تاريخ الفقه الجعفري

هاشم معروف الحسني

تاريخ الفقه الجعفري

المؤلف:

هاشم معروف الحسني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٩

تفريقهما ، فالآية ظاهرة في ان مجموع الوقت يبتدئ بالدلوك وينتهي بالغسق بأي معنى أريد من هاتين الكلمتين يصلح لأداء الفرائض الأربع ، ولا نظر فيها الى تفريقهما بالمعنى الذي يراه أصحاب المذاهب الأربعة أو الجمع الذي يدعيه الإمامية ، وعلى كل حال فالذي ذهب إليه الشيعة تبعا لأئمتهم (ع) ليس ببعيد عن ظاهر الآية لا سيما بعد ان وردت الأحاديث الصحيحة المؤيدة لإرادته منها.

أنواع الصلاة المفروضة :

من جملة أفراد الصلوات التي شرعها الإسلام صلاة الجمعة ، وقد اهتم بها القرآن الكريم وأكد على المسلمين المحافظة عليها. بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١) ، وورد في السنة الكثير من الأحاديث الصحيحة التي تؤكد هذه الفريضة وترغب فيها ، وكان المسلمون يحرصون على أدائها في أيام الرسول وبعده ، ولا زالت الى اليوم تؤدي في كثير من الأقطار الإسلامية.

ولا خلاف بين المسلمين في رجحانها غير أن الشيعة الإمامية يختلفون عن بقية إخوانهم المسلمين في كيفية رجحانها ، فلا يرون وجوبها التعييني إلا في عهد الحاكم العادل ، أما إذا كان الحاكم جائرا فهم بين من يرى وجوبها تخييرا بينها وبين صلاة الظهر ، وبين من يرى استحبابها ، قال الشهيد الثاني ان وجوب الجمعة حال غيبة الإمام (ع) ظاهر عند أكثر العلماء. ولو لا دعوى الإجماع على عدم الوجوب التعييني لكان القول به في غاية القوة. فلا أقل من التخيير بينها وبين

__________________

(١) سورة الجمعة آية ٩.

٤١

الظهر مع رجحان الجمعة (١). وهناك من يرى عدم مشروعيتها بعد غيبة الإمام (ع).

والآية الكريمة التي نصت على تشريعها حيث إنها لم تتعرض لشروطها وكيفيتها كانت محلا لاختلاف علماء المسلمين ، في وجوبها بقول مطلق أو ان وجوبها مشروط بوجود الامام العادل أو نائبه الخاص ، كما حصل الاختلاف بينهم في شروطها ، وقد أشرنا الى ما يراه الإمامية من حيث وجوبها أو استحبابها.

أما عند غيرهم فالأحناف يتفقون مع الإمامية في أن وجود السلطان أو نائبه شرط في وجوبها غير ان الإمامية يعتبرون عدالة السلطان أو نائبه ، وإلا كان وجوده كعدمه ، والأحناف يكتفون بوجوده ولو لم يكن عادلا.

وأما الشافعية والمالكية والحنابلة ، فلا يرون وجود السلطان شرطا في وجوبها (٢) ، ومع أنهم اتفقوا على أنه يشترط فيها ما يشترط في غيرها من الصلاة المفروضة كالطهارة والستر والقبلة والوقت والمكان وأنها تجب على الرجال دون النساء وعلى المبصر دون الأعمى وأنها لا تصح إلا جماعة وتكفي عن صلاة الظهر ، فمع اتفاقهم على هذه النواحي ، فقد اختلفوا في العدد الذي تنعقد به الجماعة في صلاة الجمعة فالإمامية بين قائل لا بد من خمسة غير الامام ، وقائل لا بد من سبعة غيره ، بينما يرى المالكية ان أقل ما تنعقد به اثنا عشر رجلا غير الإمام ، ويرى

__________________

(١) في كتاب اللمعة باب الصلاة نقل عنه ذلك العلامة الشيخ محمد جواد مغنية في كتاب الفقه على المذاهب الخمسة صفحة ١٥٠.

(٢) الفقه على المذاهب الخمسة للعلامة مغنية صفحة ١٥٠.

٤٢

الشافعية والحنابلة أنها لا تنعقد بأقل من أربعين معهم الامام.

وقال الأحناف بجواز السفر لمن وجبت عليه بعد الزوال بعد استكمال شروطها ، بينما ترى بقية المذاهب ومن بينهم الشيعة عدم جواز السفر في مثل هذا الفرض (١).

وجميع المذاهب متفقون على أن الخطبتين شرط في انعقاد الجمعة قبل الصلاة وبعد دخول الوقت ، غير انهم اختلفوا في وجوب القيام حال الخطبتين ، فيرى الشيعة ومعهم الشافعية والمالكية وجوبه كما يرى الأحناف والحنابلة عدمه (٢).

وقال الإمامية ان الواجب في الخطبتين حمد الله والثناء عليه بما يليق بشأنه والصلاة على النبي وآله ، ووعظ الحاضرين في مجلس الخطبة ، وقراءة شيء من القرآن الكريم بزيادة الاستغفار والدعاء للمؤمنين والمؤمنات في الخطبة الثانية ، وأن يفصل الخطيب بين الخطبتين بجلسة قصيرة.

واختلفت المذاهب الأربعة في كيفية الخطبتين ، ومنشأ الاختلاف في جميع ما ذكرناه ، هو إجمال الآية التي نصت على تشريعها من هذه الجهات ، فقال كل منهم برأيه وبما صح عنده من سنة الرسول ، ولم يرجعوا الى أهل البيت الذين أودعهم الرسول (ص) علمه وعرفهم أسرار الكتاب وغوامضه ، وجعلهم أئمة يهدون إلى الحق وبه يعملون.

ولقد فرض الإسلام الصلاة على المسلمين في جميع حالاتهم ، في السفر والحضر والأمن والخوف والصحة والمرض والضعف والقوة ،

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) نفس المصدر.

٤٣

وراعى في تشريعها جميع هذه الحالات ، توسعة منه على عباده وتسهيلا عليهم في امتثال أوامره ونواهيه.

ففي حالة السفر فرض عليهم قصر الصلاة ، والإتيان بها ركعتين بدلا من أربع ركعات ، قال سبحانه : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) فقد نفى في هذه الآية عن الإنسان أي جناح ان قصر من صلاته إذا ضرب في الأرض ، ولكن الآية الكريمة ليس فيها ما يشير إلى كمية المسافة وكيفيتها ، وفي مثل ذلك يكون المرجع في حكمها ، وتحديد موضوعها وبيان ما أجملته الآية الكريمة هو الرسول (ص) وقد بين جميع ما هو متروك اليه قولا وعملا ، ورواه عنه الأمناء الحريصون على سنته وسيرته ، ونتج من إجمال الآية واختلاف الرواة فيما نقلوه عن الرسول (ص) ، واختلافهم في فهم الحديث ، نتج من جميع ذلك الخلاف الواقع بين علماء المسلمين في مقدار المسافة وكيفيتها وان هذا النوع من التشريع هو ترخيص للمسافر بقصر الصلاة أو إلزام له بذلك ، فالشيعة الإمامية يرون ان قصر الصلاة حكم إلزامي ويوافقهم في ذلك جماعة من أهل السنة الأحناف اتباع أبي حنيفة ، ولكن الإمامية يرون أن المسافة التي يجب فيها القصر هي ثمانية فراسخ ذهابا ، أو ملفقة من الذهاب والإياب ، بينما يرى الأحناف أنها أربعة وعشرون فرسخا ذهابا ولا يشرع القصر في أقل من ذلك. والقائلون بأن تشريع القصر في السفر ليس إلزاميا كما يرى ذلك ائمة المذاهب الثلاثة ، ما عدا الأحناف. يرون أن المسافة التي يباح فيها للمسافر ان يصلي الظهر والعصر والعشاء ركعتين بدلا من أربع ركعات لكل فريضة ، هي ستة عشر فرسخا ذهابا ولا يضر النقصان اليسير عن ذلك. هذه هي الخطوط الرئيسية للخلاف بين الشيعة الإمامية وغيرهم

٤٤

في الصلاة التي شرعها القرآن على المسافر أما غير ذلك من الفروع التي ظهر فيها الخلاف وتباينت فيها آراؤهم ، فلا يعدو أن يكون كالخلاف الواقع في المسألة الواحدة بين علماء المذهب الواحد (١) ، ولذا نرى الكثير منها واقعا بين ائمة المذاهب الأربعة أنفسهم ، ونجد منهم من يوافق الإمامية في بعض الفروع.

ومهما يكن الحال فالاكتفاء بركعتين في السفر بدلا عن أربع ركعات في الفرائض الثلاثة ، متفق عليه في جميع المذاهب الإسلامية. ولكن الآية الكريمة ليست صريحة في حكم السفر الذي أشرنا إلى موضوعه وحكمه وبعض نواحي الخلاف فيه ، لأنها تنص على نفي الجناح عند الخوف من العدو فهي أقرب الى الدلالة على حكم صلاة الخوف من صلاة المسافر. وقد قيل في تفسيرها ، كما عن مجاهد وجابر ان المراد منها قصر الصلاة من ركعتين إلى ركعة واحدة عند الخوف وروي عن جماعة من الصحابة والتابعين ، منهم جابر بن عبد الله وحذيفة اليماني وزيد بن ثابت وابن عباس وغيرهم ، القول بأن الله سبحانه عنى بالقصر في الآية قصر صلاة الخوف عن صلاة السفر. لا عن صلاة الإقامة ، لأن صلاة السفر عندهم ركعتان تماما ، وليست مقصورة من صلاة التمام ، بمعنى أنها شرعت ابتداء ركعتين ، كما شرعت صلاة الحاضر أربع ركعات ، وهذا المعنى يساعد عليه ظاهر الآية ، فيكون المراد بقصرها هو الإتيان بها ركعة عند الخوف بدلا من ركعتين ، ولكن المروي عند جماعة تبعا لأهل البيت (ع) هو قصرها في السفر من أربع ركعات الى ركعتين بدلالة الآية على ذلك وتعليق ذلك على الخوف كما

__________________

(١) ومن أراد ان يتوسع في معرفة آراء الفريقين فعليه أن يرجع الى الفقه على المذاهب الخمسة. للعلامة مغنية.

٤٥

جاء في الآية الكريمة ، ينزل على الأعم الأغلب لأن الخوف كان يغلب على العرب في أسفارهم.

ويؤيد ذلك أن الامام الباقر (ع) قد استدل بالآية الكريمة على وجوب قصر الصلاة في السفر ، كما جاء في رواية زرارة ومحمد بن مسلم ، قالا ـ قلنا ـ لأبي جعفر (ع) ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي وكم هي ، قال ان الله يقول (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) فصار القصر واجبا في السفر كوجوب التمام في الحضر ، ثم قالا له انه قال فليس عليكم جناح ، ولم يقل افعل فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام؟ أجابهما (ع) بما حاصله ان نفي الجناح في المقام كنفيه في آية الصفا والمروة حيث جاء فيها (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ومن هذه الآية استفدنا وجوب الطواف ، وفي كل منهما كان بلسان نفي الجناح.

وكما نص القرآن على حكم الصلاة في حال السفر ، نص على حكمها وكيفيتها في حالتي الحرب والخوف قال سبحانه : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ).

فقد نصت الآية على وجوب الصلاة حتى في مثل هذه الحالة ، وحددت لهم الطريقة التي تحفظ لهم سلامتهم من عدوهم بالتوجيه التالي ، فقسم يبقى مع العدو وجها لوجه وآخر يحافظ على الامام والمسلمين وهم في صلاتهم ، وكلما صلت طائفة وقفت موقف من لم تصلّ وجاءت تلك للصلاة وهكذا الى أن يصلي الجيش بأجمعه ، وأما

٤٦

مقدارها فليس في آيات الكتاب ما يشير إليه ، وقد بين الرسول (ص) كميتها وكيفيتها كما هو الحال في جميع مواد التشريع التي تعرض القرآن لأصل تشريعها وترك بيان ماهيتها وشرائط وجوبها الى الرسول. وقد وقع الخلاف في كيفيتها وكميتها عند أصحاب المذاهب واتباعهم كما وقع لغيرها من المسائل الفقهية ومن المعلوم أن الخلاف الواقع بينهم في كثير من المسائل لم يكن في الفترة التي تلت وفاة الرسول بتلك الكثرة التي حصلت في عصر التابعين وأتباعهم ، فلقد ظهر بعد عهد الصحابة حينما انتقل المسلمون من طور التقليد والتبعية لآراء الصحابة إلى طور الاستقلال والتنقيب عن الحديث ورواته. وعند ما أصبح الفقيه لا يرى نفسه ملزما بكل ما أتى به هؤلاء وبكل ما نقلوه من الأحاديث ، فقد صح عند التابعين من حديث الرواة ، ما فسد عند الصحابة ، وقد يرى المتأخر عدم جواز العمل بما عمل فيه المتقدم ، لذلك كان الخلاف وبدأت الآراء تتشعب في بعض مسائل الفقه.

ولقد أشار في مجمع البيان في تفسير هذه الآية (١) الى أن الشيعة الإمامية يرون أن صلاة الخوف ركعتان تصلي الطائفة الأولى ركعة مع الامام وتقوم إلى الثانية فتصليها والامام قائم ، وبعد الفراغ منها ، تذهب هذه الطائفة إلى مواقف أصحابهم المرابطين في وجه العدو ، وتجيء تلك تستفتح الصلاة فيصلي بها الإمام الركعة الثانية ويطيل تشهده حتى يقوموا فيصلوا بقية صلاتهم ويدركوا الامام قبل التسليم فيسلموا معه ، فتكون الطائفة الأولى قد أدركت معه افتتاح

__________________

(١) المجلد الثاني طبع صيدا ص ١٠٢ سورة المائدة.

٤٧

الصلاة والثانية ختامها ونسب إلى الشافعي هذا الرأي أيضا وعند من يرى أن صلاة الخوف مقصورة من صلاة المسافر وأنها ركعة واحدة كما هو مذهب جابر ومجاهد وغيره من أصحاب هذا الرأي ، هؤلاء يرون أن الطائفة الأولى تصلي مع الإمام ركعة وتسلم عليها ، ثم تأتي الطائفة الثانية بعد أن تقف الأولى في موقفها ويصلي بهم الإمام ركعة أيضا ، وقيل ان الإمام يصلي بكل طائفة ركعتين فيصلي بهم جميعا مرتين.

والصلاة بجميع أنواعها المفروضة على المكلفين قد فرض لها الإسلام شروطا ليست من ماهيتها ، وإنما هي أعمال فرضت على المكلفين قبل الدخول بها ، بنحو لا تصح بدونها ولا يحصل الغرض الذي من اجله كان التشريع إلا إذا كانت الصلاة مستكملة لأجزائها وشرائطها ، وقد نص القرآن الكريم على تشريعها قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ، وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا). فقد تضمنت هذه الآية غسل الوجه وغسل اليدين الى المرافق ، ومسح الرأس ، والرجلين ، وهذا من غير فرق بين قرائتي النصب والجر ، أما على الجر فتكون نصا في وجوب مسحهما ، وعلى النصب بالعطف على محل رؤوسكم ومحلها النصب على أن تكون مفعولا لامسحوا ، وعطفها على وجوهكم كما يرى ذلك من يوجب غسل الأرجل ، يؤدي الى الفصل بين العاطف والمعطوف عليه بجملة أجنبية هي (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) والقاعدة ، أن لا يفصل بينهما بمفرد فضلا عن جملة ولم يعهد عن العرب مثل ذلك ، كما وان عطفها على الوجوه حتى على تقدير قراء الجر على أن يكون جرها للمجاورة ، كما قولهم : حجر خب خرب ، لم يعهد له نظير في كلام العرب وكل ما ورد من هذا النوع على قلته فيما إذا كان المجرور بالمجاورة نعتا

٤٨

كما في المثال المتقدم ، أو كان تأكيدا كما في قول القائل :

يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلهم

ان ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب

يجر كلهم لمجاورتها للزوجات ، والقياس فيها النصب لأنها تأكيد للمفعول المنصوب ـ وأما في عطف الغسل فوجود العاطف يمنع المجاورة (١). وقد عرف القول بوجوب المسح عن الشيعة الإمامية تبعا لأئمتهم (ع) وجماعة من أعيان الصحابة ، كما عرف القول بالغسل عن غيرهم استنادا الى قراءة النصب بعطفها على وجوهكم في الآية بالإضافة الى بعض الأحاديث الحاكية لوضوء النبي (ص) الذي اشتمل على غسلهما بعد مسح الرأس وقد اتخذ بعضهم من الاستحسان مؤيدا لوجوب الغسل ، لأنه أشد مناسبة للقدمين كما وأن المسح انسب للرأس من الغسل لأن القدمين يعرض عليهما من الأوساخ ما لا يعرض على الرأس ، والمصالح المعقولة يمكن أن تكون عللا للعبادات وملحوظة عند المشرع كغيرها ، وهذا النوع من الاستحسان لا يعدو أن يكون من نوع الحدس الذي لا يجوز أن يتخذ دليلا في أحكام الله.

وأما الغسل من الجنابة فقد نصت عليه الآية من سورة المائدة ، وقد جاء فيها : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) ، وأما كيفية الطهارة من الجنابة فلم تتعرض لبيانها الآية كما هو الحال في أكثر مواد الفقه الإسلامي التي شرعها القرآن ، وقد بين أن للطهارة التي لا تصح الصلاة بدونها فردين طوليين لا يكون الفرد الثاني مصداقا للطهارة ، إلا إذا تعذر عليه الأول ، أو كان الإتيان به يؤدي الى الإضرار بالنفس أو المال بحسب حالته المادية ، وقد نصت الآية ، من سورة المائدة على بعض الأسباب

__________________

(١) مسائل فقهية للعلامة شرف الدين ص ٧٣.

٤٩

الشرعية التي تسوغ للمكلف أن يلجأ إلى الفرد الثاني الذي اكتفى به المشرع عن الطهارة بالماء ، قال سبحانه : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ، أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) وقد بين الرسول قولا وعملا كيفية المسح بالتراب وحدود الممسوح والآلة التي بها يكون المسح ، وقد وقع الخلاف في جميع ذلك بين علماء المسلمين ، فهم بين من يرى أن الحاضر الصحيح الذي لم يجد ماء ، لا يسوغ له التيمم وليس عليه صلاة ، لأن الآية أوجبت التيمم مع فقد الماء على خصوص المريض والمسافر (١) بينما ترى بقية المذاهب وجوب التيمم لفاقد الماء مريضا كان أو سليما مسافرا أو حاضرا ، ويرى بعضهم ان لمس المرأة الأجنبية (٢) ولو باليد من نواقض الوضوء ، تمسكا بإطلاق اللمس الذي ورد في الآية الكريمة ، بينما يرى الإمامية ان المراد به الجماع وبالصعيد ما يعم التراب والرمل والصخر ، وبالوجه بعضه ، وبالأيدي الكفان ، وللمذاهب الأربعة آراء مختلفة في المقام يتفق بعضها مع رأي الشيعة الإمامية في المراد من الصعيد ، ويختلف البعض الآخر معهم في الوجه والأيدي ، اختلافا شكليا أكثر منه جوهريا.

ولقد فرض الإسلام على المسلمين أن يتوجهوا في صلاتهم أينما كانوا إلى جهة الكعبة خاشعين مطمئنين ، تعظيما لشأنها وتأكيدا لقد استها وكانت قبلة المسلمين قبل هجرة النبي (ص) بيت المقدس ، فقال اليهود يخالفنا في ديننا ويصلي إلى قبلتنا ، وقيل انهم قالوا ما دري محمد وأصحابه قبلتهم حتى هديناهم إليها فشق ذلك على الرسول والمسلمين

__________________

(١) الأحناف الفقه على المذاهب الخمسة للعلامة مغنية ص ٩٢.

(٢) الشافعية.

٥٠

وكان يتمنى لو يأمرهم الله سبحانه بالتوجه الى غير هذه الجهة ، فأنزل الله عليه : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) فنسخت هذه الآية ما كان مفروضا عليهم من التوجه إلى بيت المقدس ، وهو من باب نسخ السنة بالقرآن ، لأنه لم يرد في آيات الكتاب ما يشير إلى القبلة الأولى ، وقوله سبحانه : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) يختص بالنوافل في حالة السفر كما روي ذلك في تفسيرها عن أبي جعفر الباقر وأبي عبد الله الصادق (١) (ع).

الآيات التي شرعت الصيام :

ولقد فرض الله على المسلمين الصيام ، ونص عليه القرآن ، قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ)(٢). فالآية الكريمة كما نصت على تشريعه دلت على أنه ليس من مختصات الإسلام ، بل كتب على من كان قبلهم من الأمم. وفي بعض الروايات ان الصيام كانت تتعبد به قريش في جاهليتها ، روى البخاري عن عائشة زوجة النبي (ص) ان قريشا كانت تصوم يوم العاشر من المحرم في جاهليتها وأمر رسول الله بصيامه بدء دعوته. ولما فرض الله صيام شهر رمضان رخص النبي في إفطاره فقال : (من شاء صامه ومن شاء أفطره) وقد عنى الله

__________________

(١) مجمع البيان المجلد الأول ص ٢٢٨ طبع صيدا.

(٢) سورة البقرة.

٥١

سبحانه بالأيام المعدودات شهر رمضان كما دل على ذلك قوله : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) وقيل ان المراد بها ثلاثة أيام من كل شهر ، والقائلون بذلك متفقون على أن هذا الحكم منسوخ بصوم شهر رمضان ، وقد أجملت الآية المراد من الصيام والزمان الذي يجب فيه الصوم ولم تبين ما يحل للصائم وما يحرم عليه حالة الصوم ، وقد بين الرسول حقيقة الصوم وزمانه وما يحل للصائم ويحرم ، وتعرضت الآية الكريمة لحكم المريض والمسافر فرخصت لهما في الإفطار على ان يعيدا صيام ما أفطراه ، وظاهرها وجوب الإفطار عند عروض احدى الحالتين على المكلف لأنه سبحانه قد أوجب القضاء لمجرد السفر والمرض ، وقد قال بذلك جماعة من الصحابة وغيرهم منهم عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وابن عمر وعروة بن الزبير ، وعليه الشيعة الإمامية تبعا لأئمتهم (ع) ، وقال عبد الله بن عمر ، حينما سئل عن الصوم في السفر : أرأيت لو تصدقت على رجل صدقة فردها عليك ، ألا تغضب فإنها صدقة من الله تصدق بها عليكم ، وقال عبد الرحمن بن عوف «الصائم في السفر كالمفطر في الحضر» وعن أبي عبد الله الصادق : «لو أن رجلا مات صائما في السفر ما صليت عليه». والمقصود بقوله سبحانه (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أن من كان مستطيعا للصوم إذا لم يصم عليه أن يكفر عن كل يوم بإطعام مسكين ، وهو بالخيار بين الصوم والفدية والصوم خير له وأفضل عند الله من الإطعام ، وعلى هذا المعنى يكون هذا الحكم منسوخا بما جاء في الآية الثانية من سورة البقرة : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وفي رواية علي بن إبراهيم عن الصادق (ع) ان المقصود بذلك أن من مرض في شهر رمضان ثم صحح فلم يقض ما فاته حتى دخل رمضان ، فعليه القضاء وإطعام مسكين لأنه

٥٢

أخر القضاء بدون أن يكون له عذر في ذلك (١) ، وفي المذاهب الأربعة أن المسافر بعد أن تتوفر لديه شروط السفر ، هو بالخيار بين الإفطار والصيام ، استنادا الى بعض الأحاديث التي تنص على ان المسلمين كانوا في أسفارهم مع الرسول بين صائم ومفطر ، مضافا إلى أن الإفطار كان تسهيلا على المسافرين وتوسعة عليهم ، ويتحقق ذلك بمجرد الترخيص في الإفطار.

وقد تعرضت الآية الكريمة لبعض ما يحل للصائم وما يحرم عليه ، قال سبحانه : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ).

لقد اشتملت هذه الآية على جملة من أحكام الصوم وحددت مبدأه ومنتهاه ويستفاد من صدر الآية أن استعمال النساء كان محرما في شهر رمضان ، ولما به من المشقة على الكثير من المكلفين اباحه القرآن في ليالي رمضان توسعة وتسهيلا منه على عباده.

تشريع الحج في القرآن :

ولقد فرض الله سبحانه على المسلمين حج بيته الحرام في أيام خصصها الله سبحانه لذلك ، يجتمع المسلمون فيها من كل فج عميق ، تلبية لنداء الله لتأدية هذه الفريضة ويتداولون فيها مصالحهم مجتمعين

__________________

(١) مجمع البيان المجلد الأول طبع صيدا ص ٧٤.

٥٣

متعاونين ، ومن كتب السير وآيات القرآن الكريم يظهر ان لجميع الأمم أوقات تجتمع فيها للعبادة ، وتقديم الطاعة لآلهتهم ، وقد جاء في سورة الحج (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) ومما جاء في تفسيرها ، جعلنا متعبدا وموضع نسك يقصده الناس (١) ، وكان البيت الحرام لنسك العرب قبل الإسلام ، وهو الذي بناه إسماعيل وأبوه إبراهيم عليهما‌السلام ، كما نصت على ذلك الآية (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ)(٢) وفي آية أخرى (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(٣)(، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) ومنذ أن بني البيت والعرب يجتمعون فيه في أيام معدودات من كل عام يعبدون الأصنام وينحرون الأنعام ، وقد غيروا الكثير مما كان عليه إبراهيم (ع) ، فعبدوا الأصنام والأوثان ، ووضعوها داخل البيت وفي جواره وعلى ظهره ، وزعموا أنها تقربهم من الله سبحانه ونحروا لها الأنعام وأدخلوا فيه من البدع والعادات ما لم يكن في عهد إبراهيم وإسماعيل. ولما جاء الإسلام حطم أصنامهم وغير الكثير مما كانوا عليه وفرض عليهم الحج الى البيت في أيام من كل عام (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ، قال سبحانه : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وفرض عليهم الخضوع والخشوع والآداب ، بقوله (الْحَجُّ أَشْهُرٌ

__________________

(١) مجمع البيان طبع صيد المجلد الرابع ص ٤٨.

(٢) سورة الحج.

(٣) نفس السورة.

٥٤

مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) وقد تعرض القرآن الكريم لكثير من أفعاله وآدابه ، قال سبحانه : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ، وقال : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) وجاء ذكره مع بيان بعض شروطه وأفعاله في البقرة والمائدة وسورة الحج ، وقد فرضه الله سبحانه على المسلمين في السنة السادسة من هجرة النبي إلى المدينة ، وفيها توجه النبي (ص) بمن معه من المسلمين إلى مكة معتمرا فمنعه المشركون من دخولها فاعتمر في السنة السابعة ، وفي التاسعة حج الناس وفي العاشرة حج (ع) وكانت حجة الوداع ، فبين فيها مناسك الحج وشروطه ، وأمرهم أن يأخذوا عنه مناسكهم ، فكان للمسلمين في تشريع هذه الفريضة منافع وفوائد تختص مكة بقسم منها والقسم الآخر يعود نفعه على جميع المسلمين ، فأهل مكة يجنون منه المكاسب والمنافع عن طريق تلك الجموع الغفيرة التي تحتشد في أيام الحج من جميع الأقطار في ذلك الوادي الذي لا ينبت لأهله شيئا من أسباب العيش ومقومات الحياة.

وقد سأل إبراهيم (ع) ربه ، ان يجعل قلوب الخلق تحن الى ذلك الوادي لتأنس ذريته التي أسكنها فيه بمن يفد عليهم ، كما سأله ان يرزقهم من الثمرات قال سبحانه : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) فاستجاب الله دعاءه ، وجعل تلك البقعة المباركة مهوى أفئدة الملايين من المسلمين ، ورمزا للقداسة يبذلون في سبيل الوصول إليها أموالهم ويتحملون المشاق فالكبير والصغير والسلطان والرعية والفقير والغني

٥٥

والأسود والأبيض كلهم سواء في ذلك الوادي المقدس ، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال ولا ضغينة ولا خداع ولا شيء سوى الوداعة والطهارة والتجرد عن كل ما ينحدر بنفس الإنسان إلى درك الرذيلة والفحشاء ، يحشر الناس في كل عام مرة على اختلاف طبقاتهم وألوانهم (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) ، ملبين نداء الله راجعين اليه ، كما يحشرون بين يديه يوم الجزاء للحساب نادمين على جحودهم راجين عفو الله ورضوانه.

٥٦

ضريبة الزكاة في القرآن

وقد فرض الإسلام ضريبة على الأموال سماها بالزكاة وأكد تشريعها القرآن في عدد من آياته ، وقرنها بالصلاة في بعضها فقال : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) وقد حذرهم من تركها تارة ورغبهم بأدائها أخرى. ففي الآيتين ٥ و ٦ من سورة فصلت (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) وفي الآية ٢٦١ من سورة البقرة : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) ولم يبين القرآن الكريم الأنواع التي تجب فيها الزكاة من الحيوان والحبوب ، كما لم يبين مقدارها فيما تجب فيه. وقد بين الرسول للمسلمين جميع ذلك بصورة مفصلة وفي رواية البخاري أن النبي (ص) أمر بعد هجرته إلى المدينة بكتابة أحكام الزكاة وما تجب فيه ومقادير ذلك فكتبت في صحيفتين وبقيتا محفوظتين في بيت أبي بكر الصديق وأبي بكر بن عمر بن حزم (١).

وقد حدد القرآن الجهات التي تصرف فيها هذه الضريبة مع أنها هي

__________________

(١) تاريخ الفقه الإسلامي صفحة ١٧٣ الدكتور محمد يوسف موسى.

٥٧

المورد الوحيد للدولة الإسلامية في عهد الرسول ، إذا استثنينا ما كانت تدره عليهم بعض الغزوات من الغنائم أحيانا ، قال سبحانه مشيرا إلى الموارد التي تصرف فيها : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ)(١) ، وهي من أعظم ما فرضه الإسلام فائدة على المجتمع ، لأنها كما تهيئ للدولة الأموال اللازمة للدفاع والعمران والثقافة ، وتقوم بجميع شؤونها ، كذلك تخفف عن الفقراء والمحرومين ما يقاسونه من الآلام التي تبعث في نفوسهم الحقد على المنعمين والمترفين. فنظام الزكاة في الإسلام كغيره من النظم التي شرعها الإسلام ووضع فيها الخطوط الرئيسية للتوازن بين الطبقات كي لا تجوز إحداها على الأخرى ، فقد فرض على الأغنياء أن يقدموا من أموالهم قسما إلى الدولة ، وهي بدورها تتولى صرفه في المصالح العامة وعلى الفقراء. في الوقت نفسه تتلاشى تلك الثورة النفسية التي يحدثها الفقر على الأغنياء المنعمين.

وقد تناول التشريع الإسلامي كل ما يحتاجه الإنسان ، حتى ما يحل له أكله ، وما يحرم عليه من أنواع الحيوان وغيره ، وجاء في القرآن والحديث وصف الحلال بالطيب والحرام بالخبيث. قال سبحانه : (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) وقد بين القرآن الكريم ما يحرم وما يحل كما في الآية ١٤٤ من سورة الأنعام : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) والآية

__________________

(١) سورة التوبة آية ٦٠.

٥٨

٣ من سورة المائدة : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ)(١)(وَالْمَوْقُوذَةُ)(٢)(وَالْمُتَرَدِّيَةُ)(٣)(وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)(٤) والآية الأولى حصرت المحرمات في ثلاثة أنواع والثانية أضافت الى ذلك أنواعا أخرى ، ولا منافاة في ذلك ، لأن الآية التي وردت في المائدة نزلت على الرسول في المدينة والأولى في مكة قبل هجرته ، والتشريع الإسلامي كان على مراحل متعددة من اليوم الأول للبعثة حتى الساعات الأخيرة من حياة الرسول (ص) ، ويمكن ان تكون الأصناف التي وردت في آية المائدة لبيان مصاديق الميتة التي ورد ذكرها في آية الأنعام ، فتكون الثانية مفصلة لما أجملته الآية.

وفي الآية ٤ من سورة المائدة (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) وهي صريحة في أن الله سبحانه قد أحل لعباده الطيبات من كل شيء ، ومن المعلوم أن الطيب في القرآن والحديث هو الذي لم يرد نص على تحريمه ، وقيل في سبب نزولها كما عن أبي حمزة والحكم بن ظهيرة أن زيد الخيل وعدي بن حاتم الطائيين ، أتيا رسول الله (ص) فقالا : ان فينا رجلين لهما ستة اكلب ، تأخذ بقرة الوحش والظباء ، فمنها ما يدرك ذكاته ومنها ما يموت وقد حرم الله الميتة ، فما ذا يحل لنا من هذا؟ فأنزل الله على رسوله هذه

__________________

(١) هو خنق الحيوان بدلا عن ذبحه.

(٢) هي التي تموت من الضرب كما عن ابن عباس والسدي.

(٣) هي التي تقع من مكان مرتفع ولا تدرك حياتها.

(٤) هو ما ذبح تقربا للأوثان كما كان في الجاهلية.

٥٩

الآية لبيان ما يحل من صيد الكلب وما يحرم. وقيل في سبب نزولها غير ذلك. ومهما تكن أسباب نزولها ، فهي تدل على حلية غير المحرمات التي ورد ذكرها في الآيتين السابقتين ، كما تدل على حلية صيد الكلاب وغيرها من ذوي الجوارح إذا كانت معلمة ولم يدرك الصياد حياتها ، والمراد بقوله مما أمسكن عليكم هو ان يمسك الكلب أو غيره من ذوي الجوارح لصاحبه لا لنفسه ، وعلى الصياد أن يذكر اسم الله حين إرسال الكلب وغيره ، والمراد بالمكلبين أصحاب الكلاب الذين يعلموهن الصيد ، وقد ذكر الفقهاء في أحكام الصيد للكلب الذي يستعمل في الصيد شروطا غير ذلك.

وبعد أن ذكرت الآية ١٤٤ من سورة الأنعام ما يحرم أكله ، أباحت للمضطر ان يتناول من المحرمات عند المجاعة الشديدة بشرط أن يكون غير باغ ولا عاد وأن لا يكون مستحلا لها بقدر ما تندفع به الضرورة ، وتسد الحاجة. والى ذلك أشار بقوله غير باغ ولا عاد. وقوله سبحانه في آية أخرى : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) والمراد من المخمصة هو ما يحدث من شدة الجوع في البطن من طي وضمور. وفي الآية ١١٧ من سورة الأنعام : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ). وفي الآية ١١٨ من السورة المذكورة : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ) وفي هاتين الآيتين ما يدل على أن الذابح ، عليه أن يذكر اسم الله عند الذبح ، وكل ذبيحة لم يذكر عليها اسمه تعالى أو وصفه المختص به تكون ميتة بنظر الإسلام لا يحل أكلها إلا عند الضرورة والحاجة الملحة.

وكما نصت الآيات الكريمة على حلية ما ذكر اسم الله عليه ، فقد

٦٠