تفسير سورة هل أتى - ج ٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة هل أتى - ج ٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩١
الجزء ١ الجزء ٢

وبعد ما تقدم نقول :

إن من يكون عارفا بالحق ، لكنه يتعامى عنه ، ويجحده ، ويصر على الباطل ، وهو القسم الأول ، فلا ريب في أنه غير معذور ، بل هو من الهالكين .. وهذا هو ما يحكم به العقل ، ويقتضيه الحق والعدل.

ولو فرض أنه قد فعل ذرة من خير ، فلا بد أن يكافئه الله عليها في الدنيا ، وما له في الآخرة من خلاق.

وإن كان جاهلا بالحق ، وقد رضي بجهله ، ولا يرضى بالنظر في الأمور رغم الطلب إليه ، والإصرار عليه ، كما هو الحال في الصنف الثاني ، فإن كان هذا الشخص في دائرة الكفر والشرك ، فلا مجال للبحث في أمر نجاته .. وأما إن كان في دائرة الإسلام ، ولكنه لا يعتقد بولاية الإمام علي عليه‌السلام من دون أن يصل إلى درجة الجحود ، فلا بد أن ينظر في عمل هذا الشخص ، فإن كان فاسدا ، لا يرضى الله تعالى به ، ولا يقره عليه الشرع ، بل هو عبارة عن جرائم وموبقات ، فهو كسابقه ..

وإن كان ذنب سابقه أعظم بسبب جحوده وطغيانه ..

وأما إن كان عمله موافقا للشرع الذي يدين الله به ، فيمكن أن يتداركه الله سبحانه برحمته ، لأجل شفاعة ولد صحيح الإيمان ، أو لأي سبب آخر. بحيث تفيده هذه الشفاعة في إفساح المجال له لتصحيح تلك الأعمال بعرض ولاية الإمام علي عليه‌السلام كما سيأتي في القسم التالي ..

وأما من يكون غافلا ، أو عاجزا عن الوصول إلى الحق ، أو مخدوعا ، واقعا تحت تأثير شبهة فيه ، غير أن كل همه وسعيه هو الحصول على رضا الله والوصول إليه .. فإن حكم هذا القسم يعلم بملاحظة القاعدة التي

١٢١

تضمنتها الآية المباركة : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (١) ..

وقوله تعالى : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) (٢) ..

ثم بملاحظة ما هو ثابت من أنه لا يدخل الجنة إلا من أقر بالولاية لأمير المؤمنين عليه الصلاة والسّلام.

أي أن عدل الله تعالى ولطفه يقتضيان أمرين قد يبدوان متخالفين :

أحدهما : أن لا يضيع عمل هذا الشخص.

والآخر : أن لا يدخل الجنة بدون إقرار منه بولاية الإمام علي وأهل بيته عليهم‌السلام.

ولكن الحقيقة هي أن هذا التخلاف والاختلاف صوري ، وليس بحقيقي ، وذلك بملاحظة وجود أحاديث ذكرت أن ولاية الإمام علي عليه‌السلام سوف تعرض على نوع من الناس يوم القيامة. فمن قبلها ، أصبحت أعماله السابقة التي هي خير وصلاح ، صالحة وقادرة على التأثير في إدخال صاحبها إلى الجنة ، فولاية الإمام علي عليه‌السلام تكون بمثابة الروح التي تدب في الجسد فتعطيه الحياة والقوة والحركة ..

ولعل إلى هذا يشير قوله تعالى عن تبليغ ولاية الإمام علي عليه‌السلام : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (٣) .. فإن الرسالة في حقائقها ، وأحكامها ، وكل مضامينها بدون ولاية الإمام علي عليه‌السلام ، تكون كالجسد بلا روح ، فإذا جاءت الولاية تحركت اليد وصارت تبطش ،

__________________

(١) سورة الزلزلة الآية ٧.

(٢) سورة آل عمران الآية ١٩٥.

(٣) سورة المائدة الآية ٦٧.

١٢٢

وتدفع ، وتقرب وتبعد ، وصارت العين ترى ، والأذن تسمع ، واللسان يتكلم ، الخ ..

ونقرب الفكرة أيضا ، بالتمثيل بالإجازة في العقد الفضولي .. فإن الإيجاب والقبول ، وجميع عناصر العقد متوفرة ، فإذا أجاز المالك البيع لاحقا ، فإن تلك العناصر تؤثر أثرها ، ويحصل النقل والانتقال ، وتتحقق الملكية للثمن وللمثمن ..

وعلى هذا الأساس نقول : إن الذين يقتلون في ساحات الجهاد ، وكان حالهم في القصور والغفلة ، حال هؤلاء ، فإنهم إذا كانوا يقاتلون في سبيل الله ، لا لأجل الدنيا ، وليس لإرضاء شخص ، أو فئة ، ولا تأييدا لخط انحرافي ، أو طاعة لقوى الشر والضلال .. فإن عملهم يكون جاهزا يوم القيامة ، ولا يحتاج إلا إلى ولاية الإمام علي عليه‌السلام ، لتكون هي الروح التي تدب فيه ، وتحمل صاحبه إلى الجنة ، وينال بذلك السعادة ، فلا غرو أن يلطف الله سبحانه وتعالى به ، ويتيح له هذه الفرصة ، بعرض ولاية الإمام علي عليه‌السلام ، فإن قبلها نال الجنان ، وإن رفضها ، فقد تمت عليه الحجة ، ولا بد أن ينال جزاء جحوده لأمر الله سبحانه ..

للغة تأثيرها القوي :

وبعد ، فقد أشرنا غير مرة إلى أن اللغة العربية تختزن في داخلها طاقة تعبيرية كبيرة ، وكما كبيرا من الإشارات والإيحاءات ، وهذا من شأنه أن يترك آثارا متنوعة على نفسيات ، ومشاعر ، وانفعالات ، ووجدان الناس ، وعلى مفاهيمهم ، وتربية ذهنياتهم ، وإحداث ارتكازات لا شعورية لهم ، وترويض وتدجين السمع والقلب على أمور ذات طابع معين ..

هذا بالإضافة إلى دورها الإيجابي في رفع مستوى الإنسان ، والترقي

١٢٣

بفكره ، وبمفاهيمه ، وبمشاعره إلى مستويات عالية ومرموقة ، ونبيلة ، ثم شحن روحه ووجدانه بقيم ومثل عليا ، ما أشد حاجته إليها في حياته وفي مواقفه ..

فلا محل للتعجب إذا فهمنا من كلمة «ولدان» ذلك المعنى الذي ساقنا إلى مثل هذه القضايا ..

«مخلّدون» :

وحين نصل إلى قوله تعالى : «مخلّدون» .. فإننا :

١ ـ سنشعر بأن هؤلاء الولدان سيكونون مع الأبرار دائما .. فليس وجودهم معهم عارضا ، ولن يكون هذا الاهتمام بشأن الأبرار محدودا بالأيام الأولى لدخولهم تلك الجنة ..

٢ ـ وسنشعر أيضا أن وصف الولدان بالمخلدين .. يشعرنا ببقاء صفة الفتوة والنّضرة فيهم .. فلا خوف إذن من أن يصبحوا بتقادم الزمن شيوخا ، ولا سبيل لظهور سمات الهرم فيهم ..

٣ ـ إن إعلام الأبرار بأن ثمة خلودا في الجنة ، وأن الوعد بالخلود ، لابد أن يتحقق إذ هو مما تثبت الوقائع نظائر له ، وتؤكد أنه حقيقة واقعة .. إن هذا لمما يزيد في طمأنينة الأبرار إلى هذا الوعد ، على قاعدة : (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (١).

ومما يزيد في سعادة الأبرار بهذا الخلود : أنه خلود لا يؤثر في المحيط من حولهم ، تغيرا ، وذبولا ، أو تشوها ، أو حاجة ، أو نقصا ، أو ما إلى ذلك. بل يبقى كل هذا النعيم في غاية التمام والكمال .. فلا يجدون

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٦٠.

١٢٤

إلا الصحة ، والقوة ، والشباب ، والفتوة ، والري ، والشبع ، والواجدية لكل ما تشتهي الأنفس ، وتلذ الأعين. فهو إذن خلود لذيذ ، ومحبوب ، لأنه خال من المتاعب ، وليست فيه أية شوائب ..

«إِذا رَأَيْتَهُمْ» :

١ ـ وقد أشرنا أكثر من مرة إلى أن كلمة «إذا» إنما تستعمل في مقام الجزم واليقين ، وقد جاءت هنا لتأكيد الحقيقة التي يراد للأبرار أن يعوها ، وأن يلتذوا بتصورها ..

بالإضافة إلى أن هذا الجزم يستبطن الإغراء للآخرين بالعمل بهذا الاتجاه ، ما دام أن الإقدام عليه لم يعتمد على مجرد احتمالات ، أو ظنون. بل النتائج فيه يقينية ، واليقين فيها مطابق للواقع جزما ، لأنه مستند إلى الإخبار الإلهي ..

٢ ـ وهناك إشارة أخرى ، ربما يقال : إنها تستفاد من كلمة «إذا» ، وهي : أن هذه الكلمة تشير إلى أن ثمة يقينا بحتمية الوصول إلى هذه النتائج إذا سار الإنسان بحسب ما تقتضيه فطرته ، ويفرضه عليه التوازن الذي يعيشه في داخل شخصيته وفي كل حياته.

أي أن الإنسان إذا كان طبيعيا ، ومنسجما مع نفسه ، ولا يعاني من أي خلل في شخصيته الإنسانية ، فإنه لا بد أن يسير بحسب مقتضيات فطرته ، ويخضع لأحكام عقله ، وهي بدورها لا بد أن توصله إلى هذه النتيجة ، وإلى هذا المقام ، فكلمة «إذا» تشير إلى هذه اللابدية والحتمية ، فإن من لا يصل إلى هذا المقام ، يكون قد أخل بالمسار الطبيعي ولم يستجب لنداء فطرته وعقله. بل تأثر بعوامل الهوى ، وغيرها مما أضعفه ، وأخل بالمسار الطبيعي لشخصيته الإنسانية ..

١٢٥

فعدم الوصول إلى مقام الأبرار هو الاستثناء ، وهو دليل خلل وضعف ، وانحراف عن المسار العام ، والوصول إليه هو الأمر المتوقع والطبيعي ..

«إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ» :

وقد اختار هنا الحديث عن الحالة ، والشكل ، والمنظر الظاهري للولدان ..

ولكنه حديث قد جاء بطريقة تختزن في داخلها وعي المضمون الذي يحتضنه ذلك الشكل العام .. وسنوضح ذلك إن شاء الله تعالى ..

ولكن قوله : «حسبتهم» يشير إلى وجود خطأ في إدراك أهل الجنة لحالات وحقيقة ما يحيط بهم .. فكيف يمكن تصور ذلك؟!

والجواب :

أولا : إنه تعالى لم ينسب الحسبان لأهل الجنة ، بل هو يقول : إن من يشرف عليهم ويراهم ، هو الذي يقع في هذا الخطأ ، خصوصا إذا كان الخطاب في هذه الآية الكريمة لأهل الدنيا ، الذين لا يملكون القدرات التي تمكنهم من إدراك الواقع الأخروي الذي هو أرقى بكثير مما عرفوه وألفوه ، ووسائل الإدراك التي تمتلكونها تبقى قاصرة عنه.

ثانيا : لو سلمنا أن الخطاب هو للمؤمن الذي هو من أهل الجنة ، والذي تكون لديه وسائل إدراك تتناسب مع الواقع الذي يتعاطى معه ، فإننا نقول :

إن الخطأ على نحوين :

أحدهما : ما يكون بحيث ينشأ عنه فقدان أو فقل : تفويت حالة الكمال ، أو الإضرار بها. وفقد الوصول إلى الخير والنفع ، الذي يفيد في

١٢٦

الترميم ، وفي التقليم والتطعيم. وليس هذا هو المقصود هنا .. ولا تحصل هذه الحالة في الجنة أبدا ..

ثانيهما : الخطأ الذي ينتج عنه كمال في المعرفة ، وصحة فيها ، وزيادة في إدراك الحقائق ، ويوجب تكامل الفهم والوعي ..

وهذا هو المقصود هنا ، فإن خطأ الباصرة هنا : (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) لا يوجب نقصا في المعرفة ، ولا تفويت شيء من المعاني ، والحالات التي يجب الاحتفاظ بها.

ولا هو إدراك لنقص موجود في الولدان ، بل هو خطأ يوجب المزيد من إدراك درجات وتلمس حالات الحسن في الولدان ، ومراتب الصفاء في ألوانهم ، وإشراق ، ونضرة وجوههم ..

وهذا معناه : أن هذا النوع من الحسبان قد جاء في صراط التكامل ، وهو خطأ تنتج عنه صوابية في الإدراك ، ودقة فيه ، وهو من طرق التعبير عن الحقائق بوضوح ، ومن وسائل الإيصال إليها .. فهو نظير الطريقة الحسابية ، المعروفة بحساب الخطأين ، الذي لا يوصل إلى النتيجة الصحيحة إلا بعد ذكر فرضيتين خاطئتين ، وقد ذكر هذه الطريقة المرحوم الشيخ البهائي قدس‌سره ، في كتابه : خلاصة الحساب.

«لؤلؤا» :

وأما اختيار تشبيه الولدان المخلدين باللؤلؤ المنثور فلعله من أجل الإلماح إلى عدة أمور تكون فيه ، هي :

١ ـ صفاء اللؤلؤ ..

٢ ـ إشراقه ورونقه ..

٣ ـ شفافيته ..

١٢٧

٤ ـ تلألؤ وتشعشع غير عادي ..

٥ ـ البريق ، وانعكاس النور ..

٦ ـ الجمال ..

٧ ـ الظهور ..

٨ ـ الانتشار ..

٩ ـ التوهج الذي يعني أن يكون في الولدان حيوية ، وشباب ، وفتوة ، وطراوة ، وتوهج ..

«منثورا» :

وبعد ما تقدم نقول : إن قوله «منثورا» يفرض علينا الالتفات إلى الأمور التالية :

أولا : إذا تعددت حبات اللؤلؤ المجتمعة ، في مجال واحد ، وتحركت في اتجاهات مختلفة ، فإن تشعشعها ، ولمعانها ، وانعكاسات نورها ، سوف تزداد ظهورا ، وتتداخل بصورة رائعة .. وهذا هو حال الولدان المخلدين في الجنة ، الذين يكونون في حركة دائمة ، وهم يطوفون على الأبرار ..

ثانيا : إن اللؤلؤ قد يكون منثورا ، وقد يكون منظوما في خيط يجمع بعضه إلى بعض .. ولا يمكن نظم اللؤلؤ إلا بعد ثقبه. والمنظوم من اللؤلؤ أقل صفاء ، وإشراقا ، ولمعانا ، وتلؤلؤا من غير المنظوم ..

بالإضافة إلى أنه حين ينظم ، فسوف يوجب ذلك حصر جانب من أشعته ، وتوجيه تلألؤه في جهات معينة ومحدودة باتجاهات معينة ، بحسب ما يوجبه اتجاه الخيط الذي نظمت فيه ..

١٢٨

بخلاف اللؤلؤ المنثور ، فإنه يمكن أن يتحرك في كل اتجاه ، كما أنه لم يعرض عليه ما يوجب التقليل من إشراقه ، وتلألؤه ، ولمعانه ، وصفائه ..

على أن انتشار اللؤلؤ نفسه ، يزيد من درجة تشعشعه ، لا سيما حين تكون الحركة في مختلف الاتجاهات ، لأن النور إذا جاء من زوايا مختلفة ، ووقع بعضه على بعض ، فإن انعكاساته سوف تختلف بحسب اختلاف تلك الزوايا ..

اللؤلؤ المكنون .. أم المنثور؟!

وعلينا أن لا ننسى : أن الله سبحانه حين وصف الحور العين باللؤلؤ ، قال : (وَحُورٌ عِينٌ* كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) (١) .. ولكنه هنا قد وصف الولدان باللؤلؤ المنثور ..

ولعل السبب في ذلك : أن المطلوب في الحور العين هو الستر ، والخدر ، والاختصاص ، والحرص ، والكمون ، والحفظ ..

أما بالنسبة للولدان ، فالمطلوب هو الحضور ، والظهور ، والانتشار ، والحركة ، والانتقال ، والكثرة ، والتفرق ..

* * *

__________________

(١) سورة الواقعة الآية ٢٣.

١٢٩
١٣٠

الفصل العشرون :

(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً)

١٣١
١٣٢

قال تعالى :

(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً.)

«وَإِذا رَأَيْتَ» :

وقد قال تعالى : «إذا رأيت» .. ولم يقل : لو رأيت ، أو إن رأيت .. لأن كلمة «لو» تفيد الامتناع ، وعدم الحصول ، وكلمة «إن» تستعمل في مورد الشك في الحصول .. مع أن المط لوب هو التأكيد على الحصول ، وإظهار اليقين به ، وهذا هو مورد كلمة «إذا» وهو المناسب هنا ، لأن الهدف هو الترغيب والتشويق ، والحث على التزام سبيل الأبرار ، واتباع نهجهم.

«رأيت» ، من جديد :

ثم إنه سبحانه قد عبر بكلمة «رأيت» ولم يقل : سمعت ، أو علمت ، أو عرفت ما أعد الله للأبرار من الملك والنعيم.

كما أنه سبحانه قد اختار الخطاب المباشر ، فلم يقل لو يعلم الناس ماذا أعد الله للأبرار ، الخ ..

واختار أيضا الخطاب للفرد ، لا للجماعة ، فقال : «رأيت» ، ولم يقل : «رأيتم».

كما أنه لا بد من تحديد المفعول لكلمة رأيت الأولى .. وأن يسأل أيضا عن المفعول الثاني لكلمة «رأيت» الثانية ..

فما هو السبب في ذلك كله ، يا ترى؟! ..

١٣٣

ونقول :

إننا قبل أن نجيب على هذه الأسئلة ، نلفت النظر إلى : أن الدقة في معاني المفردات مطلوبة ، ليحصل الأمن من أي خلل أو تشويه أو نقص ، أو غموض في التصور العام الذي تسهم تلك المفردات في إنشائه ..

وأما جواب الأسئلة فهو كالتالي :

١ ـ الخطاب للمفرد :

إن قوله : «وإذا رأيت» ، لا يعني أنه يخاطب فردا بعينه ، بل هو يخاطب فردا على سبيل البدل ، أي أنه يخاطب كل من يصلح للخطاب ، ويمكنه أن يدرك فحواه ، فهو من قبيل : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) (١)؟! ومن قبيل : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) (٢)؟! ..

وهذا معناه : أن الخطاب يشمل الكافر والمؤمن ، لأن الجميع سيرون هذا النعيم للأبرار ، فيكون به سرور أهل الإيمان ، وحسرة أهل الكفر والطغيان ..

ومن فوائد جعل الخطاب للمفرد على سبيل البدل ، هو أن كل واحد من الناس يشعر أنه معني به ، فيكون أشد انتباها لمعناه ، وترصدا لإشاراته ، وإدراكا لمراميه .. ثم هو يشعر بالمسؤولية تجاهه ، ويجد نفسه مطالبا بالتزام الاستجابة له ..

٢ ـ الرؤية والمعاينة :

وحول لزوم التعبير بالرؤية دون سواها ، مما يدخل في نطاق التعبير

__________________

(١) سورة الفيل الآية ١.

(٢) سورة الماعون الآية ١.

١٣٤

عن المعرفة ، نقول :

إن الرؤية تعني الحضور في المكان المناسب ، والزمان المناسب لصحة الرؤية .. كما أنه لا بد أن يكون حضورا مع وعي والتفات ..

والرؤية البصرية تعني المشاهدة المباشرة ، وهي أقوى وأشد إقناعا ، وأوضح وأيسر إدراكا مما لو استندت المعرفة بالأمر إلى سماع الخبرية مثلا ..

فإن الإدراك إنما هو لصورة اخترعتها المخيلة ، من خلال مفاهيم الألفاظ التي ألقيت إليها. وليس بالضرورة أن تكون دقيقة الانطباق على الواقع الذي يراد له أن يتصوره ..

وقد تضمن هذا الخطاب ـ باختيار كلمة «رأيت» ـ دلالة واضحة على مدى الثقة بالمضمون ، وأن القضية ليست مجرد وعد بأمر قد يتبدل الرأي بالوفاء به ..

كما أن الحديث ليس عن أمر مستقبلي ، قد يطرأ خلل في مقتضيات وجوده ، أو يبرز مانع عن ذلك الوجود ، بل هو حديث عن أمر فعلي ناجز وظاهر للعيان ، يمكن تلمسه بحاسة البصر ..

وسيأتي : أن الرؤية قد تعلقت بالنعيم ، مع أنه ليس بمحسوس. وهذا أسلوب آخر لإظهار شدة الحضور أيضا ..

٣ ـ إطلاق الرؤية : «رأيت ثمّ» :

ويبقى أن نذكر هنا : أن كلمة «رأيت» الأولى لم يذكر فيها ما تقع عليه الرؤية بالتحديد ، بل اكتفى تعالى بالرؤية مجردة عن أي تقييد هناك ، ربما للإشارة إلى أن المقصود هو ذكر من يملك القدرة على الرؤية ، والقابلية لها ، فكأنه قال : يكفي أن يكون عندك إمكانية أن ترى

١٣٥

ولو في الحد الأدنى ، ولأي شيء كان .. لكي ترى النعيم والملك الكبير بيسر وسهولة ، من دون حاجة إلى أي عنصر مساعد ، أو رافع للموانع ، إذ إن الرؤيا ستكون ميسورة وسهلة لك ، كما أنه لا يوجد أي شيء يمنع ويصد ..

فلا حاجة إلى قوة بصر ..

كما لا حاجة إلى تقريب الأشياء ..

ولا إلى إيجاد مناخات تساعد على الرؤية ..

ولا إلى جهد لإزالة الموانع ..

«ثمّ» :

ثم هو قد عبر بظرف المكان بدلا عن المفعول ، فقال : «رأيت ثمّ» ، أي إذا حصلت لك قابلية الرؤية ولو بأدنى مراتبها ، هناك ..

فسوف ترى نعيما وملكا كبيرا ..

فهو لم يذكر سوى كلمة «ثمّ» ليفيد عموم الرؤية لكل النواحي ، في تلك الجنة ..

والتعبير بكلمة «ثمّ» التي هي للبعيد ، يشير إلى أن الوصول إلى ذلك المكان البعيد عن التصور والتخيل ، والبعيد أيضا من حيث المكان .. يحتاج إلى بذل جهد ، وسعي للحصول وللوصول في كلا الناحيتين ..

لماذا «رأيت» من جديد؟! :

وقد كان بالإمكان التعبير بأن يقول : «فستجد» ، ولكنه أعاد كلمة «رأيت» ليفيد التأكيد على شدة ظهور ذلك الأمر وحضوره ، إلى حد أنه قابل للرؤية البصرية ..

١٣٦

«نعيما» :

والنعيم ليس من الأمور المحسوسة ، بل هو حالة من النشوة والرضا ، واللذة ، تنشأ من ممارسة أمور محسوسة ، غير أو محسوسة.

وقد تعلقت الرؤية البصرية بهذا النعيم بالذات ، ليشير إلى شدة حضوره ، وليؤكد ظهوره إلى درجة أنه أصبح قابلا للمشاهدة ، فهو تعالى يحوّل لك المعقول إلى محسوس ، وقد علق الرؤية به مباشرة ، لا بآثاره ، أو دلائله ، أو مناشئه ، فلم يتحدث عن الأنهار ، والأشجار ، والقصور ، والجنان ، والحور .. وذلك مبالغة في التأكيد على واقعية هذا النعيم ، وأنه قد تجاوز مرحلته إلى مرحلة التجسد والحضور الحسي ..

«نعيما وملكا» :

وقد اختار ذكر أمرين هنا : النعيم ، والملك .. مقدما النعيم على الملك.

والسؤال هنا هو :

أليس الملك من مفردات النعيم؟!

فهل هذا من قبيل عطف الخاص على العام ، لإظهار مزيد من الاهتمام بالخاص؟!

ونقول في بيان وجه ذلك :

إن مفردات النعيم جميعها ، ترجع إلى أمرين :

أحدهما : ما هو حسي ، كلذة الإنسان بالطعام والشراب ، ولذته بأمور العلاقة بالجنس الآخر ، ولبسه للإستبرق ، وبشرب الزنجبيل ، وما إلى ذلك ..

الثاني : لذة إدراكية ، شعورية ، روحية ، معنوية ، يدركها الإنسا بحسه الباطني وهي أنواع كثيرة ، ترجع كلها إلى لذة الإحساس بالواجدية ، لما

١٣٧

يوجد تارة ، ويفقد أخرى ..

ومن أمثلة ذلك ، شعور الإنسان بالرضا واللذة من خلال شعوره بواجديته لكمالاته الحقيقية ، أو لما يراه كمالا له ، مثل كونه غنيا ، أو ذا مقام وموقع ، أو ذا سلطة وحاكمية. أو عالما ، أو معافى غير سقيم ، وما إلى ذلك ..

فخصوصية الجمال مثلا ، تعطي من يتصف بها لذة معنوية شعورية هي لذة الشعور بالرضا والواجدية على سبيل الملك ، وهي تعطيه تأكيدا وثباتا لشخصيته المالكة لمزاياها ..

وهو بالنسبة إلى الغير إدراك لحالة التناسق القائم بين العناصر ، بعد انضمام بعضها إلى بعض ، وفق نظام معين. الأمر الذي ينشأ عنه حالة من الارتياح ، بل والانشراح ..

وقد أشار الله سبحانه في سورة «هل أتى» إلى كلا هذين النوعين ، فذكر الملك الكبير ، والاتكاء على الأرائك ، وطواف الولدان ، والجنة ، وما إلى ذلك مما يدخل في دائرة اللذة الإدراكية الشعورية ، وفي دائرة الملك ، والإحساس بالكرامة ، والحاكمية ، والواجدية ، وأشار إلى اللذة الحسية عرضا في نفس تلك الآيات السابقة ، حيث أشار إلى الزنجبيل ، والحرير .. ثم تحدث هنا عن ثياب السندس ، والحرير ، والإستبرق ، والتحلية بالأساور ، وغير ذلك مما يدخل في دائرة النعيم الحسي ..

وبعد ما تقدم نقول :

صحيح أن النعيم عام وخاص ، ولكن الظاهر هو أن المقصود بالنعيم في قوله تعالى «نعيما» : النعيم الحسي .. والمقصود بالملك : النعيم الإدراكي ..

١٣٨

أو أنه أراد بالنعيم أولا المعنى العام ، ثم ذكر النعيم الإدراكي ، بقوله : (وَمُلْكاً كَبِيراً) ثم عاد فذكر النعيم الحسي في قوله : (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ) كما سنرى ..

«كبيرا» :

ثم إنه تعالى قد وصف ملك الأبرار بأنه كبير ، ولم يصفه بالعظيم ، ولا بالواسع ، أو نحوه ..

ولعل ذلك يعود إلى أن كلمة «كبيرا» تختزن معنى العظمة ، ومعنى السعة أيضا ، ولا يريد الله سبحانه بالملك خصوص معنى السلطة والحاكمية ، بل هو يقصد الواجدية لكل ما لو فقده الأبرار لأحسّوا بالحاجة إليه ، أو لظهر لديهم حنين إليه ، إنه يتحدث عن الواجدية بمختلف معانيها ، ومفرداتها التي تناسب حال الأبرار ، ومنها ملك المال ، والمقام ، والسلطة ، وغير ذلك من مزايا ..

ومعنى ذلك : أن كلمة عظيم ، لا تفيد معنى السعة والشمول.

وكلمة واسع قد تنصرف ، إلى مساحة رقعة السلطان. فلا تشمل حتى معنى العظمة أيضا ، فكان التعبير الأدق والأصح ، والمناسب والجامع لسائر المعاني التي يراد التعبير عنها ، هو قوله : (وَمُلْكاً كَبِيراً ..)

تنوين التنكير :

وقد جاء قوله : «نعيما» و «وملكا كبيرا» منونا بتنوين التنكير ، ليفيد التعظيم ، والتكثير ، والاستمرار إلى أبعد مدى ممكن ، مفسحا بذلك المجال أمام وهم وخيال الإنسان ليذهب في كل اتجاه ، وإلى أبعد مدى .. وليفهمنا أن ما ذكرته الآيات ، لا يعدو كونه مجرد إعطاء مبدأ للتصور ، ولا يراد به بيان الحقيقة بكل تفاصيلها .. ويكون الإتيان بتنوين التنكير

١٣٩

بمثابة الإعلان عن هذه الحقيقة ، من خلال إطلاق خيال الإنسان عن كل قيد ، حيث سيبقى برغم ذلك غير قادر على إدراك الحقيقة ، كل الحقيقة دفعة واحدة ..

ويبقى لنا كلام حول أنحاء الاعتبار وأنه على نحوين ، سوف يأتي في أوائل الفصل التالي ..

* * *

١٤٠