تاريخ الفقه الجعفري

هاشم معروف الحسني

تاريخ الفقه الجعفري

المؤلف:

هاشم معروف الحسني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٩

وقال : لو لا ان في منزلي من هو أبغض إلي منكم ما خرجت إليكم ، يعني بذلك زوجته. وكان محدث أهل الكوفة في زمانه ، وقد ظهر له أربعة آلاف حديث ، ولم يكن في زمانه من طبقته من هو أكثر منه حديثا. وقيل فيه : لم يكن أحد في الكوفة أقرأ منه لكتاب الله ، ولا أجود حديثا وأسرع اجابة. وقال فيه عيسى بن يونس : ما رأيت السلاطين والأغنياء ، عند أحد أحقر منهم عند الأعمش ، مع فقره وحاجته. ولقب بالأعمش لسيلان دمعته وضعف بصره (١).

وقد وصفه المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين بالتشيع والوثاقة ، اعتمادا على كتب الحديث والرجال والفرق. وذكر ان هشام بن عبد الملك بعث إليه ان يكتب له مناقب عثمان ومساوئ علي (ع) ، فأخذ القرطاس ووضعه في فم شاة وقال للرسول : هذا جوابه. فقال له الرسول : لقد توعدني بالقتل ان لم آته بجوابك ، وتوسل اليه بمن حضر مجلسه ، ولما ألحوا عليه أن يكتب له الجواب ، أخذ القرطاس وكتب عليه : بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد ، فلو كان لعثمان مناقب أهل الأرض ما نفعتك ، ولو كان لعلي مساوئ أهل الأرض ما ضرتك ، فعليك بخويصة نفسك (٢).

ثم قال في المراجعات : ولقد احتج بحديثه أصحاب الصحاح الستة وغيرهم. وروى عنه جماعة ، منهم أبو سفيان الثوري وابن عيينة وحفص بن غياث وآخرون.

__________________

(١) الكنى والألقاب للشيخ عباس القمي ، عن ابن خلكان ، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي.

(٢) المراجعات عن ابن خلكان وفي وفيات الأعيان والذهبي وابن قتيبة والملل والنحل للشهرستاني.

٢٦١

وقال الشهيد الثاني : ان أصحابنا المصنفين في الرجال تركوا ذكره ، ولقد كان حريا لاستقامته وفضله. وقد ذكره العامة في كتبهم وأثنوا عليه ، مع اعترافهم بتشيعه ، رحمه‌الله (١).

ومن فقهاء الشيعة ومراجع المسلمين ، أبو الأسود الدؤلي. قال المرحوم السيد حسن الصدر عن الجاحظ : إن أبا الأسود الدؤلي معدود في طبقات الناس ، وهو في كلها مقدم مأثور عنه ، معدود في التابعين والفقهاء والمحدثين والشعراء والأشراف. وعن الراغب في المحاضرات : أنه كان من أكمل الرجال رأيا وعقلا ، وكان شيعيا ثقة في الحديث ، سريع الجواب. وعن ابي الفرج الأصفهاني : إنه كان من سادات التابعين وأعيانهم ، وقد وضع علم النحو بإرشاد علي (ع) إليه (٢).

وقال المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين : لقد احتج بحديثه أصحاب الصحاح الستة ، وحديثه في صحيح البخاري ومسلم ، عن أبي ذر الغفاري وعمر بن الخطاب ، وله في بعض الصحاح عن غيرهما. وروى عنه جماعة في الصحيحين وفي صحيح البخاري (٣).

وقال الشيخ عباس القمي : ان معاوية أرسل إليه هدية من أنواع الحلواء ، بقصد استمالته وصرفه عن علي (ع) ، فأخذت ابنة له صغيرة لقمة منها ووضعتها في فمها ، فقال لها أبو الأسود : انها سم أرسلها إلينا معاوية ليخدعنا عن أمير المؤمنين ، فألقتها الصبية من فمها وقالت : قبحها الله من هدية. وعالجت نفسها حتى قاءت ما أكلته

__________________

(١) منهج المقال للمرزا محمد.

(٢) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام.

(٣) في المراجعات.

٢٦٢

منها. وكان مما اوصى ولده : «يا بني ، إذا وسع الله عليك فابسط ، وإذا أمسك عليك فأمسك ، ولا عز كالعلم. إن الملوك حكام الناس والعلماء حكام الملوك» (١).

ومن فقهائهم ورواتهم عامر بن وائلة بن عبد الله بن عمر الليثي. ولقد عده ابن قتيبة ، في المعارف ، من رجال الشيعة. وقال ابن عبد البر في الكنى من الاستيعاب انه نزل الكوفة يوم كان علي بها ، وصحبه الى ان قتل ، وبعد ذلك رجع الى مكة. وكان فاضلا عاقلا وفصيحا حاضر الجواب.

ولما وفد على معاوية سأله كيف وجدك على خليلك ابي الحسن؟ قال : كوجد أم موسى على موسى ، وأشكو الى الله التقصير. قال له معاوية : لقد كنت فيمن حصر عثمان؟ قال : لا ، ولكني كنت فيمن حضره. قال فما منعك من نصره؟ قال : وأنت ما منعك من نصره ، إذ تربصت به ريب المنون ، وكنت في أهل الشام ، وكلهم تابع لك؟ فقال له معاوية : أو ما ترى طلبي لدمه نصرة له؟ قال : انك لكما قال الشاعر :

لألفينك بعد الموت تندبني

وفي حياتي ما زودتني زادي

قال في المراجعات : روى عنه كل من الزهري والحريري وعبد الملك بن ابجر وقتادة والوليد بن جميع ومنصور بن حياة والقاسم بن ابي بردة وعمر بن دينار وعكرمة بن خالد وغيرهم. وحديثهم عنه موجود في صحيح مسلم وروى في الصلاة ودلائل النبوة عن معاذ بن جبل. وروى في القدر عن عبد الله بن مسعود. وروى عن كل من

__________________

(١) الكنى والألقاب.

٢٦٣

علي (ع) وحذيفة بن أسيد وحذيفة ابن اليمان وعبد الله بن عباس وعمر بن الخطاب ، كما يعلم متتبعو حديث مسلم ، والباحثون عن رجال الأسانيد في صحيحة.

ومنهم طاوس بن كيسان الخولاني اليماني. قال في المراجعات : وقد أرسل أهل السنة أنه من رجال الشيعة إرسال المسلمات. وعده من رجالهم كل من الشهرستاني وابن قتيبة في المعارف. واحتج به أصحاب الصحاح الستة وغيرهم ، وحديثه عن ابن عباس وغيره.

وروى عنه في البخاري ، مجاهد وعمر بن دينار وابنه عبد الله وغيرهم.

وقال المرحوم السيد محسن الأمين : وطاوس اليماني تليد بن عباس ، تابعي. وقد عده ابن خشبة ، فيما حكي عنه ، من اعلم الناس بالتفسير. وعده ابن قتيبة في المعارف من الشيعة ، والشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب علي بن الحسين (ع) وكان منقطعا اليه (١).

وقال الشيخ محمد الخضري في حديثه عن الفقهاء اليمن : طاوس بن كيسان من الأبناء ، سمع زيد بن ثابت وعائشة وأبا هريرة وغيرهم ، وكان رأسا في العلم والعمل. وقال عنه عمر بن دينار : ما رأيت أحدا مثل طاوس. وقال قيس بن سعيد : كان طاوس فينا مثل ابن سيرين في أهل البصرة. وقال الذهبي : كان طاوس شيخ أهل اليمن وبركتهم وفقيههم ، له جلالة عظيمة (٢).

__________________

(١) المجلد الأول من أعيان الشيعة.

(٢) تاريخ الفقه الإسلامي.

٢٦٤

وقال الشيخ كاظم الساعدي : ان هشام بن الحكم قال له عظني ، قال : سمعت أمير المؤمنين عليا (ع) يقول : ان في جهنم حيّات كالتلال وعقارب كالبغال ، تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته. وفي تنقيح المقال : يستفاد من حديثه مع هشام انه كان شيعيا ، لأنه لقب عليا بأمير المؤمنين ، وليس ذلك من طريقة العامة. كما يستفاد منه انه متصلب في دينه. وأقل ما يستفاد كونه من الحسان ، والمعروف في تصنيف الأحاديث ان الخير الحسن ما كان راويه شيعيا (١).

ومنهم إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي ، وقد وصفه ابن قتيبة في معارفه بالتشيع ، وأرسل ذلك إرسال المسلمات ، ونقل حديثه البخاري ومسلم عن عم أمه علقمة بن قيس وغيره. وروى عنه في الصحيحين وفي صحيح مسلم جماعة كثيرون (٢).

وقال الأستاذ الخضري : إبراهيم بن يزيد النخعي فقيه العراق. روى عن علقمة ومسروق والأسود وغيرهم. وهو شيخ حماد أبي سلمة الفقيه المعروف. كان من العلماء ذوي الإخلاص. وقال عبد الملك بن أبي سليمان : سمعت سعيد ابن جبير يقول : تستفتوني وفيكم إبراهيم النخعي؟! (٣).

وقال عنه الدكتور محمد يوسف : كان إبراهيم بن يزيد النخعي زعيم أهل الرأي وشيخ حماد بن ابي سليمان ، شيخ الامام أبي حنيفة ، وكان فقيه العراق بالاتفاق. وممن أخذ عنهم الفقه علقمة بن النخعي.

__________________

(١) حياة الامام زين العابدين ، عن الكشكول وتنقيح المقال ، للمرحوم الشيخ عبد الله الممقاني.

(٢) كما جاء ذلك في المراجعات للمرحوم شرف الدين ص ٥٢.

(٣) تاريخ التشريع الإسلامي.

٢٦٥

وقد ذهب هذا الامام الجليل الى ان أحكام الشريعة لها معان معقولة ، كما قامت على علل تفهم من الكتاب والسنة ، وان على الفقيه إدراك هذه العلل ليجعل الأحكام تدور معها. وكان على خلاف في ذلك مع سعيد بن المسيب ، الذي كان همه البحث عن النصوص والآثار أكثر من بحثه عن العلل (١).

وبمثل ذلك ذكره عباس القمي ، وزاد ان الشيخ الطوسي عدّه من أصحاب علي بن الحسين زين العابدين (٢).

وقد ذكره الممقاني واستقرب كونه إماميا من قسم الحسان ، وأيد ذلك بأن الشيخ في رحاله عده من أصحاب الإمامين أمير المؤمنين وحفيده الامام زين العابدين عليهما‌السلام (٣).

ومنهم إسماعيل بن عبد الرحمن المعروف بالسدي. قال القمي : كان نظير مجاهد وقتادة والشعبي ومقاتل ، ممن يفسرون القرآن بآرائهم. وعدّه الشيخ الطوسي في أصحاب الإمام زين العابدين وولده الامام الباقر عليهما‌السلام. ونقل عن ابن حجر انه صدوق متهم ، رمي بالتشيع. وعن السيوطي انه قال في إتقان المقال : أمثل التفاسير ، تفسير إسماعيل السدي. روى عنه الأئمة ، مثل الثوري وشعبة ويحيى بن سعيد القطان (٤).

ونقل المرحوم العلامة شرف الدين ، عن الذهبي في الميزان ، انه

__________________

(١) تاريخ الفقه الإسلامي.

(٢) الكنى والألقاب (ص ٢٠٣).

(٣) كما جاء في حياة الإمام زين العابدين للشيخ كاظم الساعدي عن تنقيح المقال.

(٤) الكنى والألقاب (ص ٢٨٠).

٢٦٦

رماه بالتشيع ، وقال : لقد أخذ عنه الثوري وأبو بكر بن عياش وخلق من تلك الطبقة. واحتج به مسلم وأصحاب السنن الأربعة ، ووثقه احمد ، وقال عنه ابن عدي انه صدوق. وقال يحيى بن سعيد : ما رأيت أحدا يذكر السدي إلا بخير. وقال فيه إبراهيم النخعي : أنه تفسير القرآن ، تفسير القوم (١).

وقال المرحوم السيد حسن الصدر : انه كان من أصحاب الإمام زين العابدين (ع). ونص على تشيعه ابن قتيبة ، في كتابه المعارف ، والحافظ العسقلاني في التهذيب (٢).

وذكره النجاشي وأبو جعفر الطريسي في المصنفين من الشيعة. وقد ذكره المرحوم العلامة الأمين بمثل ما نقلناه عن هؤلاء الاعلام. وزاد على ذلك ان إسماعيل بن ابي خالد كان يقول : السدي أعلم بالقرآن من الشعبي (٣).

ومنهم عمر بن عبد الله أبو إسحاق السبيعي. قال في المراجعات : كان أبو إسحاق من رؤوس المحدثين ، الذين لا يحمد النواصب مذاهبهم في الفروع والأصول لأنهم نسجوا فيها على منوال أهل البيت ، وتقيدوا بهم في كل ما يرجع الى الدين.

ونقل عن الجوزجاني ، في ترجمة زبيد اليامي من الميزان ، انه قال : كان من أهل الكوفة قوم لا يحمد الناس مذاهبهم ، وهم رؤوس محدثي أهل الكوفة ، مثل أبي إسحاق السبيعي ومنصور وزبيد والأعمش ،

__________________

(١) المراجعات.

(٢) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام.

(٣) المجلد الأول من أعيان الشيعة.

٢٦٧

وغيرهم من أقرانهم ، احتملهم الناس لصدق ألسنتهم في الحديث. وكان أبو إسحاق من بحار العلم ، قواما بأمر الله ، احتج به أصحاب الصحاح الستة وغيرهم. وقد جاء حديثه في كل من الصحيحين عن البراء بن عازب وزيد بن أرقم وسليمان ابن صرد وغيرهم (١).

وقال عنه الشيخ عباس القمي انه من أعيان التابعين. وقد صلى أربعين سنة صلاة الغداة بوضوء العتمة. وكان يختم القرآن في كل ليلة. ولم يكن في زمانه أعبد منه ولا أوثق في الحديث ، عند الخاص والعام ، ومن ثقات علي ابن الحسين (ع). وقد رأى عليا وابن عباس وابن عمر وغيرهم من الصحابة. وروى عنه الأعمش والثوري وشعبة وغيرهم (٢).

وقال عنه الشيخ محمد طه نجف ، انه من أعيان التابعين ، ولد في الليلة التي قبض فيها أمير المؤمنين (ع). وكان من ثقات علي بن الحسين ، ولم يكن في زمانه أعبد منه ، ولا أوثق في الحديث ، عند الخاص والعام (٣).

ومنهم شريك بن عبد الله بن سنان النخعي. وقد عدّه ابن قتيبة من رجال الشيعة ، وأرسل ذلك إرسال المسلمات في كتابه المعارف. وأقسم عبد الله ابن إدريس ، كما في أواخر ترجمة شريك من الميزان ، ان شريكا لشيعي. وروى أبو داود الرهاوي ، كما في الميزان ، انه سمع شريكا يقول : عليّ خير البشر ، ومن تتبع سيرته علم انه كان من موالي أهل البيت ، وقد روى عن أوليائهم علما جما. وقال ابنه عبد الرحمن ،

__________________

(١) المراجعات للسيد عبد الحسين شرف الدين.

(٢) الكنى والألقاب.

(٣) إتقان المقال ، في علم الرجال ، عن ابن خلكان وغيره.

٢٦٨

كما جاء في الميزان : كان عند أبي عشرة آلاف مسألة ، عن جابر الجعفي ، وعشرة آلاف غرائب. وقال عبد الله المبارك : كان شريك أعلم بحديث الكوفيين من سفيان ، وكان عدوا لأعداء علي وسيء القول فيهم. وقد ذكر في مجلسه معاوية ، ووصف بالحلم ، فقال : ليس بحليم من سفه الحق وقاتل علي بن أبي طالب. وقد وصفه الذهبي بالحافظ الصادق وانه من أوعية العلم ، حمل عن إسحاق الأزرق تسعة آلاف حديث وقد احتج بشريك مسلم وأرباب السنن الأربعة (١). وقد وصفه الشيخ عباس القمي بمثل ذلك (٢).

وقد جاء ذكره في تاريخ الفقه الإسلامي ، مع جماعة من فقهاء الكوفة التابعين ، الذين تصدروا للإفتاء والتشريع في عصرهم (٣).

ومما ذكرنا ، يتبين ان الشيعة ، قد ساهموا في حقلي التشريع والإفتاء في عهد التابعين ، وكانوا فيه من مراجع المسلمين في عصرهم. وقد أخذ عنهم الفقهاء والمحدثون ممن عاصرهم وتأخر عنهم ، بالرغم من قسوة الحكام عليهم ، والرقابة الشديدة على جميع تصرفاتهم ، نظرية كانت أو عملية ، بدافع القضاء على التشيع والحد من نشاطه ، وتسخير جميع الطبقات لمصالحهم وأغراضهم السياسية. ولكن لم يكتب لهم النجاح الكلي ، فيما بذلوه من جهود في هذا السبيل ، فقد برز الشيعة من هنا وهناك في شتى الميادين الإسلامية ، العلمية منها وغيرها. غير ان الذي يبدو على فقهاء الشيعة في هذا العصر ، ان آراءهم في الفقه لم تظهر عليها صبغة التشيع ، كما ظهرت في عهد الصحابة وفي عصر

__________________

(١) المراجعات للمرحوم العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين.

(٢) الكنى والألقاب (ص ٢٠٥).

(٣) للدكتور محمد يوسف موسى (ص ١٥٠).

٢٦٩

الامامين الباقر والصادق عليهما‌السلام. ولعل ذلك من الأسباب التي صرفت أنظار الحكام عنهم ، وترك لهم المجال للاتصال بالجماهير ، ونشر آرائهم في الفقه وأحاديثهم بين الناس. ويؤيد ذلك ما جاء في رواية محمد بن عمرو بن عبد العزيز الكشي ، ان يحيى بن ام الطويل طلبه الحجاج وعرض عليه النجاة ، ان هو لعن عليا (ع). ولما امتنع عن ذلك أمر بقطع يديه ورجليه وقتله. أما سعيد بن المسيب ، فنجا منه لأنه كان يفتي بقول العامة. وكان آخر اصحاب رسول الله ومن أشهر المفتين في زمانه.

وأما ابو خالد الكابلي ، فهرب الى مكة وأخفى نفسه بها. واستجار عامر بن وائلة ، الفقيه الشيعي ، بعبد الملك ، وكانت له يد عنده (١).

لقد كان التشيع يشغل الجانب الأكبر من تفكير الأمويين والطبقات الحاكمة منهم ، لأن المبدأ الذي ترتكز عليه نظرية التشيع ، يحمل في معناه روح الثورة على كل حاكم لا يتخذ المبادئ الاسلامية دستورا عمليا لحكومته ، ويقرر عدم الاعتراف بسلطانه ، لا سيما وان المسلمين قد نهجوا منهجا عقليا في تفكيرهم ، بعد اتصالهم بالشعوب التي غزاها الاسلام ، وتأثر الفكر العربي بالأقطار الأجنبية. وكان الشيعة من اكثر الفرق الاسلامية انطلاقا في تفكيرهم وإنتاجهم الموافق للأصول التي وضعها القرآن الكريم والحديث النبوي. فنظرية الاختيار مثلا ، التي تحمل في معناها ان الانسان هو الذي يصنع مصيره وأعماله ، وهو المسؤول عن كل تصرفاته ، من غير ان يكون مجبورا على شيء

__________________

(١) رجال الكشي (ص ٨٢).

٢٧٠

منها ، هذه النظرية تجعل الحاكم مسؤولا عن جميع أعماله وتصرفاته. ونظرية العدل ، التي تقرر استحالة الظلم من الخالق ، ولازمها عدم مساواة المجرم بغيره في الجزاء ، وان : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) ، وإلا كان ظالما لعباده.

هاتان النظريتان ، كانتا مسرحا للجدل والنقاش ، بين فرق المسلمين. وقد سلك فيهما الشيعة مسلكا يتفق مع القرآن وأحاديث الرسول ، ويجعل الانسان ، حاكما كان أو لم يكن ، مسؤولا عن جميع تصرفاته وأعماله ، بينما سلك فيهما غير الشيعة ، مسلكا يتفق مع هوى الحكام ورغباتهم ، لأنهم يرون فيه المبررات لتصرفاتهم وعدوانهم على كل من لا يقر سياستهم الجائرة. لذا فإن الحكام ، من الأمويين وغيرهم ، قد أمعنوا في تسخير الأفكار وشراء الضمائر ، وتقتيل فريق من فقهاء الشيعة ومفكريهم ، كيحيى بن ام الطويل وسعيد بن جبير وغيرهما ، ومراقبة الباقين منهم مراقبة دقيقة ، تحصي عليهم حتى أنفاسهم ، ليتم لهم اخضاع الناس لدولتهم والاعتراف بشرعية خلافتهم.

وكان من نتيجة ذلك ، ان الذين سلموا من الحجاج وغيره من الولاة ، كابن المسيّب والقاسم بن محمد وغيرهما ، كانوا يفتون بما يوافق العامة احيانا ، ويروون حتى عن أبي هريرة ، عميل الأمويين الأكبر. وظلموا يمارسون الحياة العلمية والنشاط الفكري ، الذي بدت طلائعه في ذاك العهد من حياة المسلمين. ومن اجل ذلك ، كان للفقهاء من الشيعة في هذا الدور طابع خاص ، لم يكن في الدور الذي تقدمه وتأخر عنه. ففي الدور الذي تقدمه ، وهو دور الصحابة ، كان لكل واحد من الصحابة ان يفتي بما سمعه عن الرسول ويحدث بما رواه عنه. وكل ما في الأمر ان من بيدهم سلطة التنفيذ ، لم يسهلوا الطريق لجميع الرواة

٢٧١

والمفتين. لذا فان آراء الفقهاء والمفتين من الشيعة لم تظهر الا في بعض مسائل الفقه ، كما ظهر ذلك في الفصل الذي تحدثنا فيه عن دور التشيع في الفقه الاسلامي بعد وفاة الرسول (ص).

اما في الدور المتأخر عن عصر التابعين ، وهو الدور الذي يبتديء في الشطر الأخير من حياة الامام الباقر ويستمر الى نهاية عهد الامام الصادق عليهما‌السلام (١). فقد تيسر لهذين الامامين واصحابهما ، التعبير عن آرائهم في اصول الاسلام وفروعه ، وشاع الجدل والنقاش بينهم وبين غيرهم من الفقهاء والفلاسفة ، في مباحث الفقه والكلام وغيرهما من الشبه التي انتشرت بين المسلمين بواسطة اتصالهم بالبلاد التي غزاها الاسلام.

وجمعت مدرسة الامام الصادق آلاف الطلاب من مختلف الأقطار الاسلامية ، وانتشر فقهه وحديثه بين الملايين من الناس ، ومن أجل ذلك نسب اليه المذهب.

ومهما كان الحال ، فلقد كان الفقهاء ورواة الحديث من الشيعة ، يعدون بالمئات في عصر التابعين وتابعيهم ، وعليهم كانت تعتمد مدارس الفقه والحديث ، في مكة والمدينة والكوفة ، وبقية المدن الاسلامية الكبرى. وعن الذهبي في ميزان الاعتدال ، ان التشيع كثر في عهد التابعين كثرة مفرطة. وقال في ترجمة ابان بن تغلب ، بعد ما نقل توثيقه عن جماعة من الاعلام ، كابن حنبل وابن معين وابي حاتم ، لقائل أن يقول : كيف ساغ توثيق مبتدع ، وحد الثقة العدالة والاتقان؟ وجوابه ان البدعة ضربان : صغرى كغلو التشيع ، او

__________________

(١) حسب النهج الذي سلكناه في هذا الكتاب ، في الحديث عن الفقه الشيعي.

٢٧٢

التشيع بلا غلو ولا تحرف ، وهذا كثر من التابعين وتابعيهم ، مع الدين والورع والصدق ، فلو رد حديث هؤلاء لذهبت جملة الآثار النبوية ، وهذه مفسدة بيّنة (١).

وان المتتبع في مجاميع الفقه ، التي دونت بعد عصر التابعين ، كموطأ مالك ، اول كتاب الف في الفقه ، باشارة من ابي جعفر المنصور (٢) ، يرى انه يعتمد في كثير من ابواب الفقه على فقهاء الشيعة ، كسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وابن جبير ، وهو في الغالب يذكر آراءهم في مختلف المسائل الفقهية ، ويجعل منها دليلا على ما يذهب اليه. واذا أردنا أن نستقصي آراءهم في الفقه ، كما دونها مالك في موطئه لبلغت كتابا مستقلا.

وإذا رجعنا الى غير الشيعة وتتبعنا ولو قليلا ، وجدنا ان كثيرا ممن اشتهروا في الفقه في عصر التابعين وما بعد ، قد أخذوه عن علي وابن عباس وابي بن كعب وابن المسيب وغيرهم ، او عن تلاميذ هؤلاء ، من الموالي والتابعين ، لا سيما عليّ (ع) وابن عمه حبر الأمة ، فقد أخذ عنهما المتقدم والمتأخر.

__________________

(١) المجلد الأول من اعيان الشيعة ، عن الذهبي في ميزان الاعتدال.

(٢) تاريخ الفقه الاسلامي للدكتور محمد يوسف ص ١٧٢.

٢٧٣

أدلة الأحكام في عهد التابعين

لم تختلف أدلة الأحكام في عهد التابعين عن عهد الصحابة ، فالكتاب والسنة هما المرجعان الأولان في جميع العصور ، واليهما يرجع الفقيه لمعرفة الأحكام. وفيما سبق ، ذكرنا انه حدث في عصر الصحابة ، بعد وفاة الرسول ، اصلان آخران : هما الإجماع والقياس وفيما وصل الينا من آثارهم انهم لم يرجعوا الى هذين الأصلين ، الا اذا تعذر عليهم معرفة الحكم عن طريق الكتاب والسنة.

وفي ذلك يقول الخضري في تاريخ التشريع الاسلامي : كان الشيخان اذا استشارا جماعة في حكم ، واتفقت آراؤهم فيه ، افتي به وسمي ذلك إجماعا ، اما اذا لم تتفق الآراء ، كان الحكم بالرأي ، حسبما يستوحيه الفقيه من المناسبات والمصالح. وكان من نتيجة ذلك القياس ، الذي اعتمد عليه الصحابة ، وأصبح من أدلة الأحكام عندهم ، واشتهر به جماعة من التابعين ، وأصبح اداة طيعة امينة على الأحكام عند الأحناف.

وقد وضع نواته عمر بن الخطاب ، في كتابه الى أبي موسى الأشعرى : اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك ، فان إلحاق

٢٧٤

امر بآخر لمجرد المشابهة والمماثلة ، كما جاء في هذه الوثيقة ، هو آخر مرحلة وصل اليها المتطرفون في العمل بالقياس. ولم يعهد ذلك في حياة الرسول ، ولا عن أحد من الصحابة قبله. ويبدو انه كان مستقلا في تفكيره وجازما في اموره ، اذا رأى المصلحة في شيء اقدم عليه ، وان خالف نصوص القرآن والسنة. فقد منع اعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة. وهذا مفروض بنص القرآن الكريم كما جاء في الآية ٦١ من سورة النور : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ.)

وقد جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس ، الى أبي بكر في خلافته فقالا : يا خليفة رسول الله ، ان عندنا ارضا سبخة ، ليس فيها كلأ ولا ماء ، فان رأيت ان تعطيناها ، فاقطعهما اياها وكتب لهما بها كتابا واشهد عليه ، فانطلقا الى عمر ، فلما سمع بما في الكتاب تناوله من ايديهما ، ثم تفل فيه ومحاه ، وقال ان رسول الله كان يتألفكما ، والاسلام قليل ضعيف (١).

ولما فتح المسلمون ارض العراق بالسيف ، ابقاها بيد اهلها وفرض عليهم حصة من الناتج ، واحتج بأنها لو قسمت على الفاتحين ، لم يبق للدولة من الموارد ما يكفيها لشؤون الجيش والعمران والتعليم ، وغير ذلك من المهمات ، وبقيت ملكا لهم ولأبنائهم من بعدهم ، فتنهار ميزانية الدولة ، لأنها تقوم على الفتوحات والغزو. مع أن النصوص الاسلامية تقضي بأن تكون غنيمة من الغنائم ، يأخذ الامام منها

__________________

(١) شرح النهج لابن ابي الحديد المجلد الثالث ص ١٠٨ والنص والاجتهاد للسيد عبد الحسين شرف الدين ، عن العسقلاني في أحاديثه.

٢٧٥

الخمس (١) والأربعة الأخماس الباقية يملكها الفاتحون ، كما جاء في تاريخي الفقه الاسلامي والتشريع الاسلامي

وقد منع من نكاح المتعة ، مع انه احد فردي النكاح في زمن الرسول وأبي بكر ، وأمضى الطلاق الثلاث إذا كان بلفظ واحد ، مع اعترافه ان الرسول اعتبره طلقة واحدة ، الى غير ذلك من الموارد التي كان يفتي فيها برأيه ، ولو خالف المنصوص عليه من كتاب او سنة. ولكنه يعتمد على ان المصالح التي كان التشريع من اجلها قد ذهبت او حدث ما هو اولى منها بالرعاية والعناية ، مع بقاء النص القرآني ثابتا غير منسوخ.

قال الأستاذ خالد محمد خالد : لقد ترك عمر بن الخطاب النصوص الدينية المقدسة من القرآن والسنة ، عند ما دعته المصلحة لذلك. فبينما يقسم القرآن للمؤلفة قلوبهم حظا من الزكاة ، ويؤيده الرسول وابو بكر ، يأتي عمر بن الخطاب فيقول : لا يعطي على الإسلام شيء ، وبينما يجيز الرسول (ص) وأبو بكر بيع امهات الأولاد ، يأتي عمر فيحرم بيعهن ، وبينما كان الطلاق الثلاث في مجلس واحد يقع واحدا بحكم السنة والإجماع ، جاء عمر وحطم السنة والاجماع (٢).

وهذا النوع من الاجتهاد مبني على تقييد الأحكام ، المنصوص عليها في الكتاب والسنة ، بالمصالح المستنبطة ، او تحديدها بزمان خاص. ولم يذهب اليه حتى القائلون بأن المصالح المرسلة والاستحسان من ادلة

__________________

(١) كما تنص على ذلك الآية : (أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) الآية ٤١ من سورة الأنفال.

(٢) في كتابه الديمقراطية (ص ١٥٠).

٢٧٦

الأحكام ، لأن الاستحسان هو العدول عن قياس الى آخر اقوى منه (١). والمصالح المرسلة التي يعبر عنها الغزالي بالاستصلاح ، هي المصلحة التي لم يشرع الشارع حكما على طبقها ولم يدل دليل شرعي على اعتبارها او إلغائها (٢). ولا يجوز الاعتماد عليهما في الأحكام عند القائلين بهما ، الا مع فقد النص ، من كتاب او سنة.

ومن الصعب ان نجد لهذا النوع من الاجتهاد ما يبرره ، بعد توفر الأدلة من الكتاب والسنة : أما بنصوصيتها ، او بإطلاقها وعمومها. وأما الاجتهاد الذي لا بد منه ، بعد أن كانت الحوادث غير متناهية ، فمن موارده ما إذا كان النصوص الواردة في الوقائع المختلفة ظنية الدلالة على نحو يكون المراد مرددا بين امرين او امور ، وكلها لا تتنافى واغراض المشرع. ففي مثل ذلك لا بد من الاجتهاد لتعيين مراد المتكلم. ولكنه اجتهاد في حدود فهم المراد من النص وترجيح احد معنييه او معانيه. وعلى المجتهد في مثل هذه الحالة ، ان يبذل جهده في هذا الترجيح بالرجوع الى الأصول اللغوية والقواعد المجعولة لتعيين المراد من ظواهر الكلام. أما الواقعة التي لا يشملها النص بعمومه او بإطلاقه ولم ينعقد عليها إجماع الفقهاء ، فلا بد فيها من الاجتهاد بالرأي في مقام الإفتاء والقضاء ، وذلك بالرجوع الى القواعد العامة والأصول التي لا بد من الرجوع اليها في مثل ذلك ، شرعية كانت أو عقلية.

وهذا النوع من القضاء والافتاء بالرأي ، هو الذي أقره الرسول في حديث معاذ بن جبل ، وامتدحه عليه ، وحمد الله الذي وفق رسول رسوله لما

__________________

(١) ملخص إبطال القياس والاستحسان لابن حزم (ص ٥٠).

(٢) مقدمة النص والاجتهاد للسيد محمد تقي الحكيم ، أستاذ أصول الفقه في كلية منتدى النشر ، نقلا عن خلاصة التشريع الإسلامي وعلم أصول الفقه.

٢٧٧

يريده الله ورسوله على تقدير صحة الرواية وليس منه القياس والاستحسان كما القائلون بهما ، ومهما كان الحال فقد ظهر الاجتهاد بين فقهاء الصحابة وبرز في فتاويهم وأقضيتهم في تطبيق آيات الأحكام ونصوص السنة في موارد كثيرة وتعداهما الى القياس والاستحسان كما أشرنا الى بعض تلك الاجتهادات في الفصول السابقة. ولكن هذه النزعة لم تكن بارزة في احكامهم وأقضيتهم ، كما برزت في عهد التابعين وتابعيهم ، وعلى الأخص بين فقهاء العراق ، الذين اشتهروا بالرأي ، كما اشتهر فقهاء الحجاز بالحديث ، لأسباب اهمها تلك الحياة المتجددة والمتغيرة بما عرض لها من تطورات سريعة ، بعد ان فتح الله على المسلمين بلاد الفرس والرومان وشمالي افريقيا ، وغيرها من الأقطار التي غزاها الاسلام.

ومما لا شك فيه ان لكل من هذه الأقطار حضارتها وعوائدها واعرافها التي تخصها. وكم يرى من الفرق بين الحياة التي كان يحياها الرسول وصحابته في دنياهم المحدودة يوم ذاك ، تلك الحياة البسيطة الهادئة ، وبين تلك الحياة التي عاش فيها الفقهاء بعد عصر الرسول وصحابته ، وانتشر فيها الاسلام في الشرق والغرب والشمال والجنوب ، فكان مما لا بد منه أن يتأثر العرب الغزاة ، بما في تلك البلاد ، من العادات والتقاليد والنظم الاقتصادية والاجتماعية ، مما تتصل بحياة الانسان اتصالا مباشرا وتؤثر على تفكيرهم ، حتى في فهم نصوص القرآن وذلك من دواعي نمو التشريع وتضاعف جهود الفقهاء وحملة الحديث ، في تطبيق تلك القواعد العامة ، التي وردت في الكتاب والسنة ، على تلك الوقائع والحوادث التي تجددت مع الزمن ، لا سيما وان المأثور عن الرسول (ص) من قضاء واحكام ، في الموارد الخاصة وما طبقه من تلك القواعد الكلية التي وردت في الكتاب على الحوادث

٢٧٨

والوقائع التي مرت في عصره تلك الموارد والموضوعات التي اعطاها الرسول احكامها لم تكن في الغالب تشبه ما تجدد مع الزمن من أوضاع وحوادث اقتضتها طبيعة الحياة الجديدة التي استقبلها المسلمون بما فيها من عادات واعراف تخصها.

واقتضى ذلك ان تتضاعف جهود العلماء والمفتين في البحث عن النصوص الاسلامية وفهم المراد منها ليستطيعوا ربطها بتلك الكليات التي وردت في الكتاب والسنة وتطبيقها على الجزئيات التي تتجدد مع الزمن. وهذا ما لم تدع اليه الحاجة في عصر التشريع وما بعده من عصر الصحابة ، لعدم التبدل المحسوس في الأوضاع ، في تلك الفترة من الزمن. ومن اجل ذلك ، كان لعصر التابعين ذلك الطابع الخاص ، واشتهر فيه العمل بالرأي والاجتهاد بين الفقهاء ، وعلى الأخص ما كان منهم خارج الحجاز ، كالعراق مثلا ، التي اشتهر فقاؤها بأهل الرأي (١).

وهذا النوع من الاجتهاد مما لا بد منه في مثل هذه الحالات ، لأن الاسلام بطبيعته لا يحجز في الرأي على أحد ، ما دام العلماء يسيرون في فلك القرآن وسنة الرسول ، الذي لا ينطق عن الهوى.

على انه قد يتعسر احيانا على القضاة والفقهاء ، ربط بعض الحوادث بتلك القواعد العامة ، التي وردت في الكتاب والسنة ، او تطبيقها على الجزئيات المتجددة وفي مثل ذلك لا مفر من الحكم بآرائهم ، بعد الفحص والتحري عن الواقع ، وقد اقر الرسول (ص) معاذا وامتدحه على قضائه في مثل هذه الحالات كما ذكرنا على تقدير صحة الحديث.

__________________

(١) تاريخ الفقه الاسلامي (ص ٢٨).

٢٧٩

ومحهما كان الحال ، فالاجتهاد الذي شاع بين فقهاء التابعين وامتازوا به عن فقهاء الصحابة ، لم يكن خارجا عن فلك القرآن والسنة ، وانما كان في فهمهما ، وتطبيق الكليات على ما تجدد من الحوادث التي لم يكن شيء منها في الغالب يشبه ما كان في عصر التشريع وما بعده من فجر عصر الصحابة وقد يتعداهما الى القياس وغيره. وليس السبب فيه ما يدعيه المستشرق (جولدشيهر) من ان الاسلام لم يأت الى العالم بطريقة كاملة ، وان القرآن نفسه لم يعط من الأحكام الا القليل ، ولا يمكن ان تكون احكامه شاملة لهذه العلاقات غير المنتظرة كلها ، مما جاء عن الفتوح ، وانه كان مقصورا على حالات العرب الساذجة ومعنياتها ، بحيث لا يكفي لتلك الأوضاع الجديدة التي نجمت عن الفتوح (١).

ومن ذلك ينتهي الى ان الاجتهاد كان مما لا بد منه. وعلى أساسه تطور الفقه ، وشاع العمل بالرأي بين الفقهاء.

ولا بد لنا من الوقوف معه حول هذا الرأي وعلى الأخص عند قوله : احكام الاسلام كانت مقصورة على حالات العرب الساذجة.

فالناظر في أدلة التشريع ، سواء في ذلك ما ورد منها في العبادات ، أو المعاملات ، أو الأحوال الشخصية والجنائية وغيرها يرى القرآن لم يتوجه في تلك الخطابات الى طبقة خاصة ، أو صنف من أصناف الانسان ، في عصر من العصور ؛ بل توجه بما فيه من تشريع وغيره الى العالم كله بطريقة كاملة. جمعت بين الدنيا والدين ، وهو كغيره من بقية القوانين ، جاء بشكل نظام كلي شامل ، وترك التفاصيل للقائمين على

__________________

(١) تاريخ الفقه الاسلامي ، عن كتاب العقيدة والشريعة في الاسلام ، للمستشرق المذكور.

٢٨٠