام مؤكدا بكلمة «إنّ» ..

٢ ـ إنها قد زادت الكلام تأكيدا بالاستفادة من كلمة «كان» الدالة على كينونة الشيء ، وتحققه ، وجاءت بصيغة الفعل الماضي لتفيد اليقين بهذا التحقق إلى حد أنه قد أصبح بمثابة الحاصل ، أو أنه حاصل بالفعل ، حتى صح أن يخبر عن كينونته ..

٣ ـ ومما يزيد الأمر تأكيدا ؛ الإشارة إليه إشارة حسية .. وهي إشارة إلى الحاضر القريب ، حيث قال تعالى : «إنّ هذا» ..

«لكم جزاء» :

يضاف إلى ما تقدم : أنه تعالى قد صرح بملكيتهم لذلك المشار إليه بكلمة «هذا» ، وأنه لهم ، قبل أن يصرح بوصفه ب «الجزاء» ، فقدم كلمة «لكم» على كلمة «جزاء» ..

لأنه لو عكس ذلك ، بأن قدّم كلمة «جزاء» ، فإن ذلك قد يوحي ، ولو لغيرهم ، للحظة عابرة بوجود جزاء قد يكون حسنا ، وقد لا يكون ..

ولا يريد الله سبحانه أن يمر في وهم الإنسان ، ولو للحظة واحدة شيء من ذلك ، بل هو يريد لهم أن يلتذوا بالمبادرة إلى التصريح بأن الجزاء في غاية الحسن ، ليعيشوا الطمأنينة والسكينة في جميع الآنات ، حتى في طريقة الأداء اللفظي والبياني ..

كما أنه يريد أن يطمئنهم إلى أنهم مالكون لهذا الجزاء ، ولا يريد أن يفصلهم عن هذا النعيم ، ولو على مستوى التخيل العابر ، بأن يمر ولو في وهم الآخرين أن هذا الجزاء قد يكون لهم ، وقد يكون لغيرهم ..

وهذا يشير إلى مزيد الرضا ، وإلى درجة الاهتمام الإلهي بهم ، وهو يعطيهم بالتالي لذة جديدة من خلال هذا الشعور بالحب ، والرعاية ،

١٦٨

والرضا ، والكرامة الربانية لهم.

الخطاب للأبرار :

وقد جرى الكلام ههنا بصورة الخطاب مع الأبرار ، فيقول : (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ..) بعد أن كان يتحدث عنهم بصيغة الغائب ، حيث كان يقول : (يُطافُ عَلَيْهِمْ .... وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ ..) الخ ..

«جزاء» :

وقد اعتبر الله تعالى عطاءه هذا للأبرار جزاء لهم ، ولعله بهدف توجيه الناس وتحريضهم على أن يعملوا بعمل الأبرار لينالوا ما نالوه.

وهذا يشير إلى أن هذا العطاء ، الذي هو على سبيل الجزاء ، قد لوحظ فيه حجم العمل ومزاياه وغاياته ، وليس عطاء تفضليا محضا .. فإن كان ثمة تفضل ، فإنما هو في تقدير الجزاء قبل تقريره ..

كما أن عدّ ذلك من قبيل الجزاء يثير لدى الأبرار شعورا بالكرامة والاعتزاز ، من حيث قبول الله سبحانه لأعمالهم ، ويعطي عملهم قيمة واقعية وحقيقية ، لأن الله هو المصدر الحقيقي لكل قيمة ، وجعل الجزاء بإزائه يستبطن ذلك ..

ثم إن للنعيم المصاحب للشعور بالاستحقاق ، لذته أيضا وأهميته .. فإن من يحصل على محبة الآخرين مثلا ، من دون استحقاق ، سوف ينتابه شعور بالضعف ، والضعة ، والذلة ، والاستكانة .. بخلاف ما لو نال ذلك الحب عن جدارة ، فإن ذلك سيثير فيه عزة ، وقوة ، وثبات شخصية ، وبهجة بهذه العزة ، وبذلك الثبات ..

كما أن الاستحقاق يعطي للحب أصالة ، وعمقا ، وبقاء ، وشعورا بالثبات ، بخلاف ما لو جاء على سبيل التحنن والتكرم ، فإنه لا يكون ثمة

١٦٩

أي أساس أو مستند ، أو مبرر للشعور ببقائه ، وأصالته ، واستمراره ..

فيصبح هذا الحب مشوبا بالشعور بإمكانية فقده لأي طارئ ، أو صارف عنه .. وقد يضعف الحافز الذاتي له ، ولا يجد منشأ آخر يمكن أن يعتمد عليه فيه ..

«وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً» :

ورغم أن الإنسان مملوك لله سبحانه ، فإن الله تعالى قد تفضل عليه بأن جعل لسعيه قيمة ..

ثم اعتبره ملكا للإنسان نفسه .. على قاعدة : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) (١) ..

غير أن اللافت هنا : أنه سبحانه حتى حين تفضل على الإنسان بهذا وذاك ، فإنه قد اعتبر الإنسان العامل أهلا لأن يشكر على عمله هذا ، رغم أن فائدة العمل وعائدته إنما تعود عليه دون سواه ..

وقد أخبر تعالى عن حصول هذا الشكر ، وعن بقائه ، وعن كينونته بقوله : (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ..) فلم يقل : وسنشكر لكم ذلك .. بل قال : «كان» ، ليشير إلى أن الشكورية الثابتة والدائمة والباقية لسعيكم ؛ قد تحققت وانته الأمر.

«سعيكم» :

ثم إن الله تعالى قد ذكر هنا مجرد السعي ، ولم يذكر نوعه ، ومستواه ، ونتائجه ، وآثاره وحجمها ، وهذا معناه : أن مجرد السعي يجعل الأبرار مستحقين لهذا الجزاء ولذلك الشكر ..

__________________

(١) سورة سبأ الآية ٤٧.

١٧٠

«مشكورا» :

وقد ألمحنا آنفا إلى أن الله سبحانه قد اعتبر نفس سعي الإنسان في سبيل الخير مهما كان مستوى نتائجه وحجمها ـ اعتبره ـ ذا قيمة على كل حال .. بل هو قد رفع من مستواه إلى حد أنه اعتبره بمثابة هدية له تعالى ، وبلغ الأمر حدا بحيث انفصلت عوائد وفوائد ذلك العمل عن العامل ، ولحقت به تبارك وتعالى ، فاستحق ذلك العامل الشكر بإزاء هذا الذي تخلى عنه ليصبح لغيره ، وهذا الغير هو الله سبحانه ، الغني ، والخالق ، والمالك ..

وهذا غاية التكريم من الله سبحانه لعبده المؤمن ، فإنه ـ وهو المالك ، والمعطي له كل القدرات ، وكل الهدايات ـ قد ملكه عمله ، وجعل نفعه يعود عليه ، ثم أعطاه عليه جزاء ، ثم زاده أن اعتبر نفع ذلك العمل يعود عليه هو سبحانه ، ووعده عليه بالشكر ، بل وشكره عليه بالفعل ، بل كان له منه الشكر الدائم والمستمر ..

وإثبات المشكورية لسعي الأبرار ، يؤكد أن إثبات الجزاء عليه كان بسبب الاستحقاق ، لأن الشكر يتضمن اعتبار سعي الأبرار الذي يفترض كونه لهم ـ اعتباره ـ لغيرهم ، وأنهم قد استحقوا الشكر عليه ، لتخلّيهم عنه لصالح ذلك الغير ، حسبما بيّناه ..

ولكن ذلك كله إنما هو في مقام التصوير ، الذي يسهم في إدراك المقاصد العالية ، وليس على نحو الحقيقة .. ولكن الجزاء والكرامة التي يتجسد معنى الشكر فيها ، هي تلك الحقيقة التي يراد الإرشاد إليها ..

ولا بد أن يدرك الأبرار هذه المعاني ، وأن تكون من أسباب نعيمهم وبهجتهم بهذا الكرم الإلهي الغامر ، وهذا الفضل العميم ..

١٧١

ولذلك قال هنا : (يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً.) أي يتركونه غير مكترثين به ، ولا مهتمين له ، ولم يكونوا قد أمسكوا به ، أو حصلوا عليه. رغم أنه ثقيل ، ومهم جدا ..

* * *

١٧٢

الفصل الثالث والعشرون :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً)

١٧٣
١٧٤

قوله تعالى :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً).

وسائل الهداية الإلهية :

وبعد بيان هذا الجزاء العظيم للأبرار ، بما يمثله من إثارة الطموح والتطلع لدى الناس إلى تلك المقامات السامية ، والتشوق لبلوغها ، أو لسلوك الطريق إليها : فإن الحاجة تصبح ماسة إلى بيان وسائل الهداية إلى ذلك كله ، فجاء البيان لهذه الهداية من قبل مصدر العطاء ، والحكمة ، والهيمنة ، والخالقية ، والعلم ، و.. و..

وقد أورد الله تعالى ذلك مصحوبا بالتأكيدات المختلفة للمضمون الذي يريد لفت الأنظار إليه ، وهو أن القرآن نازل من عند الله سبحانه ، فأكد ذلك بكلمة «إنّ» وبكلمة «نا» المعبرة عن مقام العزة الإلهية ، وبكلمة «نحن» المؤكدة للضمير المتصل ، مع أنّه قد كان يمكن الاكتفاء بالقول : «أنا نزلت عليك القرآن» ..

وأكّد ذلك أيضا بالجملة الاسمية ، وبكلمة تنزيلا ، التي هي مفعول مطلق.

فهذه التأكيدات كلها ، لعلها لإزالة آثار تشكيكات أهل الزيغ ، والشرك ، الذين كانوا يقولون عن القرآن : إنه قول شاعر ، أو كاهن ، أو هو من أساطير الأولين ، أو ما أشبه ذلك.

فبعد أن بيّن سبحانه الهدف من الخلقة ، وبيّن سبيل الأشرار ،

١٧٥

والأبرار ، وبيّن أيضا جزاء هؤلاء وأولئك .. بعد ذلك كله أراد سبحانه أن يبيّن أن القرآن هو سبيل النجاة ، وأنّه نازل من عنده تعالى ، لتكون النتيجة من ثم هي :

أن الوصول إلى الهدف الذي رسمه الله لخلق الإنسان منحصر بما بيّنه الله سبحانه. وكل ما عداه ، فإنّه لن يوصل إلى شيء سوى الدمار والبوار.

«إنّا نحن» :

وقد بدأت هذه الآية المباركة بكلمة «إنّا» المفيدة للتأكيد القولي ، يضاف إلى تأكيد آخر ، يقرره لهم مشاهدتهم صحة ما يخبرهم به سبحانه.

ثم أشار إلى نفسه تبارك وتعالى بكلمة : «نا» وبكلمة : «نحن» ، وهما تعبران عن المتكلم ، ومعه غيره ، ليشير بذلك ـ من جهة ـ إلى مقام عظمته ، وجلاله ، وكبريائه ، وقدرته ، وعزته .. وليفيد ـ من جهة أخرى ـ أنّ تنزّل القرآن من مقام إلى مقام ، قد أوكله سبحانه إلى الملائكة ، ثم إلى جبرئيل .. وذلك ليعرفنا : أنه يدبر الكون بوسائل معينة ، ووفق نظام ، وعبر وسائط تدبير (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (١) ..

ومما يؤكد ذلك :

أنه تعالى ينزل القرآن من مقام إلى مقام ، بواسطة الملائكة ، كما قلنا ..

أنه يوحي إلى النبي أحيانا بواسطة جبرئيل ..

وأنه يميت الأحياء من البشر بواسطة الملائكة ..

وأنه يجعل التناسل البشري عبر صلة الذكر بالأنثى. وما إلى ذلك.

__________________

(١) سورة النازعات الآية ٥.

١٧٦

وإن معرفة الإنسان بأنّ كل المخلوقات مسخرة لله تعالى ، وتعمل بإرادته سبحانه ، يزيد في معرفة الإنسان بالله ، ويؤكد خضوعه واستسلامه له. وهو يثبّت الإنسان في مواقع الاهتزاز ، فالله مهيمن على كل شيء حتى حين يكون الملك هو الذي يباشر التصرف ..

ولكنه عاد في الآية التالية ليتكلم عن نفسه تبارك وتعالى بصيغة المتكلم بضمير المفرد ، فقال : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ..) كما سيأتي.

والخلاصة : أنّه في مثل هذا المقام لا بد أن يأتي التعبير بصيغة : «إنّا» ، «نحن» ، ليزيد ذلك من طمأنينة الإنسان ، من خلال زيادة يقينه بأنّ الله هو الممسك بكل شيء ، والمهيمن على كل شيء ، حتى حينما يبدو أنّ ثمة من يتصرف في الأمور ويدبرها ..

«عليك» :

وكلمة «عليك» في قوله : (نَزَّلْنا عَلَيْكَ) تريد أن تجعل الإنسان يتلمس الوحي الإلهي من حيث هو يصل الرسول بالله مباشرة ، وفي هذا أيضا من الفوائد والعوائد المرتبطة بالإيمان بالكتاب ، وبالرسول .. ما لا يحتاج إلى مزيد بيان ..

«نزّلنا» :

وقال سبحانه : (نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ..) ولم يقل : «أنزلنا» ..

وقد قالوا في الفرق بينهما : إن التنزيل يكون نجوما ، ومتفرقا ، على سبيل التدريج ، أمّا الإنزال فيكون دفعة واحدة ..

وقد ناقشنا هذا القول في كتابنا الصحيح من سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ج ٢ وذلك حين الحديث عن البعثة .. غير أننا نجمل الكلام حول ذلك هنا على النحو التالي :

١٧٧

قد يقال : إن هناك ما يدل على عدم الفرق بين الإنزال والتنزيل ، فقد قال تعالى : (أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) (١).

وقال تعالى : (نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) (٢).

وقال : (نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) (٣).

وقال : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) (٤).

والجواب : أن اختلاف التعبير ، لا بدّ أن يوجب اختلاف الخصوصية الملحوظة ، ولعلّ الخصوصية هي لحاظ التدرّج في نزول الماء ، أو الآيات تارة ، ولحاظ مجموع الآيات النازلة ، أو مجموع الماء النازل أخرى. كما أن تنزّل الكتاب على سبيل الإجلال والإكرام له ، قد كان كذلك أيضا ، فنزل إلى اللوح المحفوظ ، ثم إلى السماء الرابعة ، حيث البيت المعمور ، ثم إلى السماء الدنيا ، ثم صار ينزل سورة سورة ، ثم صارت تنزل آياته نجوما.

فحين يلاحظ هذا النزول التدريجي التكريمي ، يكون التعبير بنزّل. وحين يلاحظ نزوله بلحاظ وصوله تاما بمجموعه إلى أهله أخرى .. من دون لحاظ ذلك التدرج التكريمي ، فيكون التعبير بأنزل.

وقد يقال : إن قوله تعالى : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) (٥). يشير إلى عدم الفرق بين الإنزال والتنزيل ، حيث استعمل التنزيل في

__________________

(١) سورة العنكبوت الآية ٥١.

(٢) سورة البقرة الآية ١٧٦.

(٣) سورة البقرة الآية ٦٣.

(٤) سورة البقرة الآية ٢٢.

(٥) سورة الفرقان الآية ٣٢.

١٧٨

مورد النزول جملة واحدة ..

ويمكن أن يجاب عن هذا أيضا : بأن التنزيل هنا قد لوحظ فيه إنزال مجموع القرآن ، من سماء إلى سماء ، ومن مقام إلى مقام ، حتى يصل إلى البشر .. فهو على حدّ قوله : (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) (١) ..

فإذا تأكّد وجود فرق بين نزّل وأنزل ، فلا بدّ من الإجابة على سؤال :

أنه تعالى يقول : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (٢).

ثم هو سبحانه ، يقول : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٣).

فهذه الآيات تدل على نزول القرآن نجوما ، ومفرّقا ..

وقال : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) (٤).

وقال أيضا : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (٥).

وقال أيضا : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (٦).

فهذه الآيات تدلّ بالتصريح ، أو بالتلميح ، على النزول الدفعي ..

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ٩٣.

(٢) سورة الإسراء الآية ١٠٦.

(٣) سورة الفرقان الآية ٣٢.

(٤) سورة الزمر الآية ٢.

(٥) سورة القدر الآية ١.

(٦) سورة البقرة الآية ١٨٥.

١٧٩

فكيف يوفق بين هاتين الطائفتين من الآيات؟! ..

سؤال آخر هنا أيضا وهو : أنه إذا كان القرآن قد نزل في شهر رمضان فكيف تكون البعثة النبوية في شهر رجب؟

ويمكن أن يجاب عن هذا وذاك بما يلي :

أولا : إنه قد سبق أن هناك ما يدل على نزول القرآن إلى اللوح المحفوظ .. ثم هناك ما يدل على نزوله إلى السماء الدنيا ، ثم سورة سورة ، ثم صارت تنزل الآيات تدريجا ..

وقد ذكرنا ذلك في بحث لنا حول السبب في تقديم آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (١) على آية : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (٢) فراجع (٣) ..

وعلى هذا فيمكن القول بأن النزول الدفعي للقرآن قد كان في شهر رمضان ، وفي ليلة مباركة ، هي ليلة القدر. ثم بدأ في السابع والعشرين من شهر رجب ينزل سورة سورة ، وتدريجا ..

ثانيا : بالنسبة إلى البعثة في شهر رجب نقول :

إنه لا يجب أن تكون البعثة مقترنة بنزول القرآن ، فيمكن أن يبعثه الله في شهر رجب ، ثم يبدأ نزول القرآن بعد شهر ، أو شهور ، أو أكثر ، أو أقل ، لأن البعثة هي مجرّد أن يخبر جبرئيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الله بأنه نبيّ ، وقد يخبره بذلك منذ صغره ، كما كان الحال بالنسبة

__________________

(١) سورة المائدة الآية ٣.

(٢) سورة المائدة الآية ٦٧.

(٣) راجع كتاب «مختصر مفيد» ج ٤.

١٨٠