تاريخ الفقه الجعفري

هاشم معروف الحسني

تاريخ الفقه الجعفري

المؤلف:

هاشم معروف الحسني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٩

نسائه وإذا خاف ان يتعذر عليه القسط بينهما لم يكن له ان يتزوج بأكثر من واحدة. (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

وليس ببعيد ان يكون الإسلام أباح للرجل ان يتزوج بأكثر من واحدة ، أما لضرورة شخصية تنشأ من حاجة الرجل أحيانا الى أكثر من واحدة ، أو لضرورة اجتماعية نشأت من زيادة عدد النساء على الرجال ، في أكثر بلدان العالم. ويطرد ذلك بشكل هائل أيام الحروب العامة ومن تتبع الاحصاءات التي تطالعنا بها الصحف عن عدد النساء في جميع بلدان العالم ، يظهر لنا أن عددهن يزيد عن عدد الرجال بنسبة لا تقل عن الثلثين ، ان لم تكن أكثر من ذلك. ومع هذا التفاوت بينهما في العدد ، ومع العلم بأن حاجة المرأة الى الرجل لا تقل عن حاجة الرجل إليها من الناحية الجنسية ان لم تكن أكثر منها ، فلا بد لنا من أحد أمرين ، لو اهملنا هذا التشريع : اما ان نفرض على المرأة حياة الرهبنة والتجرد عن انسانيتها ، أو تترك وشأنها تعيش في جو من الفوضى ، وفي كليهما تزداد مشكلتها تعقيدا ، فلا بد من الأخذ بهذا التشريع وتطبيقه عمليا ، صونا للرجل والمرأة وما يجيء منهما من النسل في ضمن العدالة التي فرضها الإسلام والقرآن. ومما لا شك فيه أن العمل بهذا التشريع هو الذي يحول بين ما يعانيه المجتمع من التدهور الخلقي ويحفظ للمرأة كرامتها ان تداس وشرفها ان ينحط لو أصبحت فريسة لذوي الشهوات والأطماع.

وفي نفس الوقت تنحل بهذا التشريع مشكلة من لا يكتفي بواحدة من النساء ، لكثرة ما يعرض على المرأة من المتاعب التي تمنعها من سد حاجة الزوج أحيانا ، وبذلك تصان كرامة الملايين من النساء اللواتي يزدن على عدد الرجال في أكثر بلدان العالم.

٨١

النساء اللواتي يباح التزويج بهن :

لقد نص القرآن على من يحل التزويج بها ومن يحرم فقال في الآية من سورة النساء :

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً).

وينبه على هذا النوع بخصوصه لأنه كان شائعا قبل الإسلام حيث كانت منكوحة الأب يرثها أولاد الميت كما يرثون بقية أمواله. ثم عدد أصنافا من النساء غيرها ممن لا تحقق بينهن وبين الرجال رابطة الزوجية فقال :

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ ، وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ. وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ. وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ. إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ). وفيما عدا هذه العناوين التي ورد ذكرها في الآية يمكن ان تحصل رابطة الزوجية بين الرجل والمرأة إذا وقع عقد الزواج بينهما بالطرق التي اعتبرها الإسلام ، وقد نبه في الآية على أن حليلة الولد انما تحرم على أبيه إذا كان ولدا شرعيا من صلب الرجل ، أما إذا لم يكن من صلبه فلا تحرم عليه زوجته إذا طلقها ولده الادعائي. وكان المعروف عند العرب قبل الإسلام والشائع بينهم تحريم زوجة الولد سواء كان حقيقيا أو ادعائيا. فأبطلت هذه الآية ما كانوا عليه ونصت على حرمة زوجة الولد على أبيه فيما إذا كان من صلبه اما إذا لم يكن من صلبه فلا

٨٢

يكون ولدا. قال سبحانه : (ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) وعن عطاء ان هذه الآية نزلت حينما تزوج النبي (ص) مطلقة زيد بن حارثة ، فقال المشركون أن محمدا تزوج من زوجة ولده ، لأنه كان قد أحب زيدا ونزله منزلة أولاده ، فكانت هذه الآية ردا عليهم ودحضا لمفترياتهم.

وقد منع الإسلام من زواج المسلم بالمشركة والمشرك بالمسلمة كما نصت على ذلك الآية الكريمة :

(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ، وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ. أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) ولا خلاف بين المسلمين في هذين الحكمين.

أما الزواج من أهل الكتاب ، فذهب أكثر علماء الشيعة الإمامية الى عدم جواز الزواج من الكتابيات استنادا الى هذه الآية ، لأن الكفر بالله ورسوله يرجع الى الشرك ، ولقوله سبحانه : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ).

ولا يتنافى ذلك مع ظاهر الآية : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ، وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ)(١) لأن القائلين بعدم الجواز ، يرون ان المراد بالمحصنات في هذه الآية اللواتي أسلمن منهن ، فتكون الآية الأولى على عمومها للكتابي وغيرها من أصناف الكفار.

ولا بد للقائل بحصول الرابطة الزوجية بين المسلمة والكتابية من أحد أمور : إما القول بالنسخ أو التخصيص بناء على عموم المشركات

__________________

(١) سورة المائدة من الآية ٥.

٨٣

لكل من لم يؤمن بالله ورسوله ، أو القول ان المشرك غير الكتابي من أصناف الكفار بدليل عطف كل منهما على الآخر في بعض الآيات ، والعطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه ، قال تعالى :

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) وقال : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ). وعلى ذلك لا يكون موضوع الحكم في آية لا تنكحوا المشركات ، شاملا للكتابيات ، فيجوز العقد على الكتابية بمقتضى أدلة الإباحة العامة ، بالإضافة الى ما جاء في آية المائدة ، من حلية المحصنات من الذين أوتوا الكتاب ، ويبقى على هؤلاء أن يلتزموا بنسخ الحكم المستفاد من قوله : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) أو تخصيصها بآية والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ، بناء على عموم الكافر للكتابي وغيره في آية (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ).

وقد أباح القرآن ان يتزوج الرجل بالأمة إذا لم يكن قادرا على الزواج بالحرة ، وجاء في الآية التي تضمنت هذا التشريع : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ)(١).

وتدل هذه الآية على انه لا يجوز للرجل ان يتزوج بالأمة إلا مع عدم القدرة على مهر الحرة ونفقتها ، كما يظهر من وصفها بالأيمان ان الأمة المؤمنة هي الموضوع لهذا الحكم ، ومع هذين الشرطين لا بد من إذن وليها في ذلك.

__________________

(١) من سورة النساء أول الآية ٢٥.

٨٤

وقد نصت الآية بأن عليها من العقوبة نصف ما على الحرة لو أتت بفاحشة ، (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ). وهو خمسون جلدة نصف ما على الحرائر.

ولم يشرع الإسلام الزواج جزافا بل فرض على الرجل إذا أراد أن يتزوج أن يدفع للمرأة ما يتفقان عليه من المال. قال سبحانه : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ)(١).

وقد جاءت هذه الآية بعد الآية التي عددت من يحرم نكاحهن على الرجل ، وظاهرها يدل على أن ما عدا المحرمات التي نصت عليها الآية يحل لكم بأموالكم ، ومقتضى ذلك انه لا يحل الا بالمال وما يقع عليه الاتفاق بين الزوجين لا بد من تسليمه الى الزوجة ، كما يدل على ذلك قوله في آخر الآية :

(فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً). (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً).

ويرى الشيعة الإمامية هذه الآية من أدلة جواز العقد إلى أجل معين ، الذي أباحه الإسلام ومنعه الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، وبذلك فسرها ابن عباس والسدي وابن سعيد وجماعة من التابعين (٢). ويدعون ان لفظة الاستمتاع والتمتع وإن كان يصدق على الانتفاع ومطلق التلذذ ، الا انه في عرف الشرع مخصوص بهذا العقد المعين ، فيكون المعنى المتحصل للآية إذا عقدتم عليهن إلى أجل آتوهن أجورهن. والذي يؤيد إرادة هذا المعنى أن الآية جعلت وجوب إعطاء

__________________

(١) سورة النساء آخر الآية ٢٥.

(٢) مجمع البيان جلد ٢ طبع صيدا.

٨٥

الأجرة مترتبا على الاستمتاع ، وفي العقد الدائم يثبت المهر بالعقد ولا دخل للاستمتاع في ذلك. وعن جماعة من الصحابة منهم أبي بن كعب وعبد الله بن عباس وابن مسعود فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن. ولو صح ذلك فلا بد وأن تكون الزيادة تفسيرا لبيان المراد من الآية لا جزءا منها ، والآية كما هي في جميع المصاحف بدون زيادة ولا نقصان.

وهذه الضميمة اما عن اجتهاد منهم في تفسيرها واما لأنهم سمعوه من الرسول (ص) كما نزل به الوحي. وعلى ذلك تحمل جميع الأخبار التي نعت على ان القرآن الذي جمعه علي (ع) يزيد على غيره من المصاحف ، فتكون الزيادة على تقدير صحة الأحاديث في تفسير بعض الآيات لا في أصل آياته

٨٦

نظام الطلاق في الإسلام

لقد ظهر من الآيات التي شرعت الزواج ونظمت علاقة كل من الزوجين بالآخر ، وأشادت بما لتلك العلاقة من فعالية في بناء المجتمع وسعادة الإنسان ، ان الإسلام يرى ان الزواج هو مادة الوجود ، والسبيل الوحيد لعمران الكون لأنه ليس من مختصات الإنسان. قال سبحانه : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

لذا فقد أوصى في بنائه على أساس الرضا من الطرفين والاختيار الكامل ، فلكل منهما ان يبحث عن شريكة ، فإذا وجد الدين والخلق الجميل فقد وجد الخير كله ، وكانا على بصيرة من أمرهما واطمئنان لمستقبلهما ، حتى إذا ما تم الزواج دعاهما الإسلام إلى حفظ هذا البناء الجديد وصيانته ، وأرشدهما الى ما يقويه ويدعم أركانه ويشد أواصره ، وجعل لكل منهما من الحقوق والواجبات ما يقوي أواصر تلك العلقة فقال للرجال : خيركم عند الله خيركم لأهله ، وللنساء : إن رضا الزوج من رضا الله ودعاهم الى الرفق واللطف والبشاشة والى كل ما يثبت محبة كل منهما في قلب الآخر ، وفي الحديث : «ان الرجل إذا وضع اللقمة في فم زوجته كان له أجر ذلك عند الله». والإسلام مع حرصه الأكيد على تدعيم هذا البناء وتذليل الصعوبات التي قد

٨٧

تعترض سعادة الزوجين وهناءهما لا يخفى ما فيه من تبعات وأعباء جسام ، لا بد وأن يتحملها الزوج في سبيل الغرض الاسمي من الزواج ، فيقول الرسول في معرض التأكيد والحث على إكرامها والتغاضي عن هفواتها المرأة خلقت من ضلع أعوج فان ذهبت تقيمه كسرته ويقول الله سبحانه : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً).

ومع كل هذه العناية والحيطة التي اتخذها الإسلام لاستقرار الحياة الزوجية وازدهارها ، فقد جاء الإسلام بعلاج تأديبي للمرأة ان بدا منها نشوز أو تمرد عليه مع قيامه برعايتها والإحسان إليها ، وأباح له ان يقف منها موقف المربي الحكيم كي ترجع الى صوابها ، فان لم يغنه التوجيه والإرشاد رخص له الإسلام في ضربها بقدر الحاجة ، فإن أطاعت واستقامت سيرتها معه ، عاد الى حسن صنيعه بها. قال سبحانه : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً).

لقد تعرضت هذه الآية للعلاج الذي ينبغي استعماله مع الزوجة إذا بدا منها تقصير بواجبها وتمرد على زوجها مع قيامه بالمفروض عليه من حقها. وليست المراتب الثلاثة التي نصت عليها الآية ، إلا لارجاعها الى الطريق القويم الذي كانت عليه أولا ، فإن رجعت بالموعظة ليس له ان يعالج نشوزها بالهجر أو الضرب ، حتى إذا لم تغنه عظتها سلك الطريق الثاني. وهكذا حين تعود حياتهما الى سابق عهدها من الهدوء والاستقرار. وكما أرشد القرآن الكريم الى العلاج الذي ينبغي للزوج ان يستعمله مع زوجته أرشدنا ايضا الى ما يجب على الزوجة ان تقوم به إذا بدا من الزوج نشوز أو ظهر لها فتور في مودته ، فعليها في مثل هذه

٨٨

الحالة إن تحاول إصلاحه وإرجاعه إلى سابق عهده معها ، بما أوتيت من لطف وكياسة وتتغاضى عن شيء من حقوقها ، والى ذلك تشير الآية الكريمة :

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)(١).

كما جاء في تفسيرها عن جماعة من الصحابة والتابعين (٢) ، أما إذا لم تجد هذه المحاولات مع كل من الزوجين وبقيا على خلافهما ونفورهما ، فليس لأحدهما أن يتعدى ، ما رسمه القرآن ، باستعمال الأساليب التي قد تؤدي الى اليأس من عودة الحياة الزوجية إلى سابق عهدها الزاهر ، بل يعود الأمر في هذا الحال إلى أولياء الزوجين ليعالجا ما حصل بينهما من خلاف وشقاق ، وعلى ذلك تنص الآية الكريمة : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً)(٣).

ولا بد في الحكمين أن يكونا صالحين بعيدين عن الهوى والغرض ليعملا بإخلاص وتجرد ، في العودة بالحياة الزوجية الى ما كانت عليه ، وقد جاء في تفسيرها عن ابن عباس رحمه‌الله (٤) ان الله أمر أن يبعثوا رجلا صالحا من أهله ورجلا صالحا من أهلها فينظران أيهما المسيء. فإن كان الرجل المسيء حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة ، وإن

__________________

(١) سورة النساء الآية ١٢٨.

(٢) مجمع البيان جلد ٢ صفحة ١٢٠.

(٣) سورة النساء الآية ٣٥.

(٤) مجمع البيان نفس المصدر.

٨٩

كانت المرأة قصروها على زوجها ومنعوها النفقة. وليس للحكمين صلاحية الطلاق الا ان يكونا وكيلين في إيقاعه لو فشلا في التوفيق بينهما. لقد أوصت الآيات الكريمة بعلاج مشاكل الزوجين بهذا النحو الذي ذكرناه ، حتى لا تكون جحيما يسوقهما الى الطلاق لأقل سبب يحدث بينهما ، أما إذا فشلت جميع المحاولات وأخفقت جميع المساعي التي بذلها الزوجان والحكمان وكانت حياتهما لا محالة جحيما ، تجر من ورائها أنواعا من الجرائم والمفاسد على البيت والأسرة ، كان ولا بد في مثل ذلك ان يضع الإسلام علاجا آخر لانقاذها من ذلك البيت المظلم ، ولا شيء أجدى من تلك المرحلة الأخيرة التي هي من أبغض أنواع الحلال الى الله سبحانه : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ، (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً) في هذه المرحلة الحاسمة من حياة الزوجين شرع الإسلام الطلاق ، حيث لا علاج غيره ، تخلصا مما يحيط بهما من إخطار قد تؤدي بحياة الأسرة بكاملها ، لو بقي الزوجان في بيت قد انحرف صاحباه عن انسانيتهما السامية التي حددتها الآية الكريمة من سورة الروم :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً).

ومع ان هذا التشريع من ضرورات المجتمع ، إذا كانت حياة الزوجين على هذا النحو ، فقد فسح الإسلام لهما المجال للتراجع عنه ، لأنه لم يقره على كل حال في جميع الحالات بل أباحه بشروط قد يتعسر اجتماعها أحيانا ، فلا يقع في حالة الحيض وفي الطهر الذي واقعها فيه ، وبعد وجود هذين الشرطين لا يقع الا بمحضر اثنين من عدول المسلمين. وقد لا يتيسر للزوج في كثير من الأحيان اجتماع الشروط

٩٠

الثلاثة ليصح منه الطلاق فلا بد من تأخيره وقد يترتب على ذلك رجوع الزوج عن عزمه وعودة الصفاء بين الزوجين الى ما كان عليه.

أما إذا وقع الطلاق وشهد على وقوعه العدلان ، فليس للزوجة أن تتزوج من غير الزوج الأول إلا بعد ثلاثة أشهر من تاريخ الطلاق ، وعليها ان تبقى في البيت الذي كانت فيه قبل الطلاق وعلى المطلق ان يقوم بكل ما تحتاج إليه الزوجة في ضمن هذه المدة ، وله ان يرجع عن طلاقها قبل مضي الأشهر الثلاثة ، اما بعد مضيها فليس له أن يرجع إليها إلا بعقد جديد. وقد أشارت الآية الكريمة إلى جملة من أحكام هذا النوع من الطلاق. قال سبحانه.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ ، لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ، وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ. وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ ، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ. لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً. فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)(١).

وقد بين القرآن الكريم أحكام المطلقة في جملة من آياته. قال سبحانه : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ).

فقد حددت الآية مقدار الزمان الذي تعتد فيه المرأة إذا كانت ممن

__________________

(١) الآية الأولى وأول الآية الثانية من سورة الطلاق.

٩١

تأتيها عادة النساء ، ولا يحل بها الزواج بغيره الا بعد مضي ثلاثة قروء من تاريخ الطلاق. والقرء من الألفاظ التي يستعمل في الحيض وفي الطهر ، وأيهما أريد منه فالمطلقة تبقى بحكم الزوجة ما دامت في عدتها ، وعليها أن تبقى في البيت الذي كانت فيه قبل الطلاق وليس لها الاختيار إذا أراد مراجعتها ، وعليه ان يقوم بالإنفاق عليها في ضمن هذه المدة. وفي الآية دلالة على أنه لا يسوغ لهن ان يكتمن ما في أرحامهن من الحمل أو الحيض لتمنعه عن الرجوع بالطلاق ، لأنها ما دامت في الحمل فهي في عدته ، وله الرجوع في طلاقها قبل الحيضة الثالثة.

وأما إذا كانت المرأة حاملا حين طلاقها فعدتها لا تنتهي إلا بوضع الحمل والى ذلك تشير الآية : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) وعليه ان ينفق عليها حتى تضع حملها ، وإذا كانت مرضعة فليس عليها ان ترضع ولدها بدون عوض ، لأن نفقة الولد لا تجب عليها مع وجود وليه.

قال سبحانه : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى). وقد فرض الإسلام على الزوج ان يرفق بزوجته المطلقة ويعاملها بالإحسان والمعروف ، قال سبحانه : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ)(١). أما إذا كان الفراق قبل الاتصال فيها فتحل لغيره من حين الطلاق. والى ذلك تشير الآية : (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ

__________________

(١) سورة الطلاق الآية ٦.

٩٢

طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها)(١).

وإذا طلق الرجل امرأته فعليه ان يدفع لها المهر بالغا ما بلغ ولا يحل له ان يأخذ منه شيئا ، إلا أن تكون كارهة له ، فلها أن تفتدي نفسها منه حين لا يكون عقد الزواج وسيلة لاقتناص مال الرجل والاستمتاع بخيراته وهباته. اما إذا كان ظالما لها وطلبت الطلاق للتخلص من ظلمه بعد ان نفذ صبرها ولم تجدها محاولات استجلابه ، فليس له ان يأخذ من مهرها شيئا ، قال سبحانه : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً. وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً)(٢) وفي آية أخرى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ).

وقد جاء في تفسير هذه الآية ان المرأة إذا بدا منها النشوز وسوء الخلق بغضا بالزوج ، وخاف من عدم إجابتها للطلاق إن تعصي الله سبحانه بارتكاب محرم أو إخلال بواجب ، فإذا فدت نفسها في مثل هذه الحالة جاز له ان يخلعها ، ويحل له ما بذلته له من الفدية إذا لم يكن هو الذي حملها على طلب الطلاق لسوء معاملته لها.

التراجع في الطلاق :

ومهما تكن أسباب الطلاق ودوافعه فقد فسح الإسلام المجال أمام الزوجين كي يتراجعا بعد إيقاع الطلاق مرتين فإذا كان الطلاق ثلاثا فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره كما جاء في الآية : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ

__________________

(١) سورة الأحزاب الآية ٤٩.

(٢) سورة النساء الآية ٢٠ والآية ٢١.

٩٣

فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ، (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ)(١).

والمقصود من ذلك ان الطلاق الذي للزوج حق الرجوع فيه هو مرتان ، فإذا رجع في الثاني وطلقها الثالثة ، فلا يحل له ان يراجعها في العدة ، حتى تتزوج من غيره بعد انتهاء عدتها منه ، فإذا طلقها الثاني بعد الدخول بها وخرجت من عدتها منه كان للزوج الأول ان يتزوج بها ثانيا ، قال سبحانه : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ).

أي رجيا ان يرجعا الى ما كانا عليه من حسن الصحبة والمعاشرة ، ولعل هذه التجربة المريرة عليهما تردهما الى الصواب والاعتدال والمحافظة على الواجبات ورعاية الحقوق المتبادلة بينهما ، وتخفف من كبرياء الرجل إذا رأى امرأته وقد صارت خليلة لرجل آخر ، يملك من أمرها ما إضاعة هو بحمقه وجهله ، فلا يعود بعد ذلك في معاملتها الى شطط وإسراف.

وتشير الآية الى ان الطلاق الذي لا يجوز الرجوع فيه هو الطلاق الثالث وان الذي يملك الرجوع فيه هو مرتان ، ولا تصدق المرتان إلا إذا وقع مرة بعد أخرى ، أما إذا وقعت الثلاث بلفظ واحد ، كما إذا قال الزوج لزوجته أنت طالق ثلاثا فلم يتكرر الطلاق ، لأنه لا يكون طلاقا إلا بعد فرض الزوجية ولا زوجية إلا بالرجوع.

الطلاق الثلاث بلفظ واحد :

والمسلمون في ذلك على أقوال ثلاثة ، بين من يقول ببطلانه لمخالفته

__________________

(١) سورة البقرة من الآية ٢٣٠.

٩٤

نص القرآن الكريم وهو قول جماعة من فقهاء الإمامية ، وبين من يقول بوقوعه واحدة وهم أكثر الفقهاء من الإمامية وبعض المتأخرين من فقهاء أهل السنة ، لأن صيغة الطلاق بعد ان وقعت من الزوج لا تكون الضميمة موجبة لبطلانها ، بل تكون مؤكدة لها أو لغوا من القول. وقد وردت الروايات عن أهل البيت بذلك ، ففي صحيحة جميل بن دراج عن أحدهما انه سئل عن الذي طلق في حال الطهر في مجلس ثلاثا قال (ع) هي واحدة ، وفي صحيح الحلبي وعمر بن حنظلة عن الصادق ، (ع) قال : الطلاق ثلاثا في غير عدة ، فان كانت على طهر فليس بشيء.

وقال أهل السنة ، عدا نفر من إعلامهم المتأخرين انه يقع ثلاثا وتحصل به البينونة إلزاما للزوج بما ألزم به نفسه ، وهذا القول لا يتفق مع النص القرآني ، الصريح في ان الطلاق الذي يملك الزوج فيه الرجوع مرتان ، وإلزام الزوج بما ألزم به نفسه على حد زعمهم اجتهاد في مقابل النص ، وقوله سبحانه في آخر الآية : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ). كالصريح في ان الطلاق الذي يمنع عن الرجوع هو الثالث الواقع بعد المرتين اللتين كان الزوج فيهما مخيرا بين الإمساك والتسريح بإحسان ، أي تركها وشأنها مع الإحسان إليها حتى في هذه المرحلة الأخيرة من مراحل حياتهما الزوجية.

وقد ذكر القرآن أمورا كانت قبل الإسلام تبين بها الزوجة. ولما جاء الإسلام أقر شيئا منها كما أقر بعض ما كانوا عليه في معاملاتهم وعقودهم ، فكانت المرأة تبين من زوجها عند ما يحلف على ترك وطئها ، وفي التشريع الإسلامي إذا حلف ان لا يطأها أبدا أو أكثر من أربعة أشهر ، بالله سبحانه صح منه هذا اليمين ، فإذا صبرت المرأة على ترك

٩٥

الوطء كان ذلك من حقها ، وان لم تصبر رفعت أمرها إلى الحاكم ، وهو بدوره ينذره بعد أربعة أشهر من تاريخ الإيلاء أما بالرجوع عن إيلائه وأما بطلاقها ، فإذا طلقها بائنا وعقد عليها زال حكم الإيلاء ، اما إذا كان رجعيا ورجع في العدة كان حكم الإيلاء باقيا ، فلها المطالبة بحقها من الوطء بعد أربعة أشهر من تاريخ الإيلاء والرجوع الى الحاكم ، كما كان لها أولا قبل الطلاق. وأما الحالف فله ان يرجع قبل الأربعة أشهر وبعدها ولا يترتب على مخالفة اليمين عقوبة غير الكفارة ـ بخلاف سائر ايمانه فان في مخالفتها معصية لله سبحانه ، فتكون فائدة الإيلاء انعقاد اليمين من حيث تترتب الكفارة عليه لا غير ، اما في غير هذا اليمين فلا بد فيه ، بالإضافة الى ان مخالفته معصية لله من رجحان مورده.

وقد ورد حكم هذا اليمين في الآية من قوله سبحانه : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(١).

ومما يوجب تحريم المرأة على الزوج تحريما مؤبدا قبل الإسلام ، ما لو قال لها أنت عليّ كظهر أمي مثلا. وقد أقر الإسلام تحريمها في مثل ذلك مبدئيا ولكنه راعى في ذلك الشروط التي اعتبرها في الطلاق ، وأباح للمظاهر الرجوع إليها إذا كفر بالعتق أو الصيام أو الإطعام ، ولا يحل له وطأها إلا بعد التكفير. فان لم يكفر كان الخيار للزوجة بين ان تصبر وبين ان ترفع أمرها إلى الحاكم ، وهو بدوره يترك للزوج الخيار بين التكفير والرجوع وبين الطلاق ، فإن بقي مصرا أنذره الحاكم ثلاثة أشهر ، فإذا لم يختر أحد الأمرين حبسه وضيق عليه ولا يجبره على

__________________

(١) سورة البقرة الآيتان ٢٢٦ و ٢٢٧.

٩٦

أحدهما بخصوصه ، وان اختار الطلاق وأوقعه بائنا ، كان لها ان تتزوج من غيره ويبطل اثر الظهار. وان أوقعه رجعيا ورجع إليها فليس له وطؤها في العدة الا ان يكفر عن ظهاره. وقد أشار الى بعض أحكام الظهار في الآية من قوله سبحانه : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ. وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١).

وقد فرض الإسلام على الزوجة فيما لو مات زوجها ان تعتد لموته بأربعة أشهر وعشرة أيام وقد نصت على ذلك الآية الكريمة : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً)(٢).

وكان عليها قبل نزول هذه الآية ان تقيم في بيتها عاما كاملا حدادا عليه وعلى الزوج ان يوصي لها من ماله ما يكفيها في تلك السنة ، قال سبحانه : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) والظاهر من هذه الآية ان الإنفاق عليها من ماله بقدر ما يكفيها الى تمام الحول هو كل ما تستحقه في مال الزوج ، ولكن هذا الحكم منسوخ بآية المواريث التي فرضت لها الربع أو الثمن ، ومع ذلك

__________________

(١) سورة المجادلة الآيات ٢ ، ٣ ، ٤.

(٢) سورة البقرة من الآية ٢٣٤.

٩٧

فلا منافاة بين الاثنين لأن تلك فيما يجب عليها من العدة والثانية فيما يجب لها من حق في مال الزوج.

ولا فرق في وجوب الاعتداد على المتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشرة أيام بين الحامل وغيرها ولا بين الحرة والمملوكة عند الإمامية ، وعند غيرهم ، ان عدة الأمة شهران وخمسة أيام وعدة الحامل تنتهي بوضع الحمل ، للآية الكريمة.

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

وظاهرها يؤيد ما عليه الشيعة الإمامية.

وقد تعرض الكتاب لحكم الأولاد ومقدار حقهم في الرضاع وحق مرضعتهم في مدة الرضاع وما يجب لهم في تلك المدة من النفقة لهم ولمرضعتهم قال سبحانه : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ).

فقد تضمنت هذه الآية حق الولد في الرضاع وحق المرضعة على أبيه من الإنفاق حسب طاقته ومقدرته ، كما تدل على أن الحولين الكاملين غير مفروضين عليها وانما هما مقدار حقه الكامل في الرضاع. وتدل الآية على أن الأم لا تضار بولدها ، وليس للأب ان ينتزعه منها

٩٨

إذا بذلت نفسها لارضاعه أو رضيت بما يرضى به غيرها ، كما تعرضت لحال الإباء إذا أرادوا مراضع لأبنائهم غير أمهاتهم إذا لم يكن ذلك بقصد الإضرار بالأمهات ، بأن كان ذلك لامتناع أمهاتهم عن ارضاعهم.

لقد وضع القرآن الكريم المبادئ العامة للشريعة الإسلامية ، وقلما نجد في الشريعة شيئا لم يتعرض له القرآن ، ومن ذلك الوصية فقد أمر بها واكدتها السنة الكريمة. وقد جاء فيها عن الرسول (ص) من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية ، وقال سبحانه : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) والمقصود بالخير هو ما تركه الميت من المال. أما مقدار المال الذي يجب فيه الإيصاء فلم تتعرض له الآية ، لذلك اختلفت به أقوال المفسرين ، فعن جماعة هو ما يصدق عليه هذا اللفظ قل أو كثر ، وعن آخرين ان أقله خمسمائة درهم. وعن علي (ع) أنه دخل على مولى له في مرضه وله ستمائة أو تسعمائة درهم فقال : الا أوصى؟ فقال علي (ع) لا! ان الله سبحانه قال : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وليس لك كثير مال (١). والآية الكريمة صريحة في صحتها للوالدين والأقربين ، فلا مجال للقول بأنها لا تصح لوارث عملا بالحديث المروي «لا وصية لوارث» ولازم هذا القول ان الآية قد نسخت بالحديث ولا يصلح الدليل الظني لنسخ الآية التي هي نص في المورد ، ومهما يكن الحال فقد شرع القرآن الوصية وأكدت رجحانها السنة وليس في الآية ولا في السنة الصحيحة ما يدل على اختصاصها بفريق دون فريق.

__________________

(١) مجمع البيان.

٩٩

موقف الإسلام من الحجاب :

ومن الأمور التي فرضها الإسلام الحجاب على المرأة ، والآيات الكريمة التي نصت على وجوبه ، بعضها موجه لنساء المؤمنين والبعض الآخر لنساء النبي. وقد أراد الإسلام بهذا التشريع أن يحفظ للمرأة حياءها وشرفها من أن تعبث به العيون الشرهة والنفوس المريضة وصيانتها من التبذل والاختلاط المشين الذي يعرضها لأن تكون مهدورة الكرامة فريسة لأصحاب الشهوات والأهواء وان لا تحوم حولها الشبهات وتمتد إليها السنة المنافقين والمرجفين.

وقد بلغ من حرصه على ان لا تمسها ألسنة أهل السوء ان جعل النيل من كرامتها والتحدي لشرفها من الموبقات وجعله بمنزلة الشرك بالله وقتل النفس بغير حق ، وسجل القرآن على الذين يرمون المحصنات اللعنة في الدنيا والآخرة وفرض على الحاكم جلدهم ثمانين جلدة تأديبا لهم كي لا يعودوا لمثل ذلك ولم يقبل لهم شهادة أبدا ، قال سبحانه : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ، فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وقال في آية اخرى : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١).

فمن الآيات التي وجهها القرآن لنساء النبي ، قوله سبحانه : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى)(٢) وهي صريحة

__________________

(١) سورة النور ، الآية ٢٣.

(٢) سورة الأحزاب ، من الآية ٣٣.

١٠٠