تاريخ الفقه الجعفري

هاشم معروف الحسني

تاريخ الفقه الجعفري

المؤلف:

هاشم معروف الحسني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٩

نصت على حرمة ما لم يذكر اسم الله عليه ، قال سبحانه : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)(١) والنهي ظاهر في التحريم كما هو مقرر في محله من كتب الأصول ، وقد جاء في سبب نزولها أن قوما من مجوسي فارس كتبوا إلى مشركي قريش وكانوا من أوليائهم قبل الإسلام ، إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون ما أمر الله. ثم يزعمون ان ما ذبحوه حلالا وما قتله الله حراما ، فوقع ذلك في نفوسهم فنزلت الآية وسمى الله الطرفين بالشياطين كما أشار الى ما وقع في نفوسهم بقوله (لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) ، فنهى الله سبحانه عنه وأكد على المسلمين أن لا يسمعوا لقولهم ، ووصف عملهم بالفسق ، كما وصف اطاعة هؤلاء الذين يوسوسون لغيرهم ليتمردوا على أوامر القرآن ونواهيه بالشرك.

نظام الصدقات قبل الإسلام :

ويظهر من بعض الآيات الكريمة ان العرب كان لهم نظام خاص في الصدقات فرضوه في أموالهم من الزرع والأنعام ، ولما جاء الإسلام بتشريعه الخالد غيّر ما كانوا عليه من نظام الصدقات وفرض عليهم ضريبة الزكاة ، التي تؤمن للدولة ما تحتاجه من الأموال وللفقراء ما يسد حاجتهم من ضرورات الحياة ، وكان نظام العرب قبل الإسلام في الصدقات ، أنهم يجعلون في أموالهم جزءا لله وجزءا للأصنام فما كان للأصنام أنفقوه في سبيلها وما كان لله إذا احتاجته أوثانهم أنفقوه عليها ، وإذا زكا ما كان للأصنام ، ولم يزك ما جعلوه لله ، لم يصرفوا شيئا من

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ١٢١.

٦١

نصيب الأصنام في سبيل الله ، لأن الله غني عنه ، وقد أنكرت عليهم الآية الكريمة هذا النظام الذي يرتكز على الشرك بالله ، قال سبحانه : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ)(١) والمراد من شركائهم الأوثان التي جعلوا لها نصيباً في أموالهم ، وفي آية أخرى أشار الى الجهة التي كانوا يصرفون فيها نصيب الأوثان ، (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٢) فقد أشارت الآية الكريمة إلى الأنعام والزرع الذي جعلوه لآلهتهم وأوثانهم وهو لا يحل عندهم إلا لمن قام بخدمة الأوثان من الرجال ، كما أشارت إلى الأنعام التي حرموا على أنفسهم ركوبها وهي الأصناف الأربعة التي ذكرت في الآية الكريمة :

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) والمراد من البحيرة هي الناقة التي أولدت خمس مرات وكان آخر ما أولدته ذكرا. وهذه يمتنعون عن ركوبها ونحرها ولا تطرد عن ماء ولا كلأ ولا يركبها أحد حتى ولو أعياه السير ، والمراد من السائبة هي التي ينذر صاحبها إذا رجع من سفر أو بريء من علة أن يخلي سبيلها ، وهذه تكون «كالبحيرة» لا تركب ولا تمنع من الماء والمرعى ، والوصيلة هي الشاة التي تلد ذكرا وأنثى في بطن واحد ، فإذا ولدت ذكرا واحدا ذبحوه لآلهتهم وإذا ولدت أنثى فهي

__________________

(١) سورة الأنعام آية ١٣٦.

(٢) سورة الأنعام آية ١٣٨.

٦٢

لهم ، والحام هو الذكر من الإبل فإذا انجبت الإبل عشرا من صلب الفحل ، ففي مثل ذلك يصبح كالسائبة لا يركب ولا يمنع عن شيء ، وقيل في تفسير هذه الأربعة غير ذلك (١). وقد وصف القرآن عقيدتهم هذه بأنها افتراء عليه لأنهم نسبوا ذلك الى الله سبحانه ، وأبطل الإسلام ما كان عليه بعضهم من تخصيص ما تلده الأنعام حيا بالذكور وما تلده ميتا بالذكور والإناث ، وتوعدهم على ذلك. وقد حكي عنهم ذلك في الآية ١٣٨ من سورة الأنعام : (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) وقد احتج القرآن على هؤلاء ووصفهم بالافتراء والكذب والتضليل ، قال سبحانه : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(٢).

وعلى كل حال فقد أحل الكتاب الكريم كل شيء عدا ما نصت على حرمته بعض الآيات التي تقدم ذكرها ، وقد توعد المشركين وأنذرهم بالخزي والعذاب الأليم ، ان لم يرجعوا عن النظام الذي اتخذوه في الصدقات التي جعلوها لأصنامهم وأوثانهم ، وأحل لهم ما حرموه على أنفسهم ووبخهم على تخصيص ذكورهم بما تلده الأنعام حيا ، فالقرآن أحل للإنسان الطيب وحرم عليه الخبيث ، ومعلوم أن المراد

__________________

(١) مجمع البيان جلد ٢ صفحة ٢٥٢.

(٢) سورة الأنعام الآيتان ١٤٣ و ١٤٤.

٦٣

بالطيب هو الذي لم يمنع عنه القرآن أو السنة الكريمة ، والخبيث هو الذي نهى عنه الكتاب والحديث ، وقد تعرضت السنة لكل ما يحل وما يحرم من أنواع الحيوان ، مرة بالتنصيص على بعض أنواع الحيوان ، وأخرى بوضع مبادئ عامة لتشخيص ما يحل وما يحرم من أنواع الحيوان.

الدفاع عن النفس والدين بنظر القرآن :

وقد تناول التشريع الإسلامي ناحية الدفاع عن النفس والدين ، وتعرضت جملة من الآيات الكريمة لهذه الناحية ، وقد بقي الرسول (ص) نحوا من ثلاث عشرة سنة بمكة بعد بعثته يدعو إلى الإسلام بالبراهين والآيات البينات ، ويتحمل من مشركي قومه صنوفا وألوانا من الأذى والعذاب والتنكيل بأصحابه الذين آمنوا برسالته ، حتى اضطر أن يأمرهم بالهجرة إلى الحبشة خوفا عليهم من قريش ، ولم يكن يملك من القوة ما يدفع عدوانهم عن نفسه وأصحابه ، وبقي في نفر قليل يقاسي في سبيل دعوته المصاعب والآلام ، ولما أيقنت قريش أن تلك الأساليب التي كانت تستعملها ضد دعوته المباركة لم تغنها شيئا وان الإسلام يزداد اتساعا والإيمان بمبادئه رسوخا وثباتا ، بعد أن لمسوا ذلك ، لم يبق لديهم من الوسائل ما يجديهم نفعا سوى التخلص منه ، فاتفقوا على قتله. ولكن ارادة الله التي قضت بأن يرسل محمدا الى البشر هاديا ونذيرا بالهدي ودين الحق ، وان يظهره على الدين كله ولو كره المشركون حالت بينهم وبين ما يريدون ، فلم تشأ إرادته سبحانه أن يصبح رسوله فريسة لأولئك الطغاة ، فأوحى اليه ان يخرج من مكة ليتم رسالته ، فخرج منها بعد أن استجاب له ابن عمه المقرب الى نفسه وقلبه علي (ع) ووطن نفسه ان ينام على الفراش الذي قررت قريش أن تغتال محمدا

٦٤

عليه ، فنام ليلته غير هياب من سيوف قريش المسلولة ورماحها المشرعة مستهينا بنفسه ليسلم سيده القائد الحكيم. لقد أقدم علي (ع) على الموت وهو يراه بعينه ولم يتجاوز العشرين عاما من عمره ، يستقبل حياة حافلة بالأماني والأحلام ، ولكنه في تلك اللحظة يستقبل الموت الذي هو أعز أمانيه وأحلامه السعيدة في تلك الساعات التي يراها من أحرج ساعات الحياة. إنه لا يتصور إلا سلامة محمد (ص) ونجاته من أعدائه ليؤدي رسالة ربه كاملة غير منقوصة وينشر بين مئات الملايين من البشر تلك المبادئ التي تأمر بالعدل والإحسان والمساواة ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي. وهذه كل آماله واحلامه يوم كان طفلا وشابا وكهلا ويوم حاربه ابن هند والزبير وطلحة ويوم تجمعت قوى البغي ضده ويوم قال : والله لو أعطيت الأقانيم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت. لقد هيأ الله سبحانه عليا (ع) ليفدي محمدا ودعوته بنفسه ، وهيأ من بين العرب أهل يثرب ، فرحبوا بمحمد ودعوته وآمنوا بها وبايعوه على أن يمنعوا عنه كيد قريش وغدرها ويبذلوا في سبيله الغالي والرخيص ، وفي المدينة ، نزلت الآيات التي أباحت له القتال دفاعا عن النفس وعن تلك الدعوة المباركة وأول الآيات التي شرعت الجهاد قوله سبحانه : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)(١) وقد استمر المشركون على إيذاء المسلمين والتنكيل بهم ، فكانوا يأتون الرسول ما بين مضروب ومشجوج ولكنه كان يأمرهم بالصبر لأنه لم يؤمر بقتالهم ، ولما هاجر نزلت عليه هذه الآية ، وهي كالصريحة في أنه سبحانه انما أذن لهم بقتال المشركين لدفع الظلم والعدوان ، لأنهم أخرجوهم من ديارهم بلا

__________________

(١) سورة الحج الآية ٣٩.

٦٥

سبب إلا قولهم ربنا الله وحده (١) ، ثم تتابع نزول الآيات التي أباحت للرسول القتال دفاعا عن الدين والنفس ، قال سبحانه : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(٢).

وقد روى عبد الله بن عباس في سبب نزول هذه الآية ان النبي لما خرج مع أصحابه يريدون العمرة وكانوا ألفا وأربعمائة ، فلما نزلوا الحديبية ، صدهم المشركون عن البيت الحرام فنحروا الهدي في الحديبية ، ثم صالحهم المشركون على أن يرجع النبي من عامه ويعود في العام المقبل ، ويخلوا له مكة ثلاثة أيام ليطوف بالبيت ويفعل ما يريد فرجع النبي. ولما كان العام المقبل تجهز النبي (ص) لعمرة القضاء وخاف أن لا تفي له قريش بما عاهدت عليه وكان يكره قتالهم في الحرم وفي الشهر الحرام إذا أرادوا قتاله ، فنزلت هذه الآية وفيها أمر الله سبحانه بقتال المشركين إذا أرادوا قتاله ، وان كان في الأشهر الحرم (٣) ، وقيل كما عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن هذه أول آية نزلت في القتال وبعد نزولها كان الرسول يقاتل من أراد قتاله ويكف عمن كف عنه. وجاء في آية أخرى (٤) : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ. وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) وفي هذه الآية أمر بقتال المشركين أينما وجدهم المسلمون ولكنها نهت عن قتالهم عند المسجد الحرام إلا إذا أراد المشركون قتالهم

__________________

(١) مجمع البيان جلد ٤ صفحة ٨٧.

(٢) سورة البقرة الآية ١٩٠.

(٣) مجمع البيان وغيره من كتب التفسير.

(٤) سورة البقرة الآية ١٩١.

٦٦

عنده ، كما نصت على ذلك الآية السابقة ، فتكون الآيات المتقدمة والفقرة الأخيرة من هذه الآية مخصصة للعموم المستفاد من صدرها الظاهر في وجوب قتالهم أينما كانوا وفي أي زمان كان ، وقد دلت الآية الكريمة على أن الفتنة التي تحصل من شركهم وبقائهم على الكفر أعظم من قتالهم في الأشهر الحرم ، لأن الشرك بالله فتنة لا يمكن التغاضي عنها. وقد تطغى مفاسده على جميع القيم الإنسانية التي نادى بها الإسلام واكدها القرآن.

وقد جاء في الآية ١٩٣ : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ). أي حتى لا يكون الشرك ويظهر الإسلام على الأديان كلها وتضعف دولة الكافرين والمشركين كما عن ابن عباس ومجاهد وجعفر بن محمد الصادق (ع).

أما إذا دخل المشركون في الإسلام ، وآمنوا بالله ورسوله ، فقتالهم عدوان لا يقره الإسلام بحال ابدا ، ومن مجموع ما ورد في الكتاب الكريم من الآيات حول الجهاد والقتال ، نستطيع أن نقول إن الإسلام لم يتخذ القتال والجهاد كمبدأ عام لا بد منه على المسلمين ، بل كل ما يمكن القول به هو أنه أباحه أو فرضه على الرسول لرد عدوان المشركين (، حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) ، ان المبدأ العام الذي اتخذه الرسول أساسا لدعوته هي الحكمة والموعظة الحسنة قال سبحانه : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ولم يخرج عن هذا المبدأ إلا لظروف خاصة فرضت عليه لرد كيدهم وعدوانهم وحتى لا يطغى الشرك على التوحيد ، والكفر على الإسلام

٦٧

المرأة قبل الإسلام

لقد تناول القرآن الكريم فيما تناول مما تحتاجه البشرية في جميع أدوارها نظام الأسرة ، وعالج مشاكل المرأة لأنها نصف هذا المجتمع الكادح المكافح في سبيل اعداد البنات والأبناء ليعد من هؤلاء وأولئك آباء وأمهات صالحات ، ولما كان للمرأة تاريخها وجهادها وصبرها على بناء الأسرة وإعداد الجيل الصاعد ، أولاها الإسلام من عنايته ورعايته ، وساوى بينها وبين الرجل في كثير من الأحيان ، بعد أن مرت عليها اجيال وأحقاب انحرفت فيها أمم وأجيال عن واجبها وحقها واتخذت منها سلعة تباع وتشرى وازورت عن إنصافها وانصرفت عن الأخذ بيدها والاعتراف بما لها من حق ووجود ، والتاريخ مليء بما نالها من ضيق وما لحقها على يد الأمم قبل الإسلام وبعده من ضيم ، فكانت تنتقل زوجة الأب بين وراثه كما تنتقل بقية متروكاته ، وقد يشترك جماعة في زوجة واحدة وبعض العرب (١) كانوا يشتركون في كل شيء حتى في الزوجة ، والأخوة جميعا يشتركون في زوجة واحدة وتكون الرئاسة للأخ الأكبر. وإذا أراد الاتصال بها وضع عصاه على باب خيمتها لتكون

__________________

(١) تاريخ العرب قبل الإسلام.

٦٨

علامة للآخرين فلا يدخلون عليهما (١) ، وكان للزواج عندهم أنواع كثيرة منها انه قد يتفق على امرأة واحدة ما دون العشرة فيشتركون بها فإذا حملت وأولدت ذكرا دعتهم إليها بعد أيام من ولادتها وألحقته بمن تشاء منهم ، وليس لأحد منهم رأي في ذلك ، بل الرأي لها وحدها ، وإذا وضعت بنتا أخفت أمرها عنهم. ومنها نكاح الاستبضاع وهو أن يسلم الرجل زوجته رجلا آخر من أهل الشجاعة والكرم والصحة ، ثم يعتزلها الى أن يبين حملها من ذلك الرجل (٢) ، وربما كان يطلب منها أن تفتش عن أهل الشجاعة والكرم لتلد له منهم ولدا يجمع تلك الصفات (٣) الى كثير من تلك الأخبار التي رواها الأخباريون عن العرب في جاهليتهم. وقد نص القرآن الكريم على مقدار امتهانهم للمرأة واحتقارهم لها لا سيما إذا ولدت أنثى قال سبحانه : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) وفي آية أخرى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) وهذه الآية تؤكد لنا ما روته الأحاديث عن قسوة العرب على المرأة ومدى احتقارهم لها ، وقد ساءهم نزول الوحي حينما جاء ينصف المرأة ويجعل لها نصيبا من المال كغيرها من الوراث ، فعاتب بعض العرب الرسول في ذلك محتجا عليه بأنها لا تركب الفرس ولا تقابل العدو ، وكان يحق لابن الزوج أن يتزوج بزوجة أبيه إذا لم تكن اما له ، فحرم عليهم الإسلام هذا الزواج ونهت عنه الآية الكريمة من سورة النساء قال سبحانه : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ).

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) نفس المصدر.

(٣) بلوغ الارب في أحوال العرب.

٦٩

عناية الإسلام بالمرأة (١) :

ولا أريد أن أبحث في كتابي هذا عن المرأة وتاريخها قبل الإسلام وبعده ، ولكن الذي أريده أن الإسلام منذ فجره الأول قد ساوى بينها وبين الرجل في كثير من الحقوق والواجبات وحفظ لها حقها وكرامتها وصان لها عفافها وشرفها كي لا تكون فريسة للرجل لا ينظر إليها إلا من الناحية الجنسية والشهوات الجامحة ، أردت أن أشير الى هذه الناحية بصورة مجملة في خلال حديثي عن آيات التشريع التي تناولت نظام البيت والأسرة ، وكنت قد كتبت فصولا من كتاب اسميته (حقوق المرأة في الإسلام) قارنت فيها بين نظر الإسلام إلى المرأة ونظر غيره من الشعوب التي تصف نفسها بالتمدن ، وأثبت فيها أن الإسلام وحده هو الذي أخذ بيدها الى مصاف الرجال في جميع الميادين وفضلها على الرجل أحيانا ، بينما هي بنظر الغربيين والبعيدين عن الإسلام في العصور المتأخرة عن عصر التشريع الإسلامي أسوأ حالا منها بنظر العرب قبل الإسلام ، ففي العصور المتأخرة قد استبد بها الرجل ، وبالغ في احتقارها ، وكان يتصرف بها كما يتصرف في بقية أملاكه ، وذكر عالم فرنسي كبير أن مجمعا علميا في فرنسا بحث أن المرأة لها نفس كالرجل أم لا ، ولم يستطع أن يتوصل في ابحاثه الى نتيجة إيجابية إلا بالنسبة إلى السيدة مريم والدة المسيح (٢). قال الأستاذ قاسم أمين (٣) : «وترتب على دخول المرأة في العائلة حرمانها من استقلالها ، لذلك كان

__________________

(١) لقد اعتمدنا في هذا الفصل وما بعده من النواحي المتعلقة بالإرث والطلاق وتعدد الزوجات على كتاب المرأة في الإسلام للأستاذ احمد كمال عون.

(٢) المرأة في الإسلام للأستاذ أحمد كمال عون.

(٣) في كتابه المرأة الجديدة.

٧٠

رئيس العائلة عند اليونان والرومان والجرمانيين والهنود والعرب مالكا لزوجته كما يملك الرقيق بطريق البيع والشراء ، وكان عقد الزواج عليها يحصل على صورة بيع وشراء. يشتري الرجل زوجته من أبيها فينتقل اليه جميع ما كان للأب من حق عليها ، ويجوز له أن يتصرف فيها بالبيع لشخص آخر» وأكثر الذين كتبوا عن المرأة قبل الإسلام وبعده تعرضوا لما كانت تلاقيه من القسوة والامتهان حتى عند الغربيين الذين ينادون اليوم بمساواتها للرجل ومنحها حريتها المطلقة مهما نتج عن ذلك من فساد في المجتمع وتنكر للقيم والأخلاق.

وسواء صحت الحوادث التي نقلها الكتاب عن قسوة الأمم عليها أو لم تصح فمما لا شك فيه أن المرأة المسلمة قد استقبلت حياة جديدة حافلة بالعزة والكرامة ، لم تعهد منذ تاريخها حياة أفضل من حياتها في ظل الإسلام ، ولم تر من العناية والتقدير من أي امة سبقت الإسلام أو تأخرت عنه ما لاقته من الإسلام ، فقد وضعها في مكانها وأعطاها كل ما لها وكلفها بما عليها وخاطبها كما خاطب الرجل ورعاها كما رعاه.

وعلى كل حال فقضية الرجل والمرأة قضية خالدة ما خلدت الإنسانية ، باقية ما بقي الدهر.

فالحياة لم تقم بالرجل وحده ولا بالمرأة وحدها ، بل بهما معا تنتظم الحياة لأنهما من نفس واحدة (خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) فأصبح الزوجان أزواجا والنفسان عالما ضخما يموج بالأنفس ويزخر بالحياة. يسير ما قدر له السير ، ويمضي إلى غايته وأهدافه يعين بعضه بعضا ويكمل كل من شطريه الشطر الآخر ، وتلك سنة الله في جميع الحيوانات بل في جميع الأحياء على السواء.

قال سبحانه : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)

٧١

فلم يكن اثر المرأة في هذه الحياة بأقل من أثر الرجل ، ولم تكن فيها عاملا ثانويا ولا مجرد شهوة وموضع متعة ، وإنما هي عامل له من الأثر ما للرجال ، وإذا عرف كل منهما مكانه وقام برعاية واجبه ، استقام أمر الأسرة ومن وراء ذلك يستقيم أمر الجماعة ، وان الباحث في تعاليم الإسلام وسيرة رسوله الكريم يرى مقدار عنايته بها ورعايته لحقها ومساواتها للرجال في كل شيء حتى في المسجد والجمعة والجماعة ومجالس الوعظ والإرشاد ، ولم يكن يبخل عليها بنصائحه وإرشاداته إذا طلبت منه ذلك ، فوق ما يتاح لها أن تشهده مع الرجال ، وكثيرا ما كان يردد على مسامع أصحابه ما لها من آثار مجيدة في تكوين الأسرة وسعادة البيت.

أما من الناحية السياسية والاجتماعية ، فالتاريخ غني بالشواهد على ما سجلته من صفحات ناصعة وبطولات وتضحيات في سبيل الإسلام. ومنذ اللحظة الأولى كانت المرأة عاملا إيجابيا له أثره البالغ في تاريخ الإسلام ، فأول قلب غزاة هذا الدين المجيد بعد قلب علي (ع) هو قلب خديجة زوجة النبي (ص) وان الموقف الذي وقفته تلك السيدة الجليلة سيدة المسلمات الأولى من زوجها صاحب الدعوة ، والإسلام لم ينبلج نوره ولم يستبن بعد ضياؤه والعرب كلهم يتواثبون للنقمة منه ، هذا الموقف لم يقفه أحد من المسلمين ولا من بني عمه الأقربين إلا إذا استثنينا عليا (ع) غير هذه السيدة الجليلة لقد دخل عليها وقلبه يرتجف حينما أتاه الوحي لأول مرة في أول آية أنزلت عليه من القرآن المجيد : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) ، ولما قص عليها هذا النبإ ومدى خشيته من ذلك ، قالت له ببشاشتها التي اعتادت أن تقابله بها : «والله ، لا يحزنك الله أبدا ، إنك تصل الرحم وتحمل الكل وتقرئ

٧٢

الضيف وتعين عند النوائب ، أبشر يا ابن عم واثبت». ولما خافت ان لا تكون في حديثها معه قد بلغت ما تريد ، من راحة زوجها العظيم واطمئنانه بالمصير الذي سيكون أخذت بيده تريد ابن عمها ورقة بن نوفل وكان جليلا وكبيرا مجربا للأمور ، وما أن وصلت اليه حتى بدأت تقص عليه ما جرى لزوجها ولما انتهت من حديثها معه ، بشره بالنبوة التي كان ينتظرها العارفون والقارئون لكتب الله المنزلة على أنبيائه. وتمنى ورقة بن نوفل أن تمتد حياته لينال نصيبه من الإسلام ويقوم بنصرة محمد (ص) ومضت خديجة التي كانت أول من آمن برسالة محمد (ص) بعد علي (ع) تبذل مالها وجاهها في سبيل هذا الدين ، وترعى له بيته وولده. حتى قال فيها الرسول بعد أن قوي أمر الإسلام كلمته الخالدة «قام الإسلام بسيف علي ومال خديجة» وكانت قدوة لغيرها من المسلمات في الجهاد والدفاع عن هذا الدين اللواتي تحملن في سبيله الأذى وصبرن على العذاب ، حتى أمرهن الرسول بالهجرة إلى الحبشة وكن ثماني عشرة امرأة. ولما فرض الله على الرسول ان يجاهد الكفار والمنافقين كانت المرأة بجانب الرجل المسلم تدافع وتناضل. وحدث لبعضهن ان تركت زوجها وولدها وانضمت الى صفوف المسلمين ، فلم تغب المرأة عن مشهد من مشاهد الرسول مع أعدائه فقامت بأوفر نصيب في خدمة الدين تضمد الجروح وتهيئ الطعام وتحمل السيف والرمح وتقف في مصاف الأبطال والشجعان وقد سجل التاريخ لأم عمارة موقفها البارز بين إبطال المشركين حتى قال فيها الرسول ، ما التفت يمينا وشمالا إلا ورأيت أم عمارة. وقال مخاطبا ولدها ، أمك خير من مقام فلان وفلان ، ولقد خرجت المرأة المسلمة إلى الجهاد بعد وفاة الرسول لقتال المرتدين. وكانت نهاية مسيلمة زعيم المرتدين على يد أم عمارة التي أقسمت أن لا ترجع الا بعد قتل الدعي مسيلمة الكذاب. وهكذا

٧٣

بقيت المرأة المسلمة تناضل وتجاهد عن دين الله في صفوف الأبطال والشجعان حتى قضى الإسلام على جمع مناوئيه ، وانتظم عقده البلاد العربية واندفع نوره يسري بين الأحياء ويغمر الإرجاء ويدحر الظلمات وتأذن الله لنور الحق بالغلب ، وجاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دينه أفواجا.

أتراه بعد ذلك ينقصها شيئا من حقها ، أو يكرم الرجل أو يحابيه على حسابها.

ان كل ما تمسك به الحاقدون على مبادئ الإسلام وعلى الأديان أن الإسلام جعل للرجل سلطانا على المرأة ، وأباح له أن يجمع بين أربع وضاعف نصيبه من الميراث ولم يقبل شهادتها في بعض الأمور ، وفي البعض الذي تقبل فيه لا بد من امرأتين لتعادل شهادة الرجل ، إلى غير ذلك من الفوارق التي اتخذ منها أعداء الدين الذين جرفتهم إباحية الغرب ، وسيلة للتشنيع والدس على الإسلام. ونحن لا ننكر على هؤلاء ان التشريع قد اشتمل على هذه المواد ، ولكن لم يصنع ذلك انتقاصا لها وامتهانا لحقها وتكريما للرجل وإيثارا له عليها ، حاشا الإسلام السمح الذي حفظ للجماعة والفرد حقهما ، والغى جميع الامتيازات والفوارق بين الطبقات ولم ير لأي إنسان ميزة على أخيه الإنسان إلا بالعمل الطيب ، وأكد ذلك في كثير من آيات الكتاب الكريم ، فقال : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) ـ (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) بل (تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) ـ (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) ـ (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى).

٧٤

وقال سبحانه : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً).

فقد ساوت الآية بينهما في العمل والجزاء ورسمت لكل منهما طريق السعادة والفوز برضوان الله ونعمه. وبعد ذلك لا بد وأن يكون التفاوت بين الجنسين في بعض مواد التشريع مستمدا من الأعباء والتبعات الملقاة على عاتقها وقد يكون لمصلحة أدركها المشرع ، وعلى أساسها كان هذا التعاون بين الرجل والمرأة. وليس بوسعنا الآن ، ونحن نتحدث عن آيات التشريع في القرآن الكريم بصورة إجمالية ، تمهيدا لموضوع الكتاب ، ان نستقصي كل ما يمكن ان يكون أساسا لهذه الأحكام ، التي اتخذها المهوشون وسيلة لحملاتهم ضد الإسلام ، لأن ذلك يؤدي بنا الى الخروج عن موضوع الكتاب.

ولعلنا سننشر في أثناء حديثنا عن آيات التشريع ، التي تعرضت لميراث المرأة وقبول شهادتها وتعدد الزوجات ، الى بعض الجهات التي يمكن ان تكون الأساس في هذا التفاوت بين الجنسين لهذه المواد.

نظام الزواج في الإسلام :

لقد شرع القرآن الزواج واعتنى بنظام الأسرة وصيانتها ، وحث الرجل ان يختار زوجة صالحة تكون قرة عين له ، ليسكن إليها ويجد في جوارها راحته ومن قلبها مودة له ورحمة ، لأنها أقرب شيء إلى نفسه وألصق ما يكون بقلبه وحسه. قال سبحانه مشيرا الى ما يجب أن يحدثه الزواج بين الزوجين (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) فهي شريكته في

٧٥

حياته وصاحبة بيته وأم أولاده ، تدبر أمرهم وتقوم بتربيتهم ورعايتهم ، ليتفرغ هو لواجبه ساعيا في طلب رزقهم متحملا في سبيل ذلك أشق الأعباء والأهوال ، حتى إذا أوى إلى بيته سكنت اليه نفسه ، ووجد فيه القلب الحاني عليه ولقي من هدوئه وطمأنينته ما ينسيه آلامه ومتاعب أيامه ومشاق سعيه في طلب القوت له ولعياله. ولقد أوصى الإسلام بالمرأة وعظم حقها على الرجل ، أوصاه بحسن عشرتها والتلطف في رعايتها ، وبلغ من عناية الإسلام بها أن قال الرسول (ص) خير الرجال خيرهم لنسائهم. وجاء في الحديث أن النفقة على الزوجة والعيال من أفضل موارد المعروف وأحبها الى الله سبحانه ، وفي حديث آخر ما أكرم النساء إلا كريم ولا اهانهن إلا لئيم.

وكما عظم الإسلام حق المرأة على الرجل وأوصى بإكرامها ، جعل للرجل حقا عليها وفرض عليها ان تطيعه وقدمه على أقرب المقربين إليها. وقد جاء في الحديث : «لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد ، لأمرت المرأة ان تسجد لزوجها» وفي حديث آخر : «ان رضا الزوج من رضا الله».

على هذا النحو من العلاقة الكريمة يفرض الإسلام صلة كل من الزوجين بالآخر وحق كل منهما على صاحبه. وقد نص القرآن الكريم على ذلك بقوله : (لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ). وكلمة (المعروف) تدلنا أن حق كل من الزوجين على الآخر ليس مبادلة تجارية جافة ، تقوم على التدقيق والحساب العسير ، حتى إذا ما فرط أحدهما في شيء منها ، كان للآخر أن يقتص بمقدار ما فرط له الطرف الآخر ، وانما هي ، هي المعروف ، والرفق واليسر من الجانبين.

لقد سمى القرآن الكريم عقدة النكاح ميثاقا غليظا كما في الآية التي

٧٦

قررت استحقاق الزوجة لجميع مهرها بالغا ما بلغ (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً)(١) وقد أكد علقة الزوجية ، وارتباط كل من الزوجين بالآخر ارتباطا وثيقا في عدد من آياته البينات ، قال سبحانه : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)(٢) وفي آية أخرى (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ)(٣) والمراد باللباس هو سكن النفس ومحل راحتها واطمئنانها ، ويؤيد ذلك الآية الكريمة :

(جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) أي جعل لكم الليل محلا تسكنون فيه وترتاحون به ، كما جعل لكم النهار لتطلبوا فيه معاشكم وتدبروا فيه شؤونكم. ومن لطفه سبحانه بعباده أن وضع في قلبيهما الرحمة والمودة وجعلهما جزءين من نفس واحدة ، لا يقوم المجتمع إلا بهما ولا يصلح الا بصلاحهما ، وإذا فسد أحدهما كان الفساد في المجتمع بأسره ، فأحدهما بمنزلة القلب النابض والثاني بمنزلة العقل الذي يقود الى الخير والصلاح. ولا يمكن ان يعيش أحد بدون قلب ينبض ، كما لا يصلح انسان بدون عقل يقوده إلى الهدي والرشاد. لهذا ينظر القرآن الكريم حين يقول : (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) ، وحين يقول : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) ، وحين يجعل لكل منهما مثل الذي للآخر عليه ، (لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

ولقد رغب القرآن في الزواج وحث عليه وأكدت السنة الكريمة

__________________

(١) سورة النساء الآية ٢١.

(٢) سورة الروم الآية ٢١.

(٣) سورة البقرة الآية ١٨٧.

٧٧

رجحانه في الآية : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)(١).

وقال (ص) : من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه فليتق الله في الثلث الآخر ، وقال : الزواج سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تؤكد رجحانه.

ولم يكن للعرب حد في عدد الزوجات فقد يتزوج أحدهم العشرة أو يزيد على ذلك ، ولم يكن ذلك مستهجنا عندهم. وكان لكل من نوفل بن معاوية وعمرة الأسدي وغيلان الثقفي أكثر من أربع نسوة حينما دخلوا في الإسلام ، فأمرهم الرسول ان يمسكوا أربعا ويتركوا الباقين. ولما جاء الإسلام وضع حدا وسطا ، فأباح التعدد مبدئيا وفرض فيه من القيود ما قد يؤدي الى تعسر القيام بها أحيانا ، وعند ما يكون تعدد الزوجات موجبا لترك ما هو مفروض على المكلف يكون محرما بنظر الإسلام ، ولا يمنع ذلك كونه مباحا بنظر الإسلام إباحة مجردة عن الرجحان أو الإلزام إذا لم يؤد الى الجور والظلم.

ولقد جاء تشريع هذا الحكم في القرآن الكريم في معرض البر باليتامى ورعايتهم وحفظ أموالهم. قال سبحانه : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) ، (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) لقد وضعت هذه حدا وسطا بين الواحدة وما يزيد عن الأربع النحو كان متعارفا قبل الإسلام فإباحته مبدئيا بالشروط التي تحفظ للمرأة حقها وكرامتها.

__________________

(١) سورة النور الآية ٣٢.

٧٨

تعدد الزوجات :

ولقد حاول بعض الكتاب انتصارا للحاقدين على الإسلام أن يتأول هذه الآية بما يتفق مع نزعاتهم وأهوائهم ، وانتهى به تفكيره إلى حرمة التعدد بنص القرآن ، محتجا لذلك بأن الآية التي أباحت التعدد ليس فيها ما يدل على الإباحة المطلقة ، وإنما الذي جاء فيها هو الإباحة على أن يعدل بين زوجاته. والآية التي وردت بعدها نصت على أن العدل غير مستطاع لأحد من الناس. قال سبحانه : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ ، وَلَوْ حَرَصْتُمْ). ونتيجة ذلك عدم جوز التعدد لانتفاء شرطه. ولكن هؤلاء تضليلا منهم أو جهلا بما أريد من العدل الذي نصت الآية على أنه غير مستطاع لأحد من الناس هؤلاء قد أيدوا أعداء الإسلام بحجة انهم يغارون على حقوق المرأة وحريتها. وقد فاتهم أن العدل الذي اعتبره القرآن شرطا اساسيا لإباحة التعدد ليس هو المساواة من جميع الجهات ، حتى في ميل القلب واتجاه النفس ، وانما هو المساواة في الإنفاق والرعاية وغير ذلك مما تحتاجه الزوجة. وأما ميل القلب واتجاه النفس فليسا مما يملكهما الإنسان ، فلا يتعلق بهما التكليف لأنه لا يتعلق إلا بما هو مقدور ومستطاع ، والعدل الذي نفته الآية الثانية فهو بمعناه العام الشامل لهذه الحالة ، وهو بهذا المعنى ليس شرطا لإباحة التعدد. وإنما الذي وقع شرطا فيها هو المساواة في الإنفاق والرعاية وغيرهما مما تحتاج إليه الزوجة مع زوجها ، وكونه بجميع مراحله غير مستطاع لا ينافي أن يكون مستطاعا ببعض مراتبه.

والذي يدل على ان المراد من العدل الذي لا بد منه هو بعض مراتبه قوله سبحانه في آخر الآية (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ). وكان النبي (ص) بصفته أحد المكلفين يسوي بين نسائه في القسم

٧٩

والإنفاق والرعاية وجميع ما يحتجن اليه ، ويقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك ، ويعني بذلك ميل القلب.

والآية الكريمة وإن وردت في معرض الرفق باليتامى والإحسان إليهم والرعاية لهم ، إلا أن ذلك لا يمنع من إفادتها لهذا التشريع الخالد الذي هو ضرورة من ضرورات المجتمع. وقد جاء في تفسير هذه الآية أن اليتيمة تكون في بيت المسلم ، فإذا بلغت مبالغ النساء قد يعجبه مالها وجمالها ، فيطمع في زواجها بدون ان يدفع لها من الصداق ما يدفعه غيره. ففي مثل ذلك نصت الآية بأن على أولياء اليتامى ان يدفعوا إليهم أموالهم ، بعد ان يبلغوا مبالغ النساء. ونهت عن الزواج بهن بدون ان يدفعوا لهن الصداق الذي يدفعه الغير ، وفي نفس الوقت رخصت نكاح غيرهن من النساء مثنى وثلاث ورباع ، فيكون المعنى المقصود منها هو انه ما دام يباح لكم ان تتزوجوا بمن شئتم فاتركوا اليتامى إذا لم تقسطوا إليهن في الصداق ، وإن أعجبكم جمالهن واغرتكم أموالهن.

فلم يشأ الإسلام في هذا التشريع الخالد ، الذي كان عماده الأول القرآن الكريم ان يخلق للمرأة مشكلة اجتماعية أو يجحف بحقها كما يدعي الغربيون والمتخلقون بأخلاقهم ، لا سيما وقد نظم علاقة كل من الزوجين بالآخر ، وجعل كلا منهما مكملا للآخر وسكنا له ، وجعل بينهما مودة ورحمة ، ودعي إلى الطهر والعفاف وغض الأبصار وحفظ الفروج ، وصيانة الأغراض والأنساب ، وأوجب على المسلمين ان يكونوا محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ، وراعى في جميع الحالات ما تمليه المصلحة ، وما يحفظ الأخلاق من التدهور والانحطاط. وحينما أباح التعدد شرط على الزوج ان لا يجوز وان يكون عادلا بين

٨٠