موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ١٠٩

ففعل أبو بكر ، فلم يشهد عليه أحد فخلّى سبيله واستتابه (١).

٣ ـ رجل احتلم بامرأة :

قال رجل لآخر : إنّي احتلمت بامّك ، فاستشاط غضبا وانتفخت أوداجه ، فاشتكى عليه عند أبي بكر ، فتحيّر في الجواب ، فرفع أمره إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال له :

« اذهب به فأقمه في الشّمس ، وحدّ ظلّه ، فإنّ الحلم مثل الظّلّ ... ».

ما أروع هذا الجواب! فإنّ الأحلام لا يترتّب عليها أي أثر وضعي ، ثمّ التفت إليه وقال :

« سنضربه حتّى لا يعود يؤذي المسلمين » (٢).

إنّ ضربه لأجل نقل رؤياه إلى الشخص ـ وكان ذلك إهانة واعتداء عليه ـ فهو يستحقّ التأديب لهذه الجهة ... هذه بعض النوادر التي قضى فيها الإمام عليه‌السلام في عهد أبي بكر.

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٥٦. الإرشاد ١ : ١٠٧ وغيرها.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٥٦.

٤١

في عهد عمر

نقل الرواة كوكبة من الدعاوى والمسائل المعقّدة رفعت إلى عمر بن الخطّاب فحار في جوابها ، ولم يهتد لحلّها ، ففزع إلى باب مدينة علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فعرضها عليه فأجابه عنها جوابا حاسما على ضوء الشريعة الإسلامية ، وبهر عمر وراح يبدي إعجابه بمواهب الإمام وعبقرياته بهذه الكلمات :

لو لا عليّ لهلك عمر.

لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن.

ما من قضية إلاّ وأبو الحسن لها.

ونعرض لبعض تلك المسائل التي عرضها عمر على الإمام فأجابه عنها :

١ ـ قصّة قدامة بن مظعون :

روى المؤرّخون أنّ قدامة بن مظعون شرب الخمر ، فأراد عمر أن يقيم عليه الحدّ ، فقال له قدامة : لا يجب عليّ الحدّ.

فقال عمر : لم؟

فقال : إنّ الله تعالى يقول : ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) (١) ، فدرأ عمر عنه الحدّ ، وبلغ ذلك

__________________

(١) المائدة : ٩٣.

٤٢

الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فأنكر على عمر درأه الحدّ عن قدامة ، وقال له :

« لم تركت إقامة الحدّ على قدامة في شرب الخمر ...؟ ».

فأجابه عمر أنّه تلا عليّ الآية ـ المتقدّمة ـ ، فأوضح الإمام له الحكم في المسألة قائلا :

« ليس قدامة من أهل هذه الآية ، ولا من سلك سبيله في ارتكاب ما حرّم الله ، إنّ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات لا يستحلّون حراما ، فاردد قدامة واستتبه ممّا قال ، فإن تاب فأقم عليه الحدّ ، وإن لم يتب فاقتله فقد خرج عن الملّة ».

وعرف عمر الصواب في كلام الإمام عليه‌السلام ، فبعث خلف قدامة فأظهر التوبة ، فدرأ عمر عنه القتل ، ولم يدر كيف يقيم عليه الحدّ ، فاستشار الإمام عليه‌السلام فقال له :

« حدّه ثمانون » ، فحدّه عمر ثمانين (١).

٢ ـ اتّهام امرأة بريئة بالبغاء :

روى الإمام أبو عبد الله عليه‌السلام قال :

اتي بجارية إلى عمر بن الخطّاب قد شهدوا عليها أنّها بغت ، وكان من قصّتها أنّها كانت عند رجل ، وكان كثير السفر ، فشبّت الجارية فخافت زوجته أن يتزوّجها زوجها ، فدعت جماعة من النساء فأمسكنها ، وأخذت عذرتها باصبعها ، فلمّا قدم زوجها من سفره رمت زوجته الجارية بالفاحشة ، وأقامت البيّنة من جاراتها على ذلك ، فرفع الرجل أمرها إلى عمر بن الخطّاب فلم يدر كيف يصنع.

ثمّ أخذ الجارية والرجل والنساء إلى الإمام عليه‌السلام ، وعرض عليه الأمر ، فقال

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٦٦.

٤٣

الإمام عليه‌السلام لامرأة الرجل :

« ألك بيّنة أو برهان؟ ».

قالت : لي شهود جاراتي يشهدن عليها بما أقول.

فأمر الإمام عليه‌السلام بإحضارهنّ ، فلمّا مثلن أمامه أخرج السيف من غمده ووضعه بين يديه ، ثمّ دعى بزوجة الرجل ، فأصرّت على قولها ، فردّها إلى البيت ثمّ دعى إحدى النساء ، وجثا على ركبتيه ، وقال لها :

« أتعرفينني؟ أنا عليّ بن أبي طالب ، وهذا سيفي ، وقد قالت امرأة الرّجل ما قالت ، ورجعت إلى الحق ـ أي إلى الحبس ـ وأعطيتها الأمان ، فإن لم تصدقيني لأملأنّ السّيف منك ».

والتفت المرأة إلى عمر فقالت له : الأمان على الصدق ، فأجابها الإمام : « فاصدقي ».

قالت : لا والله! إنّها ـ أي زوجة الرجل ـ رأت جمالا وهيئة ، فخافت فساد زوجها فسقتها المسكر ودعتنا فأمسكناها ، فافتضّتها باصبعها ، وراح الإمام يقول :

« الله أكبر أنا أوّل من فرّق بين الشّهود إلاّ دانيال النّبيّ ».

وألزم المرأة حدّ القذف ، وألزمهنّ جميعا العقر ، وجعل عقرها أربعمائة درهم ، وأمر المرأة أن تنفى عن الرجل ويطلّقها ، وزوّجه الجارية (١).

٣ ـ امرأة تتّهم فتى بالاعتداء على كرامتها :

من روائع أقضية الإمام عليه‌السلام أنّ امرأة كانت مغرمة بحبّ فتى من الأنصار ، وكان

__________________

(١) فروع الكافي ٧ : ٢١٦. من لا يحضره الفقيه ٣ : ١٢. وسائل الشيعة ١٨ : ٢٠٢.

٤٤

عفيفا شريفا ، فامتنع من إجابتها ، فلمّا أيست من إجابته عمدت إلى بيضة فصبّت بياضها على ثيابها وبين فخذيها ، ومضت إلى عمر ، فقالت له :

إنّ هذا الفتى أخذني في موضع وفضحني.

فهمّ عمر أن يعاقب الأنصاري ، ولمّا رأى الأنصاري ما أراده عمر جعل يتوسّل إليه ويطلب منه التثبّت في أمره ، فالتفت عمر إلى الإمام عليه‌السلام وقال له : ما ترى يا أبا الحسن؟

فنظر الإمام إلى البياض على ثوب المرأة فارتاب منه ، فأمر بإحضار ماء قد اغلي غليانا شديدا ، فأحضروه له ، فأخذ الإمام الماء وصبّه على موضع البياض ، فصار بياضا ، فأخذ منه الإمام شيئا ووضعه في فيه فاستبان له الأمر ، وأقبل على المرأة فاعترفت بذلك (١) ، وكان ذلك من روائع أقضيته عليه‌السلام.

٤ ـ فتى يدّعي على امرأة أنّها امّه وهي تنكره :

من بدائع قضاء الإمام عليه‌السلام أنّ غلاما ادّعى على امرأة أنّها امّه ، وهي تنكره ، وقد رفع أمره إلى عمر ، فأمر بإحضار المرأة ، فجاءت ومعها اخوان أربعة ، وأربعون قسامة يشهدون أنّها لا تعرف الغلام ، وأنّه مدّع غشوم ظلوم يريد أن يفضحها بين اسرتها ، وأنّ المرأة لم تتزوّج قطّ ، فالتفت الإمام عليه‌السلام ـ وكان حاضرا ـ إلى عمر فقال له :

« أتأذن لي أن أقضي بينهم ...؟ ».

فانبرى عمر قائلا :

سبحان الله! كيف لا ، وقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « أعلمكم عليّ بن أبي طالب ... ».

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٠٤. وسائل الشيعة ١٨ : ٢٠٦. الطرق الحكمية ـ ابن القيم : ٤٧.

٤٥

والتفت الإمام إلى المرأة فقال لها :

« ألك شهود ...؟ ».

نعم.

وتقدّم الشهود فشهدوا ، فالتفت الإمام عليه‌السلام إلى الحاضرين وقال لهم :

« لأقضينّ اليوم بينكم بقضيّة هي مرضاة الرّبّ من فوق عرشه علّمنيها حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ... ».

ثمّ التفت إلى المرأة فقال لها :

« ألك وليّ ...؟ ».

نعم ، هؤلاء اخوتي ..

ووجّه الإمام قوله إلى اخوتها فقال لهم :

« أمري فيكم وفي اختكم جائز ...؟ ».

نعم.

« اشهد الله واشهد من حضر من المسلمين أنّي قد زوّجت هذه الجارية من هذا الغلام بأربعمائة درهم ، والنّقد من مالي. يا قنبر ، عليّ بالدّراهم ... ».

ومضى قنبر فأحضر الدراهم فصبّها في يد الغلام ، وأمره الإمام أن يدفعها إلى المرأة ، ولا يأتي إلاّ وعليه أثر العرس ـ يعني الغسل ـ فقام الغلام وصبّ الدراهم في حجر المرأة وأمرها بالقيام معه ، وفزعت المرأة وصاحت :

النار ، النار يا ابن عمّ محمّد! تريد أن تزوّجني من ولدي هذا والله! ولدي ، زوّجني اخوتي هجينا ، فولدت منه هذا ، فلمّا ترعرع وشبّ أمروني أن أنتفي منه

٤٦

وأطرده ، وهذا والله ولدي ... (١).

٥ ـ امرأة تزوّجت بشيخ فمات :

رفعت إلى عمر امرأة تزوّجها شيخ ، وبعد أن قاربها توفّي فحملت منه ولدا ، فلمّا وضعته ادّعى بنوه أنّها فاجرة ، وشهدوا عليها ، فأمر عمر برجمها ، فمرّ بها الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وهي تستغيث فقالت له :

يا ابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ! أنّ لي حجّة.

فأمر بإحضارها ، فدفعت له ورقة قد سجّل فيها يوم زواجها ويوم وفاته ، فأمر عليه‌السلام بإحضارهم ، وأجّلهم إلى اليوم الثاني فحضروا فيه ، ودعا الإمام عليه‌السلام بصبيان ومعهم الولد ، وقال لهم : العبوا ، ثمّ أمرهم بالجلوس ، ثمّ أمرهم ثانيا بالقيام فقاموا ، وقام معهم الغلام متّكئا على راحتيه ، فدعا به الإمام عليه‌السلام فورّثه من أبيه وجلد اخوانه فبهر عمر وقال :

كيف صنعت ...؟

فقال عليه‌السلام :

« عرفت ضعف الشّيخ في اتّكاء الغلام على راحتيه » (٢).

وهو استنتاج بديع ، فإنّ الطفل خاضع لعوامل الوراثة والتي منها ضعف الأب وقوّته.

٦ ـ امرأتان تنازعتا في طفل :

تنازعت امرأتان في طفل ادّعت كلّ واحدة أنّه ابنها ، وقد رفعتا أمرهما إلى

__________________

(١) فروع الكافي ٧ : ٤٢٣. وسائل الشيعة ١٨ : ٢٠٦.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٠٤. من لا يحضره الفقيه ٣ : ١٥. وسائل الشيعة ١٨ : ٢٠٧.

٤٧

عمر فحار في الجواب ، ففزع إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فاستدعى المرأتين ووعظهما وخوّفهما عقاب الله ، فلم تستجيبا له ، فقال عليه‌السلام :

« ائتوني بمنشار ».

فقالت المرأتان : ما تصنع به؟

فقال عليه‌السلام :

« أقدّه نصفين لكلّ واحدة منكما نصفه ».

فسكتت إحداهما وانبرت الاخرى بفزع فقالت :

الله ، الله يا أبا الحسن! إن كان لا بدّ من ذلك فقد سمحت به لها ، ورفع الإمام صوته قائلا :

« الله أكبر! هذا ابنك دونها ، ولو كان ابنها لرقّت عليه وأشفقت ».

واعترفت الاخرى أنّ الحقّ مع صاحبتها وأنّ الولد لها دونها (١).

٧ ـ مجنونة بغت :

رفعت امرأة مجنونة إلى عمر قد فجر بها رجل ، وقامت البيّنة عليها فأمر بجلدها ، فمرّ بها الإمام عليه‌السلام ، فسأل عن أمرها ، فاخبر بشأنها ، فقال عليه‌السلام :

« ردّوها إلى عمر ، وقولوا له : إنّ هذه مجنونة آل فلان ، وإنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : رفع القلم عن المجنون حتّى يفيق ، وإنّها مغلوبة على عقلها ونفسها ».

فردّوها إليه ، فدرأ عنها الحدّ (٢).

__________________

(١) الإرشاد ـ الشيخ المفيد : ٦٨. وسائل الشيعة ١٨ : ٢١٢.

(٢) الإرشاد ـ الشيخ المفيد : ٩٧. وسائل الشيعة ١٨ : ٣١٦. الغدير ٦ : ١٣٠.

٤٨

٨ ـ إقامة حدود مختلفة على خمسة زناة :

رفع إلى عمر خمسة زناة ، فأمر أن يقام على كلّ واحد منهم الحدّ ، فقال الإمام عليه‌السلام : « يا عمر ، ليس هذا حكمهم ».

فطلب عمر منه أن يقيم عليهم الحدّ ، فقدّم واحدا منهم فضرب عنقه ، وقدّم الثاني فرجمه ، وقدّم الثالث فضربه الحدّ ، وقدّم الرابع فضربه نصف الحدّ ، وأمّا الخامس فعزّره ، فبهر عمرو قال :

يا أبا الحسن ، خمسة نفر في قضيّة واحدة ، أقمت عليهم خمسة حدود ليس منها يشبه الآخر ...؟

فأجابه الإمام :

« أمّا الأوّل فكان ذمّيا وخرج ـ أي بجريمته ـ عن ذمّته ، وأمّا الثّاني فرجل محصن فكان حدّه الرّجم ، وأمّا الثّالث فغير محصن فحدّه الجلد ، وأمّا الرّابع فعبد وحدّه نصف الحدّ ، وأمّا الخامس فمجنون مغلوب على عقله » (١).

٩ ـ امرأة اضطرّت إلى الزنا :

جاءت امرأة إلى عمر فقالت له : إنّي فجرت فأقم فيّ حدّ الله ، فأمر برجمها ، وكان الإمام حاضرا ، فقال له :

« سلها كيف فجرت؟ ».

فقالت : كنت في فلاة من الأرض فأصابني عطش شديد ، فقصدت خيمة فأصبت فيها رجلا اعرابيا ، فسألته الماء فأبى أن يسقيني إلاّ أن امكّنه من نفسي ،

__________________

(١) فروع الكافي ٧ : ٢٦٥. وسائل الشيعة ١٨ : ٣٥٠.

٤٩

فولّيت منه هاربة ، فاشتدّ بي العطش حتى غارت عيناي وذهب لساني ، فلمّا بلغ منّي ذلك أتيته فسقاني ، ووقع عليّ ، فقال الإمام عليه‌السلام :

« هذه هي الّتي قال الله عزّ وجلّ : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ ) ، هذه غير باغية ، ولا عادية فخلّ سبيلها ».

فقال عمر : لو لا عليّ لهلك عمر (١).

١٠ ـ حدّ من غاب عن زوجته :

جيء برجل من أهل منى فجر بامرأة بالمدينة ، فأمر عمر برجمه ، فردّ عليه الإمام عليه‌السلام وقال :

« لا يجب عليه الرّجم ؛ لأنّه غائب عن أهله ، وأهله في بلد آخر ، إنّما يجب عليه الحدّ ».

فقال عمر : لا أبقاني الله لمعضلة لم يكن لها أبو الحسن (٢).

١١ ـ السارق :

اتي بسارق إلى عمر فأمر بقطع يده ، ثمّ سرق ثانيا فأمر بقطع رجله ، ثمّ سرق فأراد قتله ، فقال له الإمام :

« لا تفعل ، قد قطعت يده ورجله ، ولكن احبسه » (٣).

وفي رواية أنّه أمر بحبسه ويطعم من فيء المسلمين.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٢٥. وسائل الشيعة ١٨ : ٣٨٤. الطرق الحكمية ـ ابن قيم الجوزية : ٥٣. كنز العمّال ٣ : ٩٦.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٦٠.

(٣) المصدر السابق ٢ : ٣٦٣.

٥٠

١٢ ـ أمانة لرجلين :

استودع رجلان أمانة عند امرأة من قريش ، وقالا لها : لا تدفعيها إلى واحد منّا دون صاحبه حتى يكون معه ، فلبثا حولا فجاء أحدهما فقال لها : إنّ صاحبي قد توفّي فادفعي لي الأمانة ، فأبت من دفعها إليه وقالت : إنّكما شرطتما عليّ أن لا أدفعها إلى واحد منكما حتى يكون معه صاحبه ، فأخذ يتضرّع إليها ويتوسّل حتى استجابت له ، ودفعت إليه الأمانة ، وبعد حول جاء صاحبه فطالبها بالأمانة فقالت له : إنّ صاحبك زعم أنّك قد متّ فدفعتها إليه ، فخاصمها إلى عمر بن الخطّاب ، فقالت له : انشدك الله أن ترفعنا إلى عليّ ، فرفعهما إليه ، وعلم الإمام أنّها مكيدة ، فقال له :

« أليس قد قلت مع صاحبك أن لا تدفعها إلى واحد منكما دون صاحبه؟ ».

فقال : نعم.

فأجابه الإمام :

« مالك عندي ، قم وأحضر صاحبك حتّى أدفعه لكما » (١).

فانهزم الرجل وولّى خائبا ، وهذا غاية ما يتصوّر من الذكاء والعبقرية في تفرّس الإمام وقضائه.

١٣ ـ رجم الحامل :

رفعت إلى عمر امرأة حامل قد زنت فأمر برجمها ، فانبرى الإمام عليه‌السلام منكرا عليه هذا الحكم قائلا :

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٧٠. من لا يحضره الفقيه ٣ : ١٠. عجائب أحكام أمير المؤمنين عليه‌السلام : ٦٣ ، نقلا عن الأذكياء ـ ابن الجوزي : ٣٢.

٥١

« هب لك سبيل عليها ، فأيّ سبيل لك على ما في بطنها ، والله يقول :

( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) .. ».

وراح عمر يبدي إعجابه بالإمام قائلا :

لا عشت لمعضلة لا يكون لها أبو الحسن ...

ثمّ التفت إلى الإمام قائلا :

ما أصنع بها يا أبا الحسن؟

وبيّن الإمام له الحكم قائلا :

« احتط عليها حتّى تلد ، فإذا ولدت ووجدت لولدها من يكفله فأقم الحدّ عليها » (١).

١٤ ـ شراء إبل :

أمر عمر وهو بمنى أنسا أن يشتري له إبلا فاشتراها له ، وكان عليها أحلاس وأقتاب ، فأرادها عمر ، فامتنع عليه الاعرابي ، وقال :

إنّما بعتك الإبل مجرّدة عليها.

وتحاكما عند الإمام ، فقال :

« إن كنت اشترطت عليه أقتابها وأحلاسها فهي لك ، وإن لم تشترط فهي له ».

فقال عمر : لم اشترط ، فأمر عمر بدفع الأقتاب والأحلاس للاعرابي (٢).

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٢٨. وسائل الشيعة ١٨ : ٣٨١. وقريب منه في الرياض النضرة ٢ : ١٩٦. الإرشاد ـ المفيد : ١٠٩.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٦٣.

٥٢

١٥ ـ قسمة مال الفيء :

جيء لعمر بمال فقسّمه بين المسلمين ، ففضلت منه فضلة ، فاستشار أصحابه فيها فأشاروا عليه بأخذها لأنّها لو قسّمت بين المسلمين لم يصبهم منها إلاّ اليسير ، فأنكر الإمام ذلك ، وقال لعمر :

« أقسمها عليهم ، أصابهم من ذلك ما أصابهم ، فالقليل في ذلك والكثير سواء » (١).

وكانت هذه السياسة المشرقة في تقسيم أموال الفيء هي التي سار عليها الإمام حينما آلت الخلافة إليه ، فإنّه لم يترك قليلا ولا كثيرا في بيت المال إلاّ وزّعه على المسلمين ، ولم يصطف لنفسه ولا لأهله أي شيء منه.

١٦ ـ امراة مطلّقة في الجاهلية والإسلام :

سأل رجل عمر فقال له : إنّي طلّقت امرأتي في الشرك تطليقة ، وفي الإسلام تطليقتين فما ترى؟ وحار عمر في الجواب ، وانتظر قدوم الإمام ، فلمّا حضر عرض عليه الأمر ، فقال له :

« هدم الإسلام ما كان قبله ».

ولم يرتّب أي أثر على الطلق في الجاهلية (٢).

١٧ ـ امرأة تسقط حملها فزعا من عمر :

نقل الرواة أنّ امرأة مشهورة بالبغاء ، فبلغ ذلك عمر فبعث خلفها ، ففزعت

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٦٤.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٦٤. عجائب أحكام أمير المؤمنين عليه‌السلام : ٦٦. الإرشاد ـ المفيد : ١٠٩. قضاء أمير المؤمنين عليه‌السلام : ٥١.

٥٣

كأشدّ ما يكون الفزع ، وألقت حملها ، وتوفّي بعد وضعه ، فلمّا مثلت أمام عمر وأخبر بقصّتها قال له بعض جلسائه : ما عليك من هذا شيء.

وقال بعضهم : سلوا أبا الحسن.

فعرضوا عليه الأمر فلامهم على ما أفتوا به ، وقضى عليه‌السلام أنّ الدية تكون على عمر (١) ؛ لأنّه السبب في ترويعها وإسقاطها للجنين.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض القضايا التي حكم فيها الإمام عليه‌السلام في عهد عمر ، وقد حكت مدى سعة علومه ، وإحاطته الكاملة في شئون القضاء الذي خفي على الكثير من الصحابة فلم تكن لهم أيّة دراية فيه ، وكانوا يتخبّطون خبط عشواء في ما يفتون ويقضون به ، وقد عرض لذلك بصورة شاملة ابن الجوزي في كتابه « السياسة الشرعية ».

__________________

(١) قضاء الإمام عليه‌السلام : ٤٣ ، نقلا عن الكليني ، وقريب منه جاء في جمع الجوامع ٧ : ٣٠٠.

وفي العلم : ١٤٦. وفي الغدير ٦ : ١١٩. الإرشاد ـ الشيخ المفيد : ١٠٩.

٥٤

روايات موضوعة

ولا بدّ أن نقف وقفة قصيرة أمام بعض الروايات التي حكت بعض قضايا الإمام عليه‌السلام في عهد عمر ، ولا نصيب لها من الصحّة ؛ لأنّ الحكم الصادر من الإمام فيها لا يتّفق مع القواعد الشرعية التي هي مستمدّة من أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، وفي ما يلي ذلك :

١ ـ رجل تزوّج بامرأة في عدّتها :

روى مسروق أنّ امرأة تزوّجت في عدّتها ، فحكم عمر بأنّ صداقها يكون من بيت المال ، ويفرّق بينهما ، فبلغ ذلك الإمام عليه‌السلام فقال :

« لها المهر بما استحلّ من فرجها ، ويفرّق بينهما ، فإذا انقضت عدّتها فهو خاطب من الخطّاب ».

فبلغ ذلك عمر ، فقال : ردّوا الجهالات إلى السنّة ، ولم يأخذ بقول عليّ (١).

وهذه الرواية مخالفة للقواعد الشرعية وذلك أنّ الحكم فيها أنّها تحرم على زوجها حرمة مؤبّدة إن كان قد دخل بها ، ولا يكون خاطبا لها بعد انقضاء العدّة ، كما حكت الرواية ذلك ، كما أنّ مهرها يكون على الزوج لا من بيت المال ، كما حكم بذلك عمر.

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٦١. أحكام القرآن ـ الجصّاص ١ : ٥٠٤.

٥٥

٢ ـ غلام فجر بامرأة :

امرأة فجر بها غلام ، فأمر عمر برجمها ، فقال الإمام عليه‌السلام :

« لا يجب الرّجم ، إنّما يجب الحدّ ؛ لأنّ الّذي فجر بها ليس بمدرك » (١).

وهذه الرواية مجافية للسنّة ، فإنّ المرأة يقام عليها الحدّ ( الرجم ) إن كانت محصنة ، والجلد إن لم تكن محصنة ، من دون فرق بين أن يكون الواطئ لها بالغا أم لا. نعم ، الصبي لا يقام عليه الحدّ فقد رفع عنه القلم وإنّما يؤدّب (٢) ، هذا ما تقتضيه القواعد الشرعية.

٣ ـ غلام أسود انتفى منه أبوه :

رفع إلى عمر رجل ومعه ابنه وهو أسود نفاه منه ، فأراد عمر أن يعزّره ـ ولا نعلم وجه التعزير ـ وكان الإمام حاضرا فقال للرجل : « هل جامعت امّه في حيضها؟ ». قال : نعم.

قال : « فلذلك سوّده الله » (٣).

وهذه الرواية لا يمكن الحكم بصحّتها ، فإنّ الحائض إذا قاربها زوجها لا تحمل منه ، وإنّما الحمل يكون بعد فترة من طهرها حسب ما أعلنه الطبّ الحديث.

٤ ـ امرأة تشبّهت بأمة رجل :

تشبّهت امرأة بأمة رجل ونامت في فراشه ليلا فواقعها وهو يظنّ أنّها جاريته ،

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٦٠.

(٢) اللمعة الدمشقية ـ كتاب الحدود ٩ : ١٦. عجائب أحكام أمير المؤمنين عليه‌السلام : ٥٤.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٦٣. وقريب منه في الطرق الحكمية : ٤٧. قضاء أمير المؤمنين عليه‌السلام : ٤٠.

٥٦

فرفع أمره إلى عمر فأرسله إلى الإمام عليه‌السلام فقال :

« اضرب الرّجل حدّا في السّرّ ، واضرب المرأة حدّا في العلانية » (١).

وهذا الحكم مخالف للقواعد الشرعية ، فإنّ الحكم في أنّ الرجل لا شيء عليه ؛ لأنّ وطأه للجارية وطء شبهة ، نعم على المرأة الحدّ رجما إن كانت محصنة ، وجلدا إن كانت غير محصنة.

نصيحة الإمام لعمر :

زوّد الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام عمر بن الخطّاب بنصيحة قيّمة في ما يتعلّق بالقضاء وغيره هذا نصّها :

« ثلاث إن حفظتهنّ وعملت بهنّ كفتك ما سواهنّ ، وإن تركتهنّ لم ينفعك شيء سواهنّ ».

قال : وما هنّ يا أبا الحسن؟ قال :

« إقامة الحدود على القريب والبعيد ، والحكم بكتاب الله في الرّضا والسّخط ، والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود ».

وبهر عمر وراح يقول : لعمري! لقد أوجزت وأبلغت (٢).

وهذه البرامج اسس العدل الإسلامي التي تضمن النجاح لزعيم الدولة إن سار على ضوئها وطبّقها على شعبه.

__________________

(١) قضاء أمير المؤمنين عليه‌السلام : ٣٣. الحقّ المبين في أحكام قضاء أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ ذبيح الله محلاتي : ٨١. علي عليه‌السلام والخلفاء ـ نجم الدين العسكري : ٢٦٢ ، نقلا عن غاية المرام : ٥٣٦. بحار الأنوار ٩ : ٢٤٨.

(٢) فروع الكافي ٧ : ٤١٣. التهذيب ٤ : ٢٢٦. وسائل الشيعة ١٨ : ١٥٦.

٥٧

في عهد عثمان

ونقل الرواة بعض البوادر النادرة في قضاء الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في عهد عثمان بن عفّان عميد الاسرة الأموية ، ويعود السبب في قلّتها إلى أنّ عثمان قد احتفّ به الأمويون وأحاطوا به ، وحرفوه عن الإمام عليه‌السلام فلم يحفل برأيه ، ولم يأخذ بقضائه ، وهذه بعض أقضية الإمام في هذا العهد.

١ ـ مكاتبة زنت :

بغت أمة مكاتبة قد تحرّر ثلاثة أرباع منها ، وبقي ربع منها رقّا ، فسأل عثمان الإمام عن حكمها ، فقال :

« يجلد منها بحساب الحرّيّة ، ويجلد منها بحساب الرّقّ ».

ووجّه عثمان السؤال إلى زيد بن ثابت فقال له : يجلد منها بحساب الرقّ فقط ، فردّ عليه الإمام قائلا :

« كيف تجلد بحساب الرّقّ وقد اعتق منها ثلاثة أرباعها؟ وهلاّ جلدتها بحساب الحرّيّة ، فإنّها فيها أكثر ».

فقال زيد : لو كان ذلك كذلك لوجب توريثها بحساب الحرية. فقال له الإمام :

« أجل ، ذلك » ، فأفحم زيد ، وخالف عثمان رأي الإمام وأخذ برأي زيد (١).

__________________

(١) الإرشاد ـ الشيخ المفيد : ١٠١. عجائب أحكام أمير المؤمنين عليه‌السلام : ٦٨. وسائل الشيعة ١٨ : ٤٠٥.

٥٨

٢ ـ شيخ حملت منه امرأته :

تزوّج شيخ كبير بامرأة فحملت منه ، فزعم الشيخ أنّه لم يصل إليها ، وأنكر حملها ، ورفع أمره إلى عثمان ، فالتبس عليه الأمر ، فأمر بإقامة الحدّ عليها ، وكان الإمام حاضرا فأنكر على عثمان فتواه ، وقال له :

« إنّ للمرأة سمّين سمّ للمحيض ، وسمّ للبول ، فلعلّ الشّيخ كان ينال منها فسال ماؤه في سمّ المحيض فحملت منه ، فاسألوا الرّجل عن ذلك ».

فسألوه فقال : قد كنت انزل الماء في قبلها من غير وصول إليها بالافتضاض ، فقال الإمام :

« الحمل له والولد ولده » ، فصار عثمان إلى قضائه (١).

٣ ـ امرأة ولدت لستّة أشهر :

تزوّج رجل امرأة من جهينة فولدت له ولدا لستّة أشهر ، فانطلق زوجها إلى عثمان فأمر بها أن ترجم ، فبلغ ذلك الإمام عليه‌السلام فسارع إلى عثمان فقال له :

« ما تصنع؟ ليس ذلك ـ أي الرجم ـ عليها ، قال الله تبارك وتعالى :

( وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) (٢) ، وقال : ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ) (٣) ، فالرّضاعة أربعة وعشرون شهرا ، والحمل ستّة أشهر ».

فاعتذر عثمان وقال : والله! ما فطنت لهذا ، وأمر بها أن تردّ ، فسارعوا إليها

__________________

(١) الإرشاد ـ الشيخ المفيد : ١١٣. قضاء أمير المؤمنين عليه‌السلام : ٤٢.

(٢) الأحقاف : ١٥.

(٣) البقرة : ٢٣٣.

٥٩

ووجدوها قد رجمت ، وقد قالت لاختها : يا اخيّة ، لا تحزني فو الله! ما كشّف فرجي أحد قطّ غيره.

وعلّق المحقّق الأميني على هذه الحادثة بقوله : إن تعجب فعجب أنّ إمام المسلمين لا يفطن لما في كتاب الله العزيز ممّا تكثر حاجته إليه في شتّى الأحوال ، ثمّ يكون من جرّاء هذا الجهل أن تؤذّى بريئة مؤمنة وتتّهم بالفاحشة ، ويهتك ناموسها بين الملأ وعلى رءوس الأشهاد (١).

٤ ـ تزوّج يحيى بصفيّة :

وكانا من السبي وزنت فولدت غلاما ، فادّعى الزاني ويحيى ، كلّ منهما ، أنّه ابنه ، ورفعا أمرهما إلى عثمان ، فلم يعلم الحكم ورفع أمرهما إلى الإمام فقال :

« أقضي فيهما بقضاء رسول الله : الولد للفراش وللعاهر الحجر ».

وجلد كلّ واحد خمسين (٢).

__________________

(١) الغدير ٨ : ٩٧. قضاء أمير المؤمنين عليه‌السلام : ٤١.

(٢) مسند أحمد بن حنبل ١ : ١٠٤. تفسير ابن كثير ١ : ٤٧٨.

٦٠