تاريخ الفقه الجعفري

هاشم معروف الحسني

تاريخ الفقه الجعفري

المؤلف:

هاشم معروف الحسني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٩

وإخلاصه لأهل البيت عليهم‌السلام.

وقال السيد المرتضى في التعليق على ما ذكره المحدثون من أن عليا قال ، في عمر بن الخطاب وهو محتضر : وددت ان القى الله بصحيفة هذا المسجى. نقلا عن الشيخ المفيد ، إن المراد بالصحيفة ، هي التي اتفقوا فيها على اقصاء علي عن حقه في الخلافة.

واستدل على ذلك بما روته العامة كما جاء في كلامه ، عن ابي بن كعب ، انه كان يقول في مسجد الرسول ، بعد أن انتهى أمر الخلافة الى أبي بكر ، بصوت يسمعه اهل المسجد : ألا هلك اهل العقدة ، والله ما آسي عليهم ، وإنما آسى على من يضلون من الناس.

فقيل له : يا صاحب رسول الله ، ومن هؤلاء اهل العقدة ، وما عقدتهم؟ فقال : قوم تعاقدوا بينهم إن مات رسول الله لم يورثوا احدا من اهل بيته ولا ولوهم مقامه ، أما والله لو عشت الى يوم الجمعة لأقومن فيهم مقاما ابين فيه للناس امرهم (١).

وقد ذكره السيد الأمين من قراء الشيعة ، ونقل عن محمد بن سعد في الطبقات أن النبي (ص) قال : اقرأ أمتي ابيّ بن كعب ، وانه قال له : إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك (٢).

وعده الشيخ محمد الخضري من مشاهير المتصدرين للفتوى في عهد الصحابة قال : وأشهر المتصدرين للفتوى في هذا العصر الخلفاء الأربعة وعبد الله بن مسعود وأبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب (٣).

__________________

(١) الفصول المختارة من كتاب الشيخ المفيد المسمى بالعيون والمجالس.

(٢) المجلد الأول من أعيان الشيعة (ص ٢١٦).

(٣) تاريخ التشريع الاسلامي (ص ١٢٧).

٢٠١

وقال عنه الدكتور محمد يوسف انه كان من شيوخ التشريع واعلامه في المدينة ، وان كثيرا من التابعين ، وأشهرهم الفقهاء السبعة ، اخذوا عنه وعن الخلفاء الأربعة (١).

ومن فقهاء الشيعة وأعيانهم ابو سعيد الخدري. وقال عنه القمي انه كان من السابقين ، الذين رجعوا الى أمير المؤمنين ، وأنه لم يكن بين احداث الصحابة أفقه منه.

ونقل عن ابن عبد البر ، انه كان من الحفاظ المكثرين والعلماء العظماء العقلاء. وقد روى الكثير من الأحاديث عن الرسول ، وانه احتجز في بيته في واقعة الحرة ، على رواية ابن قتيبة ، فدخل عليه اهل الشام ، فنهبوا متاعه ونتفوا لحيته ، بعد أن عرفهم بنفسه وصحبته للرسول (٢).

وقد وصفه الشخ محمد طه نجف بالاستقامة ، وانه من اصحاب أمير المؤمنين الأصفياء (٣).

وقال عنه الأستاذ مصطفى عبد الرزاق انه كان من المفتين في عصر الصحابة ، وكان من متوسطي الصحابة في الإفتاء (٤).

وفي كتب الرجال والحديث العشرات من وجوه الصحابة ، الذين عرفوا لعلي حقه في الخلافة ، وكانوا من اوعية العلم وحملة الآثار الإسلامية ومن مراجع المسلمين في الحلال والحرام ، كأبي أيوب

__________________

(١) تاريخ الفقه الاسلامي (ص ٤١).

(٢) الكنى والألقاب (ص ١٥٣).

(٣) اتقان المقال (ص ١٩٢).

(٤) تمهيد لتاريخ الفلسفة (١٥٣).

٢٠٢

الأنصاري وحذيفة اليمان وأبي الدرداء وجابر بن عبد الله الأنصاري ، الذي ادرك الإمام الباقر (ع) وقال له : «بأبي أنت وأمي ، ان رسول الله يقرئك السلام» (١).

ولم يكن غيرهم ممن اشتهر في الفقه والحديث في كتب اخواننا اهل السنة ، كابن مسعود وابن عمر والأشعري ومعاذ بن جبلة وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وغيرهم من الأحداث البارزين في هاتين الناحيتين ، وأصبحوا مصدرا لمن جاء بعدهم ، وعلى آرائهم وأقوالهم يعتمد التابعون وأكثر من كتب في عصر التدوين ، في المائة الثانية للهجرة وما بعدها.

لم يكن هؤلاء بأكثر بروزا في عهد الرسول ممن ذكرناهم ، بل لم يدرك اكثرهم من عهده إلا السنين الأخيرة. ولم يكن أحد منهم في سيرته واتصاله الوثيق بالرسول يشبه احدا ممن تحدثنا عنهم من اعلام الشيعة ، وليس لذلك من سبب غير السياسة التي انتهجها الحكام في الفترات التي اعقبت وفاة الرسول ، والتي كانت تستهدف إقصاء الشيعة عن هذا المسرح واضعاف اصواتهم ، لأنهم يعلمون جيدا ما لتلك الأحاديث الكثيرة عن الرسول ، وعلى الأخص ما يتعلق منها باستخلاف علي (ع) وفضائل أهل البيت ، من الآثار في نفوس المسلمين.

ولو اتيح لهؤلاء أن يحدثوا الناس بكل ما وعته صدورهم من الآثار الإسلامية في مختلف المواضيع لكانت آثارهم من أبرز ما تركه المسلمون في ذلك العصر ، ومع ذلك فإن ما صدر منهم في الفترة التي تلت وفاة الرسول ، كان من المتعذر على التابعين وتابعيهم روايته عنهم ، وتدوينه في العصر الذي هب العلماء فيه لتدوين الحديث والفقه ، لأن ما وصل من أحاديث الشيعة في الفقه والآثار الاسلامية الى العلماء في العصر

__________________

(١) رجال الكشي (ص ٢٨).

٢٠٣

الذي بدأوا فيه بتنويع الحديث وتصنيفه ، كان نصيبه السقوط وعدم الاعتبار ، إما لأن فيه رائحة التشيع ، او لأن راويه من الشيعة. ويكفي ذلك في وهنه مهما بلغ راويه من العلم والورع والضبط.

ومهما يكن الحال فمع ان المجال لم يتسع لهم كما اتسع لغيرهم ، فقد ساهموا في نشر تعاليم الإسلام ، وبيان الحلال والحرام ، وأوضحوا الكثير من اسرار الكتاب وغوامضه ، ودونت لهم المصادر الشيعية كثيرا من الآثار في الحديث والفقه والتفسير.

ولو لم يكن لأحد من رجال الشيعة أثر في التشريع الاسلامي ، لكان ما دونته كتب الحديث والفقه والتفسير لعبد الله بن العباس من الآثار الإسلامية الخالدة ، مصدرا غنيا بالشواهد والبراهين على ان التشيع قام بنصيب وافر في التشريع ونشر الآثار الإسلامية وتدوينها ، في عهدي الصحابة والتابعين الأولين.

قال العلامة المجلسي في رجاله : كان عبد الله تلميذا لعلي ومن المحبين له ، وحاله في الجلالة والإخلاص لأمير المؤمنين (ع) أشهر من أن يخفى.

ومع ولائه لعلي (ع) وإيمانه بحقه في الخلافة الإسلامية كان الخليفة الثاني يقربه اليه ويدنيه ، ويناظره احيانا بشأن الخلافة الإسلامية ، التي يراها ابن عباس وغيره من الشيعة ، حقا لعلي بن أبي طالب (ع).

وقد قال له الخليفة يوما : اما والله ان صاحبك لأولى الناس بالأمر بعد الرسول ، إلا أننا خفناه على اثنتين.

وهنا استغل ابن عباس الفرصة التي فسحها له الخليفة ليدلي برأيه بكل صراحة وبدون مواربة ، ويدفع عن صاحبه ما تخوفه الخليفة وغيره

٢٠٤

من استخلافه على حد زعمه.

ولما سأله ابن عباس عنهما ، قال : خفناه على حداثة سنه وحبه لبني عبد المطلب. ثم قال : ان قريشا كرهت ان تجمع لكم الخلافة والنبوة ، فتجحفوا الناس جحفا ، فنظرت لنفسها فاختارت وأصابت.

فأجابه ابن عباس ، غير متهيب لامارته : اما قولك بأن قريشا كرهت فإن الله سبحانه قال في حق قوم كرهوا ما أراده الله لهم : «ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم». وأما قولك انا نجحف ، فلو جحفنا في الخلافة جحفنا بالقرابة ، ولكنا قوم اخلاقنا من خلق رسول الله ، الذي قال فيه ربه : «وانك لعلى خلق عظيم» ، (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.)

وأما قولك ان قريشا اختارت ، فإن الله سبحانه يقول : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ.)

ولقد علمت يا امير المؤمنين ان الله اختار من خلقه من اختار ، فلو نظرت قريش حيث نظر الله لوفقت وأصابت (١).

وعلى الرغم من صراحته مع عمر بن الخطاب وغيره من الخلفاء الثلاثة ، فقد استطاع ان يفرض نفسه عليهم ويكون محل ثقتهم وتقديرهم.

وهو اول من ألف في تفسير القرآن. وقد تلمذ على علي (ع) وأصبح بنظر المسلمين ترجمان القرآن ورئيس المفسرين (٢).

__________________

(١) عبد الفتاح في كتابه : الامام علي ، الجزء الأول (صفحة ٢٦١ ـ ٢٦٢) وذكره ابن ابي الحديد.

(٢) تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام.

٢٠٥

وقال عنه ابو الخير في طبقات المفسرين انه حبر الأمه ورئيس المفسرين ، دعا له رسول الله بأن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل.

وقد روي عنه في التفسير ما لا يحصى كثرة ، وقلما توجد آية في كتاب الله إلا وله رأي في تفسيرها.

وقال القمي في كتابه الكنى والألقاب ، ان له تفسيرا مطبوعا ، وروى الخطيب البغدادي عن عطاء انه قال : ما رأيت مجلسا قط كان اكرم من مجلس ابن عباس واكثر علما منه. إن اصحاب القرآن عنده يسألونه ، وأصحاب النحو يسألونه ، وأصحاب الشعر والفقه في مجلسه يسألونه ، وكلهم يصدرهم في واد فسيح.

وفي اعيان الشيعة ان ابن عباس اجاب نافع الأزرق الخارجي ، عن مائتي مسألة في تفسير القرآن ، وأتى على كل جواب بشاهد من الشعر.

وفي الفهرست لابن النديم : من جملة كتب التفسير كتاب ابن عباس في تفسير القرآن ، وكان يسمى البحر ، لسعة علمه.

وكما انتشرت آراؤه في التفسير ، واشتهر من بين الصحابة في هذه الناحية ، اشتهر في الفقه ايضا ، وانتشرت آراؤه فيه ، وكان فيه مصدرا من اوسع المصادر وأكثرها انتشارا. وقال ابن عيينة : العلماء ثلاثة : ابن عباس والشعبي وسفيان الثوري. وكل واحد من هؤلاء الثلاثة كان ابرز اهل زمانه في الفقه والحديث. وقد اتخذ العلماء والمفتون ، المساجد في العواصم الاسلامية كمدارس لهم ، ينقلون فيها الحديث ، ويفتون الناس من ابواب الحلال والحرام. وكانت مدرسة المدينة تضم جماعة من فقهاء الصحابة ، وعلى رأسها علي بن أبي طالب (ع). وإلى من فيها من شيوخ الإفتاء والتدريس يقول عمر بن الخطاب : «لا يفتين

٢٠٦

احد في المسجد وعلي حاضر» (١).

وفي مكة المكرمة مهبط الوحي قبل الهجرة ، كان مسجدها يجمع العشرات من التلاميذ ، وعلى رأسهم عبد الله بن العباس. ومن أشهر تلاميذه مولاه عكرمة ، وأبو محمد عطاء بن ابي رياح مولى قريش ، ومجاهد بن جبير مولى بني مخزوم.

أما عكرمة فإنه روى عن ابن عباس وأخذ عنه العلم ، وأفتى الناس بحياته. وكذلك كان عطاء مفتي اهل مكة ومحدثهم (٢). وقال ابن عباس ، مخاطبا اهل مكة ، وقد اجتمعوا عليه ، يسألونه احكام دينهم : يا اهل مكة ، تجتمعون علي وعندكم عطاء! وأما مجاهد بن جبير فقد اخذ عنه الفقه والتفسير.

وقال الأستاذ الشيخ محمد الخضري : ومن اهل مكة عبد الله بن العباس ، ولد قبل الهجرة بسنتين ودعا له رسول الله (ص) ان يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل. وقال فيه ابن مسعود : نعم ترجمان القرآن ابن عباس ، لو ادرك اسناننا ما عاشره منا احد. وروي عنه انه قال : كنت اسمع بالرجل عنده الحديث ، فآتيه ، فاجلس حتى يخرج فأسأله ، ولو شئت ان استخرجه لفعلت. وعلى ابن عباس يدور علم أهل مكة في الفقه والتفسير. وقال مجاهد بن جبير ، احد تلاميذه : لقد عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات ، اقفه عند كل آية وأسأله فيم نزلت وكيف كانت (٣).

__________________

(١) تاريخ الفقه الاسلامي (صفحة ٤٣).

(٢) الامام علي ، لعبد الفتاح عبد المقصود ، الجزء الأول.

(٣) تاريخ التشريع الاسلامي (صفحة ١٥٥).

٢٠٧

وإذا استعرضنا البارزين من اعلام الفقه والحديث في جميع العواصم الإسلامية على عهد التابعين ، نجدهم بين من اخذ عن علي وابن عباس وبين من اخذ عن تلاميذهما. فسعيد بن المسيب وعكرمة وعطاء ومجاهد بن جبير ومسروق بن الأجدع وسعيد بن جبير والشعبي وحبيب بن ثابت وغيرهم من فقهاء التابعين في مختلف العواصم الإسلامية ، هؤلاء هم اقطاب الفقه عند اهل السنّة ، وهم بين من تلمذ على علي وابن عباس وبين من اخذ الفقه والحديث عمن اخذ عنهما ، كما يظهر ذلك من كتب الحديث والفقه والتفسير.

وليس بوسعنا ان نستقصي جميع آثار هذا الحبر الجليل ، الذي بلغ عمره اكثر من ثمانين عاما ، قضاه في نشر تعاليم الإسلام وبيان الحلال والحرام ، وملأت آراؤه في التفسير والفقه ، كتب الحديث والفقه وأصبح مصدرا لكل من جاء بعده من التابعين وتابعيهم (١).

ولا بد لنا في هذا الفصل من ذكر نبذ يسيرة من آرائه في الفقه ، لنعرف تماما الغرض الذي نهدف اليه في هذا الكتاب ، ونعني به دور التشيع في التشريع الإسلامي وأثره في ذلك. ومن ثم يتبين لنا ان الفقهاء من الشيعة مع اختلافهم مع غيرهم من فقهاء المسلمين أحيانا : اختلافا بينا ، لم يعتمدوا على غير الأصلين الكريمين : الكتاب والسنة ، منذ اليوم الأول لوفاة الرسول. وفي جميع مراحل نمو الفقه وتطوره ، مستلهمين في أجتهاداتهم وآرائهم مقاصد هذين الأصلين المقدسين عندهم وما يهدفان اليه من خير الانسان وسعادته كما يبدو ذلك من الأمثلة التالية :

__________________

(١) وذكر مصطفى عبد الرزاق في كتابه : (تمهيد لتاريخ الفلسفة). ان محمد بن موسى ابن يعقوب جمع فتيا عبد الله بن عباس ، فبلغت عشرين كتابا.

٢٠٨

أولا : من المعروف عند الشيعة الامامية وجوب المسح على الرجلين في الوضوء بدلا من غسلهما عند غيرهم. والخلاف بين فقهاء المسلمين في هذه المسألة قائم منذ فجر التشريع في عهد الصحابة. فكان يرى ذلك علي وابن عباس وغيرهما من الشيعة. وروي عن ابن عباس في ذلك انه وصف وضوء رسول الله بأنه مسح على رجليه ، وانه قال : إن كتاب الله جل ثناؤه اتي بالمسح ، ويأبى الناس إلا الغسل.

وقد أشار ابن عباس رحمه‌الله في قوله : ان كتاب الله جل ثناؤه جاء بالمسح ويأبى الناس إلا الغسل ، الى الآية السابعة من سورة المائدة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ.)

بلا فرق عنده بين قراءة المعطوف الأخير بالنصب او الجر. فالنصب على محل الرؤوس والجر على لفظها. والذي يؤيد العطف على الرؤوس ، ان الجملة الأولى ، التي أمرت بالغسل ، قد انتهت وبطل حكمها ، باستئناف الجملة الثانية التي اشتملت على حكم مخالف للأولى. وليس من المستحسن العطف على الأولى ، بعد انقطاع حكمها بالجملة الثانية المستأنفة ، لا سيما إذا كان الكلام مستقيما بعد انقطاع حكمها بالجملة الثانية المستأنفة ، لا سيما إذا كان الكلام مستقيما ومعناه ظاهرا. فإذا قال القائل مثلا : ضربت زيدا وعمرا ، وأكرمت خالدا وبكرا ، لا يجوز ارجاع بكر الى الجملة الأولى. على ان عمل القريب في المعطوف اولى من عمل البعيد فيه ، إذا لم يكن مرجح لعمل البعيد فيه (١). وقد سبق ان أشرنا الى ما يعتمده الفريقان فيما ذهبا اليه في

__________________

(١) مجمع البيان المجلد الأول (ص ١٦٦) طبع صيدا.

٢٠٩

الفصل الأول من فصول هذا الكتاب.

ثانيا : من المعروف عند الشيعة الإمامية تحديد الزواج بزمان خاص ، ويسمى ذلك في عرفهم (بالعقد المنقطع). ولا بد ان تتوفر فيه جميع الشروط التي لا بد منها في العقد الدائم ، غير ان هذا النوع من النكاح ، محدود بزمان يتراضى عليه الزوجان. والخلاف بين الشيعة وغيرهم في اباحة هذا الزواج يتصل بعصر الصحابة. وقد أجمع المسلمون على تشريع هذا النوع من النكاح. والقائلون بعدم إباحته بين من يقول بأن الخليفة الثاني منع عنه ، وبين قائل بان تشريعه كان في بعض الغزوات ، لمصلحة اقتضت تشريعه ، ونهى عنه الرسول بعد ذلك في حديث رواه يحيى عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي بن ابي طالب (ع) عن ابيهما محمد ، عن أبيه علي (ع) ان رسول الله نهى عن متعة النساء يوم خيبر ، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية (١).

وقد قال بإباحته جماعة من الصحابة ، منهم عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب والسدي وعبد الله بن العباس وعلي (ع) وجماعة من التابعين.

وروى حبيب بن ثابت عن ابي نصرة ، قال : سألت ابن عباس عن المتعة ، فقال : اما تقرأ سورة النساء؟ فقلت بلى! قال فما تقرأ : «فما استمتعتم به منهن الى اجل مسمى فآتوهن أجورهن»؟ قلت : لا أقرأها هكذا. قال ابن عباس : «والله هكذا أنزلها الله» ، ثلاث مرات (٢).

__________________

(١) موطأ مالك ، كتاب النكاح (ص ٧٤).

(٢) مجمع البيان ، المجلد الثاني (ص ٣٢).

٢١٠

وفي كتب التفسير ان ابي بن كعب وابن مسعود وسعيد بن جبير وغيرهم ان الآية : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) الى أجل مسمى (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.)

وقد تقدم في الفصل الذي أشرنا فيه الى آيات التشريع ، ان الشيعة الامامية ، قد أجمعوا على أن القرآن الكريم هو المتداول بين الناس ، بدون زيادة ولا نقصان.

وبناء على صحة هذه الأحاديث ، تكون الزيادة المدعاة في بعض الآيات ملحقة بها تفسيرا للمراد من الآية ، إما من المسلمين في عهد الرسول ، او من الرسول نفسه. ومهما كان الحال ، فقد افتى ابن عباس وغيره ، بإباحة هذا النوع من النكاح.

وروى الحكم بن عيينة ان عليا قال : لو لا ان عمر نهى عن المتعة ، ما زنى إلا شقي. وقد اشتهر عنه في كتب الحديث انه قال : متعتان كانتا على عهد رسول الله حلالا ، انا أنهى عنهما وأعاقب عليهما.

فقد أضاف النهي الى نفسه ، وليس له ولغيره رفع الأحكام او وضعها. نعم إذا كان الحكم مقيدا بزمان ، او كان تشريع الحكم لبعض المصالح ، بحيث كان من المستفاد من دليله ارتباط الحكم بتلك المصلحة وجودا وعدما ، فإذا تبدلت مصلحة التشريع وانتهى الزمان الذي اعتبره المشروع قيدا للحكم او لموضوعه ينتفي الحكم بدون حاجة الى دليل آخر. وهذا غير النسخ بمعناه المعروف عند الأصوليين والمتكلمين.

ولو ثبت عند الشيعة نهي الرسول عنها ، لم يقل احد منهم بإباحتها ، لا سيما وان الرواية المزعومة ، قد نسبت الى علي (ع) ، وهو نفسه من القائلين بإباحتها.

٢١١

ثالثا : من المعروف عند الشيعة الامامية ان المرأة لها ان تزوج نفسها ممن تريد ، سواء كانت بكرا او ثيبا كما هو الشائع المعروف بين فقهائهم ، ومن المستحسن عندهم ان تستأذن وليها في ذلك ، إذا بلغت رشدها وكانت مالكة لأمرها. وبذلك كان يفتي عبد الله بن عباس. وروى عنه جبير بن مطعم انه قال : ان رسول الله قال : الأيم احق بنفسها والبكر تستأذن (١). والآية الكريمة مؤيدة لذلك ، قال سبحانه : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ.) وعند غير الشيعة ان عقدها لا يصح بدون إذن وليها. وفصل بعضهم بين الثيب وغيرها وبين القبيحة والجميلة (٢).

وقال مالك : «إذا زوّج الولي البكر بغير إذنها لزمها ذلك» (٣).

رابعا : ومن المعروف عند الشيعة ان الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع الا طلقة واحدة ، وقال بعضهم ببطلانه. وقد افتى عبد الله بن العباس بصحة واحدة ، وقال انه كان على عهد رسول الله (ص) وأبي بكر وصدر من إمارة عمر بن الخطاب ، طلقة واحدة ، ثم جعله عمر ثلاثا (٤).

وروى عكرمة عنه انه قال : طلق ركابة بن يزيد امرأته ثلاثا ، في مجلس واحد ، فحزن عليها حزنا شديدا ، فسأله رسول الله كيف طلقتها؟ قال : طلقتها ثلاثا في مجلس واحد. قال : هي واحدة ، ان شئت فراجعها.

__________________

(١) موطأ مالك (صفحة ٦٢) كتاب النكاح.

(٢) الانتصار للشيخ المفيد.

(٣) الموطأ (صفحة ٦٣).

(٤) تاريخ التشريع الاسلامي للخضري.

٢١٢

والمشهور عند غير الشيعة انه يمضي ثلاثا ، وبذلك كان يفتي ابو حنيفة ومالك مع قولهما انه محرم ومخالف للسنة (١).

خامسا : من المعروف عند الشيعة ان من قال : ان ذهبت الى السوق مثلا او فعلت كذا فأمرأتي طالق او هي علي كظهر امي ، او عبدي حر ومالي صدقة ، لم يكن ذلك يمينا يلزم فيه الحنث والكفارة ، ولا يقع به طلاق ولا ظهار ولا صدقة. وقد افتى بذلك ابن عباس رحمه‌الله ، وقال : لا شيء عليه اذا حلف بذلك. وخالفه باقي الفقهاء ، فحكموا بالطلاق والظهار والعتق ، كما افتى ابن عباس رحمه‌الله بان من حلف لا يدخل دارا فدخله مكرها او ناسيا ، لا شيء عليه ولا تلزمه الكفارة ، لقول النبي (ص) : رفع عن امتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه وما اضطروا اليه وما لا يعلمون. ولقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ)(٢). والى ذلك يذهب الشيعة الامامية ، عملا بالأصلين الكريمين (٣).

سادسا : من المسائل التي اختلف فيها الشيعة عن غيرهم ، المسألة المعروفة بالتعصيب ، وهي ما لو ترك اختا وعما او عمة ، فالمبدأ العام الذي اعتمده الشيعة في التوارث بين الأرحام ، هو الأقرب لقوله سبحانه : الأقربون أولى بالمعروف ، (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ.)

فالمال عندهم للبنت والأخت ، إذا كان معهما زوج او زوجة كان له نصيبه ، وما بقي للأخوات او البنات. فالأخ لا يشارك البنت ، والعم

__________________

(١) الانتصار للشيخ المفيد (ص ٧٥).

(٢) الانتصار للمفيد.

(٣) نفس المصدر وغيره من كتب الفقه عند الامامية.

٢١٣

لا يشارك الأخت ، عملا بالنص القرآني ، والأخبار الكثيرة عن اهل البيت عليهم‌السلام.

وبذلك افتى علي (ع) وعبد الله بن العباس وجابر بن عبد الله وعبد الله ابن الزبير وابراهيم النخعي وداود الأصفهاني (١).

وغير الشيعة قالوا : إذا كان مع البنت اخ او ابن اخ ، وكان مع الأخت عم او ابن عم ، تأخذ البنت نصيبها المفروض لها والباقي لأخيها ، وكذا حال الأخت مع عمها. ومستندهم في ذلك حديث رواه ابن طوس عن ابيه ، عن ابن عباس ، عن النبي (ص) انه قال : يقسم المال على اهل الفرائض ، على كتاب الله. فما تركت فلأولى عصبة ذكرا. ورواه بعضهم : فالأولي عصبة اقرب.

والحديث المذكور ، بالإضافة الى ضعفه ، لأن عبد الله بن طاوس كان صنيعة لسليمان بن عبد الملك ، قد كذبه عبد الله بن عباس ، لما سأله قارية ابن مضرب في مكة ، قال له : يا ابن عباس ، حديث يرويه اهل العراق عنك ، رواه لهم مولاك طاوس : ما أبقيت الفرائض للأولي عصبة ذكرا ، فقال ابن عباس للسائل من اهل العراق : أنت! قال : نعم. قال : ابلغ من وراءك اني اقول : «آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون ايهم اقرب لكم نفعا فريضة من الله». وقوله : «وأولو الأرحام بعضهم اولى ببعض في كتاب الله».

ما قلت هذا ، ولا طاوس يرويه علي! قال قارية : فلقيت طاوسا ، فقال : «لا والله ما رويت هذا على ابن عباس ، وإنما

__________________

(١) الانتصار للمفيد.

٢١٤

الشيطان ألقاه على ألسنتهم» (١).

ثم ان القائلين بالتعصيب ، عليهم ان يساووا بين الرجال والنساء فيما يبقى بعد سهام البنات والأخوات ، كما إذا ترك الميت بنتا وأخا وأختا ، او اختا وعما وعمة ، تمشيا مع ظاهر الآية : «للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه او كثر نصيبا مفروضا».

فقد جعلت لكل منهما نصيبا مما تركه الميت ، مع انهم يرون ان الباقي عن سهم البنت يعود الى الأخ ولا تشاركه فيه الأخت ، والى العم وحده ولا شيء للعمة. ومقتضى الأية إشراكهم في الباقي عن ذوي السهام.

والشيعة من عهد الصحابة حتى العصور المتأخرة ، يعتمدون في إبطال التعصيب على الآيتين المتقدمتين ، وعلى الآية الكريمة رقم ١٧٥ من سورة النساء : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ.)

حيث إنها نصت على سهم الأخت في الميراث ، فيما إذا لم يكن للميت وارث اقرب منها ، ذكرا كان او انثى. ونتيجة ذلك انها لا تستحق شيئا مع وجوده. والقائلون بالتعصيب ، يعطون الأخت ، إذا لم يكن معها ذكر ، ما يزيد عن سهم البنت. هذا بالإضافة الى قول الرسول : «فمن ترك بنتا واختا ، ان المال كله للبنت» ، والأحاديث الصحيحة عن ائمتهم (ع).

__________________

(١) الجواهر ، كتاب الفرائض. وفيها ان النبي (ص) لما قتل حمزة بن عبد المطلب أعطى كل ماله لابنته.

٢١٥

سابعا : من المسائل التي وقف الشيعة فيها في عصر الصحابة الى جانب ، ووقف غيرهم الى جانب آخر ، فيما إذا زادت سهام الوارث على مال الميت. وعلى سبيل المثال نذكر مثالا لذلك : كما إذا ترك الميت زوجا وبنتين ، فالمفروض للبنتين والأبوين ، بنص القرآن تمام المال ، ويبقى نصيب الزوج زائدا ، فالشيعة في هذا الفرض ونظائره ، يعطون الزوج والزوجة والأم وكلالة الأم تمام المفروض لهم وما يتبقى من المال للبنين وللأب ، وإذا زاد المال عن السهام المفروضة تعود الزيادة على من يدخل عليه النقص ، في صورة زيادة السهام عن المال. فإذا ترك الميت زوجا وبنتا ، كان للزوج نصيبه الأدنى وهو الربع ، وما يبقى من المال للبنت بالفرض والرد.

والمبدأ العام المتبع في مثل ذلك ، ان من كان له فرضان : أعلى وأدنى ، يأخذ سهمه بتمامه ، ومن كان له فرض واحد ، او لا فرض له ، ينقص نصيبه في الميراث ويزيد.

وهذه المسألة هي المعروفة عند الفقهاء بمسألة العول. وقد حدث على عهد عمر بن الخطاب ان ماتت امرأة في وفاته عن زوج واختين ، فالتبس عليه أمر توزيعها ، لأن السهام تزيد عن المال. فجمع الصحابة وقال لهم : لقد فرض الله سبحانه للزوج النصف وللبنتين الثلثين ، فإن أعطينا الزوج كامل سهمه نقص سهم البنتين ، وإن أعطينا البنين نصيبهما لم يبق سهم الزوج على حاله ، فاتفق رأي أكثرهم معه على إدخال النقص على البنتين والزوج كل بمقدار سهمه. ومضى على ذلك أكثر من جاء بعده من الفقهاء وأئمة المذاهب الأربعة.

وقد سأل زفر بن اوس البصري ابن عباس عن ذلك ، فقال : اول من عال عمر بن الخطاب ، لما التفت الفرائض عنده ودافع بعضها بعضا

٢١٦

قال : والله ما أدري أيكم قدم الله وأيكم أخّر ، وما أجد شيئا اوسع من أن اقسم عليكم هذا المال بالحصص. ثم قال ابن عباس : وايم الله ، لو قدم من قدّم الله وأخر من أخر الله ما عالت فريضة.

فقال له زفر بن اوس : فايهما قدّم وأيها أخّر؟ فقال : كل فريضة لم يهبطها الله عن فريضة إلا الى فريضة ، فتلك التي قدم الله ، أما ما أخر ، فكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يبق منها الا ما بقي ، فتلك التي أخر الله. فأما الذي قدم : فالزوج له النصف ، فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع الى الربع ، ولا يزيله عنه شيء ، والزوجة لها الربع ، فإذا دخل عليها ما يزيلها عنه صارت الى الثمن ، لا يزيلها عنه شيء ، والأم لها الثلث ، فإذا زالت عنه صارت الى السدس ، ولا يزيلها عنه شيء. وأما التي أخّر الله : ففريضة البنات والأخوات ، للواحدة منهن النصف ، ولما زاد عليها الثلثان ، فإذا أزالتهن الفرائض عن ذلك ، لم يكن لهن إلا ما بقي ، فتلك التي أخر الله ، فإذا اجتمع ما قدم الله وما أخر ، بدئ بما قدم الله ، فأعطي حقه كاملا ، فإن بقي شيء ، كان لمن أخر الله (١).

وقد نقل الإمام الصادق عن جده علي عليهما‌السلام كلاما يتضمن ما جاء في حديث ابن عباس رحمه‌الله (٢).

وروى ابو بصير عن الصادق (ع) انه قال : اربعة لا يدخل عليهم ضرر في الميراث : الولدان والزوج والزوجة.

ويظهر أن الخليفة بعد أن استعصى عليه حل هذه المسألة عن

__________________

(١) كتاب الفرائض من الجواهر.

(٢) نفس المصدر.

٢١٧

طريق الكتاب والسنة ، قاسها على عدم وفاء المال بالديون التي على الميت ، فانهم في مثل ذلك يشتركون في المال ويوزع على الجميع بنسبة ما لكل واحد منهم. والنقص الباقي يدخل عليهم جميعا بنسبة سهامهم.

والجهة التي تجمع بين المسألتين ، عدم وفاء مال الميت بالسهام المطلوبة. ويتبين مما رواه زفر بن اوس البصري ، عن ابن عباس رحمه‌الله انه قد اعتمد في حكمه على كتاب الله. وقد سبقه الى ذلك علي (ع) فيما رواه الإمام الصادق (ع) عنه ، كما جاء في كتاب الفرائض من الجواهر. ولا إجحاف على احد من الوارث في ذلك ، وما يلحق البنات والأخوات من النقص على تقدير زيادة السهام على التركة ، معوض عليهن في صورة زيادتها على السهام.

والمتتبع لآرائه المنتشرة في الكتب التي دوّن العلماء فيها الفقه والحديث ، في أواخر المائة الثانية وما بعدها ، يجد انه في جميع آرائه في الفقه ، لا يعتمد على غير نصوص الكتاب والسنة ، ويعتمد على اجتهاده وتفكيره احيانا في فهم آيات الكتاب وأحاديث الرسول إذا لم تكن الآية او الحديث نصا على الحكم المطلوب.

وليس بوسعنا أن نستقصي جميع المفتين والمحدثين من الشيعة ، في العهد الأول للصحابة ، ونعني به عهد الخلفاء الراشدين ، الذي يبتديء من وفاة الرسول (ص) وينتهي بانتقال الملك الى معاوية بن ابي سفيان ، لا سيما والتاريخ قد حابى اناسا وظلم آخرين ، كانوا أوسع علما وأوثق صلة بالرسول ، واعرف بالحلال والحرام ممن حاباهم التاريخ ، على حساب الآخرين في هذا الدور. ونكتفي بهذه النبذة اليسيرة من آراء الشيعة في الفقه ، ومن هذه الأمثلة نستطيع أن نحدد موقف الشيعة من التشريع ومقدار مساهمتهم فيه.

٢١٨

أدلة الأحكام عند الشيعة في عهد الصحابة

ذكرنا في الفصول الماضية من هذا الكتاب ، ان المسلمين اعتمدوا أصلين آخرين بالإضافة الى الكتاب والسنة ، وهما الإجماع والقياس ، فاصبحت بذلك أدلة الأحكام اربعة. أما الكتاب والسنة فإليهما يرجع جميع المسلمين في الفقه الإسلامي منذ عهد الرسول (ص) حتى العصور المتأخرة. ولم تدع الحاجة الى غير الكتاب وأحاديث الرسول في عهده ، لأنه كان يتلقى مواد التشريع : اما بواسطة الآيات القرآنية ، او بما يوحى اليه من سنن وأحكام ، لم يأت القرآن على بيانها ، والطريق الى معرفة الأحكام كان ميسورا للجميع.

وكان المسلمون يرجعون اليه وإلى نصوص الكتاب فيما يتعلق بتكليفهم ، عبادة كان او غيرها ، مما تدعوهم الحاجة الى معرفته. أما سكان القرى والبوادي ممن دخلوا الإسلام ، فكان يرسل اليهم من يعلمهم الأحكام ، كما نص عليها القرآن. وما وعته صدورهم من اقوال الرسول وفتاويه. وأحيانا كان الرسول يكتب قسما من احكام الاسلام ويرسلها الى الأقطار والقرى وسكان البادية ، مع الأمراء والولاة والجباة. وقد اشتملت كتبه الى اليمن وهمدان وهجر على احكام الزكاة والصدقات وبعض احكام النكاح ، على أن المؤلفين في التشريع

٢١٩

يدعون بأن النبي كان يجتهد في الأحكام اذا عرضت عليه واقعة لم يوح اليه بحكمها قال الدكتور محمد يوسف : ان الرسول كان يجتهد في الحكم ثم يصدر رأيه ، وهنا لا يقره الله على هذا الرأي إلا إذا كان صوابا (١).

أما بعد وفاته فقد وقعت حوادث لم تكن في حياته ، واتسعت حياة المسلمين بسبب الغزوات واتصال المسلمين بالبلاد التي غزاها الاسلام ، فكان ولا بد من تضاعف الحاجة الى الفقه. وما تجددت الحاجة الى معرفة حكمه ، لم يكن باستطاعتهم ان يستخرجوا حكمه من نصوص الكتاب والسنة ، فكان الاجماع والقياس مرجعهما في مثل ذلك. ويرى ابن خلدون في مقدمته وغيره كما ذكرنا سابقا حدوث هذين الأصلين : الاجماع والقياس ، في عهد الصحابة.

وكانت الطريقة المتبعة في تحصيل الاجماع ، هي أن الخليفة إذا استشار جماعة من المسلمين في حكم وأشاروا فيه برأي أفتى به. وسمي هذا النوع من الاتفاق اجماعا (٢) ، وان لم يذكر المجمعون نصا عليه من كتاب او سنة. وفي كتاب عمر بن الخطاب الى شريح القاضي ، ما يدل على أن الاجماع كان اصلا من اصول الأحكام ، بعد كتاب الله وسنّة نبيّه ، كما يرويه عامر الشعبي عن شريح نفسه ، ان عمر كتب اليه : اذا أتاك أمر فاقض فيه بما في كتاب الله ، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يسنّه رسول الله (ص) ولم يتكلم فيه احد ، فان شئت أن تجتهد رأيك فتقدم.

__________________

(١) اليعقوبي المجلد ٢ (ص ٦٥ ـ ٦٦) طبع النجف الأشرف. وانظر المدخل لدارسة نظام المعاملات ص ٢١.

(٢) تاريخ التشريع الإسلامي للخضري (ص ١١٥).

٢٢٠