تاريخ الفقه الجعفري

هاشم معروف الحسني

تاريخ الفقه الجعفري

المؤلف:

هاشم معروف الحسني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٩

الدين والمشرفين على تنفيذه وتطبيقه. ومن ثم كان هذا القانون الإلهي قابلا للتطبيق في كل حال وزمان ، إذا عرف القائمون عليه كيف يستوحون أحكامه وأسراره. وهل يكون القرآن مقصورا على حياة العرب الساذجة ، على حد زعم المستشرق (جولد شيهر) ، مع أنه يؤكد في أكثر من آية أن الرسول كان الى الناس كافة ، من غير فرق بين العرب وغيرهم ، ولا بين الأبيض والأسود ، وأنه خاتم الأنبياء ورسالته خاتمة الرسالات المنزلة من السماء؟! وكيف يكون النبي رسولا الى الناس كافة ، كما جاء في آيات القرآن ، وشريعته مقصورة على الحياة البسيطة الساذجة ، التي كان يحياها عرب البادية في عصره. وما الفائدة من إرساله الى الناس كافة ، اذا لم تكن شريعته لجميع الناس ، ولم يعالج مشاكل الناس كافة.

ويبدو أن الكاتب في آرائه حول الشريعة الإسلامية يحاول الدس وتشويه الحقائق واظهار التشريع الإسلامي على غير واقعه.

ان الكاتب يريد أن يقول للمسلمين ، بوحي من أسياده المستعمرين ، ان شريعتكم لا تكفي لحل مشاكلكم ، فعليكم بغيرها من القوانين ، التي تضمن لكم السعادة والعيش الهنيئ ، في ظل الاسنعمار والصهيونية ؛ وان قرآنكم لم يعالج سوى مشاكل العرب الساذجة ، الذين كانوا في عصر نبيكم. أما مشاكل الحياة التي تتطور يوما بعد يوم ، والتي لا بد لها من حلول تضمن للانسان الخير والهدوء ، فاطلبوها من غير القرآن ـ واهجروه فانه لا يغني عنكم شيئا.

ومهما كان الحال ، فالاجتهاد في عصر التابعين ، مما تستدعيه الحاجة ، وتقتضيه طبيعة ذلك العصر. ومما لا شك فيه أن الدواعي اليه في بعض الأقطار الإسلامية ، كان أكثر منها في البعض الآخر.

٢٨١

ويمكن تلخيص الأسباب التي من أجلها شاع الاجتهاد والرأي بين فقهاء التابعين ، وامتازوا بها على من تقدم من فقهاء الصحابة ، بالأسباب التالية :

أولا : كثرة النوازل والحوادث الناتجة عن انبثاق فجر جديد للاسلام ، بعد أن تعدى حدود البلاد العربية ، التي انبثق فجره بها الى تلك البلاد التي تختلف أشد الاختلاف ، في عاداتها وتقاليدها وجميع شؤونها الاقتصادية والاجتماعية ، فأدى ذلك حتما الى الاختلاف في جميع أسباب الحياة وشؤونها ، وكان من آثار ذلك أن تجددت لسكان تلك البلاد حوادث لم تكن في الغالب تشبه ما كان في عصر الرسول وصحابته ، وكان من المفروض على الفقهاء أن يعلموا الناس الأحكام ، ويفقهوا الناس في الدين ، حسبما تقتضيه الحاجة. وفي مثل ذلك لا بد من الاجتهاد في فهم النصوص الاسلامية وتطبيقها على الحوادث التي تقتضيها أوضاع تلك البلاد واعرافها الخاصة. وقد تدعو الحاجة الى الحكم بالرأي أحيانا ، فيما اذا لم تتوفر النصوص ، أو كانت محاطة بما يوجب عدم الوثوق بها ، أو عدم الاطمئنان لدلالتها.

ثانيا : كثرة الكذب في الحديث ، بعد أن فسح الأمويون المجال لفئة من الدخلاء على الاسلام وقربوهم ، لأغراض سياسية ، حتى وضعوا آلاف الأحاديث في الحلال والحرام وغيرهما ، بين الأحاديث الصحيحة. فلم يعد بالإمكان تصديق كل ما يروى عن الرسول ، بعد أن وصل الحديث الى التابعين ، وفيه الصحيح والمكذوب. وكان من نتيجة ذلك أن كثيرا من الأحاديث ، كانت محلا للريب والشبهة بنظر الفقهاء المتفرقين في الأمصار. واقتضى ذلك عدم الأخذ بها والاعتماد على الاجتهاد والرأي أحيانا. ومجمل القول في ذلك أن كثرة الحديث

٢٨٢

الموضوع ، وانتشاره بين الأحاديث الصحيحة ، دعى الكثير من الفقهاء في عصر التابعين ، الى ترك بعض الأحاديث لعدم الوثوق بصحتها ، والحكم بالرأي في بعض الحوادث ، عند من لا يثق بالحديث المروي في ذلك الحادث. وقد يكون الحديث الواحد ، موثوقا به عند فقيه ومتروكا عند آخر. ولذا فإن فقهاء الحجاز قد اشتهروا بالحديث ، لأنهم كانوا أعرف بالحديث الصحيح من غيرهم ، واشتهر غيرهم بالرأي ، لعدم وثوقهم بكل ما وصل إليهم من الأحاديث المروية عن الرسول.

وكان ممن اشتهر بذلك فقهاء الكوفة ، وأشهرهم بهذه الصفة ، إبراهيم بن يزيد النخعي ، وقد ذكرنا فيما سبق أنه من حواري علي بن الحسين ، على رواية الشيخ الطوسي في رجاله.

ثالثا : اتصال العرب الغزاة بغيرهم من العناصر الأجنبية ، التي دخلت الإسلام ، وكانت تعتمد على الفكر أكثر من اعتمادها على الحفظ الذي اعتمده العرب في الأدب والفقه والحديث وجميع شؤونهم. ومن بين هؤلاء الذين دخلوا الإسلام نبغ فريق منهم في الفقه والحديث ، عرفوا بالموالي ، كانوا قد أخذوه من الصحابة وتلامذتهم. وأصبح في كل حاضرة إسلامية فقيه منهم ، يرجع اليه الكثيرون من الناس في أحكام دينهم. قال مصطفى عبد الرزاق : «لقد انتقل الفقه ، بعد موت العبادلة في جميع البلدان إلى الموالي ، فكان فقيه مكة عطاء بن رياح ، وفقيه أهل اليمن طاوس ، وفقيه أهل اليمامة يحيى بن كثير ، وفقيه أهل الكوفة إبراهيم ، وفقيه أهل البصرة الحسن ، وفقيه أهل الشام مكحول ، وفقيه أهل خراسان عطاء ، إلا المدينة ، فكان فقيهها سعيد بن المسيب» (١).

__________________

(١) وتمهيد لتأريخ الفلسفة ، عن اعلام الموقعين.

٢٨٣

وكان لتلك البلاد التي خضعت لعلم الإسلام حظ من العلم والحضارة ، بينما كانت الأمية تغلب على العرب. ولذلك غلب على جماعة من الصحابة وصف (القراء) ، لأنهم كانوا يقرأون القرآن ، ويكتبون بين أمه أمية ، لا تقرأ ولا تكتب.

ونتج من اتساع الإسلام وانتقال الفقه الى التابعين ، من العرب وغيرهم ، الذين انتشروا في البلاد ، لتعليم الأحكام ، وألفوا حياتها وأساليبها ، في البحث والمحاكمة بين محتملات الأدلة ، ان نهجوا منهجا جديدا في التوصل إلى الأحكام ، فبحثوا عن العلل والأسباب والمصالح والمفاسد ، بطريقة لم تكن معروفة في زمن الصحابة ، ولم تدع الحاجة إليها. وقد أدى هذا الأسلوب إلى اختلاف آرائهم في الفقه ، وكثر الخلاف بينهم في الفروع ، فكان ذلك من أسباب اشتهارهم بالرأي ، بينما اشتهر فقهاء الحجاز بالحديث ، لأن الجو الذي عاشوا فيه ، لم يفرض عليهم أن ينهجوا في البحث عن النصوص طريق التابعين. كما وأن قربهم من عصر الرسول واشتهار أحاديثه بينهم ومعرفتهم الكاملة بأحوال رواتها عنه ، سهل لهم معرفة الصحيح واستفادة الأحكام منها.

وفيما سبق أشرنا الى أن الرأي الذي شاع في عصر التابعين ليس هو غير الإفتاء بما يراه الفقيه ، بعد اليأس عن الدليل ، من كتاب أو سنة صحيحة ، وهو الذي أقرّه الرسول (ص) في حديث معاذ بن جبل وامتدحه عليه. وهذا غير القياس ، الذي وضع نواته عمر بن الخطاب ، في وثيقته الى أبي موسى الأشعري ، واشتهر به الأحناف وأيده المالكية وغيرهم. ولا نعني بذلك أنه لم يكن بين فقهاء التابعين من يتخذ القياس دليلا في الأحكام ، وانما المقصود ان العمل بالرأي أحيانا إذا تعذر على الفقيه أخذ الحكم من الكتاب والسنة ، قد أقرّه

٢٨٤

الإسلام ما لم يتعارض مع النصوص القرآنية والنبوية ، وليس فيما أقرّه الإسلام إشارة الى القياس من قريب أو بعيد مع العلم بأنه قد شاع بين بعض الصحابة بعد وفاة الرسول. ومهما كان الحال فقد اشتهر فقهاء الحجاز بالحديث وفقهاء العراق بالرأي ، ولكن ذلك لا يعني أن فقه الحجاز كله مستند الى الحديث ، وفقه العراق وغيرها مستند إلى الرأي. والشيء الثابت أنه كان حتى بين فقهاء الحجاز من يفتي برأيه أحيانا ، إذا لم تتوفر اليه النصوص من الكتاب أو السنة.

قال الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة : «والرأي كان مأخوذا به في المدينة وسائر مدن الحجاز. وقد رأينا الفقهاء السبعة الذين مثلوا الفقه المدني أصدق تمثيل ، كان كبيرهم ابن المسيب ، لا يهاب الفتيا ، حتى لقب بالجريء ، ولا يجرؤ على الإكثار من الإفتاء ، من لا يجرؤ على الرأي ، ولا يوصف بالجريء في الفتيا من يقف عند النص أو الأثر لا يعدوه. بل يوصف بالجريء من يسير في دائرة المأثور ، ويكثر من التخريج عليه والسير على منهاجه ، وليس ذلك إلا الرأي» (١).

وقال عنه في موضع آخر من كتابه : «وكان سعيد بن المسيب كثير الإفتاء بالرأي». وفيما سبق ، ذكرنا أن عمر بن الخطاب كان يفتي برأيه أحيانا ويعمل بالقياس ، تمشيا مع المصلحة التي يراها ، حتى ولو خالف النصوص القرآنية والنبوية. ولا شك بأن جماعة من الفقهاء في الحجاز ، قد أخذوا من قضائه وفقهه ونهجوا على طريقته في الفقه والقضاء.

ومهما يكن الحال ، فالافتاء بالرأي ، المرادف للاجتهاد ، لا بد منه للفقيه في فهم النصوص وفيما لا نص فيه ، بعد الفحص والاطمئنان إلى الواقع.

__________________

(١) الامام الصادق (ص ١٧٦).

٢٨٥

ومجمل القول ان الإفتاء بالرأي ، فيما إذا لم يكن لدى المفتين دليل من كتاب أو سنة ، أو كان لديه ما يفيد الحكم منهما ، ولكنه لم يكن نصا فيه بأن كان يحتمله ويحتمل غيره ، فإعمال الرأي في مثل ذلك للتوصل الى الواقع ، ليس بالبعيد أن يكون نشأ في التشريع الإسلامي ، منذ بدأ المسلمون يأخذون الأحكام من الكتاب والحديث. وقد شاع ذلك بين الصحابة وفقهاء الحجاز ، الذين اشتهروا بعد ذلك بالحديث ، لوفرة حظهم منه ، كما اشتهر فقهاء العراق وغيرهم بالرأي للأسباب التي ذكرناها. والرأي بهذا المعنى ، لا بد للفقيه من اللجوء اليه ، بعد أن كان الفقه الإسلامي مستمدا من هذين الأصلين الكريمين.

أما الرأي الذي يرادف القياس ، والذي غالى به بعض أنصاره ، فعارض به السنة وخصص به القرآن ، فلم يكن شائعا بين فقهاء العراق ، وبالأخص فقهاء الشيعة منهم ، الذين تزعموا تدريس الفقه والإفتاء في عصرهم ، كإبراهيم بن يزيد النخعي وعلقمة بن قيس وأمثالهما.

فالافتاء بالرأي في مثل هذه الحالات ، في مقابل الإمساك عن الفتوى ، كما كان الحال بالنسبة الى بعض من عاصرهم من الفقهاء. ويؤيد ذلك ، ما ذكره الخضري في (تاريخ التشريع الإسلامي) ومصطفى عبد الرزاق في (تمهيد لتأريخ الفلسفة).

ان الفقيه الشعبي ، المعاصر لإبراهيم بن يزيد النخعي ، كان إذا عرضت له الفتيا ، ولم يجد فيها نصا ، انقبض عن الفتوى ، بينما كان إبراهيم وغيره يفتون حسب اجتهادهم

٢٨٦

تدوين الحديث والفقه في عهد التابعين

لقد ذكرنا في الفصول السابقة ، أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، قد منع من تدوين الحديث لأسباب ، أهمها بنظره ، انصراف المسلمين عن كتاب الله الى كتب الحديث كما حديث لأمم قد خلت من قبلهم. وقد ذكرنا أن هذا التدبير ، قد أحدث آثارا سيئة على الفقه والحديث وعلى المسلمين بصورة عامة. وقد فتح الباب في وجه جماعة ممن دخلوا الإسلام للكيد له بالدس في تعاليمه وأصوله ، وانتشروا في الأقطار الإسلامية يحدثون عن الرسول ، بما تمليه عليهم الأهواء ومصالح الساسة من الأمويين ، واختلط بسبب ذلك الصحيح بالفاسد.

وكان من أسباب الخلاف بين المسلمين عدم وثوق بعضهم بكل ما ينسب للرسول. ولو أنه نزل عند رغبة جمهور الصحابة ، الذين أشاروا عليه بتدوين الحديث وجمعه ، كما جمعت آيات الكتاب من الألواح وصدور الحفاظ ، لما اتسع المجال لأبي هريرة وأمثاله ، ولسمرة بن جندب والكثيرين ممن حذا حذوهما ، وباع دينه وضميره بدنانير الأمويين وموائدهم السخية بأنواع الطعام الشهي. وقد ذكرنا ما كان من هؤلاء بصورة مفصلة في الفصول السابقة ، كما أشرنا في فصل خاص ،

٢٨٧

واعتمدنا على مصادر موثوق بها ، أن عليا قد دوّن الفقه في حياة الرسول وبعدها ، وكان هو وجماعة من المسلمين ، يرون جواز التدوين والكتابة ، بينما تمسك أكثر المسلمين برأي عمر بن الخطاب واعتبروه سنة ، لا يجوز بنظر الدين تجاوزها. وانصرفوا الى الحفظ ، معتمدين على ما ينقل إليهم من صدور الحفاظ عن الصحابة وغيرهم. على أن بعض المصادر تؤيد أن شيئا من التدوين قد كان ، ولكنه كان من أشخاص كانوا يدونون لأنفسهم ما عندهم من الأحاديث ، مخافة الضياع والنسيان.

أما التدوين الشامل ، فلم يحصل إلا في زمان متأخر ، لأسباب ثلاثة ، ذكرها محمد يوسف وغيره.

أولها : انتقال المسلمين من حال تغلب عليه البداوة ، الى حال كثر فيه العمران وعظمت فيه الحضارة وأخذوا ينعمون بالحياة المترفة ، الحافلة بأسباب النعيم والعمران ، فانصرفوا الى العلوم وموادها ، يعملون عقولهم في تحصيلها.

قال ابن خلدون في مقدمته : «ان العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران ونعم الحضارة». وقد ضرب لذلك أمثلة كثيرة.

ثانيها : انتشار الكتابة بين العرب والاعتماد عليها في تسجيل ما لديهم من المعارف المختلفة ، وفي ذلك ما يؤدي الى الانصراف عن الحفظ وضعف الذاكرة.

وفي مثل طرد هذه الحالات ، على الإنسان ، يضطر الى تسجيل ما لديه من المعارف ، خوفا من ضياعها. هذا بالإضافة الى أن بعض من دخلوا الإسلام ونبغوا في الفقه وعلوم القرآن والحديث ، وهم الكثرة في عهد التابعين كانوا من الموالي ، والكفرة الغالبة في هؤلاء كانت تحسن

٢٨٨

الكتابة ، وقد اعتادوا على تدوين ما عندهم من آثار الفرس والرومان والأمم السابقة ، قبل أن يغزو الإسلام بلادهم.

وهؤلاء لم يرزقوا قوة الذاكرة وملكة الحفظ اللتين عرف بهما العرب وسكان البادية.

السبب الثالث : ظهور الخطأ والاختلاف في كثير من الأحاديث ، بسبب اعتماد الرواة ، الذين انتشروا في الأقطار الإسلامية ، لتعليم الأحكام ونقل الأحاديث ، اعتمادا على ما استقر في ذاكرتهم. والإنسان بطبيعته معرض لعوامل كثيرة : كالنسيان والخطأ وغيرهما. ونتيجة لذلك حصل الاختلاف في نقل الحديث بين الرواة. هذا بالإضافة إلى انتشار ما هو مكذوب على الرسول من بعض من دخلوا الإسلام مكرهين ، ولم يخالط الايمان به قلوبهم ، أو طائعين ، باعوا ضمائرهم للحكام الذين استباحوا كل شيء في سبيل عروشهم.

قال الأستاذ مصطفى عبد الرزاق : انه مما أكد الحاجة لتدوين السنة ، شيوع الحديث المكذوب ، وقلة الثقة ببعض الرواة ، وظهور الكذب في الحديث عن رسول الله ، لأسباب سياسية أو مذهبية (١).

وقد دخل على الإسلام بسبب ذلك شر ، كان المسلمون في غنى عنه ، لو أن الخليفة أباح إلى المسلمين أن يجمعوا الحديث ويدونوه ، كما جمعوا آيات الكتاب من هنا وهناك ودونوها في كتاب واحد.

هذه هي العوامل ، التي من أجلها بدأ المسلمون يشعرون بضرورة تدوين الحديث وتصنيفه على مراحل ، كما يرى الباحثون في التشريع الإسلامي والآثار التي تركها السابقون. ولكن المصادر الشيعية تؤكد أن

__________________

(١) تمهيد لتأريخ الفلسفة (ص ١٩٥).

٢٨٩

التدوين قد حصل عن طريق أهل البيت وشيعتهم قبل ذلك بقرن تقريبا ، وفي غيرها ما يؤيد هذا الرأي. وقد نصت رواية البخاري ، التي نقلناها سابقا بأن عليا كتب صحيفة فيها بعض الأحكام ، كما أشرنا الى ما ذكره مسلم في مقدمة صحيحة ان ابن عباس دعا بقضاء علي (ع) وكتب منه أشياء ، الى غير ذلك مما ذكرناه في الفصول السابقة.

ومهما يكن الحال ، فقد ذكر المحدثون والرواة ، ان عمر بن عبد العزيز هو أول من دعا الى كتابة العلم وتصفيته من الدخيل. فقد كتب الى ابي بكر محمد بن عمر بن حزم (قاضي المدينة) يأمره أن ينظر ما كان من حديث الرسول أو سنته ، وأن يكتبه له. وقال في كتابه الى ابن حزم : اني خفت دروس العلم وذهاب العلماء.

وفي موطإ مالك ، من رواية محمد بن الحسين ، أنه أوصاه أن يكتب له ما عند عمرة بنت عبد الرحمن الانصارية ، تلميذة عائشة والقاسم بن محمد (١).

وفي تاريخ أصبهان لأبي نعيم قال : كتب عمر الى الآفاق ، انظروا حديث رسول الله (ص) فاجمعوه. وفي الرواية المذكورة ان ابن حزم قد كتب كتبا في الحديث ، وتوفي عمر بن عبد العزيز ، قبل ان ترسل اليه (٢).

وهذه الفكرة من عمر بن عبد العزيز ، تعتبر حدثا هاما في تاريخ العلم والحديث. فهي بالإضافة إلى انها تدل على بعد نظره ، وحرصه

__________________

(١) تمهيد لتأريخ الفلسفة ، لمصطفى عبد الرزاق (ص ١٩٦).

(٢) نفس المصدر.

٢٩٠

على مخلفات الرسول وآثار الإسلام ، لقد غير اتجاه العلماء وحفاظ الأحاديث ، الذين كانوا يعتمدون على الحفظ والأخذ ممن تقدمهم. وراجت فكرة التدوين بينهم ، فقام بعض العلماء بجمع السنّة وتدوينها ونشطوا الى ذلك في مختلف الأمصار.

وفي مختصر جامع بيان العلم أن أول من دون العلم وكتبه ابن شهاب الزهري وعن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه ، قال : كنا نكتب الحلال والحرام وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع (١).

وذكر الأستاذ أبو ريّه ، عن الزهري ، انه قال : كنا نكره كتابة العلم ، حتى أكرهنا عليه. وان هشاما الذي تولى الخلافة سنة ١٠٥ ه‍ واصل مساعيه لتنفيذ فكرة التدوين ، التي اتفق المؤرخون بأن أول من دعا إليها من الحكام عمر بن عبد العزيز ، وأكره الزهري عليها حتى الف الناس ذلك ، وأصبح سنة عندهم. ووضع العلماء في هذا الموضوع المجلدات الضخمة ، على مراحل ، كانت أولاها غير مرتبة على أبواب الفقه وفصوله ، والذي كان أولا على نمط ما كان يجري في مجالس العلماء ، تلك المجالس التي لم تكن مخصصة لعلم من العلوم. فكان المجلس الواحد يشتمل على علوم متعددة. وقد ورد عن عطاء ، في وصفه لمجلس ابن عباس ، انه لم ير مجلسا أكرم منه ، ولا أكثر فقها وأعظم هيبة في مجلسه ، أصحاب القرآن وأصحاب الشعر وأصحاب العربية يسألونه ، وكلهم يصدر من واد فسيح.

وقال محمد بن دينار في وصفه : ما رأيت مجلسا اجمع لكل خير من مجلسه.

__________________

(١) نفس المصدر (ص ٢٠٠).

٢٩١

وبقي التدوين يتطور ويتقدم ، كما هو الحال في كل عمل يبرز الى الوجود ، ثم ينمو على مرور الزمن ، حتى جاء دور العباسيين ، فقام العلماء بجمعه مرتبا على أبواب الفقه وفصوله. وكثر المؤلفون في ذلك الدور ، واتخذ التأليف شكلا لم يكن معروفا قبل ذلك العصر (١).

وقد هب العلماء في العصر العباسي ، الى تهذيب ما كتب في عصر التدوين الأول ، وتدوين ما بقي محفوظا في الصدور ، فرتبوه وبوّبوه ، وصنفوه كتبا. وقد بذل المنصور في هذا السبيل ، الأموال الطائلة ، وحث العلماء على بذل الجهد في ذلك ، وأشار على مالك أن يضع كتابه (الموطأ) ، فألفه (سنة ١٤٧ ه‍).

لقد بلغ المنصور في عنايته بتدوين الفقه والحديث وجميع السنن ، حدا لم يعرف عن أحد ممن سبقه أو جاء بعده. ولقد قيل له : هل بقي من لذات الدنيا شيء لم تنله؟ قال : بقيت خصلة واحدة ، أتمنى ان أصل إليها ، هي ان اقعد في مصطبة ، وحولي أصحاب الحديث (٢).

وتلك ظاهرة غريبة من أبي جعفر المنصور ، لا تنسجم مع سيرته وسياسته ، سياسة البطش وقتل الأبرياء وإراقة الدماء ، من العلويين والمتشيعين لهم ، تلك السياسة التي أنست الناس ظلم الأمويين واستهتارهم بالمقدسات الإسلامية.

لقد أراد المنصور أن يصرف أنظار العلماء ورجال الفكر عن سياسته

__________________

(١) أضواء على السنة المحمدية.

(٢) لقد اعتمدنا في عرض هذه المراحل لتدوين الحديث على : تاريخ الفقه الإسلامي والتشريع الإسلامي وأضواء على السنة وتمهيد لتأريخ الفلسفة والسنة قبل التدوين.

٢٩٢

الجائرة ، ويشغلهم عن التفكير بالشؤون العامة بجمع الأحاديث وتدوينها وكتابة الفقه وممارسته ، حتى لا ترتفع أصواتهم بين ملايين البائسين والمحرومين والمشردين من جوره وتعذيبه ، أراد أن يحدد لهم صلاحياتهم ويحد من نشاطهم وتفكيرهم بشؤون الخلافة الإسلامية ، التي انتقلت إليهم من الأمويين ، بعد مجازر دامية ، باسم الحفاظ على المقدسات الإسلامية وانصاف المظلومين والثأر للعلويين.

ولم يقتصر التدوين في تلك المراحل التي مر بها ، منذ أن دعا اليه عمر بن عبد العزيز ، على تدوين الحديث ، بل هب العلماء الى تدوين الفقه وتبويبه ، مرتبا على أبواب الفقه ، من عبادات ومعاملات وغيرهما.

لقد تكلم الدكتور محمد يوسف في تاريخ الفقه الإسلامي والأستاذ محمد عجاج الخطيب وغيرهما عن تدوين الفقه ، ونقلوا عن بعض المصادر أنّ كل شيء من التدوين كان قد حصل في العهد المبكر من تاريخ الإسلام ، وأن الرسول أمر بكتابة بعض أحكام الزكاة وبعث بها الى أمراء البلاد والولاة ، وأعطى عمرو بن حزم ، لما ولاه على اليمن ، أحكاما مكتوبة من الفرائض والصدقات والديات ، كما أعطى عبد الله بن حكيم ووائل بن حجر كتبا فيها أحكام الحيوانات الميتة ، وأحكام الصلاة والصوم والربا والخمر. ونقل ذلك عن كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال (ج ٣ ص ١٦٨) والمعجم الصغير للطبراني (ج ٣ ص ١١٧). كما ذكر أن أبا بكر كتب كتابا لأنس بن مالك ، حين بعثه على البحرين ، فيه أحكام السائمة من الإبل والغنم ومقدار النصاب في كل واحد من هذين النوعين. وكتب عمر بن الخطاب ، في الموضوع نفسه كتبا وأعطاها إلى عماله ، لجباية الزكاة ، ولم يبد آية ملاحظة حول

٢٩٣

أنباء هذه الكتب ، مع ان عمر بن الخطاب نفسه هو الذي حارب فكرة التدوين ، كما أجمع على ذلك المحدثون.

الصحيفة الصادقة :

لقد استطرد الدكتور محمد يوسف في حديثه عن التدوين بصورة إفرادية ، منذ فجر الإسلام ، حتى انتهى الى نبأ الصحيفة الصادقة ، المنسوبة الى عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : ان عبد الله هذا قد استأذن النبي (ص) ان يكتب عنه في حال الرضا والغضب ، فأذن له. وأن مجاهدا دخل على عبد الله ، فتناول هذه الصحيفة فتمنع عليه ، فقال : أتمنعني عن كتبك؟ فقال : ان هذه الصحيفة الصادقة ، التي سمعتها من الرسول ، ليس بيني وبينه أحد ، فإذا سلم لي كتاب الله وسلمت لي هذه الصحيفة (والوهط) (١) ، لا أبالي ما صنعت الدنيا (٢).

وبعد أن نقل نبأ هذه الصحيفة التي كتبها عبد الله بإذن من النبي في حالتي الرضا والغضب ، انتهى الى أن هذه الصحيفة لا تختص بالفقه ، لأن صاحبها لا يبالي ما صنعت الدنيا ، إذا سلمت له الصحيفة وأرض كان يستغلها. فلا بد وأن يكون فيها كل ما يحتاجه من أمور الدين والدنيا. كما انتهى الى نتيجة أخرى ، هي أن هذه الصحيفة قد جمعت من الحلال والحرام مسائل كثيرة ، تكفيه مع كتاب الله في معرفة الحلال والحرام. وان عبد الله كان يرى أن الفقه من خير ما

__________________

(١) الوهط : أرض كان يزرعها.

(٢) تاريخ الفقه الإسلامي ، عن ابن عساكر في تاريخه ، كما نقل ذلك في الاضواء ، عن مصادر أهل السنة. والسنة قبل التدوين الى محمد عجاج الخطيب.

٢٩٤

يعطاه الإنسان. ومن جميع ذلك ينتهي إلى القول انه كان في عصر الرسول شيء ، وربما كان كثيرا ، من مسائل الفقه وأحكامه ، قد كتب فعلا في فجر الإسلام (١).

وإذا أردنا أن نقارن بين ما ذكره هنا وما ذكره سابقا في حديثه عن عدم تدوين الحديث والفقه في عصر الصحابة ، والأسباب التي من أجلها امتنع المسلمون في فجر الإسلام من تدوين الحديث ، نرى أنه قد تراجع عن رأيه السابق.

ومهما كان الحال ، فنحن لا نمنع من أن التدوين كان منذ فجر الإسلام. ولدينا من المصادر الموثوق بها ، ما يؤيد هذا الرأي ، وإن كانت مصادر إخواننا أهل السنة لم تذكر للشيعة شيئا يذكر ، بالنسبة لما ذكرته المصادر الشيعية. وفيما سبق ، قد ذكرنا عند الكلام على تدوين السنة ، الأسباب التي منعت من طهور آثار علي وشيعته ، وما كتبوه في الفقه والحديث وما صدر عنهم من أحكام وفتاوى ، منذ الأيام الاولى لوفاة الرسول.

ونعود هنا لنؤكد ما ذكرناه سابقا ، بما قاله الأستاذ (محمد أبو زهرة) في كتابه الامام الصادق (ع) قال : وانه يجب علينا ان نقرر هنا ان فقه علي وفتاويه وأقضيته لم ترد في كتب السنة ، بالقدر الذي يتفق مع مدة خلافته ، ولا مع المدة التي كان منصرفا فيها الى الدرس والإفتاء في مدة الراشدين قبله.

وقد كانت حياته كلها للفقه وعلم الدين وكان أكثر الصحابة اتصالا برسول الله (ص) ، فقد رافق الرسول وهو صبي قبل أن

__________________

(١) تاريخ الفقه (ص ١٨٦).

٢٩٥

يبعث ، واستمر معه الى أن قبض الله تعالى رسوله اليه. ولذا كان يجب أن يذكر له في كتب السنة أضعاف ما هو مذكور له فيها.

وإذا كان لنا أن نتعرف السبب الذي من أجله اختفى عن جمهور المسلمين بعض مرويات علي وفقهه ، فاننا نقول إنه لا بد أن يكون للحكم الأموي أثر في اختفاء كثير من آثار علي (ع) في القضاء والإفتاء ، لأنه ليس من المعقول أن يلعنوا عليا فوق المنابر وأن يتركوا العلماء يتحدثون بعلمه وينقلون فتاويه وأقواله للناس ، وخصوصا ما كان يتصل منها بأساس الحكم الإسلامي.

والعراق الذي عاش فيه علي ، وفيه انبثق علمه ، كان يحكمه في صدر الدولة الأموية ووسطها ، حكام غلاظ شداد ، لا يمكن أن يتركوا آراء علي تتسرب في وسط الجماهير الإسلامية ، وهم الذين يخلقون الريب والشكوك حوله (١).

__________________

(١) صفحة ١٢٦ من كتاب الامام الصادق لأبي زهرة.

٢٩٦

حول الصحيفة الصادقة

ويبدو مما ذكره محمد يوسف في المقام ، ان التدوين الذي لم يكن بعد وفاة الرسول ، هو تدوين السنة والحديث. اما الفقه ، فقد دون من مسائله وأحكامه الشيء الكثير ، ولكن هذا التفرقة لا تستند على أساس ، لأن جميع ما دون في العصور الاولى لم يكن غير نقل الأحاديث عن الرسول والصحابة ، المشتملة على أحكام العناوين الفقهية وأبوابها. وكتاب الموطأ ، أول مؤلف في الفقه ، على حد زعم المحدثين من أهل السنة ، هو عبارة عن مجموعة من أحاديث الرسول والصحابة في أحكام المسائل المختلفة ، بلغت عشرة آلاف حديث (١).

وسواء كان التدوين الذي تحدث عنه المؤلف ، السنة أو الفقه ، فهو يرى أن الصحيفة الصادقة حقيقة واقعة ، لأنه لم يبد حول نبئها آية ملاحظة. مع انه ذكر من جملة الأسباب لعدم تدوين الحديث والفقه ان الرسول نفسه قال : لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن ومن كتب عني شيئا فليمحه. ونقل عن زيد ابن ثابت انه قال : أمرنا رسول الله (ص) ان لا نكتب شيئا من حديثه ، بينما ذكر في نبأ هذه الصحيفة ، ان الرسول

__________________

(١) أضواء على السنة المحمدية ص ٢٧١.

٢٩٧

اذن لعبد الله بن عمرو بن العاص ، ان يكتب عنه في حال الرضا والغضب ، وان الصحيفة فيها من الفقه ما يكفي كاتبها في معرفة الشريعة كلها في جميع أبواب الفقه. فكيف يتفق منع الرسول عن التدوين منعا باتا لأي كان منهم ، كما يستفاد من الحديث المنسوب اليه ، مع إذنه لعبد الله في الكتابة عنه في حال الرضا والغضب؟ على انه لم يكن من أهل السابقة في الإسلام حتى يختصه الرسول بتلك المنزلة الرفيعة ، ولا من المقربين اليه ، لتكون له هذه الحظوة عند الرسول. ولقد كان أبوه ممن يكيدون للإسلام طيلة حياته. وقد أسلم عبد الله هذا وأبوه في السنة الثامنة للهجرة ، قبل وفاة الرسول بسنتين (١) ، وكان له من العمر حين إسلامه خمس عشرة سنة ، إذا لاحظنا أنه توفي سنة خمس وستين من الهجرة ، وله من العمر اثنان وسبعون سنة ، كما في رواية ابن سعد في الطبقات (٢) ، يكون له من العمر سبع عشرة سنة حين وفاة الرسول ، أدرك منها سنتين مع الرسول وحين اتصاله بالرسول لم يكن له من العمر أكثر من خمس عشرة سنة ، وفي هاتين السنتين ، لم يخرج عن دور الطفولة ولم يكن من أصحابه الأقربين ، حتى يختصه من بينهم ، ويقدمه حتى على أهل بيته ، ليكتب عنه كل شيء ، في حال الرضا والغضب ، وفي خلواته ، كما يزعم هو في حديثه عن صحيفته كما جاء في رواية مجاهد. وهل يتفق قوله : إذا سلمت له الصحيفة (والوهط) لا يبالي بالدنيا وما فيها ، مع موقفه بجانب معاوية في صفين وغيرها ، واستعمال معاوية له مكان أبيه واليا على مصر ، وعلى الكوفة أيضا؟ فما كان له من صحيفته ما يردعه عن الوقوف بجانب ابن هند

__________________

(١) شرح النهج المجلد الثالث ص ١١٢.

(٢) المصدر نفسه ، المجلد الرابع ص ٢٦٨.

٢٩٨

ومناصرته على امام المسلمين وسيدهم علي بن أبي طالب (ع).

على ان الأستاذ أبو ريّه ينقل عن بعض المحدثين ، ان الصحيفة التي يسميها عبد الله بالصادقة ، كانت أدعية وصلوات ، وليس فيها شيء من الفقه (١).

وما أشبه عبد الله هذا الذي أدرك من حياة الرسول مسلما سنتين وفيهما دون الفقه كله ، بأبي هريرة الذي أدرك من حياة الرسول نحوا من ذلك ، ونقل عنه أكثر من ستة آلاف حديث ، ولم يصحب الرسول الا ليشبع بطنه ، كما حدّث عن نفسه.

والذي يبعث على الأسف الشديد ، هو موقف الدكتور يوسف وغيره من أنباء هذه الصحيفة المزعومة. لقد تحدث عنها من غير ان يبدي آية ملاحظة حولها ، وفي ذلك ما يؤكد ايمانه بصحة أنبائها ، ولم يحاكم بين نصوصها وبين الظرف الذي عاش فيه عبد الله ومقدار صحبته للرسول ، والنصوص التي تفيد ان الرسول قد منع المسلمين ان يكتبوا عنه شيئا من الحديث والفقه. بينما نراه يقف موقف من يحتاط للواقع ويتحفظ في إعطاء النتائج في بعض أبحاثه ، وعلى الأخص حينما يتحدث عن دور التشيع في تدوين الفقه والحديث بعد وفاة الرسول.

لقد استعرض في حديثه عن دور الشيعة في التدوين ، جماعة ممن عدهم المرحوم الصدر في كتابه (تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام) كعلي بن رافع وسعيد بن المسيب وغيرهما من المؤلفين في الفقه والحديث ، من عهد الصحابة إلى العصر الذي شاع فيه التدوين وكثر بين الفقهاء وأصحاب الحديث ، كما استعرض بعض من ذكرهم ابن

__________________

(١) اضواء على السنة ص ٢٢٥ عن البغدادي.

٢٩٩

النديم من فقهاء الشيعة ومؤلفيهم. ولكنه خرج من الموضوع بدون نتيجة إيجابية ، لأن المحدثين والمؤلفين الثقات من أهل السنة ، الذين عنوا بالتراجم وأحوال الرجال ، أغفلوا الكثير من رجال الشيعة ، ولأن الكثير من هؤلاء الذين يذكرونهم ، يصفونهم بالكذب والوضع أو نحو ذلك مما يوحى بعدم الثقة بهم (١).

لقد خرج من بحثه عن مؤلفي الشيعة آسفا ، لأن المحدثين من أهل السنة ، أهملوا جماعة ممن ذكرهم الصدر وابن النديم ، ووصفوا قسما آخر بالوضع والكذب.

لذلك خرج من الموضوع ، ولم يتمكن من وزن ما جاء عن ابن النديم وغيره من كتاب علماء الشيعة ، بينما نراه سريعا في إعطاء النتائج الإيجابية في بعض أبحاثه ، بدون آية محاكمة بين الروايات التي يعتمد عليها ، وبين واقع الأشخاص وحياتهم والملابسات التي كانت تحيط بهم. وليس أدل على ذلك من حديثه عن الصحيفة الصادقة ، وإيمانه بأنها حقيقة واقعة. هذا مع العلم بأن المحدثين من أهل السنّة ، لا يصفون رواة الشيعة ومحدثيهم بالكذب والوضع إلا لمجرد التشيع والولاء لأهل البيت.

قال الخضري في كتابه تاريخ التشريع الإسلامي : ان غلو الشيعة في تأييد علي وأهل بيته ، جرهم إلى رواية كثير من الأحاديث ، لا يشك الجمهور في أنها مكذوبة على رسول الله ، ومن أجل ذلك توقفوا في ان يقبلوا رواية لكل متشيع أو داع الى التشيّع.

فالتشيع عندهم وصمة لا غفران لها ، وكل من رأى النبي صحابي

__________________

(١) تاريخ الفقه الإسلامي (ص ١٩٢).

٣٠٠