موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ١٠٩

قضاؤه

في ايّام حكومته

٦١
٦٢

وحينما تزيّنت الخلافة الإسلامية بالإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام رائد الحقّ والعدالة في دنيا الإسلام تولّى عليه‌السلام بنفسه شئون القضاء بين الناس ، بالاضافة إلى مسئولياته الاخرى ، وكان يعهد بالقضاء إلى شريح القاضي ، ولكن يأمره بعرض ما يقضي به عليه لئلاّ يكون مجافيا لأحكام الإسلام.

وعلى أي حال فإنّا نعرض إلى كيفيّة قضائه ، وما يرتبط بذلك من بحوث ، كما نعرض إلى صور مشرقة من قضائه ، التي هي في منتهى الروعة والابداع ، وفي ما يلي ذلك :

كيفيّة قضائه :

كان الإمام عليه‌السلام إذا عرضت عليه دعوى لا يرتّب أي أثر على أوّل كلام أحد المتخاصمين ما لم ينته من كلامه ، وحينئذ ينظر في معطياته (١) ، كما كان لا يحكم لأحد المتخاصمين من دون أن يسأل الآخر في ما أدلى صاحبه من كلام ، وقد عهد إليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، فقد قال له حينما بعثه لتبليغ سورة براءة :

« إنّ النّاس سيتقاضون إليك ، فإذا أتاك الخصمان فلا تقض لواحد حتّى تسمع من الآخر فإنّه أجدر أن تعلم الحقّ » (٢).

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٤٥٨.

(٢) تفسير العيّاشي ٢ : ٧٥.

٦٣

وقال له حينما بعثه إلى اليمن :

« إذا تحوكم إليك فلا تحكم لأحد الخصمين من دون أن تسأل من الآخر » (١).

وهذا أرقى صور العدل الذي يضمن حقوق الناس.

تناقض الشهادة :

كان الإمام عليه‌السلام إذا تناقضت شهادة الشاهد يأخذ بأوّل كلامه دون الآخر ، وقد أوصاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، فقد قال له :

« من شهد عندنا ثمّ غيّر أخذناه بالأوّل ، وطرحنا الأخير » (٢).

وبهذا تصان الحقوق ، ويعمّ العدل ، وتسود العدالة.

عقاب شاهد الزور :

كان الإمام عليه‌السلام ينكّل بشاهد الزور ، فيبعث به إلى سوقه ، ويأمر فيطاف به ، فيحبسه أياما ويخلّي سبيله (٣) ، وقال الإمام أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام :

« إنّ شهود الزّور يجلدون جلدا ليس له وقت ، ذلك إلى الإمام ، ويطاف بهم حتّى يعرفهم النّاس ».

وتلا قوله تعالى : ( « وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا » ) (٤).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٦٥.

(٢) التهذيب ٦ : ٢٣٩.

(٣) التهذيب ٦ : ٢٨٠. وسائل الشيعة ١٨ : ٢٤٤.

(٤) النور : ٤ و ٥.

٦٤

فقيل له : بم تعرف توبته؟ قال :

« يكذّب نفسه على رءوس الأشهاد حيث يضرب ، ويستغفر ربّه عزّ وجلّ ، فإذا هو فعل ذلك فثمّ ظهرت توبته » (١).

شهادة من اقيم عليه الحدّ :

أمّا شهادة من اقيم عليه الحدّ من حيث القبول والرفض ، فهي على قسمين حسب رأي الإمام عليه‌السلام وهما :

الأوّل : أن يكون من اقيم عليه الحدّ قد أظهر التوبة ، وأقلع عن ذنبه ، فإنّ شهادته تقبل ، قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام :

« ليس يصيب أحد حدّا فيقام عليه ثمّ يتوب إلاّ جازت شهادته » (٢).

الثاني : أن يكون المقام عليه الحدّ مصرّا على جرائمه ، فلا تقبل شهادته.

قال الإمام عليه‌السلام لسلمة بن كهيل :

« واعلم أنّ المسلمين عدول بعضهم على بعض ، إلاّ مجلودا في حدّ لم يتب منه ، أو معروف بشهادة الزّور » (٣).

رجوع الشاهد عن شهادته :

كان الإمام عليه‌السلام يغرّم الشاهد إذا رجع عن شهادته بعد إصدار الحكم وتنفيذه ، فقد شهد عنده رجلان على رجل أنّه سرق فقطع يده ، ثمّ جاءوا برجل آخر فقالوا :

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٢٧. وسائل الشيعة ١٨ : ٢٤٤. التهذيب ٦ : ٢٢١.

(٢) فروع الكافي ٧ : ٣٩٧. التهذيب ٦ : ٢٤٥.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ٢٩٥.

٦٥

أخطأنا ، هو هذا ، فلم يقبل شهادتهما وغرّمهما دية الأوّل (١).

وشهد عنده أربعة رجال على رجل أنّهم رأوه مع امرأة يجامعها وهم ينظرون ، فرجم ، ثمّ رجع واحد منهم ، قال :

« يغرّم ربع الدّية إذا قال : شبّه عليّ ، وإذا رجع اثنان وقالا : شبّه علينا غرّما نصف الدّية ، وإن رجعوا كلّهم وقالوا : شبّه علينا غرّموا الدّية » (٢).

إقامة الحدود فورا :

كان الإمام عليه‌السلام يقيم الحدود فورا ولا يؤخّرها ، فقد شهد عنده ثلاثة أشخاص على رجل بالزنا ، فقال لهم :

« أين الرّابع؟ »

فقالوا : الآن يجيء.

فقال عليه‌السلام : « حدّوهم ، فليس في الحدود نظر ساعة » (٣) ، وبهذا تصان الحقوق ، ويرتدع عن غيّه كلّ باغ أثيم.

عدم إقامة الحدّ على من به قروح :

كان الإمام عليه‌السلام لا يقيم الحدّ على من به قروح حتى يبرأ ، فقد رفع إليه رجل في جسده قروح كثيرة ، وعليه حدّ فقال : « أقرّوه (٤) حتّى تبرأ ، لا تنكأوها عليه فتقتلوه » (٥). ومثّل هذا الاجراء رحمة

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٢١٩.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ٢٤٣.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٢٤. فروع الكافي ٧ : ٢١٠.

(٤) وفي الفروع : « أخّروه ».

(٥) فروع الكافي ٧ : ٢٤٤. من لا يحضره الفقيه ٤ : ٢٧. وسائل الشيعة ١٨ : ٣٢١.

٦٦

الإسلام ورأفته على الإنسان ، وعدم القسوة في إقامة الحدود.

شهادة الصبيان :

أجاز الإمام عليه‌السلام شهادة الصبيان إذا كبروا ، ولم ينسوها (١) ، واثر عنه أنّ شهادة الصبيان بيان جائزة بينهم ما لم يتفرّقوا أو يرجعوا إلى أهلهم (٢).

شهادة المملوك :

أجاز الإمام عليه‌السلام شهادة المملوك إذا كان عدلا (٣) ، من دون فرق بينه وبين الحرّ ، وبذلك فقد ساوى الإسلام بين المسلمين ، ولم يميّز فئة على اخرى.

شهادة النساء :

أجاز الإمام عليه‌السلام شهادة النساء في الامور التالية :

١ ـ إذا اعتدى شخص على إنسان فقتله ، ولم يكن هناك أحد إلاّ النساء ، فتجوز شهادتان.

قال الإمام عليه‌السلام : « لا يبطل دم امرئ مسلم » (٤).

٢ ـ أجاز الإمام عليه‌السلام شهادة النساء في ما لا يجوز شهادة الرجل فيه ، وكان من ذلك أنّ جماعة أتوا بامرأة بكر زعموا أنّها زنت ، فأمر النساء بفحصها ، فنظرن إليها فقلن : هي عذراء ، وقال : « ما كنت لأضرب من عليها خاتم من الله » ، وكان يجيز شهادة النساء في مثل ذلك (٥).

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٢٨. وسائل الشيعة ١٨ : ٢٥٢.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٢٧. وسائل الشيعة ١٨ : ٢٥٣.

(٣) فروع الكافي ٧ : ٣٨٩.

(٤) فروع الكافي ٧ : ٣٩٠. التهذيب ٦ : ٢٦٦. وسائل الشيعة ١٨ : ٢٥٨.

(٥) فروع الكافي ٧ : ٤٠٤. وسائل الشيعة ١٨ : ٢٦١.

٦٧

٣ ـ حضر رجلا الوفاة ، ولم يكن هناك أحد يوصي إليه بما أهمّه سوى امرأة ، فقضى الإمام عليه‌السلام بجواز شهادتها ، ولكن في ربع الوصيّة (١).

٤ ـ وأجاز الإمام عليه‌السلام شهادة المرأة في النكاح إذا شهدت أنّ شخصا عقد على امرأة (٢).

الإقرار أربعا في ثبوت الزنا :

وكما يثبت الزنا بشهادة أربعة رجال كذلك بإقرار الزاني أربع مرّات ، وقد اثرت عن الإمام عليه‌السلام في ذلك حادثتان وهما :

الاولى :

أنّ امرأة أتت الإمام عليه‌السلام فقالت له : طهّرني طهّرك الله ، فإنّ عذاب الدنيا أيسر من عذاب الآخرة الذي لا ينقطع ، فالتفت إليها الإمام قائلا :

« ممّا اطهّرك؟ ».

إنّي زنيت.

« أنت ذات بعل؟ ».

نعم ، ذات بعل.

« أفحاضرا كان بعلك أم غائبا؟ ».

بل حاضرا.

فأمرها الإمام عليه‌السلام بالانصراف إلى بيتها حتى تضع حملها ، فلمّا وضعت حملها ، أسرعت إلى الإمام عليه‌السلام وطلبت منه أن يطهّرها ، وكرّر عليها ما قاله لها أوّلا ، وأمرها أن ترضع ولدها حولين كاملين ، فانصرفت.

__________________

(١) التهذيب ٦ : ١٣٦. وسائل الشيعة ١٨ : ٢٦٣.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ٢٦٣.

٦٨

فقال الإمام عليه‌السلام : « اللهمّ إنّهما شهادتان ».

ولمّا مضى الحولان بادرت المرأة إلى الإمام وطلبت منه أن يطهّرها ، فسألها كما سألها أوّلا ثمّ أمرها بالانصراف حتى تكفل ولدها ، ويعقل ما يتصرّف به ، فانصرفت وهي باكية.

فقال الإمام عليه‌السلام : « هذه ثلاث شهادات ». والتقى بالمرأة عمرو بن حريث المخزومي ، فقال لها : ما يبكيك يا أمة الله! وقد رأيتك تختلفين إلى عليّ تسألينه أن يطهّرك؟

فقالت : إنّي أتيت أمير المؤمنين أن يطهّرني ، فقال : اكفلي ولدك حتى يعقل أن يأكل ويشرب ولا يتردّى من سطح ، ولا يتهوّر في بئر ، وقد خفت أن يأتي عليّ الموت ولم يطهّرني؟

فقال لها عمرو : ارجعي إليه فأنا أكفله.

فرجعت فأخبرت الإمام عليه‌السلام بذلك ، وأقرّت مرّة رابعة ببغيها ، فقال الإمام :

« اللهمّ إنّه قد ثبت عليها أربع شهادات » وقام برجمها (١).

الحادثة الثانية في هذا الموضوع أنّ رجلا قصد الإمام عليه‌السلام فقال له : إنّي زنيت فطهّرني.

فقال له الإمام : « ممّن أنت؟ ».

قال : من مزينة.

قال : « أتقرأ من القرآن شيئا؟ ».

__________________

(١) فروع الكافي ٧ : ١٨٥. وسائل الشيعة ١٨ : ٣٧٧. عجائب أحكام أمير المؤمنين عليه‌السلام : ٨٨. قضاء أمير المؤمنين عليه‌السلام : ٢٦.

٦٩

قال : بلى ، وأمره بالقراءة فقرأ وأجاد ، فقال له الإمام :

« أبك جنّة؟ ».

قال : لا ، فأمره بالانصراف حتى يسأل عنه ، فذهب الرجل ثمّ عاد إلى الإمام وطلب منه أن يطهّره ، فسأله الإمام هل له زوجة مقيمة معه في البلد ، فقال : نعم ، فأمره بالانصراف ، وبعث إلى قومه فسألهم عنه ، فقالوا : إنّه صحيح العقل ، ثمّ رجع إليه في الثالثة وأقرّ باقترافه للزنا ، فأمره بالانصراف ثمّ رجع إليه فأقرّ بالرابعة ، فأوعز الإمام إلى قنبر بالاحتفاظ به ، ثمّ أمر برجمه (١).

الحدود تدرأ بالشّبهات :

كان الإمام عليه‌السلام يدرأ الحدّ إذا حامت حوله شبهة والتبس الأمر ، فقد قال عليه‌السلام : « ادرءوا الحدود بالشّبهات » (٢).

لا يقيم الحدّ من عليه الحدّ :

كان الإمام عليه‌السلام يرى أن لا يقيم أحد الحدّ على غيره وعليه الحدّ ، فقد نقل الرواة أنّ امرأة أقرّت على نفسها بالزنا أربع مرّات أمام الإمام عليه‌السلام ، فأمر قنبرا بجمع الناس ، فلمّا اجتمعوا قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ، وقال :

« أيّها النّاس ، إنّ إمامكم خارج بهذه المرأة إلى هذا الظّهر ـ يعني ظهر الكوفة ـ ؛ ليقيم عليها الحدّ إن شاء الله ، فعزم عليكم أمير المؤمنين لمّا خرجتم وأنتم متنكّرون ومعكم أحجاركم ، لا يتعرّف منكم أحد إلى

__________________

(١) تفسير عليّ بن إبراهيم : ٤٥١. فروع الكافي ٧ : ١٨٨. عجائب أحكام أمير المؤمنين عليه السلام :٩٠ ـ ٩١. قضاء أمير المؤمنين عليه السلام : ٢٥.

(٢) المقنع : ١٤٧. وسائل الشيعة ١٨ : ٣٩٩.

٧٠

أحد ، فانصرفوا إلى منازلكم إن شاء الله ».

فانصرف الناس فلمّا أصبح الصبح خرج بالمرأة ، وخرج الناس معه متنكّرين متلثّمين ، والحجارة في أيديهم وأرديتهم وفي أكمامهم ، وانتهوا إلى ظهر الكوفة ، وحفر للمرأة حفيرة وضعها فيها ، ونادى في الناس :

« أنّ الله عهد إلى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عهدا عهده محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إليّ بأن لا يقيم الحدّ من لله عليه حدّ ، فمن كان عليه مثل ما عليها فلا يقم عليها الحدّ ».

فانصرف الناس كلّهم ما خلا الإمام وولديه الحسن والحسين ، فأقاموا عليها الحدّ (١).

الإمام مع شريح :

كان الإمام عليه‌السلام جالسا في جامع الكوفة فمرّ به عبد الله بن قفل التميمي ومعه درع طلحة ، فقال له الإمام : هذه درع طلحة اخذت غلولا يوم البصرة ، فطلب عبد الله منه أن يحضر أمام القضاء ، فاستجاب الإمام عليه‌السلام ، ولمّا مثل أمام القاضي شريح ، قال الإمام :

« هذه درع طلحة اخذت غلولا يوم البصرة ».

فطلب منه شريح البيّنة ، فأتاه الإمام بالإمام الحسن عليه‌السلام فشهد أنّ الدرع لطلحة ، فقال شريح : هذا شاهد واحد ، ولا أقضي بشهادة شاهد حتى يكون معه آخر ، فدعا الإمام قنبرا فشهد أنّ الدرع لطلحة ، فرفض شريح شهادته ، وقال : إنّه مملوك ، فغضب الإمام عليه‌السلام وقال لعبد الله :

« خذوا الدّرع فإنّ هذا قد قضى بجور ثلاث مرّات ».

__________________

(١) فروع الكافي ٧ : ١٨٥. من لا يحضره الفقيه ٤ : ٢٢. وسائل الشيعة ١٨ : ٣٤١.

٧١

وبهر شريح وقال : لا أقضي حتى تخبرني كيف قضيت بجور ثلاث مرّات؟

فأجابه الإمام :

« إنّي لمّا أخبرتك أنّها درع طلحة اخذت غلولا يوم البصرة فقلت : هات على ما تقول بيّنة ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حيث ما وجد غلول اخذ بغير بيّنة ، فقلت : رجل لم يسمع الحديث ، فهذه واحدة. ثمّ أتيتك بالحسن شاهدا فشهد ، فقلت : هذا واحد ، ولا أقضي بشهادة واحد حتّى يكون معه آخر. وقد قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بشهادة واحد ويمين. فهاتان اثنتان. ثمّ أتيتك بقنبر فشهد أنّها درع طلحة اخذت غلولا يوم البصرة فقلت : هذا مملوك ، ولا بأس بشهادة المملوك إذا كان عادلا ، ويلك! إنّ إمام المسلمين يؤتمن من امورهم على ما هو أعظم من هذا » (١).

القرعة :

من الأمارة التي كان يحكم بها الإمام عليه‌السلام ( القرعة ) وذلك في ما إذا أشكل الأمر وتعارضت البيّنات التي يعتمد عليها في القضاء وغيره ، فالقاعدة التي يحسم بها النزاع هي القرعة ، فهي لكلّ أمر مشكل ـ كما في الحديث ـ ، وكان من مواردها

أنّ رجلين اختصما في دابة إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فزعم كلّ واحد منهما أنّها نتجت عنده على مذوده ، وأقام كلّ واحد منهما البيّنة على دعواه ، فأقرع الإمام بينهما سهمين ، وعلّم كلّ واحد منهما بعلامة ، ثمّ قال :

« اللهمّ ربّ السّماوات السّبع وربّ الأرضين السّبع وربّ العرش العظيم ، عالم الغيب والشّهادة الرّحمن الرّحيم ، أيّهما كان صاحب الدّابّة هو أولى

__________________

(١) فروع الكافي ٧ : ٤٨٥. من لا يحضره الفقيه ٣ : ٦٣ ـ ٦٤.

٧٢

بها ، فأسألك أن تقرع ويخرج اسمه ».

وخرج اسم أحدهما فقضى له بها.

ونظير هذه المسألة حدثت فحكم الإمام بالقرعة ، وعلّق الشيخ الطوسي رحمه‌الله على ذلك بقوله الذي اعتمده في الجمع بين هذه الأخبار هو أنّ البيّنتين إذا تقابلتا فلا تخلو أن تكون مع أحدهما يد متصرّفة أو لم تكن ، فإن لم تكن يد متصرّفة وكانتا خارجتين فينبغي أن يحكم لأعدلهما شهودا ويبطل الآخر ، فإن تساويا في العدالة حلف أكثرهما شهودا ، وهو الذي تضمّنه خبر أبي بصير.

وما رواه السكوني من القسمة على عدد الشهود ، فإنّما هو على وجه المصالحة والوساطة بينهما دون مرّ الحكم ، وإن تساوى عدد الشهود اقرع بينهم ، فمن خرج اسمه حلف بأنّ الحقّ حقّه.

وإن كان مع إحدى البيّنتين يد متصرّفة ، فإن كانت البيّنة إنّما تشهد له بالملك فقط دون سببه انتزع من يده واعطي اليد الخارجة ، وإن كانت بيّنته بسبب الملك إمّا بشرائه وإمّا نتاج الدابة إن كانت دابته أو غير ذلك ، وكانت البيّنة الاخرى مثلها ، كانت البيّنة التي مع اليد المتصرّفة أولى.

فأمّا خبر إسحاق بن عمّار أنّ من حلف كان الحقّ له ، وإن حلفا كان الحقّ بينهما نصفين فمحمول على أنّه إذا اصطلحا على ذلك ؛ لأنّا بيّنا الترجيح بكثرة الشهود أو القرعة ... إلخ (١).

الدعوى على الأخرس :

جاء شخص بأخرس ادّعى أنّ له عليه دينا ـ ولم يكن للمدّعي بيّنة ـ إلى الإمام

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ١٨٦ ـ ١٨٧.

٧٣

أمير المؤمنين ، فقال الإمام :

« الحمد لله الّذي لم يخرجني من الدّنيا حتّى بيّنت للامّة جميع ما تحتاج إليه » ، ثمّ قال : « ائتوني بمصحف » ، فاتي به ، فقال للأخرس : « ما هذا؟ » ، فرفع رأسه إلى السماء وأشار أنّه كتاب الله عزّ وجلّ ، ثمّ أمر بإحضار وليّه فاحضر ، ثمّ قال : « يا قنبر ، عليّ بدواة وصحيفة ».

فاتي بهما ، ثمّ قال لأخي الأخرس :

« هذا ـ أي عليّ ـ بيني وبينك » ، وكتب : « والله الّذي لا إله إلاّ هو عالم الغيب والشّهادة الرّحمن الرّحيم ، الطّالب الغالب الضّارّ النّافع الملك المدرك الّذي يعلم السّرّ والعلانية أنّ فلان ابن فلان المدّعي ليس له قبل فلان بن فلان ـ يعني الأخرس ـ حقّ ولا طالبه بوجه من الوجوه ، ولا بسبب من الأسباب ».

ثمّ غسله وأمر الأخرس بشربه ، فامتنع فألزمه الدّين (١).

حبس العلماء والأطباء :

كان الإمام عليه‌السلام يأمر بحبس فسّاق العلماء وجهّال الأطباء ، قال عليه‌السلام :

« يجب على الإمام أن يحبس الفسّاق من العلماء ، والجهّال من الأطبّاء » (٢) ، وفي هذا الاجراء صيانة للعلم والصحّة العامّة ، فإنّ فسّاق العلماء أداة تخريب وفساد للمجتمع ، وكذلك جهّال الأطبّاء من الأسباب الموجبة لإشاعة الدمار والهلاك في المجتمع.

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٣١٩. من لا يحضره الفقيه ٣ : ٦٥.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٢٠. وسائل الشيعة ١٨ : ٢٢١.

٧٤

الحاكم الجائر :

حدّث الإمام عليه‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :

« يا عليّ ، إنّ ملك الموت إذا نزل لقبض روح الكافر نزل معه بسفّود من نار ، فينزع روحه فتصيح جهنّم ».

فانبرى الإمام قائلا :

« هل يصيب ذلك أحدا من أمّتك؟ ».

قال : « نعم ، حاكم جائر ، وآكل مال اليتيم ظلما ، وشاهد زور » (١).

إنّ هذه الأصناف جديرة بعذاب الله والخلود في نار جهنّم ، فإنّها من أبرز أصناف الظالمين والمفسدين.

تحليف النصارى واليهود :

كان الإمام عليه‌السلام إذا اقيمت دعوى على أحد من النصارى واليهود لا يحلّفهم في الأماكن المقدّسة في الإسلام كالجوامع ، وإنّما كان يأمر باستحلافهم في بيعهم وكنائسهم ، وأمّا المجوس فكان يحلّفهم في بيوت النار ، ويقول : « شدّدوا عليهم احتياطا للمسلمين » (٢) ، وهو إجراء رائع ، فإنّهم لا يخضعون للمقدّسات الإسلامية ولا يؤمنون بها ، وإنّما يقيمون وزنا لمقدّساتهم.

الإمام يحبس ثلاثة أصناف :

كان الإمام عليه‌السلام يأمر بحبس ثلاثة أصناف وهم :

__________________

(١) فروع الكافي ٣ : ٢٥٣. وسائل الشيعة ١٨ : ٢٣٧.

(٢) قرب الاسناد : ٤٢. وسائل الشيعة ١٨ : ٢١٩.

٧٥

١ ـ الغاصب.

٢ ـ آكل مال اليتيم ظلما.

٣ ـ المؤتمن على أمانة فينكرها (١).

وكان يفتّش عن هؤلاء فإن وجد لهم أموالا باعها وأعطاها لهؤلاء ، كما قضى عليه‌السلام في الدين أنّه يحبس صاحبه ، فإن تبيّن إفلاسه والحاجة فيخلّي سبيله حتى يستعيد ماله ، كما قضى عليه‌السلام في الرجل يلتوي على غرمائه أنّه يحبس ، ثمّ يأمر بتقسيم أمواله بين غرمائه بالحصص ، فإن أبى باعه ، فقسّمه بينهم (٢).

من روائع قضائه :

نقل الرواة كوكبة رائعة من قضاء الإمام عليه‌السلام توصّل فيها إلى تمييز الحقّ من الباطل في قضايا مبهمة ومعقّدة ، كان منها ما يلي :

١ ـ الشاب الذي يطالب بأموال أبيه :

رفع شاب شكواه إلى الإمام ومعه جماعة ، فقال للإمام : إنّ هؤلاء النفر خرجوا ومعهم أبي في السفر ، فرجعوا ولم يرجع أبي معهم ، فسألتهم عنه فقالوا : قد توفّي ، وسألتهم عن أمواله ، فقالوا : ما ترك مالا ، فقدّمتهم إلى شريح فاستحلفهم ، فانبرى الإمام قائلا :

« والله! لأحكمنّ بينهم بحكم ما حكم به خلق قبلي إلاّ داود النّبيّ عليه‌السلام ».

ثمّ أمر الإمام قنبر بإحضار شرطة الخميس ، فلمّا حضروا وكلّ بكلّ واحد منهم شرطيّا ، والتفت إليهم قائلا :

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ١٨١.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ١٨٠. التهذيب ٦ : ٢٣٢. من لا يحضره الفقيه ٣ : ١٩.

٧٦

« ما ذا تقولون؟ تقولون : إنّي لا أعلم ما صنعتم بأبي هذا الفتى؟ إنّي إذا لجاهل ».

ثمّ أمر بتفريقهم وتغطية رءوسهم ، واقيم كلّ واحد منهم إلى اسطوانة من أساطين المسجد ، وقد غطّيت رءوسهم بثيابهم ، ثمّ دعا كاتبه عبيد الله بن رافع ، وأمره بإحضار صحيفة ودواة ، وجلس الإمام في مجلس القضاء ، وجلس الناس في مجلسه ، وقال لهم : إذا أنا كبّرت فكبّروا ، ثمّ دعا بواحد منهم وكشف الثوب عن وجهه ، وقال لعبيد الله كاتبه : « اكتب إقراره وما يقول » ، ثمّ أقبل على الرجل ، وقال له :

« في أيّ يوم خرجتم من منازلكم ، وأبو هذا الفتى معكم؟ ».

في كذا وكذا ، وعيّنه.

« في أيّ شهر؟ ».

في شهر كذا ، وعيّنه.

« في أيّ سنة؟ ».

في سنة كذا ، وعيّنها.

« إلى أين بلغتم في سفركم حتّى مات أبو هذا الفتى؟ ».

إلى موضع كذا ، وعيّنه.

« في منزل من مات؟ ».

في منزل فلان ، وشخّصه.

« ما كان من مرضه؟ ».

كذا وكذا ، وعيّن مرضا خاصّا.

« كم يوما كان مرضه؟ ».

٧٧

وعيّن الوقت الذي مرض.

« في أيّ يوم مات؟ ومن غسله؟ ومن كفّنه؟ وبما كفّنتموه ، ومن صلّى عليه؟ ومن نزل قبره؟ ».

ثمّ كبّر الإمام عليه‌السلام وكبّر الناس معه ، فارتاب الباقون ولم يداخلهم شكّ إنّ صاحبهم قد أقرّ عليهم وعلى نفسه بما اقترفوه من الجريمة ، ثمّ أمر عليه‌السلام بالرجل إلى السجن ، ودعا بشخص آخر منهم وقال له :

« كلاّ! زعمتم أنّي لا أعلم ما صنعتم؟ ».

فارتاب الرجل وطفق يخبر الإمام بما اقترفوه قائلا :

يا أمير المؤمنين ، ما أنا إلاّ واحد من القوم ، ولقد كنت كارها لقتله.

ثمّ دعا بكلّ واحد منهم فأقرّ بالقتل وسلب المال ، ثمّ أمر بردّ الرجل الذي أمر به إلى الحبس فأقرّ كأصحابه ، فألزمهم بالمال والدم (١).

وحكت هذه البادرة مدى مواهب الإمام وقدرته الفائقة على إظهار الحقّ ، وإبرازه بعد إحاطته بظلام الباطل.

٢ ـ عبد يدّعي السيادة على مولاه :

من بدائع قضاء الإمام عليه‌السلام أنّ رجلا من الجبل خرج حاجّا إلى بيت الله الحرام ومعه غلامه ، فأذنب فضربه ، فقال الغلام لسيّده : ما أنت مولاي بل أنا مولاك ، وأخذ كلّ منهما يتوعّد الآخر ويدّعي السيادة عليه ، وأخذا يجدّان السير حتى انتهيا إلى الكوفة ، فرفعا أمرهما إلى الإمام عليه‌السلام ، فقال السيّد :

يا أمير المؤمنين ، هذا غلامي أذنب فأدّبته ، فوثب عليّ وادّعى أنّه سيّد لي.

__________________

(١) فروع الكافي ٧ : ٣١٧. وسائل الشيعة ١٨ : ٢٠٤. قضاء أمير المؤمنين عليه‌السلام : ١١.

٧٨

وقال الغلام : هو والله غلام لي ، وإنّ أبي أرسلني معه ليعلّمني ، وإنّه وثب عليّ يدّعيني ليذهب بمالي ، وأخذ كلّ منهما يحلف ويكذّب الآخر.

وأجّل الإمام الدعوى إلى اليوم الثاني ، فلمّا أصبح الصبح قال الإمام لقنبر : « اثقب في الحائط ثقبين » ، وحضر الرجلان ، فقال لهما : « ما تقولان؟ ». فحلف كلّ واحد منهما أنّه سيّد لصاحبه ، ثمّ أمرهما بالقيام وأن يضع كلّ واحد منهما رأسه في الثقب ، فلمّا صنع ذلك ، قال الإمام لقنبر : « عليّ بسيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » ، فأحضره له ، ثمّ قال له : « عجّل بضرب رقبة العبد منهما » ، فأخرج الغلام رأسه من الثقب ، وبقي الآخر رأسه فيه ، فأخذ الإمام الغلام وقال له : « ألست تزعم أنّك لست بعبد له؟ » قال : بلى إنّه ضربني وتعدّى عليّ ، فحكم الإمام بأنّه العبد وسلّمه لمولاه (١).

وبهذا الاجراء فصل الخصومة بينهما وهو من غرر قضاء الإمام عليه‌السلام.

٣ ـ الأرغفة الثمانية :

من عجائب قضاء الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّ رجلين اصطحبا في طريق ، فلمّا أرادا الغداء أخرج أحدهما خمسة أرغفة ، وأخرج الآخر ثلاثة أرغفة ، ومرّ بهما شخص فدعواه إلى تناول الطعام فأجابهم إلى ذلك ، وأكلوا جميعا الأرغفة الثمانية ، وبعد الفراغ من الطعام قدّم لهما الرجل ثمانية دراهم جزاء لدعوتهما له ، وانبرى صاحب الأرغفة الثلاثة فقال لصاحبه : اقسّم الدراهم نصفين ، فردّ عليه صاحبه أنّ كلّ واحد منّا يأخذ من الدراهم عدد ما أخرج من الأرغفة ، ووقع الشجار بينهما ، فترافعا إلى الإمام عليه‌السلام فأمرهما بالصلح فلم يستجيبا له ، وقالا : اقض بيننا بالحقّ ، فحكم الإمام بينهما ، فأعطى صاحب الخمسة أرغفة سبعة دراهم ، وأعطى صاحب الثلاثة درهما ، وبهرا من ذلك ، فقال عليه‌السلام مبيّنا الوجه في هذه القسمة.

__________________

(١) فروع الكافي ٧ : ٤٢٥. وسائل الشيعة ١٨ : ٢٠٨. قضاء أمير المؤمنين عليه‌السلام : ١١.

٧٩

« أليس أخرج أحد كما من زاده خمسة أرغفة وأخرج الآخر ثلاثة؟ ».

بلى.

« أليس أكل ضيفكما معكما مثلما أكلتما؟ ».

بلى.

« أليس أكل كلّ واحد منكما ثلاثة أرغفة غير ثلث؟ ».

بلى.

« أليس أكلت يا صاحب الثّلاثة ثلاثة أرغفة غير ثلث؟ وأكلت أنت يا صاحب الخمسة ثلاثة أرغفة غير ثلث؟ وأكل الضيف ثلاثة أرغفة غير ثلث؟ أليس بقي لك يا صاحب الثّلاثة ثلث رغيف من زادك؟ وبقي لك يا صاحب الخمسة رغيفان وثلث ، وأكلت ثلاثة غير ثلث ، فأعطاكما لكلّ ثلث رغيف درهما ، فأعطى صاحب الرّغيفين وثلث سبعة دراهم ، وأعطى صاحب الثّلاثة درهما » (١).

لقد حكم الإمام عليه‌السلام بهذه القسمة المثيرة للدهشة التي لا يلتفت إليها إلاّ المتمرّس في علم الحساب.

٤ ـ جاريتان تتنازعان في ولد :

من بدائع قضاء الإمام عليه‌السلام أنّ جاريتين وضعت إحداهما ولدا ، ووضعت الاخرى بنتا ، فعمدت الأخيرة إلى وضع بنتها في مهد الولد وأخذته ، فتمسّكت به امّه ، ورفع أمرهما إلى الإمام عليه‌السلام فأمر أن يوزن لبنهما ، وقال : « أيّهما كانت أثقل لبنا

__________________

(١) فروع الكافي ٧ : ٣٢٧. التهذيب ٦ : ٢٦٠. وسائل الشيعة ١٨ : ٢٠٩. عجائب أحكام أمير المؤمنين عليه‌السلام : ٨٤ ـ ٨٧.

٨٠