تاريخ الفقه الجعفري

هاشم معروف الحسني

تاريخ الفقه الجعفري

المؤلف:

هاشم معروف الحسني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٩

والإجماع الذي وضع نواته الشيخان ، كما يقول الخضري وابن خلدون وغيرهما ، عرض عليه بعض التطور ، فيما بعد زمن الصحابة ، ووقع خلاف شديد بين مالك وجماعته من جهة ، وبين الليث بن سعد ، فقيه مصر ، كما جاء في تعابير أهل السنة عنه ، ومعه جماعة من جهة اخرى ، مع اتفاقهما على اعتباره دليلا على الحكم. فبينما يرى مالك وجماعته ، ان الاجماع الذي هو دليل في الأحكام ، هو إجماع اهل المدينة ، يرى الطرف الآخر ان اهل المدينة وغيرهم سيان في ذلك. ومهما يكن الحال ، فقد استدل من يرى أن الاجماع دليل لا يجوز مخالفته ، بالآية (١١٤) من سورة النساء : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً.)

وبالآية (١٤٣) من سورة البقرة : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)

وبما رواه ابن مسعود عن الرسول انه قال : «ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله تعالى ، ونصيحة المسلمين ، ولزوم جماعتهم».

وبما رواه عمر بن الخطاب عنه وهو يخطب الناس : «ألا من سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ، الشيطان مع الفرد ، وهو من الاثنين ابعد».

وبما رواه المحدثون من اهل السنة عنه انه قال : «لا تجتمع امتي على ضلال ، ويد الله مع الجماعة».

٢٢١

وبالاضافة الى هذه الأدلة ، يحتج مالك (١) فيما يذهب اليه من ان الاجماع الذي يجب اتباعه هو إجماع اهل المدينة ، بأن المدينة دار هجرته ، ومهبط الوحي الإلهي ، وبها استقر الإسلام وصارت له دولة ، وتوحدت فيها شريعته ، واجتمع فيها صحابته من المهاجرين والأنصار ، ولازموه دهرا طويلا ، فعرفوا أسرار التنزيل الذي شاهدوه وتشربوه وعملوا به ، وكانوا اعرف الناس بأحوال الرسول وما كان منه من قضاء وأحكام تشريعية ، وما الى ذلك مما يتعلق بالتشريع وأصوله. وينتهي من ذلك الى نتيجة حتمية بزعمه ، وهي ان الحق لا يخرج عما يذهبون اليه ، وان ما يجتمعون عليه يكون حجة شرعية ، لها قيمتها التي لا يجوز إنكارها وتجاهلها.

وأما الأصل الرابع الذي جاء التعبير عنه في كلماتهم ، بالرأي تارة ، وبالقياس اخرى ، فأول من وضع نواته عمر بن الخطاب ، كما يظهر من الأستاذ الخضري ، قال : كانت ترد على الصحابة أقضية لا يرون فيها نصا من كتاب او سنة ، وإذ ذاك كانوا يلجأون فيها الى القياس. وأيد دعواه بكتاب عمر بن الخطاب الى ابي موسى الأشعري الذي يقول فيه : «أعرف الأشياء والأمثال وقس الأمور بعضها على بعض». ويرى هذا الرأي ابن خلدون حيث يقول : ان الإجماع والقياس حدثا ايام الصحابة انفسهم ، وبها صارت اصول الفقه اربعة.

ويذكر الدكتور محمد يوسف (٢) عن الإمام ابي بكر السرخسي ، ان مذهب الصحابة ومن بعدهم من التابعين والماضين من أئمة الدين ،

__________________

(١) كما يظهر من موطإه.

(٢) تاريخ الفقه الاسلامي (ص ٢٤٢).

٢٢٢

جواز القياس ، وهو مدرك من مدارك احكام الشرع. على ان محمد يوسف يميل الى ان الرسول نفسه ، هو الذي وضع مبدأ القياس. وذلك حينما بعث معاذا على قضاء اليمن ، وقد قال له يومذاك : كيف تصنع اذا عرض لك قضاء بين اثنين؟ قال : أقضي بما في كتاب الله. قال : فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال : فبسنّة رسول الله. قال : فإن لم يكن في السنة شيء من ذلك؟ قال : اجتهد رأيي لا اكد. فضرب رسول الله بيده في صدر معاذ ، وقال : الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضاه رسول الله.

ثم نقل عن اعلام الموقعين لابن القيم ، ان محرز المدلجي الكناني ، قد استعمل القيافة والقياس أيام رسول الله ، وحكم عن طريق القياس ، ان اسامة ولد شرعي لزيد بن حارثة ، وان الرسول سر بذلك ، حتى برقت اسارير وجهه ، وكانت الشبهة قد وقعت على اسامة لأنه اسود اللون وزيد ابيض. ولكن تشابه اقدامهما اقتضى إلحاق الفرع بأصله ، وعدم تأثير الوصف في ذلك.

ونقل عنه ايضا ، ان حد القذف ورد في القرآن فيمن قذف المحصنات ، كما جاء في الآية الرابعة من سورة النور : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) ، فقاس الصحابة من يرمي المحصنين على المحصنات.

وبعد أن ساق الدكتور يوسف (١) هذين وغيرهما عن ابن القيم ، نقل عنه ما ارتضاه من كلام المزني ، ان الفقهاء من عصر الرسول الى

__________________

(١) تاريخ الفقه الاسلامي (ص ٢٤ ـ ٢٥).

٢٢٣

يومنا هدا استعملوا المقاييس في الفقه وجميع الأحكام في امر دينهم ، وأجمعوا على ان نظير الحق حق ، ونظير الباطل باطل.

وذكر ابن حزم في كتابه ، ملخص ابطال القياس والرأي والاستحسان والتعليل والتقليد ، امثلة اخرى من الكتاب الكريم ، عمل الصحابة وغيرهم فيها بالقياس (١).

منها قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) قالوا : فما عدا (الأف) من انواع الأذى مقيس عليه.

ومنها قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) فما عدا خشية الإملاق مقيس عليها.

وقالوا : إن الله حرم لحم الخنزير في كتابه ، فحرم شحمه قياسا على لحمه ، والأثنى منه قياسا على الذكر.

وقالوا : إنما أجمعت الصحابة على تقديم ابي بكر في الخلافة ، قياسا على تقديم النبي له في الصلاة ، وإن أبا بكر قاتل مانعي الزكاة ، قياسا للزكاة على الصلاة.

وقد سرد ابن حزم الأندلسي أمثلة أخرى ، نسبها أنصار القياس الى الصحابة وغيرهم. ولا يعنينا ان نستقصي جميع ما ذكروه من موارد استعمال القياس في عصري الصحابة والتابعين.

وإن كان هو ممن لا يرون جواز العمل به ، في الأحكام وغيرها. ويرى ان الكتاب والسنة فيهما تبيان كل شيء ، ولا يتصور فقد النص ،

__________________

(١) ملخص إبطال القياس لابن حزم بتحقيق سعيد الأفغاني (ص ٢٥ ـ ٢٦) المطبوع في مطبعة جامعة دمشق (سنة ١٩٦٠).

٢٢٤

ليسوغ لنا الرجوع الى القياس وأمثاله (١). وفي تعليقه على هامش الكتاب المذكور ان ذلك مذهب البخاري أيضا ، فقد قال : «لا أعلم شيئا يحتاج اليه ، في التشريع والآداب ونظام المجتمع ، إلا وهو في الكتاب والسنة».

ومهما يكن الحال فإن حدوث هذا الأصل في زمن الصحابة أمر لا يقبل الجدل والنقاش. وقد اشتهر بعد ذلك وكثر العمل به عند الأحناف وغيرهم ، وأصبح كغيره من أدلة الأحكام. أما اتصال ذلك بزمن الرسول ، فليس في الآثار التي وصلت الينا عنه ما يؤيد هذا الرأي. وحديث إقراره لمعاذ بن جبل على العمل برأيه ، فيما اذا لم يجد نصا من كتاب او سنة ، هذا الحديث ليس فيه ما يشير الى القياس بمعناه المعروف ، من قريب او بعيد وكل ما في الأمر انه أقرّ معاذا على بذلك جهده ، ليصل الى الواقع في مقام عدم النص. وهذا أمر مفروض على القضاة والمفتين ، بعد أن يكون فيهم من المؤهلات الكافية للبحث عن الحكم في مظان وجوده ، حتى لا تضيع الحقوق ، ولكي يعرف الحلال من الحرام.

وأما ما نقله ابن القيم عن محرز المدلجي ، والذي برقت له أسارير وجه النبي ، كما يزعم الراوي ، فليس فيه اكثر من موافقة القيافة او القياس ، كما يسميه ابن القيم ، للمبدأ الشرعي العام ، الذي وضعه الرسول في مثل ذلك ، وأصبح أصلا متبعا في كل مولود تولد من أبوين ، بعد تحقق النكاح بينهما. قال (ص) : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» ، بدون ان يكون لتشابه الألوان والأقدام أي أثر في ذلك.

__________________

(١) (ص ٥) من ملخص ابطال القياس لابن حزم.

٢٢٥

فاتصال العمل بالقياس بزمن الرسول لا تؤيده الأحاديث الصحيحة ، ولا الوقائع التي تمسك بها أنصار هذا الرأي.

على انه لم يتحقق اجماع من الصحابة والتابعين ، على اعتباره اصلا من أصول الأحكام الشرعية. فروي عن علي (ع) انه قال : «لو كان الدين يؤخذ قياسا ، لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره» (١).

وعن ابن مسعود انه قال : «ان عملتم في دينكم بالقياس ، احللتم كثيرا مما حرم الله ، وحرمتم كثيرا مما حل لكم» (٢).

وعن الشعبي انه كان يقول : «إذا سئلت عن مسألة ، فلا تقس شيئا بشيء ، فربما حللت حراما وحرمت حلالا ، وإنما هلكتم حيث تركتم الآثار واخذتم بالمقاييس» (٣).

ولم يتحقق اجماع من المسلمين على اعتباره دليلا على الأحكام في عصر من العصور ، حتى عند أهل السنة ، فقد رفض العمل به ابراهيم النظام ومن تبعه من المعتزلة (٤) وداود بن علي الأصفهاني الظاهري ، المتوفي سنة ٣٧٠ وجعفر ابن حرب وجعفر بن ميشة ومحمد بن عبد الله الاسكافي وغيرهم (٥). ولكل واحد من هؤلاء أدلة على عدم جواز العمل به ، ووجهات نظر يصدر عنها. وقد استعرض الشافعي ، في كتابه المسمى بالرسالة ، أدلة المانعين ووجهات نظرهم. ودافع عنه ، وانتهى به القول الى انه أداة أمينة لاستنباط الأحكام الشرعية.

__________________

(١) العدة للشيخ الطوسي.

(٢) نفس المصدر.

(٣) العدة للشيخ الطوسي.

(٤) تاريخ الفقه الاسلامي (ص ٢٤٧).

(٥) نفس المصدر.

٢٢٦

ولا بد لنا من عودة الى هذا الأصل ، عند الكلام على اصول التشريع الجعفري ، في عهد الامام الصادق (ع). والذي أردناه في هذا الفصل ، ان تاريخ العمل بالقياس ، واعتباره دليلا على الأحكام الشرعية ، يتصل بعصر الصحابة ، وبه تكون اصول الأحكام اربعة ، من عصر الصحابة حتى العصور المتأخرة ، التي اشتهر العمل له فيها عند الأحناف بصورة خاصة.

ولا بدّ لنا ، وقد اثبتنا في الفصول السابقة ، ان التشيع لم يكن بأقل نصيبا من غيره في التشريع بعد وفاة الرسول ، بل إذا أضفنا جهود علي (ع) في هذه الناحية ، الى ما قام به الصحابة من الشيعة ، في نشر الأحكام وبيان الحلال والحرام ، لجاز لنا ان نعتبر التشيع اقوى دعامة قام عليها التشريع في عصر الصحابة ، من غير ان نكون قد حابيناه او تحيزنا له في هذه النسبة.

ومن تتبع الموارد التي أفتى بها الشيعة ، يتبين ان الكتاب والسنة مما المصدران الوحيدان للفقه الاسلامي ، من فجر الاسلام حتى العصور المتأخرة. وان الكتاب الذي تداوله المسلمون بينهم ، من عهد الرسول حتى اليوم ، هو المنزل على محمد بن عبد الله (ص) ، بدون تحريف او تبديل ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو مصدرهم الأول في كل ما جاء به الاسلام. وقد جمعت آياته الواردة في مقام التشريع ، سواء ما كان منها واردا في العبادات او المعاملات والأحوال الشخصية والجنائية ، فبلغت نحوا من خمسمائة آية ، جمعها ووزعها على ابواب الفقه ، وبين اسباب نزولها وتاريخه ، جماعة من اعلام الشيعة ، منهم الجزائري والمقدادي وغيرهما (١).

__________________

(١) كنز العرفان في فقه القرآن للمقدادي ، وقلائد الدور في بيان آيات الأحكام بالأثر للجزائري.

٢٢٧

والذي لا شك فيه ان آيات التشريع لا تفي بكل ما يحتاجه الانسان من احكام الوقائع والحوادث ، لا سيما وقد تجددت مع الزمن واتساع الحياة اشياء كثيرة. ومن اجل ذلك كانت الحوادث غير متناهية. على ان الآيات قد وضعت المباديء العامة في الغالب وتركت تحديد الموضوعات وماهياتها ، من حيث العموم والخصوص والاطلاق والتقييد ، والاجمال والتفصيل ، وغير ذلك مما لا بدّ من رعايته في مقام أخذ الحكم من الآيات التي وردت في مقام التشريع الى السنة.

لهذه الأسباب كانت الحاجة ماسة الى السنة ، لبيان ما أجملته آياته الكريمة ، وتوضيح مشكلاته ، وتحديد بعض الموضوعات التي تعلق الطلب بايجادها او تركها. وفي هذا يقول الله سبحانه في سورة النحل الآية ٤٤ : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.)

فالسنة متممة للكتاب وكلاهما من مصدر واحد : «لا ينطق عن الهوى ان هو إلا وحي يوحى». والذي تعنيه هذه الكلمة أي كلمة السنة إذا وردت على لسان الفقهاء والمحدثين ، هو ما صدر عن المعصوم ، نبيا كان أو إماما ، من قول او فعل او تقرير فيما لو كان قوله او فعله او تقريره في مقام التشريع وبيان الواقع. ولم يخالف احد من الشيعة ، في ان السنة بمعناها المعروف بين الفقهاء والمحدثين ، اصل من أصول الأحكام. ووجوب العمل بما تقتضيه ، من غير فرق بين ما يؤخذ منها وما يؤخذ من كتاب الله. وتدل على ذلك الآية السابعة من سورة الحشر : (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ،) والآية ٦٤ من سورة النساء : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً.)

٢٢٨

لهذين الأصلين وحدهما كان يرجع الشيعة ، في عهد الصحابة وما بعده من العصور. ويتبين ذلك مما ذكرناه في الفصول السابقة من آراء علي وبعض الصحابة من الشيعة في الفقه والتشريع. وعند ما يلجأ غيرهم الى الرأي والاجماع والاستحسان ، للأسباب التي يزعمون أنها تبيح لهم ذلك ، يقف الشيعة الى جانب هذين الأصلين وحدهما ، معلنين آرائهم في الفقه على أساسهما. ويدل على ذلك رأيهم في المتعة والمسح على القدمين والعول والتعصيب والطلاق ثلاثا بلفظ واحد ، وغير ذلك من موارد الخلاف مع غيرهم من الصحابة ، في المسائل التي بدأ الخلاف فيها من عهدهم واستمر حتى اليوم.

أما الاجماع ، سواء كان يرتكز على آراء جماعة من الصحابة ، كما يقول الخضري ، او آراء أهل المدينة ، لأنها مهبط الوحي ، وأهلها عاشوا مع النبي دهرا طويلا ، وعرفوا أسرار ما نزل عليه وعملوا به كما يدعي مالك وأتباعه ، او آراء غيرهم من المسلمين ، كما يرى الليث بن سعد ، فقيه مصر ، هذا الاجماع ، لا أثر له عند الشيعة. وآراء الفقهاء عندهم ، قلت او كثرت ، لا تكون دليلا على الحكم ، لأنها لا تفيد إلا الظن. وفيه يقول الله سبحانه : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً.) وليس في الآثار التي رواها انصار الاجماع عن الرسول ، ولا في الكتاب ، ما يصلح لأن يكون دليلا على اعتبار الظن ، الذي يحصل من أقوال الجماعة في أمر من الأمور ، قلت او كثرت.

وقد ورد الاجماع على لسان الفقهاء والمحدثين من الشيعة ، في العصور المتأخرة عن عصر الصحابة وتابعي التابعين بل وحتى عن عصر الأئمة عليهم‌السلام. ويعنون به اتفاق جميع العلماء على الحكم ، بنحو يكون الامام (ع) معهم ، فحيث يعتبرونه من أصول الأحكام ، ذلك

٢٢٩

لأن الامام مع المجمعين ، قل المجمعون او كثروا. وفائدته عندهم انه يكون كاشفا عن رأي الامام ، فيما إذا اتفق جميع العلماء على حكم ولم يتعين لهم قول المعصوم (ع) ، فيكون هذا الاتفاق كاشفا عن وجود رأيه بين آرائهم هذا الاجماع الذي تكرر استعماله والاستدلال به في كتب الفقه ، لا يعملون به ، إلا حيث يكون كاشفا عن السنة ، فيكون تعبيرا آخر عنها بلفظ الاجماع.

ومهما كان الحال ، فالشيعة منذ عهدهم الأول ، الذي اتصل بتاريخ الاسلام ، ومشى معه جنبا الى جنب ، لا يرجعون لغير الكتاب والسنة في أحكام دينهم. ولا يرون الاجماع دليلا ، إلا إذا كان كاشفا عن رأي المعصوم ، لأنه موجود في كل زمان. على ان هناك شيء من الخلاف بينهم في طريقة استكشاف رأيه من الاجماع ، على تقدير وجوده.

أما القياس ، الذي يدعي أهل السنة انه من أصول الأحكام في عصر الصحابة ، والذي قال عنه الدواليبي في كتابه : (المدخل الى علم أصول الفقه) ، الحاق أمر بآخر في الحكم الشرعي ، لاتحاد بينهما في العلة ، سواء كانت مصرحا بها في الدليل الشرعي او لم تكن. وقال عنه آخرون : «هو الحكم فيما لا نص فيه بمثل الحكم فيما فيه نص او اجماع ، لاتفاقهما في علة الحكم ، او لاتفاقهما في وجه الشبه» (١).

وأيا كان معناه ، فالشيعة يرونه بدعة في الدين ، ولا يعملون به في الأحكام وغيرها ، وأصبح ذلك معروفا من مذهبهم. وروي عن علي (ع) انه قال : «لو كان الذي يؤخذ قياسا لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره». وليس فيما نقل عن فقهائهم في عهد الصحابة من

__________________

(١) ملخص إبطال القياس ، لابن حزم الاندلسي (ص ٥).

٢٣٠

الفتاوى والأحكام ، ما يشير الى أنهم يعتمدون عليها ، وقد تواترت الأحاديث عن أئمتهم بالمنع عن العمل فيه.

وقال الإمام الصادق (ع) لأبي حنيفة : اتق الله ولا تقس برأيك ، فسنقف غدا ومن خالفنا بين يدي الله ، فنقول قال رسول الله (ص) وقال الله ، وتقول انت وأصحابك رأينا وقسنا ، فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء. وقد ذكرنا سابقا ان اعتبار القياس من أصول الأحكام ، يؤدي بالنتيجة الى ان المشرع قد ساوى في الأحكام بين الأمور المتشابهة وخالف فيها بين غيرها. ومن التتبع فيما شرعه الاسلام ، يتبين لنا انه قد خالف بين المتماثلات في الحكم وساوى بين المختلفات احيانا.

أما إذا اشتمل دليل الحكم على علة ، ووجدنا تلك العلة في مورد آخر ولم يكن ذلك المورد من مصاديق موضوع الحكم ، كما إذا ورد في مقام التشريع مثلا ، حرمة الخمر لإسكارها ، او علمنا ان العلة في تحريمها هي الإسكار ولو لم ينص عليها الدليل بمنطوقه ، كانت النتيجة في مثل ذلك وجود الحكم اينما وجدت العلة ، لأن العلة في مثل ذلك بمنزلة الموضوع للحكم ، ومتى وجد الموضوع ، لا بدّ من وجود الحكم. فحرمة الشاي مثلا ، إذا كان مسكرا ليس من جهة القياس ، بل من جهة انه فرد آخر للموضوع الذي تعلق به التحريم.

٢٣١
٢٣٢

الفصل الرابع

الوضع السياسي في عهد التابعين

لقد ذكرنا في الفصول السابقة ، ان التشريع الإسلامي بعد وفاة الرسول ، كان في المرحلة الأولى يعتمد على الكتاب والسنة ، وفي عصر الخليفتين ابي بكر وعمر بن الخطاب ، حدث أصلان آخران ، هما الإجماع والقياس ، فكان أكثر المسلمين يعتمد على الإجماع فيما لا نصّ عليه من كتاب أو سنة. أما القياس ، فقد عمل به بعض الفقهاء من الصحابة ، واشتهر العمل به فيما بعد عصرهم ، وعلى الأخص في عصر أئمة المذاهب الأربعة. وذكرنا ان عليا (ع) والفقهاء من الشيعة في عصر الصحابة ، لم يرجعوا لغير الكتاب والسنة ، وعرضنا أمثلة من الفتاوى والأحكام التي صدرت عنهم لهذا الغرض. وانتهينا مما أوردناه من آثارهم في التشريع وتدوين الأحكام والحديث ، إلى انهم كانوا من اعلام التشريع البارزين في ذلك العصر ، بالرغم من ان السياسة كانت تسير باتجاه معاكس لهم. ولو لا ذلك لم يكن لغيرهم أثر يذكر بجانب ما

٢٣٣

تركوه من الآثار ، لأنهم كانوا ألصق بالرسول (ص) من غيرهم وأطولهم صحبة له. ولم يرد عنه في الأحاديث الصحيحة من التقريظ والتقدير لأحد من صحابته كما ورد عنه فيهم. والذي يعنينا الآن بعد ان انتهينا من الحديث عن التشريع في عصر الصحابة من جميع نواحيه ، وما أحاط به من ظروف وملابسات ، حسب ما تيسر لنا من المصادر والآثار التي دونها الباحثون عن ذلك العصر ان نتحدث عن التشريع الذي انتقل من الصحابة إلى التابعين وتابعيهم ، وعن المناهج والأصول التي استمدوا منها آراءهم وأحكامهم الفقهية.

وقبل الدخول في الموضوع فلا بد لنا من الإشارة الخاطفة الى الوضع السياسي الذي انتهجه الحكام الأمويون بعد ان وصلوا الى الحكم ، ومدى تأثير سياستهم الرعناء وسيرتهم الجائرة التي رسموها لأنفسهم لغاية تدعيم سلطانهم وتثبيت عروشهم ، مهما كلفهم ذلك من ثمن ، على جميع الاتجاهات الإسلامية والنظم التي جاء بها الإسلام ومارسها المسلمون ولمسوها من أقوال الرسول (ص) وسيرته الفاضلة ، وسيرة من جاء بعده من الراشدين.

لقد اتجه الأمويون بكل ما لديهم من قوة ، منذ الأيام الأولى من عهدهم إلى سياسة البطش والمكر وتبذير الأموال ، والإسراف في إراقة الدماء وتسخير الضمائر لدس الأحاديث والكذب على الرسول ، لغرض التمويه والتضليل ، بشرعية اغتصابهم لأقدس حق من حقوق المسلمين ، وهو الخلافة الإسلامية ، التي تتصل بالنبوة اتصالا وثيقا ، وتستقي من فيضها كل ما تحتاج إليه الأمة من بعث وتوجيه وإصلاح في جميع الحقول والميادين.

أجل لقد اتجه ابن هند وعصابته المجرمة الى مطاردة العلماء

٢٣٤

والصلحاء وقتل الأبرياء وشراء الذمم بالمال ، ليضعوا له الحديث في الطعن على علي (ع) فوضع له أبو هريرة ، ان الرسول قال : «المدينة حرمي ، فمن أحدث بها حدثا فعليه لعنة الله» واقسم إلى الناس يمينا كاذبا ان عليا أحدث فيها. ووضع له غيره المئات الأحاديث المكذوبة.

ومضى يتّبع الشيعة ، حتى أصبح التشريع لعلي بنظر معاوية وولاته جريمة تجر من ورائها القتل والحبس والتشريد. ولم يعد بإمكان أحد أن يعبر عن رأيه ، أو ينقل من أحاديث الرسول (ص) في فضل علي وأبنائه وشيعته من الصحابة الكرام ، أو يعارض أحدا من المأجورين فيما يضعونه من الأحاديث تمجيدا يبني أمية واتباعهم. وأحس أهل البيت والبقية الصالحة من الصحابة الكرام بالمستقبل المظلم الذي بدأت طلائعه منذ الصدمة الأولى التي أصيب بها الإسلام على يد عبد الرحمن الخارجي ، نتيجة لمؤامرة اشترك بها جماعة من الخوارج ، وأعانه عليها جماعة كانوا يرون ذلك ويطمعون في هبات معاوية وعطائه الجزيل.

ولقد كانت هذه أولى الأحداث التي واجهت الشيعة بصورة خاصة ، في العراق وغيره من البلاد الإسلامية. وأحس بمرارتها كل من لم يكن مأجورا لبني أمية من المسلمين. وشاع بينهم اليأس والأسف والخوف من تغلب الأمويين على الأقطار الإسلامية ، التي كانت تخضع لحكم علي (ع) ، لا سيما وقد اتسعت اطماع معاوية وتفتحت له أبواب جديدة للتغلب على خصمه ، وبدأ يعمل من جديد لاستجلاب العناصر التي يمكن إغراؤها بالمال ، من قادة الجيش ورؤساء القبائل. وانتشر دعاته في السر والعلانية في جميع المدن والأقطار الإسلامية التي لم تكن تخضع حينذاك لنفوذه. هذا والمسلمون بعد وفاة علي (ع) قد بايعوا الحسن بن علي بيعة شملت المدن والقرى ، وسكان البوادي من القبائل العربية وغيرها. وباشر (ع) جميع سلطاته الشرعية ، فرتب الولاة

٢٣٥

وقادة الجيش ووزع ما وجده في بيت المال على المسلمين ، كل بمقدار نصيبه ، إلا المقاتلة (وهم أفراد الجيش وقادته) فإنه زاد في عطائهم مائة مائة. وقبل أن يمضي على استخلافه ثلاثة أشهر ، أشار عليه من حوله من القادة ورؤساء القبائل بالرجوع الى صفين ، تنفيذا للخطة التي كان والده (ع) قد رسمها وباشر في تنفيذها قبل اغتياله ، فلم ير (ع) بدا من تنفيذ هذه الخطة وتحقيق رغبات الملحين عليه في تنفيذها.

ثم خرج من الكوفة متجها لقتال معاوية في جيش لا يقل عن سبعين ألفا من المجاهدين ، وأرسل ابن عمه عبيد الله بن العباس على رأس فرقة من الجيش ، وأمره أن يعبر الفرات إلى قرية يقال لها (مسكن) ليمنع معاوية من دخول الحدود العراقية ، وأوصاه ان لا يبتدئ معاوية بالقتال ، حتى يكون هو البادئ فيه. وأرسل معه قائدين من قواد جيشه وخلص شيعته ، ليتعاون معهما في الرأي وتدبير الأمور حسبما تمليه المصلحة. وتخلف الحسن (ع) في المدائن بقصد التعبئة العامة واستكمال العدد الكافي لمجابهة العدو. ولما أحس بدسائس معاوية وتغلغلها بين صفوف جيشه وانحراف بعض قواد الجيش بواسطة المال والمناصب التي أغراهم بها معاوية ، وقف بينهم خطيبا ليعرف مدى ما تركته دسائس معاوية من آثار سيئة بين صفوف جيشه. وما ان قال : «ألا وان ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة واني ناظر لكم خيرا من نظركم لأنفسكم فلا تخالفوا امري» ، حتى رموه بالكفر ونهبوا ما في خيمته من أمتعة وطعنه الجراح بن سنان الأسدي برمحه ، فأصاب فخذه. فعرف أن الجيش لا ينصاع لأوامره. واستغل ابن هند تلك الكلمات التي ألقاها الحسن (ع) بقصد استكشاف نوايا أتباعه ، كما استغل موقف جيشه منه ، فآثر عند ذلك ان يستعمل الحيل والمكر والمال ، لعله يربح المعركة بدون

٢٣٦

قتال. فأرسل الى عبيد الله بن العباس ، الذي ولاه الحسن (ع) أمر القيادة ، كتابا يمنية فيه حسن صنيعه ، ان هو بادر الى طاعته ، ويغريه بالعطاء الجزيل ، فاستجاب له ابن عباس ودخل في طاعته ليلا.

وتولى قيادة الفرقة المرابطة على الحدود ، قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ، وأصر هو وجنوده التواصل على قتال معاوية. ولما يئس معاوية من استجلابهم بما لديه من الوسائل ، أرسل وفدا ليفاوض الحسن (ع) بالصلح وشروطه. وكان من نتيجة ذلك ، ان وافق الحسن على الصلح ، بعد ان لمس من أهل العراق التخاذل ، وعرف أن الرؤساء والقواد يعرضون على معاوية طاعتهم وتسليم الحسن مكتوفا (١).

لقد عرف الحسن كل ذلك ووصلت اليه جميع اخبارهم ، وبالأمس القريب كان يراهم مع أبيه متخاذلين ، لا يندفعون الى خير ولا يتباطأون عن شر. وسمع أباه مرارا من على منبر الكوفة يتمنى فراقهم بالموت أو القتل. ومن يتتبع الحوادث التي مرت في تلك الفترة الوجيزة من أشهر خلافته والظروف التي أحاطت به ، يرى ان ما حدث من أمر الصلح مع معاوية كان لا بد منه. وقد أدرك بعض المستشرقين تلك المرحلة الدقيقة من تاريخ المسلمين والظروف العصيبة التي أحاطت الحسن (ع) وانتهى الى أن ما فعله كانت تمليه المصلحة العامة والحكمة (٢).

ويميل الى ذلك السيد مير علي في كتابه مختصر تاريخ العرب (٣). ونظر أكثرهم إلى الصراع بين الحسن ومعاوية من الناحية السياسية التي تمثل المكر والدهاء واستباحة كل شيء في سبيل أغراض الساسة

__________________

(١) شرح النهج لابن ابي الحديد.

(٢) روندلسن ، في كتاب عقيدة الشيعة في إيران والعراق.

(٣) كما نقل الدكتور علي الخرطبولي في كتابه : العراق في ظل العهد الأموي.

٢٣٧

وأهوائهم ، فاتهموه بالضعف ، وانه غير جدير بأن يكون ابن علي (ع) ، أمثال : (بروكلمان) و (أوكلي) و (فلهوزن) و (ساكيس) (١).

والذي يؤخذ على هؤلاء ، أنهم ينظرون الى الحسن (ع) بصفته خصما لمعاوية بن أبي سفيان ، الذي يستبيح كل شيء في سبيل تدعيم عرشه والوصول إلى الخلافة ، التي هي الغاية الأولى والأخيرة بنظره. أما الحسن بن علي (ع) فإنه ينظر إليها كوسيلة لإحقاق الحق وانصاف المظلوم وإشاعة العدل والسلام بين الناس ، كما ينظر إليها القرآن والإسلام ، لذا فإنه لا يرى من الحق استعمال المكر والكذب والقتل للوصول إليها ، فالخليفة بنظر علي وأبنائه ، حامي القرآن وحافظ الشريعة والأمين على حقوق الناس وأموالهم ، والخليفة بنظر ابن هند يملك الرقاب والأموال ويحكم مما توحيه اليه شهواته وأهوائه ويستبيح كل شيء في سبيل توطيد ملكه وإشباع غرائزه.

لذلك لم ير الحسن مجالا من دينه ، ان يستعمل الأساليب التي كان يستعملها ابن ابي سفيان.

وقد عاب المستشرق (سيكس) على علي (ع) إصراره على الأمانة والشرف ، لأنهما لا يتفقان مع السياسة (٢).

لقد انتهى الحال بأهل العراق مع الحسن (ع) الى مرحلة لم يجد بدا معها من تسليم الخلافة لمعاوية. ولم يبق عليه إلا أن يأخذ على معاوية شروطا ، له ولأهل بيته وشيعة أبيه ، تحفظ لهم حقهم

__________________

(١) العراق في ظل العهد الأموي (ص ٧٤).

(٢) نفس المصدر (ص ٥٢).

٢٣٨

وكرامتهم. فأرسل لهم معاوية صحيفة بيضاء وذيّلها بخاتمه ، وأبدى استعداده للموافقة على جميع ما يشترط فيها ، فاشترط لنفسه ان تكون له الخلافة بعد موت معاوية ، وان يأخذ كل ما في بيت مال الكوفة ، وان يكون له خراج الأهواز في كل عام.

واشترط لأبيه ، ان لا يسبه معاوية على المنابر. وان يكون لأخيه الحسين عليهما‌السلام ألف ألف درهم في كل عام. وان يفضل بني هاشم في العطاء على غيرهم من بني أمية. وان يؤمن أهل العراق ويتجاوز عن هفواتهم (١).

وبهذا الصلح تحققت لمعاوية أطماعه السياسية ، التي كان يحلم بها من عهد طويل ، وتم له الاستيلاء على أمور المسلمين عامة. وقبل ان يدخل الكوفة صلى بالناس صلاة الجمعة بالنخيلة وهي القاعدة العسكرية التي كان يجتمع فيها الجيش ، لاستكمال عدده وعدته ، ومنها ينطلق نحو وجهته ـ وبعد الصلاة خطب في أهل العراق ومن معه من جند الشام. وأسفر عن نواياه السيئة ، التي كان يضمرها لأهل العراق ، وللعلويين وشيعتهم. وقد وضع في خطبته الخطوط العامة للنهج السياسي الذي سيحققه في العراق ، ومع الحسن (ع) وشيعته بصورة خاصة.

فقد روى الأعمش ، عن سعيد بن سويد قال : صلى بنا معاوية بالنخيلة الجمعة ، وبعد الصلاة قال : والله اني ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا ، إنكم لتفعلون ذلك وانما قاتلتكم

__________________

(١) العراق في ظل العهد الأموي (ص ٧٠) عن الطبري وابن قتيبة وأبي الفداء وغيرهم من المؤرخين.

٢٣٩

لأتأمّر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك ، وأنتم له كارهون. إلا وان كل شرط أعطيته للحسن بن علي ، تحت قدمي هاتين ، لا أفي له بشيء منه (١).

بهذه الكلمات القصار ، وضع الخطوط الرئيسية ، للسياسة التي سيطبقها في العراق وغيرها من الأقطار التي كانت تخضع لخلافة علي (ع). وأحس أهل العراق ، بصورة خاصة ، بأخطائهم وبنتيجة تخاذلهم عن علي (ع) يوم كان يدعوهم الى جهاد معاوية ويحذرهم غدرة وكيده للقرآن والإسلام. ورجعوا بذكرياتهم الى الماضي البعيد ، يوم كان علي (ع) يقول لهم : ملأتم قلبي قيحا. ويسأل ربه ان يخلصه منهم. وأحسّوا ان مسؤولية انتصار معاوية تقع عليهم وحدهم (٢).

وها هو اليوم يقول لهم : «إني قاتلتكم لأتأمر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك ، وأنتم له كارهون». ولم تغب عن ذاكرتهم ، كلمات علي ، بالأمس القريب ، لابن عمه عبد الله ، وهو يخصف له نعله : يا ابن عباس ، ان أمرتكم هذه لا تساوي قيمة هذا النعل إلا أن أحق حقا ، أو أبطل باطلا.

ان عليا ، يرى الخلافة ، وان جمعت الدنيا بأسرها تحت سلطانه ، لا تساوي نعلا بالية ، إذا لم تكن سبيلا إلى الحق والعدالة. ولكنها بنظر ابن هند ، الأمنية الغالية ، لأنها تحقق له اطماعه وشهواته ومجد آبائه الغابرين. وله ان يريق في سبيل الوصول إليها ، دماء الملايين من الأبرياء والآمنين ، فهو يقاتل ليتأمر على المسلمين ويتسلط على رقابهم

__________________

(١) شرح النهج (المجلد ٤ ـ ص ١٦).

(٢) العراق في ظل العهد الأموي ، للدكتور علي الخرطبولي.

٢٤٠