تاريخ الفقه الجعفري

هاشم معروف الحسني

تاريخ الفقه الجعفري

المؤلف:

هاشم معروف الحسني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٩

ومهما يكن الحال فالمقصود في المقام أن التشريع لا بد منه لحفظ النظام وبناء مجتمع صالح ، وان التشريع الإسلامي جاء وافيا بحاجة الإنسان في دنياه وآخرته فقد أمر بالعمل والجهاد ونهى عن السؤال والتسول وسوى بين الناس فلا سيد ولا مسود ولا ظلم ولا عدوان ، الناس كلهم لآدم وآدم من تراب ، لا فضل لأحمر على اسود ولا لأسود على احمر الا بالتقوى ، وعالج نفس الإنسان وحرص على تصفيتها من الرذائل التي يؤدي الاستمرار عليها الى الجحود والشرك بالله ، كي لا تصبح مظلمة حالكة لا تبصر الحق ولا تدرك الواقع ويكون الشيطان لها بالمرصاد يمنيها حسن العاقبة وانها على صواب من الأمر. قال سبحانه في سورة الزخرف :

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ، حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ).

الأسلوب القرآني في الدعوة الى التوحيد :

منذ أن بدأ الرسول (ص) دعوته المباركة ، افتتحها بالدعوة الى إله واحد أحد لا شريك له ولا ولد ، بعد ان أتم عليهم الحجة ، وغرس فيهم قابلية التفكر وإرجاع المسببات الى أسبابها بمقتضى الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، فالطفل على سذاجته وطبيعته يدرك ان كل شيء لا بد له من سبب في وجوده وبصورة طبيعية يعترف بوجود خالقه وموجده منذ نعومة أظفاره.

ولذلك كان الإسلام دين الفطرة أي أن كل ما فيه فطري وضروري ، يعترف به العقل بصورة طبيعية ارتكازية ، وقد اشتمل

٢١

الكتاب الكريم على عدد ليس بالقليل من آياته البينات ، تضمنت إرشاد العبد وتوجيهه الى خالق الكون ، وانه هو المدبر والمبدئ والمعيد ، وكل آية من هذه الآيات على اختلاف أساليبها ، تكفي لاقناع الإنسان إذا استعمل عقله وتفكيره بوجود الله ووحدانيته ونعمة التي لا يحصيها العادون ، فمرة يوجهنا القرآن الى ما في الأرض من حيث تكوينها والنعم الجسام التي أعدها للإنسان في ظاهر الأرض وباطنها ، واخرى يصعد بالإنسان إلى الفضاء ، ليريه عظمة الخالق الذي زرع في هذا الفضاء الذي لا يدرك الإنسان نهايته من الكواكب والنجوم على اختلاف آثارها ومنافعها. وثالثة إلى النظر في خلقه وتكوينه ونشأته ومراحل حياته ومماته ، الى كثير من أمثال هذه الأساليب التي وردت في الكتاب الكريم ، ليبقي الإنسان على ما فطر عليه من الايمان بالله ووحدانيته كي لا يقول قائل إنا كنا عن الاعتراف بوجود الله ووحدانيته غافلين ، أو يعتذر المعتذر عن الإشراك أو الكفر بالله وبما أنزل : (إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) فلا ينبغي ان نهلك ونعاقب بما فعل المبطلون.

(إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ).

نماذج من آيات التوحيد :

قال سبحانه مشيرا إلى الأرض والسماء وما فيهما من آيات بينات على وجوده.

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) وقال سبحانه : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ، وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ

٢٢

يَهْتَدُونَ)(١) وفي آية أخرى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً ، وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) قال في آية أخرى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ، وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ، وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)(٢). وقال سبحانه ، محاولا أن يثير شعور الإنسان بالمنافع ، وإحساسه بالجمال ، ويمنية بالملذات ، وجميع ما تصبو اليه النفوس :

(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ ، وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ، وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) ،. (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وقال سبحانه مشيرا إلى المحسوس من آيات وجود الله لتكون لهم معالم تدلهم على الخالق العظيم :

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ ، فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) ثم ارجع الإنسان إلى نفسه ليتخذ من تكوينها دليلا على وجود الخالق القدير الذي أوجد الإنسان في أحسن تقويم بهذا الشكل

__________________

(١) سورة الأنبياء.

(٢) سورة الغاشية.

٢٣

الذي ادهش العقول وحير الألباب ، قال سبحانه : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ)(١) وهذا النوع من البرهان الحسي قد تكرر في الكتاب الكريم فقال سبحانه في توبيخ المشركين الذين أنكروا على الرسول (ص) حديث البعث والنشور : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى)(٢) وقال سبحانه : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ، إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً)(٣).

وقال سبحانه مشيرا الى بعض نعمه على العباد التي لا تعد ولا تحصى ، والتي تستوجب له الشكر والاعتراف بالجميل.

(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ـ (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ، وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ ، وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ)(٤).

واني اتجهت وأمعنت النظر في كتاب الله سبحانه ، تراه يغرس الايمان في نفوس الجاحدين ، والتصديق في قلوب المشككين ، ويسد

__________________

(١) سورة العلق.

(٢) سورة القيامة.

(٣) سورة الإنسان.

(٤) سورة الأعراف.

٢٤

الطريق على المضللين ، قال سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ، قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)(١). وفي السورة نفسها نراه سبحانه يمهد للجاحد الطريق الى الايمان عن طريق الحس والمشاهدة بأسلوب صريح واضح ، ويبعث في نفسه الدهشة والحيرة ، ويقوده الى الايمان بتلك القوة المدبرة لهذا النظام الحكيم العادل ، لقد سأل إبراهيم ربه كيف يحيي الموتى بعد الفناء وتبدد الأوصال ، لا لشبهة دخلت عليه ولكن ليقنع بذلك الجاحد الذي لا يؤمن الا بالمحسوسات ، لقد سأل إبراهيم ربه ان يريه كيف يحيي الموتى بعد الفناء ، قال سبحانه : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وأمثال ذلك كثير في القرآن الكريم فهو تارة يبتدئهم بالبراهين والأمثال حسبما تقبله عقولهم ويتفق مع نزعاتهم وتقاليدهم ، واخرى يسوق لهم الأدلة في مقام التنديد على المنكرين للتوحيد والمعاد ورسالات الأنبياء ، من غير ان يرتكز جحودهم على العلم والمنطق : قد سلكوا في ظلمات من الجهل والعناد واتبعوا أهواءهم وكل شيطان أضلهم عن سبيل الله وقد وصفهم الله سبحانه في كتابه فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ، ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ).

أدلة البعث والمعاد في القرآن :

وبعد ان أقام لهم البراهين التي لا تدع مجالا لمرتاب ولا لجاحد ،

__________________

(١) سورة البقرة.

٢٥

توعدهم بالخزي والهوان في الدنيا ، والعذاب الأليم في الآخرة ، ان هم أصروا على الضلال ، واتبعوا سبيل الشيطان ، فقال سبحانه : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً ، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)(١). وقد جاء في تفسير قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، قالُوا بَلى شَهِدْنا ، أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ، أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)(٢) ، لقد جاء في تفسيرها ان الله تعالى قد أحضر في عالم الذر كل انسان ذكرا أو أنثى وجعلهم شهودا على أنفسهم وأخذ منهم الاعتراف على وجوده ووحدانيته : بقوله ألست بربكم. قالوا بلى شهدنا.

أي أنه أخرجهم الله من أصلابهم على نحو توالدهم نسلا بعد نسل الى يوم القيامة ، فخرجوا كالذر فعرفهم نفسه وأراهم صنعه ، وانما فعل ذلك كي لا يقولوا انا كنا عن الاعتراف بوجود الله ووحدانيته غافلين ، أو يعتذر المعتذر عن الإشراك أو الكفر بالله وبما أنزل : انما أشرك اباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم ، فلا ينبغي أن نعاقب ونهلك (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)(٣).

لقد اشتمل القرآن الكريم على عدد من الآيات لا يقل عن آيات التشريع ان لم تكن أكثر منها كلها حول الوحدانية والمعاد ، الأصلين

__________________

(١) سورة الجاثية آية ٧.

(٢) سورة الأعراف.

(٣) التكامل في الإسلام لأحد أمين الايراني.

٢٦

الوحيدين اللذين عليهما ترتكز رسالة الإسلام وجميع تعاليمه المقدسة ، فكان مما لا بد منه ان تتكرر تلك الآيات حول هذين الأصلين بعد ان طغت على البشر موجة الشرك والإلحاد ، لا سيما والبلاد العربية التي خرجت منها رسالة الإسلام الخالدة ، كان الغالب على أهلها عبادة الأوثان والأصنام من دون الله منذ عشرات السنين ، فكان من الصعب عليهم ان يتقبلوها طائعين ، وهي أول ما تهدف اليه اقتلاع ما تركز في نفوسهم من عهد الآباء والأجداد الغابرين ، وإيجاد نظام جديد لم يعرفوا عنه القليل أو الكثير.

لذلك كان تأكيد مبدأ التوحيد في القرآن الكريم والاهتمام به امرا لا مفر منه ، بتلك الأساليب المختلفة حسب اختلاف العقول والأفهام والنزعات ، ولقد اقتنع بها الكثير من الجاحدين فدخلوا الإسلام مؤمنين بأصوله وفروعه نتيجة لتلك الآيات البينات.

وأكثر آيات التوحيد وغيره من أصول الإسلام ، نزلت على الرسول وهو في مكة قبل هجرته إلى المدينة ، وفي المدينة بعد هجرته إليها نزلت أكثر آيات التشريع بعد ان وجد الايمان بالله والرسول طريقه واضحا الى قلوب الألوف من البشر ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، بفضل جهاد الرسول وتضحياته في سبيل تلك الدعوة.

ولا بد لنا قبل الحديث عن آيات التشريع ، من بيان أمرين يرجع أحدهما إلى بيان نوع المكلف به حسب الاصطلاح الفقهي ، والثاني إلى الأسلوب الذي اتبعه القرآن في مقام التشريع. أما فيما يتعلق بالأمر الأول ، فالأحكام التي شرعها الإسلام عن طريق القرآن أو السنة الكريمة ، منها ما يرجع الى صلة الإنسان بربه وهي العبادات التي لا تصح من المكلف إلا بعد القصد إليها والإتيان بها امتثالا للأمر المتعلق

٢٧

بها ، ومن هذه ما يسمى في عرفهم بالعبادات البدنية كالصوم والصلاة ، بمعنى أنها تقوم بعمل المكلف نفسه وان كان لها آثار اخلاقية واجتماعية تعود على فاعلها وعلى المجتمع بالخير إذا اتى بها المسلم مخلصا في إتيانها مقرا لله وحده ، بالعبودية وبنعمة التي لا يحصيها العادون ، قال سبحانه : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ).

ومن العبادات التي لا تصح إلا بالنية ، الزكاة التي فرضها الإسلام في مال الأغنياء كضريبة عليهم لسد حاجة الفقراء وهي التي تشكل الجزء الأكبر من ميزانية الدولة الإسلامية يوم ذاك.

وفي تشريع هذا النوع من العبادة مصالح كثيرة ، وأهمها سدّ حاجة الفقراء والمعوزين ، لو قام المسلمون بآدائها وصرفها في جهاتها الخاصة.

قال رسول الله (ص) ان الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم.

وقال أبو عبد الله الصادق (ع) (أيما مؤمن حبس مؤمنا عن ماله وهو محتاج اليه ، لم يذقه الله من طعام الجنة ولا يشرب من الرحيق المختوم). ومن الأمور التي شرعها الإسلام ولا تصح إلا بالنية ، الحج وهو في عرفهم من العبادات بالإضافة إلى كونه عملا يشتمل على أفعال واعمال يقوم بها المكلف ، ويحتاج الى بذل مقدار من المال ليستطيع العبد أداءه ، ولكن المشرع لم يلاحظ المال بذاته بالنسبة إلى الحج ، ولذلك كان شرطا في وجوبه فلا يجب على المكلف تحصيله كما هو الحال في جميع شرائط الوجوب (المعبر عنها في عرف الأصوليين بمقدمات الوجوب) ، وفي هذه العبادة ما يعود على المجتمع بالخير ، لو أحسن المسلمون استغلال هذا الموسم الذي يجمع مئات الألوف من مختلف الأقطار لما فيه خير العرب والمسلمين هذا بالإضافة إلى الناحية الروحية

٢٨

التي تتجسد في أكثر مراحل تلك الفريضة.

ومن الآيات التي وردت في مقام تشريع الأحكام ، الآيات التي وردت لتحديد معاملة العباد بعضهم مع بعض ، سواء منها ما يتعلق بتكوين الأسرة كالزواج والنسب وما يتبعهما كالطلاق والمواريث والوصايا وغير ذلك ، أو الآيات الواردة في تشريع المعاملات بين الناس وشروطها ، كالبيع والإجارة والصلح مما يسمى معاملة في عرف الفقهاء ، أو الآيات التي وردت لتشريع العقوبات على الجرائم والمخالفات وما يتصل بذلك مما ورد له ذكر في الكتاب الكريم.

أو الآيات التي نصت على أحكام الصيد والذبيحة ، وهذه العناوين التي شرع الإسلام لها أحكامها الخاصة ، سواء كان ذلك عن طريق الكتاب ، أو عن طريق الرسول (ص) كالزواج وتوابعه ، والبيع وغيره من المعاملات ، وأحكام الجرائم والمخالفات وغير ذلك مما ذكرناه ، لا تدخل في عنوان العبادات ، حسب اصطلاح الفقهاء ولا تتوقف صحتها على الإتيان بها بداعي الأمر ، وما كان منها واجبا لا يقصد من وجوبه إلا إيجاده في الخارج بأي داع كان يسمى واجبا توصليا ، وقد يسمى معاملة ، قال الشهيد الثاني في كتابه المسمى بالقواعد : كل حكم شرعي يكون الغرض منه الآخرة ، اما لجلب نفع فيها ، أو لدفع ضرر يسمى عبادة ثم قال وكل حكم شرعي يكون الغرض الأهم منه الدنيا سواء كان لجلب النفع أو لدفع الضرر يسمى معاملة ، سواء كان جلب النفع أو دفع الضرر مقصودين بالأصالة أو التبعية.

الأساليب التي أتبعها القرآن في التشريع :

الأمر الثاني ان القرآن الكريم لم يلتزم أسلوبا واحدا في الطلب

٢٩

والإباحة ، ولا في التحريم والكراهة ، فقد جاء الطلب بصيغة الأمر كما ورد في الآية من سورة النحل : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) ، وفي سورة النساء : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) ، واخرى بالأخبار بأن الشيء مكتوب عليكم ، وقد جاء من هذا النوع في سورة البقرة : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) ، (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ) ، و (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) إلى كثير من أمثال ذلك. ومرة يكون الطلب بصيغة الأخبار ، ومن ذلك قوله سبحانه في آية الحج : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ، (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وقد ورد الطلب بحمل الفعل المطلوب على المطلوب منه كما في الآية (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) ـ (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) وقد ورد هذا الأسلوب من الطلب متبوعا بما يفيد عدم كونه حتميا كما في آية الرضاع (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) وآخر الآية كما يدل على ان هذا النوع من الطلب ليس إلزاميا ، يدل على ان أقصى مدة الرضاع هي الحولان.

وقد يكون التكليف بصيغة الطلب ، أو بالجملة الخبرية المقرونة بلام الطلب كما جاء في الآية من سورة البقرة : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) فقد نصت الآية على المحافظة على الصلاة بصيغة حافظوا التي تدل على الطلب ، وقد يكون طلب الشيء بواسطة وقوعه جزاء للشرط ، كما في الآية من سورة البقرة : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ـ (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ ، فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) وقد تدل الآية على الطلب لأنها مقرونة بما يرغب العبد بالإتيان بالمطلوب كما في قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي

٣٠

يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) أو لوصف العمل بصفة محبوبة للمكلف ، كما في قوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) ـ (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) الى غير ذلك من الأساليب المختلفة حسب المناسبات والدواعي ، ومقتضيات الأحوال.

وكما اختلفت صيغ الطلب واساليبه ، كذلك اختلفت الصيغ التي وردت لغرض ترك الأفعال بعد ان رأى الشارع الخير في تركها لأنها لا تعود على الفرد والجماعة بالمصلحة في دينهم ودنياهم ، فقد ورد طلب الكف عن الفعل بصريح النهي ، كما في قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)(١) وقوله : (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) فالنهي في هاتين الآيتين جاء بمادته ولكن كان بلسان الأخبار في مقام الطلب.

وجاء بلسان التحريم في قوله سبحانه : (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٢) ، وقوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)(٣) كما جاءت في القرآن الكريم آيات ، لسانها عدم أحلية الفعل ، والمقصود منها التحريم من إطلاق اللازم وارادة الملزوم لأن عدم حلية الشيء تلازم حرمته.

قال سبحانه : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) ،

__________________

(١) سورة النحل.

(٢) سورة الأعراف.

(٣) سورة الأنعام.

٣١

(وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ)(١) ، وقد ورد الترك بصيغة المضارع المسبوق بلا الناهية.

وذلك قوله سبحانه (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(٢) ، وورد بصيغة الطلب كما في قوله : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) وبنفي البر والخير عن العمل أو بنفيه من أساسه في مقام التشريع ، فمن الأول قوله ، (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) ، ومن الثاني الآية ، (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ)(٣) ، ونفي هذه الأمور خارجا يرجع الى طلب تركها تشريعا بمعنى ان الله سبحانه لا يريد وقوعها من العبد وورد أيضا بما يفيد كون العمل مبغوضا لله سبحانه بلسان التهديد والوعيد عليه بالعذاب الأليم ، قال سبحانه : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(٤) ، (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ)(٥).

ومجمل القول في ذلك ان القرآن الكريم لم يلتزم أسلوبا وصيغة خاصة للتعبير عن المطلوب من فعل أو ترك ، بل سلك في ذلك ما تعارف عند الناس في استعمال الطرق التي تكشف عن المراد ، والتي تختلف حسب اختلاف الدواعي والأغراض بالأساليب المتعارفة في تفهيم

__________________

(١) سورة البقرة.

(٢) سورة الأنعام.

(٣) سورة البقرة.

(٤) سورة التوبة.

(٥) سورة آل عمران.

٣٢

مراد المتكلم وخطاباته ، والطريقة التي استعملها في تشريع الوجوب والتحريم وردت بالنسبة إلى إباحة الفعل التي ترجع الى ترك أمره الى المكلف ، فمرة وردت الإباحة بصيغة الحل ، وأخرى بنفي الإثم ، وثالثة بنفي الجناح حسب المناسبات ، وأسباب النزول ، وعلى كل حال ليس للقرآن الكريم صيغة خاصة في تفهيم الأحكام الشرعية ، إلزامية كانت أم غيرها. كما يبدو للمتتبع في آيات التشريع على اختلاف أساليبها وأسباب نزولها.

عناية القرآن بالصلاة :

ولقد سبق منا أن الأحكام التي شرعها الإسلام عن طريق القرآن ، منها ما يرجع صلة العبد بربه وذلك كالعبادة التي لا تصلح إلا بالنية ، ومن أظهر أفراد هذا النوع الصلاة ، والظاهر ان هذا اللفظ ليس من مخترعات الإسلام ، لوروده على لسان العرب ، قبل ظهور الإسلام بمعنى الدعاء والاستغفار ، وقد ورد في شعر الأعشى وهو يصف الخمرة :

وصهباء طاف يهوديها

وأبرزها وعليها ختم

وقابلها الريح في دنها

وصلى على دنها وارتسم

والمقصود من ذلك الدعاء لها بأن لا تفسد ، وقال الأعشى :

عليك مثل الذي صليت فاغتمضي

نوما فأن لجنب المرء مضطجعا

يريد منها أن تدعو له بمثل ما كانت تدعو له ، أي تكرر الدعاء (١).

وفي القرآن الكريم ورد ذكرها بمعان مختلفة ، ففي قوله سبحانه :

__________________

(١) من تاريخ التشريع الجعفري للحضري.

٣٣

(وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ)(١) ، وهي من صلوتا في العبرية موضع الصلاة فيكون استعمال العرب لها بمعنى الدعاء من إطلاق اسم المحل على الحال تجوزا ، ووردت في آيات الكتاب بمعناها العربي وهو الدعاء والرحمة قال سبحانه : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)(٢) ، (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) ولا معنى لها في هذين الموردين إلا ذلك ، وكانت صلاة العرب قبل الإسلام ، هي الدعاء عند تلبية الحج ، وقال ابن عباس كانت قريش تطوف بالبيت عراة ، يصفرون ويصفقون ، وحكى الله حالهم بقوله ، (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً)(٣) والمكاء هو الصفير والتصدية هي التصفيق ، فيكون المكاء والتصدية نوعا من العبادة عندهم ، وقد سميت هذه العبادة بالصلاة ، وعن مجاهد وقتادة ان النبي (ص) ، كان إذا صلى في المسجد يقومون عن يمينه ويساره بالتصفيق والتصفير ، ليخلطوا عليه صلاته ، وهذه الرواية تفيد انهما ليسا من نوع العبادة ، بل كانوا يستعملونهما إيذاء للرسول ولكن ظاهر الآية يؤيد ما قاله ابن عباس من أن عبادتهم كانت على هذا النوع وذكر بعض المفسرين ان العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ، لأنهم لا يناجون الله بثيابهم التي أذنبوا فيها ، ولما جاء الإسلام أمرهم أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد وفي مقام العبادة قال سبحانه : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)(٤).

__________________

(١) سورة الحج.

(٢) سورة النور.

(٣) سورة الأنفال.

(٤) سورة الأعراف.

٣٤

ومهما كان معناها قبل الإسلام فهي في الإسلام ، وفي القرآن الكريم بمعناها المعروف لها عند المسلمين ، وبهذا المعنى فرضها الله سبحانه عليهم ، وهي حقيقة فيه اما لأنها منقولة من معناها اللغوي اليه ، لمناسبة بين المعنيين واما لأنها استعملت في المعنى الثاني مجازا لقرائن كانت حين الاستعمال ولكثرة استعمالها فيه ، أصبح يفهم منها عند إطلاقها ، فتكون حقيقة فيه بالوضع التعييني ، وأما لأن المشرع وضعها لمعناها الشرعي بدون ان ينقلها من المعنى الأول أو يستعملها في الثاني على سبيل التجوز ، وبناء على ذلك تكون حقيقة منه بالوضع التعييني ، فتكون مشتركة بينه وبين الأول ، أي من الألفاظ المشتركة ذات المعنيين ، وليس لشيء مما نص عليه القرآن وفرضه الإسلام ، عبادة كان أو غيرها تلك العناية التي للصلاة. فلقد ذكرها في موارد متعددة صريحة لا تحتاج الى التفسير والتأويل ، بالنص الصريح تارة والتهديد والذم لتاركها اخرى ، وبالترغيب لفاعلها والثناء عليه ثالثة ، الى غير ذلك مما يدعو الى الحرص عليها والاهتمام بشأنها ، وقد جاءت السنة مؤكدة عناية القرآن الكريم وحرصه على تأديتها ، وفي الحديث انها ان قبلت قبل ما سواها من الأعمال التي فرضها الإسلام ، وان ردت رد ما سواها ، فلا يقبل للإنسان أي عمل إذا لم تكن صلاته مقبولة لله سبحانه ، وورد أنها أول ما يسأل عنه العبد يوم يقف الناس للحساب بين يدي الله ، وانها معراج المؤمن وانها تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وقد نصت على ذلك الآية الكريمة ، ومع عناية القرآن بها وحرصه عليها ، لم يبين عدد المفروض فيها ولا كيفيتها بصراحة تامة ، والآيات التي نصت عليها كان قسم منها لبيان أصل تشريعها ، وقسم كان بصدد التأكيد والحث والترغيب على فعلها وفي بعض الآيات أشار الى كيفيتها إجمالا ، كما أشار في بعضها الآخر إلى أوقاتها بنحو الإجمال

٣٥

ومن أجل ذلك كان الخلاف بين علماء المسلمين في وقت الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، وسنشير إلى آرائهم حول هذه الناحية ، والكتاب الكريم قد وضع مبادئ التشريع في كل ما فرضه الإسلام ، وترك تفاصيل تلك المبادئ وكيفيتها وكميتها الى الرسول (ص) ، قال سبحانه : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(١) ، وكما فرض القرآن على الرسول ان يبين للناس ما نزل إليهم ، فرض عليهم ان لا يفرقوا بين ما يجيء به الرسول وما جاء به القرآن لأنه (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) ، فقال موجها خطابه الى جميع المسلمين ، (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(٢) فكل ما جاء به الرسول من أوامر ونواهي لا يفرق بينها وبين أوامر الكتاب ونواهيه ، وقد بين الرسول الى الناس ما أجمله القرآن أي ما ورد مجملا في آياته من الواجبات والمحرمات والمباحث ، فتمت بذلك الحجة وانقطعت المعذرة ، فليس لأحد ان يقول بعد ذاك (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى).

ولا يهمنا الآن أن نتوسع في هذه الناحية ، وانما الذي لا بد منه هو الإشارة الى بعض الآيات التي تنص على انها مفروضة على المسلمين في جميع حالاتهم وان اختلفت كيفيتها باختلاف حالات المكلفين.

الآيات التي تنص على تشريع الصلاة :

قال سبحانه : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ

__________________

(١) سورة النحل.

(٢) سورة الحشر.

٣٦

الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً)(١) ، وقال : (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ)(٢) ، (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى)(٣) ، الى كثير من الآيات الكريمة التي تنص على انها من أعظم دعائم الإسلام وأركانه ، وقد نصت بعض الآيات القرآنية على بعض أجزائها كالركوع والسجود والطهور وغير ذلك مما هو شرط في صحتها أو جزء محقق لماهيتها بصورة إجمالية ، وترك بيان الباقي من اجزائها وشرائطها ، وتفصيل ما أجملته الآيات التي تعرضت لبعض اجزائها وأوقاتها إلى الرسول (ص) ، وقد قام الرسول بأداء مهمته طيلة حياته ، وأودع ذريته وبعض الطيبين من صحابته جميع ما تحتاجه الأمة لدينها ودنياها وأرشد أمته الى اتباع الطريق الواضح الذي لو سلكوه لن يضلوا من بعده ابدا فقال اني مخلف فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي ، ولكن الأهواء والأطماع انحرفت ببعضهم عن سنته ، وسلكت بهم غير طريقه فكان الخلاف بين المسلمين في كثير من فروع الإسلام ، وأصول المذاهب ، ولا تزال آثار هذا الخلاف حية حتى اليوم ، يجد فيها من يريدون الكيد للإسلام ، ما يحقق لهم اطماعهم وأغراضهم.

ولا بد لنا ونحن نتحدث عن التشريع الجعفري أن نشير إلى جهة الخلاف بين الشيعة وغيرهم في بعض المواد الفقهية التي شرعها الإسلام عن طريق القرآن أو الرسول (ص) كل مادة في محلها ، وفيما سبق قد ذكرنا ان القرآن الكريم الذي نص على تشريع الصلاة في بعض آياته لم

__________________

(١) سورة الإسراء.

(٢) سورة هود.

(٣) سورة البقرة.

٣٧

يحدد لها وقتها بصراحة لا تقبل الجدل والتأويل ، لذلك كان الخلاف بين أهل السنة وبين أهل البيت في وقتي الظهر والعصر والمغرب والعشاء.

فذهب الشيعة تبعا لأئمتهم بجواز الجمع سفرا وحضرا لعذر ولغيره في عرفات وغيرها وذهب غيرهم الى عدم جوازه إلا في حالات خاصة ، على خلاف بينهم في ذلك ، فالاحناف لا يجيزونه إلا في عرفات والمزدلفة ، والمذاهب الثلاثة الباقية اتفقوا على جوازه في السفر ، واختلفوا في غيره من الأعذار كالمطر والطين والخوف والمرض (١) ، وقد احتج الشيعة لما ذهبوا إليه بالأحاديث الصحيحة المروية عن طريق أهل البيت عليهم‌السلام الصريحة في جواز الجمع مطلقا ، ويمكن ان يستدل لجوازه أيضا بالصحاح المروية عن طريق أهل السنة ، فقد ذكر مسلم في صحيحة في باب الجمع بين الصلوتين في الحضر عن يحيى بن يحيى ، قال قرأت على مالك عن ابي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال صلى الرسول (ص) الظهر والعصر جمعا ، والمغرب والعشاء جمعا ، من غير خوف ولا سفر.

وفي صحيح مسلم ، قال حدثنا أبو الربيع الزهراني ، عن حماد بن زيد عن عمر بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس ، ان رسول الله صلى بالمدينة ثماني وسبعا ، الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، وفي رواية ابن مسعود ان النبي (ص) جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في المدينة ، فقيل له في ذلك : فقال صنعت هذا لئلا تخرج أمتي (٢).

وبمضمون هذه الرواية أحاديث كثيرة تنص على ان النبي جمع بين

__________________

(١) مسائل فقهية للعلامة السيد عبد الحسين شرف الدين صفحة ٤.

(٢) المصدر نفسه صفحة ١٠.

٣٨

الصلاتين في المدينة لا لعذر بل من باب التوسعة على أمته ولما كانت هذه الرواية صحيحة عندهم اضطروا إلى تأويلها كل بما يوافق مذهبه.

أوقات الصلاة :

ولا بد لنا من الرجوع إلى الآية الكريمة التي حددت أوقات الصلوات الخمس تحديدا إجماليا ، قال سبحانه :

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) وقد اختلف المفسرون في الدلوك والغسق ، لتعدد المعاني المنقولة عن اللغويين لهاتين الكلمتين ، فالإمام الرازي في الجزء الخامس من تفسيره الكبير قال فإن فسرنا الغسق بظهور أول الظلمة كان الغسق عبارة عن أول المغرب ، وعلى هذا التقدير يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقات وقت الزوال ووقت أول الزوال ووقت أول المغرب ووقت الفجر ، وعلى هذا يقتضي أن يكون الزوال وقتا للظهر والعصر ، فيكون هذا الوقت مشتركا بين هاتين الصلوتين ، وان يكون أول المغرب وقتا للمغرب والعشاء ، فيكون هذا الوقت مشتركا بينهما ، ومقتضى ذلك جواز الجمع بينهما مطلقا (١) ، وبعد أن ذكر ذلك قال إلا أنه دل الدليل على أن الجمع في الحضر من غير عذر لا يجوز فوجب ان يكون الجمع جائزا لعذر في السفر والمطر وغيرهما (٢).

هذا على تقدير ان يكون المراد بالغسق أول الظلمة ، أما إذا فسرناه بتراكم الظلمة وشدتها عند منتصف الليل كما نقله الطبرسي عن أبي جعفر وأبي عبد الله الصادق (ع) (٣) فوقت الفرائض الأربع الظهر

__________________

(١) مسائل فقهية للعلامة شرف الدين صفحة ١٥.

(٢) نفس المصدر.

(٣) مجمع البيان المجلد الثالث طبع العرفان صفحة ٣٤٣.

٣٩

والعصر والمغرب والعشاء ممتد من الزوال الى نصف الليل ، فالظهر والعصر يشتركان في الوقت من الزوال إلى المغرب والمغرب والعشاء يشتركان بالوقت من المغرب الى نصف الليل ، وفريضة الصبح تختص بوقتها أول الفجر. كما تدل على ذلك الآية الكريمة : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) ، وقيل في تفسير الآية إن الدلوك هو الغروب والغسق هو اختلاط الظلام ، وعلى هذا فالآية لم تتعرض إلّا لوقت المغرب والعشاء والفجر (١) والذي يميل إليه في مجمع البيان أن الله سبحانه جعل من دلوك الشمس الى غسق الليل وقتا للصلوات الأربع إلّا أن الظهر والعصر اشتركا في الوقت من الزوال إلى المغرب ، والمغرب والعشاء الآخرة اشتركا في الوقت من المغرب الى الغسق ، وأفرد صلاة الفجر بالذكر في قوله (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) ولازم ذلك أن المراد بغسق الليل في الآية الكريمة هو نصف الليل حين اشتداد الظلمة ، فتكون الآية بمنطوقها قد تناولت الحدين الأول والأخير ابتداء وانتهاء ، اما نهاية وقت الظهر والعصر ، وأول وقت المغرب والعشاء فقد اهملتهما الآية ، وتركت تفصيل ذلك إلى الرسول ، وقد أيد الطبرسي رأيه برواية العياشي عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله الصادق (ع) في تفسير الآية بما يرجع إلى هذا المعنى ، والإنصاف أنه بعد التأمل في الآية ، وما قيل حولها من الآراء والتفاسير ، لا يجد الباحث مجالا لترجيح أحد الآراء على الآخر رجحانا يحصل منه الاطمئنان بالمراد ، فكل ما قيل فيها ليس ببعيد عن مفاد الآية بمجموع صيغتها ، فليس لأحد الفريقين ان يعتمد عليها وحدها لإثبات ما ذهب اليه ، بعد أن كانت جميع الاحتمالات متساوية بالنسبة إليها ، أما ناحية الجمع بين الصلوتين أو

__________________

(١) مجمع البيان المجلد الثالث صفحة ٤٣٤.

٤٠