موسوعة أخلاق القرآن - المقدمة

موسوعة أخلاق القرآن - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٢

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد كلّ الحمد لله تبارك وتعالى ، هو ولي النعمة ومصدر الرحمة : «إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» والصلاة والسّلام على جميع أنبياء الله ورسله ، وعلى خاتمهم سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وأتباعه وأحبابه ، ومن دعا بدعوته بإحسان الى يوم الدين.

وأستفتح بالذي هو خير :

«رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا ، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا ، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ».

٣
٤

قبس من كتاب الله

«إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ ، أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ ، وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ».

«سورة المؤمنون»

٥
٦

مقدّمة المؤلف

إن كثيرا من كتابنا المعاصرين الذين يكتبون في الموضوعات الأخلاقية يوردون أكثر من تعريف للأخلاق ، وينقلون هذه التعريفات عن باحثين غربيين ، كقول بعضهم : الأخلاق هي مجموعة عناصر الشخصية كالفكر والعاطفة والغريزة ، وقول الثاني : الأخلاق طبيعة الإرادة. وقول الثالث : الخلق ميل نفسي يتحكم في الغرائز. وقول الرابع : الأخلاق تنظيم الغرائز. وقول الخامس : الأخلاق تنسيق الميول الطبيعية والعواطف وترتيبها ... إلخ.

ولكن ينبغي لنا ونحن نبدأ دراسة «أخلاق القرآن» أن نعود إلى لغة القرآن ـ وهي اللغة العربية ـ نستنبئها في يسر وسهولة عن معنى الأخلاق.

إن اللغة تقول : الخلق هو السجية والطبع. ويقول الغزالي : إن الخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة ، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر ، من غير حاجة إلى فكر وروية ، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلا وشرعا ، سمّيت تلك الهيئة خلقا حسنا ، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقا سيئا.

ويقول ابن الأثير : حقيقة الخلق ـ لصورة الإنسان الباطنة ـ وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها ـ بمنزلة الخلق ، لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها ، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة ، والثواب والعقاب مما يتعلقان بأوصاف الصور الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصور الظاهرة.

٧

وهناك فرق بين الخلق والتخلق ، فالأخلاق سجايا وطبائع ، ولكن التخلق تكلف من الإنسان يحاول به أن يظهر من أخلاقه خلاف ما يبطن.

ومن السلف من يعد الدين هو الأخلاق الكريمة ، ويعد الأخلاق الكريمة هي الدين ، ولذلك تعرّض ابن عباس لتفسير قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) فقال إن المعنى : «لعلى دين عظيم ، لا دين أحبّ إليّ ، ولا أرضى عندي منه ، وهو دين الإسلام»!.

ولذلك يقول ابن القيم : «الدين كلّه خلق ، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين».

ولقد أقبل رجل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصار من بين يديه فقال : يا رسول الله ، ما الدين؟.

فأجاب الرسول : حسن الخلق.

فأتاه الرجل من قبل يمينه وقال : يا رسول الله ، ما الدين؟.

فأجابه الرسول ثانية : حسن الخلق.

ثم أتاه الرجل من قبل شماله وسأله : يا رسول الله ، ما الدين؟.

فأجابه الرسول مرة ثالثة : حسن الخلق.

ثم جاءه الرجل من ورائه وسأله : يا رسول الله ، ما الدين؟.

فالتفت إليه الرسول وقال له : أما تفقه؟ هو ألا تغضب.

ولعل هذا هو السبب في أن يقول ابن عباس : «لكل بنيان أساس ، وأساس الإسلام حسن الخلق».

وهذا يتفق وما يراه علماء الأخلاق من أن الأخلاق ترجع إلى قيم ثلاث ، هي الجمال والخير والحق ، وأن الدين هو القوّام على هذه القيم ، الداعي إليها ، الحارس لها.

* *

والقرآن الكريم هو أساس الإسلام وينبوعه الأول ، وإذا كان القرآن

٨

المجيد كتاب دين وتشريع ، وكتاب عقائد وعبادات ومعاملات ، وكتاب عبر وعظات ، فإنه في الوقت نفسه كتاب أخلاق ، ولقد تحدث القرآن عن مكارم الأخلاق ومحامد الخصال حديثه الموجز المبين ، فصار رائدا لكل مؤمن راغب في التحلي بالفضائل ، والتزين بمحاسن الطباع ، ولعل هذا مما يشير إليه قول الحق تبارك وتعالى في سورة الإسراء : «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ». وقوله في سورة الشورى : «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ، ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا ، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ».

وإذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو المثل الأعلى في مكارم الأخلاق ، لأن الله صنعه على عينه ، حتى قال صلوات الله وسلامه عليه : «أدبني ربي فأحسن تأديبي» ، فإن هذا الكمال الأخلاقي قد تحقق الرسول لأنه كان خير من اهتدى بهدي القرآن ، وتحلى بأخلاق القرآن ؛ ولقد سأل هشام بن حكيم السيدة عائشة رضي الله عنها ، عن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأجابت بقولها : كان خلقه القرآن ، أي كان متمسكا بآدابه وأوامره ونواهيه ، وما يشتمل عليه من المكارم والمحاسن والألطاف.

وكان هذا الجواب المختصر الجليل سببا في أن يقول هشام : لقد هممت أن أقوم ولا أسأل شيئا.

ولقد تعرض كتاب الله تعالى لأصول الأخلاق التي يريد الله لعباده أن يتحلوا بها ، وأن يستجيبوا لروحها ، ولذلك هدف حديث القرآن عن الأخلاق إلى غاية سامية جليلة ، هي أن يكون المسلم المؤمن المتخلق بمكارم الأخلاق صالحا لتلقي الإشراقات الروحية ، والفيوضات الإلهية التي تجعله يسيطر بروحه على بدنه ، ويسمو بنفسه فوق حسه ، ويستجيب لعقله أكثر مما يستجيب لعاطفته ، ويحسن الوفاق بين لبه وقلبه ، فإذا هو سليم الفؤاد ، حكيم المقال ، رشيد الفعال ، لديه من الحصانة ما يجعله يتأبى على الخطيئة والإثم ، ولديه من نور

٩

البصيرة ما يجعله موطن الرحمة الربانية في دنياه ، والنعمة الباقية في أخراه ، ولعل هذا نفهمه من قول الله جل جلاله : «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ».

* *

وما دام القرآن المجيد هو كتاب الإيجاز والإعجاز فليس من شأنه أن يتحدث الحديث التفصيلي عن كل صغيرة وكبيرة في الأخلاق ، وإنما هو يضع أمام المؤمن علامات الطريق وإشارات التوفيق ، ويترك لنظره وتدبره حسن الاستنباط وواسع الإدراك ، ومن هنا جاءت في القرآن الكريم آيات قصيرات بألفاظها ، واسعات فسيحات بمفاهيمها ومضامينها ، مثل قوله تبارك وتعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) ، وقوله : «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ، وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».

ومع ذلك خص القرآن الكريم طائفة من الأخلاق بتوسيع في الحديث عنها ، وتأكيد في الحث عليها ، كما سنرى في فصول هذا الكتاب ، وبذلك جمع القرآن بين الإيجاز وسعة البيان ، وإن كان الإيجاز فيه أكثر وأغلب.

ولقد اهتدى علماء الأخلاق بهذا الهدي القرآني ، فمنهم من فصّل الحديث عن كل خلق من مكارم الأخلاق ، بل قسّم الخلق الواحد إلى عدة أخلاق ، كما نشهد الغزالي يفعل ذلك في كتابه «إحياء علوم الدين» في كثير من الأحيان ، ومنهم من أجمل الحديث أحيانا عن الأخلاق ، فعاد بها إلى عدد قليل من أمهات الفضائل ، كما فعل ابن القيم مثلا في كتابه «مدارج السالكين» حين نراه يقول :

«وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان ، لا يتصور قيام ساقه إلا عليها :

الصبر والعفة والشجاعة والعدل. فالصبر يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ وكف الأذى ، والحلم والأناة والرفق ، وعدم الطيش والعجلة.

١٠

والعفة تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل ، وتحمله على الحياء وهو رأس كل خير ، وتمنعه من الفحشاء والبخل والكذب والغيبة والنميمة.

والشجاعة تحمله على عزة النفس ، وإيثار معالي الأخلاق والشيم ، وعلى البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته ؛ وتحمله على كظم الغيظ والحلم ، فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها ، ويكبحها بلجامها عن النزغ والبطش ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس الشديد بالصّرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» وهو حقيقة الشجاعة ، وهي ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه.

والعدل يحمله على اعتدال أخلاقه ، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط ، فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الذل والقحة ، وعلى خلق الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن والتهور ، وعلى خلق الحلم الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس ، ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة».

* *

وإذا كان القرآن المجيد قد حدثنا عن الاخلاق هذا الحديث الموجز المركّز المعجز ، فإن السنة النبوية المطهرة قد أقبلت من وراء القرآن تبيّن وتفسر وتؤكد ، وتفسح مجال الحديث عن أخلاق الإسلام الكريمة ، ولا عجب في ذلك ، فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو القائل : «بعثت لأتمم مكارم الاخلاق».

ولقد كان من دعاء النبي في افتتاح الصلاة قوله : «اللهم اهدني لاحسن الاخلاق ، لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عني سيّئها ، لا يصرف عني سيئها إلا أنت». وهذا الدعاء يرينا مبلغ حرص نبي الاخلاق على التمسك بالمثل الاعلى والكمال الاسنى في الفضائل والمكارم.

وهو الذي قال : «أكمل الناس إيمانا أحسنهم خلقا». وقال : «ليس شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق». وقال : «اتق الله حيثما كنت ، واتبع

١١

السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن».

ومن وراء القرآن والسنة أقبل أتباع محمد عليه الصلاة والسّلام ، وفي طليعتهم صحابته رضوان الله عليهم أجمعين ، فأدركوا ما للأخلاق في ميزان القرآن والحديث من قيمة وقدر ، فعنوا بالحديث عنها والكلام فيها ، وهذا هو الإمام علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه يقول مثلا : «سعة الاخلاق كيمياء الارزاق» ويقول : «التقى رئيس الاخلاق».

وأقبل أئمة وعلماء أوسعوا دائرة الحديث عن الاخلاق والنظر في دقائقها والكتابة عنها ، وكلهم من القرآن مقتبس ، ومن الرسول ملتمس ، على اختلاف في الاذواق والطرائق ؛ وهذا مثلا ابن القيم يقول :

«مدار حسن الخلق مع الحق ومع الخلق على حرفين ذكرهما عبد القادر الكيلاني فقال : كن مع الحق بلا خلق ، ومع الخلق بلا نفس. فتأمل ، ما أجلّ هاتين الكلمتين مع اختصارهما ، وما أجمعهما لقواعد السلوك ولكل خلق جميل.

وفساد الخلق إنما ينشأ من توسط الخلق بينك وبين الله تعالى ، وتوسط النفس بينك وبين خلقه ، فمتى عزلت الخلق حال كونك مع الله تعالى ، وعزلت النفس حال كونك مع الخلق ، فقد فزت بكل ما أشار إليه القوم ، وشمروا إليه ، وحاموا حوله ، والله المستعان».

ولعل القرآن الكريم يشير إلى هذا حينما يدعو إلى تجريد الاتجاه إلى الله تعالى فيقول : (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) ، وحينما يدعو إلى الحذر من وسوسة النفس ، فيقول : «وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي ، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ».

* *

في ضوء ما تقدم شرعت القلم وتحدثت عن «أخلاق القرآن» في الفصول التالية من هذا الكتاب ، فتناولت هذه الاخلاق خلقا خلقا ، وسرت على

١٢

منهج آمل أن يكون مقبولا ، وأن يكون محققا لما ابتغيت من ربط أبناء الإسلام وأتباع محمد عليه الصلاة والسّلام بمائدة القرآن الكريم.

وهذا المنهج يبدأ في الغالب بالتعريف اللغوي والتعريف الاصطلاحي لكل خلق من أخلاق القرآن الكريم التي تناولتها ، والتي أسأل الله وهو ولي النعم أن ييسر لي متابعة تناولها ، حتى أبلغ ما يشاء الله لي من فضله.

ثم أنتقل إلى استعراض حديث القرآن المجيد عن كل خلق ، وحاولت أن أستوعب مع كل خلق الآيات التي تحدثت عنه أو ذكرته. ثم أستعين في شرح كل خلق بما ورد عنه في السنة النبوية ، أو السيرة العطرة ، أو في كتب أعلام الإسلام الذين تحدثوا عن النواحي الاخلاقية ، وفي طليعتهم الإمامان الغزالي وابن القيم.

ثم أتعرض لما ذكره أهل العناية بالتهذيب الروحي ـ كأعلام الصوفية البصراء ـ حول هذه الاخلاق من كلمات حكيمة ، ثم أستعين بالكلمات المأثورة في الأدب الاسلامي العربي التي قيلت في أخلاق القرآن التي تحدثت عنها.

وحين كتبت هذه الفصول كنت أتذكر جيدا أن الله جل جلاله قد ألهم الانسان أن يحيا حياة اجتماعية ، فيرتبط بمجموعة من بني جنسه ـ قلّت أم كثرت ـ وهذه الحياة المشتركة تستلزم أن تنهض على أصول وقواعد من الاخلاق والآداب التي يجب أن يلتزمها الجميع ، حتى يتحقق فيهم ولهم العدل والتوازن ، فتسير الحياة الاجتماعية بينهم على طريقها المستقيم ، وليس هناك صراط كصراط القرآن المجيد الذي يهدي إلى كل خير ، ويعصم من كل شر ، فلا بد إذن من الجلوس إلى مائدة الكتاب الالهي العزيز ، نستمد منها ونأخذ عنها كل غذاء ، وكل دواء ، وكل ضياء : «صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ».

ولو صدق الانسان النية في جلساته إلى كتاب الله ، وعزم على تفهم أخلاقه والاستمساك بها ، لأعانه الله على الخير ، وهداه إلى طريق البر ، وليس ذلك بعسير ، فإن القرآن الكريم يقرر في المجال الاخلاقي أن طبيعة الانسان في أصلها

١٣

طيبة وصالحة للادراك والتمييز والاهتداء ، وها هو ذا يقول في سورة الروم : «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ». والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «كل مولود يولد على الفطرة ، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه».

ولقد قرر القرآن والسنة هذه الحقيقة قبل «ديكارت» و «روسو» و «كانت» بقرون وقرون.

وما دام الانسان يمتاز على الاحياء الاخرى بالمرونة والقدرة الواسعة على «التكيّف» فلعل أول واجباته في مجالنا هذا هو أن «يكيّف» نفسه أخلاقيا ، ليكون على الدوام متحليا بمكارم الأخلاق ، وليستجيب لتوجيه القرآن العميق حين يقول : «وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ». ويقول : «إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ». ويقول : «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها».

فلنقبل على مائدة القرآن ، لنأخذ عنها حديث أخلاق القرآن.

وعلى الله قصد السبيل.

أبو حازم

أحمد الشرباصي

١٤