تاريخ الفقه الجعفري

هاشم معروف الحسني

تاريخ الفقه الجعفري

المؤلف:

هاشم معروف الحسني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٩

واستطرد الأستاذ أبو ريّة في حديثه عن أبي هريرة ، مستعرضا اساليبه في نقل الحديث عن الرسول ليغري بها أهل الشام وغيرهم من الأقطار الإسلامية ، وفاء منه لموائد معاوية ، التي حوت أطايب الطعام ، وعطاياه السنية ، التي أصبح بواسطتها من الأثرياء.

وبعد ان استعرض أبو ريّة المراحل التي مرّ بها أبو هريرة ، وموقفه الأخير من الدولة الأموية وقسما وافرا من أحاديثه ، التي رواها المحدثون من أهل السنة عنه في الأصول والفروع ، وفي الأمويين وغيرهم. بعد ان استعرض جميع ذلك ، وكشف للقارئ عن واقع أبي هريرة ، بكل تجرد وإخلاص ، للدين والعلم والحق ـ قال : وما بيناه من تاريخ أبي هريرة ، لقد سقناه على حقيقته ، وأظهرنا شخصيته كما خلقها الله. ولم نأت فيها بشيء من عند أنفسنا ، بل أتينا بالروايات الصحيحة فيها ، ورجعنا الى مصادر ثابتة ، لا يرقى إليها الشك ، ولا يدنو منها الريب.

على اننا قد طوينا كثيرا مما أثبته التاريخ الصحيح ، لأن شيوخ الدين عندنا لا يزالون يخشون سطوة الحق ، ولا يحتملون قوة البرهان.

ومع ان جميع ما جاء في حديث الأستاذ محمود أبو ريّة ، عن أبي هريرة ، يمليه الواقع وتؤيده الأرقام والحوادث ، فأكثر الشيوخ ما زالوا يقدسونه ، ويثبتون أكثر رواياته عن الرسول ، لأنه من الصحابة بزعمهم ، وكل صحابي عادل.

وإذا جاءت الرواية عن غيره من رواة الشيعة الإمامية ، لا بد من طرحها ، لأن راويها يتشيع لأهل البيت (١). فالتشيع جريمة توجب

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون ، في مقام تضعيف الروايات التي تنص على القائم ، وقد ضعف قسما منها لمجرد ان رواتها من الشيعة ، أو متهمون بالتشيع. ص ٢١٩ وما بعدها ، الى ٢٢٩.

١٨١

الفسق ، وصحبة الرسول ، ولو أياما قليلة ، تحول بين الإنسان وجميع المعاصي (١). فكأنه لم يكن في الصحابة منافقون ، ولم يرتكب أحدهم صغيرة ولا كبيرة ، ولا ارتد أحد منهم بعد موت الرسول ، ولا غير أحد منهم من سنته وسيرته شيئا ، وكأنه لم يكن شيء مما أجمعت عليه كتب التاريخ الصحيحة.

قال الشيخ محمد الخضري في حديثه عن أبي هريرة ، متجاهلا تلك الحقائق ، التي حملتها كتب التاريخ والحديث والرجال : ان أبا هريرة ، لازم الرسول ، حتى لحق بربه ، وكان من أوعية العلم ، ومن كبار ائمة الفتوى ، مع الجلالة في العبادة والتواضع ، وكان من احفظ الصحابة. وان ابن عمر قال له : كنت لا لزمنا برسول الله واعملنا بحديثه (٢).

وقال هو عن نفسه : رب كيس عند أبي هريرة من العلم لم يفتحه ، وكان يقول : حفظت من رسول الله (ص) دعاءين ، أما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم ، وجاء عنه انه قال : لو أنبأتكم بكل ما أعلم لرماني الناس بالخرف ، وقالوا : أبو هريرة مجنون (٣).

وقال محمد عجاج الخطيب : ومن هنا يتأكد أن الدعاء الثاني لم يكن فيه ما يتعلق بالأحكام ، ولا بالآداب والأخلاق ، ويرجح أن يكون بعض ما يتعلق بأشراط الساعة ، أو بعض ما يقع للأمة من فتن ، ومن

__________________

(١) الاضواء على السنة. قال : لقد اعتبروهم جميعا عدولا ، لا يجوز عليهم نقد ولا يتجه إليهم تجريح ص ٣١٠.

(٢) تاريخ التشريع الإسلام ص ١٥٠.

(٣) السنة قبل التدوين ص ٤٢٦ عن طبقات بن سعد ، وفتح الباري وحلية الأولياء.

١٨٢

يلونها من أمراء السوء ، وأضاف الى ذلك : أن أبا هريرة كان يكني عن بعض ذلك ولا يصرح به خوفا على نفسه ممن يسيئه ما يقوله ، كقوله أعوذ بالله من رأس الستين وامارة الصبيان.

والذي يبعث على الاستغراب ان هؤلاء بينما يؤكدون بأن أبا هريرة اسلم قبل وفاة الرسول بثلاثة أعوام ، وأنه كان معدما يهمه أكثر من أي شيء أن يملأ بطنه يروون بأنه حفظ دعاءين من علم الرسول ، ولم يحدث بالدعاء الثاني خوفا على نفسه ، فكأن الرسول (ص) لم يجد بين المسلمين من يأتمنهم على تلك المغيبات التي اختصه بها الله سبحانه مع العلم بأن فيهم من رافقه منذ أن بعثه الله الى ان اختاره اليه وكان اقرب الى قلبه من جميع الناس.

فأبو هريرة لازم الرسول ، حتى لحق بربه ، وكان من كبار أئمة الفتوى ، كما يزعم الشيخ الخضري ، مع انه اسلم في السنة السابعة من هجرة الرسول ، اي قبل وفاة الرسول بثلاث سنين. ومع ذلك عنده دعاء ان من العلم بث احدهما وخاف ان تضل الأمة ان هو بث الآخر. ولم ينقل احد من الرواة ان اسلامه سبق هذا التاريخ. ولم يكن له اي شأن ، في زمن النبي ولا في عهد الخليفتين ابي بكر وعمر ، ولم يقبل احد حديثه الا في عهد عثمان. وكان كل همه في الأيام التي ادرك فيها الرسول ان يشبع بطنه ، كما اخبر عن نفسه. وبعد وفاة الرسول ، قال عنه جماعة من اعيان الصحابة انه اكذب الناس ، وضربه عمر بدرته وهدده بالنفي الى الأراضي التي كان يرعى فيها الغنم قبل اسلامه (١).

لقد اعطاه الخضري هذه الأوصاف والألقاب ، ولم يعط مثلها لأحد

__________________

(١) تاريخ الفقه الاسلامي ، واضواء على السنة المحمدية.

١٨٣

من صحابة الرسول الذين رافقوه منذ اليوم الأول لدعوته. حتى لعلي (ع) الذي صحبه قبل ان يبلغ الحلم ولم يفارقه في جميع حالاته. مع العلم بأن الخضري لا يجهل سيرته مع معاوية وتخذيله الناس عن الخليفة الشرعي. وانه دسّ في احاديث الرسول آلاف الأحاديث ، بقصد الدس على الاسلام ، والتشويه لمعالم السنة الكريمة. بالاضافة الى تلك الطائفة من الأحاديث ، التي وضعها لمصلحة معاوية ، لقاء طعامه الطيب وعطائه الجزيل.

ولا يعنينا ان نتوسع في هذه النواحي اكثر من ذلك. والذي اردناه بما سقناه من الأمثلة والشواهد التاريخية وكلمات المحدثين ، عن المصادر الموثوق بها ان المنع من تدوين الحديث ، بعد وفاة الرسول ، سهل لهؤلاء طريق الدس في الحديث والتلاعب في الأحكام والكذب على الرسول. ولولاه لم يكن لكعب الأحبار وأبي هريرة ، وأمثالهما من المرتزقة ، مجال لإدخال تلك الأحاديث في السنة الصحيحة ، ولما كان هذا الخلاف الواسع بين علماء المسلمين في الحديث والفقه ، ولما استطاع ابن أبي العوجا أن يدس اربعة آلاف حديث يحرم فيها الحلال ويحلل الحرام.

قال الأستاذ أبو ريّة : ولو ان الصحابة كانوا قد عنوا بتدوين الحديث ، كما عنوا بتدوين القرآن ، لجاءت احاديث الرسول كلها متواترة ، في لفظها ومعناها ، ليس شيء فيها اسمه صحيح ولا شيء اسمه حسن ، ولا شيء اسمه ضعيف ، مما لم يكن معروفا زمن النبي وصحابته. وبذلك كان يذهب الخلاف في حقيقته ، وينحط عن كاهل العلماء اعباء البحث عن صحته ، ووضع المؤلفات الكثيرة ، التي وضعت في علوم الحديث وبيان احوال الرواة ، من حيث العدالة

١٨٤

والضبط والجرح والتعديل ، وغير ذلك ، وكان فقهاء الدين ، يسيرون على نهج واحد ، لا اختلاف بينهم فيه ولا تباين ، اذ تكون ادلتهم كلها متواترة ، فلا يأخذون بما سموه الظن الغالب ، الذي فتح ابواب الخلاف ومزق حقوق الأمة ، وجعلها مذاهب وفرقا ، مما لا يزال اثره الى اليوم ، وسيبقى الى ما بعد اليوم.

ونعود الى ما ذكرناه سابقا أن الخليفة لو ارجع الناس الى علي (ع) الذي قال فيه ابن حنبل والنسائي والنيسابوري وغيرهم : لم يرد في حق احد من الصحابة بالأسانيد الجياد ، أكثر مما جاء فيه. وقال فيه الجاحظ : لا يعلم رجل في الأرض ـ متى ذكر السبق في الاسلام والتقدم فيه ، ومتى ذكر الفقه في الدين ، كان مذكورا في هذه الخلال كلها الا علي رضي الله عنه وأرضاه. والذي قال فيه احمد بن حنبل : ما بلغنا عن أحد من الصحابة ، ما بلغنا عن علي (ع). والذي عاش مع الرسول رشيدا أكثر من ثلث قرن تقريبا ، لم يفارقه ، لا في سفر ولا في حضر ، إلا في غزوة تبوك. ولما عزّ عليه أن يفوته أجر الجهاد مع الرسول في تلك الغزوة ، قال له الرسول : «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنه لا نبي بعدي».

لو أرجعهم اليه وكلفه بجمع الحديث وتدوينه ، لارتج باب الكذب في الحديث ونهج الفقهاء والرواة منهجا واحدا ، لا اختلاف فيه ولا تباين.

دور التشيع في الفقه الاسلامي بعد وفاة الرسول (ص):

لقد تبيّن مما سبق أن دور التشيّع في التشريع الاسلامي ، في الفترة التي تقع بعد وفاة الرسول (ص) كان بارزا في عهد الصحابة. فقد

١٨٥

دوّن علي (ع) الفقه والحديث ، فجمعهما في حياة الرسول وبعدها ، في كتب خاصة. حتى أن من ادعى بأن نشاط المسلمين في هذه الناحية ، قد اقتصر على الإفتاء ونقل الأحاديث لا غير ، بسبب ما ارتآه الخليفة من عدم تدوين الفقه والحديث ، قد اعترف بأن عليا كانت له صحيفة جمعت قسما من أبواب الحلال والحرام ، دونها بخط يده.

كما وأن الأحاديث الكثيرة الصحيحة ، من طريق أهل البيت عليهم‌السلام ، التي رواها المحدثون من الشيعة ، تنص على أنه كتب كتابا في القضاء ، وكتابا في الفرائض ، وكتابا في الفقه كله. وبعض هذه الكتب كان باملاء رسول الله (ص). وكان هو وشيعته يفتون أحيانا بما فيها من أحكام الإسلام. وبعد وفاته بقيت عند بنيه. ولم يكن باستطاعتهم في ذلك الدور القاسي على أهل البيت وشيعتهم ، ان يجاهروا بآرائهم وبما حملته من أحكام الإسلام ، ولا أن يتصدروا للقضاء والإفتاء بين الناس. ولما جاء دور الإمامين الباقر وولده الصادق عليهما‌السلام ، وتهيأ لهما أن يقوما بنشر رسالة جدهما الرسول الأعظم ، بما حوته تلك الكتب ، من أبواب الفقه وأنواع الحلال والحرام ، شاع أمرها بين الشيعة ، ومن تخرج من مدرستهما في الحجاز والعراق ، وسائر الأقطار الإسلامية ، ورآها جماعة من أعيان أصحابهما.

ولم يكن أثر التشيع في التشريع الإسلامي مقصورا على التدوين والتأليف ، بل كان بارزا في القضاء وافتاء الناس. فلقد برز علي (ع) على غيره من صحابة الرسول ، وكان قوله الفصل اذا تعقدت الأمور ، وتباينت الآراء ، ولم يستطع أحد أن يصرف الأنظار عنه أو يحد من نشاطه في الإفتاء والقضاء. حتى أن من كانت بيدهم السلطة لم يجدوا بدا من الرجوع الى رأيه ، في اكثر المشاكل ، التي كانت تعترضهم.

١٨٦

وقال عمر بن الخطاب ، مخاطبا اولئك الذين تصدروا للافتاء في مسجد الرسول : «لا يفتينّ أحدكم في المسجد وعليّ حاضر».

ولأكثر من مناسبة قال : «لا بقيت لمعضلة ليس لها ابو الحسن ، ولو لا علي لهلك عمر».

ولم يكن عمر بن الخطاب مجاملا لعلي (ع) ، حينما قال هذه الكلمات ، ولكنه الواقع الذي أحسه هو وجميع المسلمين ، فرض عليه ان ينطق بها. ولأنه لم يجد بين صحابة الرسول غيره إذا تعقدت الأمور عليه ، وإذا استطاع أخصامه ان يصرفوا الخلافة عنه ، بحجة ان النبي لم ينص عليه كما يزعمون ، فلن يستطيعوا ان يصرفوا الأنظار عن علمه وفقهه ، ولا ان يحدوا من نشاطه في الافتاء والقضاء.

والمسلمون بعد وفاة الرسول ، أحوج ما يكونون اليه ، من أي زمان مضى ، لإنه لسان الرسول وترجمان القرآن ، وباب مدينة العلم. وجميع الصحابة يعلمون بأن الرسول لم يثن على أحد من أصحابه ، بمثل ما اثنى به عليه ، كما قال ابن حنبل والنسائي والنيسابوري وغيرهم من المحدثين.

ومهما تكن الدوافع التي من أجلها نطق الخليفة بهذه الكلمات ، فهي تعبير صادق عن جهاد علي المتواصل في بناء هذا الدين ونشر تعاليمه ، معتمدا في ذلك على كتاب الله وسنّة رسوله.

ولا بد لنا من عرض موجز لبعض آرائه وآراء غيره من الشيعة ، في الفترة الأولى من تاريخ الإسلام ، بعد وفاة الرسول (ص).

قال في تذكرة الخواص ، عن احمد بن حنبل ، في فضائله ، بسنده عن ابي ظبيان : ان عمر بن الخطاب اتى بامرأة قد زنت فأمر برجمها. ولما

١٨٧

عرف علي حالها امرهم بإخلاء سبيلها ، وقال للخليفة : انها معتوهة آل فلان ، وقد قال رسول الله (ص) : رفع العلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ ، والصبي حتى يحتلم ، والمجنون حتى يفيق (١). واتي بإمرأة أخرى وضعت حملها لستة أشهر من تاريخ زواجها فأمر عمر بن الخطاب برجمها ، فأنكر عليه علي حكمه وارجعه الى كتاب الله الكريم حيث يقول : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) ويقول : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً.) يتبين من هاتين الآيتين أن أقل الحمل ستة أشهر ، بعد استثناء مدة الرضاع ، التي نصت عليها الآية الأولى. فقال عمر بن الخطاب : «اللهم لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن ابي طالب».

وفي الارشاد (٢) : ان رجلا رفع إلى أبي بكر ، وقد شرب الخمر ، ولما أراد أن يقيم عليه الحدّ ادعى أنه لم يعلم بتحريمها ، لأنه نشأ بين قوم يستحلونها فارتج على أبي بكر ، ولم يعلم وجه القضاء في ذلك ، فأشار عليه جلساؤه ان يستعلم الحكم في مثل ذلك من علي (ع). فارسل اليه من سأله عنه ، فقال : يطوف به رجلان من المسلمين على مجالس المهاجرين والأنصار ، فإن تبيّن ان أحدا تلا عليه آية التحريم او اخبره بحرمتها ، اقيم عليه الحدّ ، وان لم يتبين ذلك ، فلا شيء عليه فاستصوب الخليفة رأي علي (ع) وارسله مع رجلين من ثقاة المسلمين الى مجالس المهاجرين والأنصار فلم يشهد احد أنه تلا عليه الآية ، أو أخبره بتحريمها ، فاستتابه أبو بكر وخلّى سبيله.

وقد سئل ابو بكر عن الكلالة ، التي ورد ذكرها في آية المواريث ،

__________________

(١) النص والاجتهاد ، عن البخاري في صحيحه ، الجزء الرابع ص ١٧٧.

(٢) للشيخ المفيد.

١٨٨

فقال : أقول فيها برأيي ، فإن اصبت فمن الله وان اخطأت فمن نفسي ومن الشيطان. ولما بلغ عليا (ع) قوله ، قال : «ما أغناه عن الرأي في هذا المكان ، اما علم ان الكلالة هم الاخوة والأخوات من قبل الأب والأم ، ومن قبل الأب على انفراده ، ومن قبل الأم وحدها؟» قال سبحانه : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ، إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ.) وقال عز من قائل : «وان كان رجل يورث كلالة او امرأة وله أخ أو اخت فلكل واحد منهما السدس ، فإن كانوا اكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث» (١). وذكر في الارشاد ان قدامة بن مظعون شرب الخمر ، فلما أراد عمر بن الخطاب ان يقيم عليه الحد ، احتج عليه بالآية الكريمة : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ،) فامتنع من اقامة الحد عليه. ولما بلغ ذلك عليا (ع) قال له : لم تركت اقامة الحدّ على قدامة ، وقد شرب الخمر؟ فقال : لأن الآية تنص على ان المؤمنين ليس عليهم جناح فيما طعموا ، إذا اتقوا وعملوا الصالحات. فقال : ان الذين اتقوا وعملوا الصالحات ، لا يستحلون حراما ، فاردد قدامة واستتبه ، فان تاب فأقم عليه الحد ، وإن لم يتب فاقتله ، فقد خرج عن الملة. ولما عرف قدامة ان الاسلام لا يعفيه من العقوبة ، أظهر توبته ، وجلده ثمانين جلدة ، بعد ان أخبره علي بمقدار هذه العقوبة ، وكان ابو بكر يرى أنها أربعون جلدة (٢).

وقد زنت امرأة حامل ، فأمر عمر بن الخطاب برجمها ، فقال له علي (ع) : هب ان لك عليها سبيلا ، فأي سبيل لك على ما في

__________________

(١) الارشاد المفيد.

(٢) تاريخ الفقه الاسلامي ص ٧٣.

١٨٩

بطنها ، والله سبحانه يقول : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.)

فقال عمر : «لا عشت لمعضلة لا يكون لها ابو الحسن». ولما استشاره في أمرها ، قال : احتفظ بها حتى تلد ، فإذا ولدت ووجدت لولدها من يكفله فأقم عليها الحد (١).

وجاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب وأقرت على نفسها بالزنا ، فأمر برجمها فاستمهله علي (ع) لعل لها عذرا يدرأ عنها الحد. فقال لها : ما حملك على الزنى؟ قالت : كان لي خليط ، وفي ابله ماء ولبن ، ولم يكن في ابلي شيء من ذلك ، فظمئت فاستسقيته ، فأبى ان يسقيني حتى اعطيه نفسي ، فأبيت عليه ثلاثا. ولما ظمئت وظننت ان نفسي ستخرج ، أعطيته الذي أراد ، فسقاني. فقال علي ، الله اكبر! «فمن اضطر غير باغ ولا عاد فان الله غفور رحيم» (٢).

وجيء إليه بامرأة أخرى قد زنت ، فأقرت لديه بذلك ، وكررت اقرارها وايدت ما فعلته من فجورها. وكان علي (ع) حاضرا ، فقال : انها لتستهل به استهلال من لا يعلم أنه حرام ، فدرأ الحد عنها ، عملا بالحديث : «الحدود تدرأ بالشبهات» (٣).

وروى سعيد بن المسيب ان رجلا من أهل الشام يقال له ابن جبيري وجد مع امرأته رجلا فقتلهما ، فأشكل على معاوية القضاء

__________________

(١) الارشاد للمفيد ، والنص والاجتهاد للعلامة المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين عن الحاكم في الجزء الرابع من مستدركه وعن الذهبي في التلخيص.

(٢) النص والاجتهاد ، عن ابن القيم في كتابه : الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية.

(٣) نفس المصدر.

١٩٠

فيه ، فكتب الى ابي موسى الأشعري ان يسأل علي بن أبي طالب عن ذلك ، فسأل أبو موسى عليا (ع) فقال له : ان هذا الشيء ما هو بأرضي ، عزمت عليك لتخبرني ، فقال له ابو موسى : كتب إلي معاوية ان أسألك عن ذلك ، فقال علي : أنا ابو حسن ، ان لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته (١).

ولما افتى عمر بن الخطاب بأن عدة الحامل المتوفي عنها زوجها ، تنتهي بوضع الحمل ، وسئل علي (ع) عن ذلك اجاب : ان عدتها أبعد الأجلين من وضع الحمل. ومضي أربعة أشهر وعشرة أيام ، عملا بعموم الآية الكريمة (٢) : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) وكان يرى ان الطلاق الثلاث بلفظ واحد ، يقع طلاقا واحدا ، وقد أمضاه عمر بن الخطاب ثلاثا ، وجعله موجبا لتحريم الزوجة حتى تنكح زوجا غيره ومع اعترافه بأن الرسول (ص) اعتبره طلقة واحدة ، امضاه ثلاثا ، إلزاما للزوج بما ألزم به نفسه (٣).

وكتب يعلى بن امية ، وكان واليا لعمر بن الخطاب على اليمن : ان امرأة قتلت هي وخليلها ابن زوجها ، فهل القصاص على الاثنين او على أحدهما؟ فتوقف عن الجواب واستشار عليا في حكم هذا الحادث وامثاله ، فقال : أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة جزور ، فأخذ هذا عضوا وهذا عضوا أكنت قاطعهم؟ قال نعم! فقال علي (ع) :

__________________

(١) موطأ مالك ص ٢١٢.

(٢) النص والاجتهاد عن الزمخشري في تفسير الآية ، وفي تاريخ التشريع الاسلامي للخضري.

(٣) نفس المصدر.

١٩١

وكذلك الحال هنا. ونتيجة لذلك ، كتب عمر بن الخطاب في جواب السائل : اقتلهما معا ، فلو اشترك اهل صنعاء كلهم لقتلتهم (١).

قال الشهيد الثاني : إذا قتل الجماعة واحدا قتلوا به ، وهو قول اكثر العامة ، ومذهب الأصحاب : ان الولي إذا اختار الدية فتوزع على القاتلين ، وان اختار القصاص فله قتل الجميع ، ومستندهم في ذلك الأخبار الكثيرة. منها رواية الفضيل بن يسار ، قال : قلت لأبي جعفر (ع) : عشرة قتلوا رجلا ، فقال : ان شاء أولياؤه قتلوهم جميعا ، وغرموا تسع ديات. وهذه الديات التسع التي يغرمها أولياء المقتول توزع على أولياء المقتولين العشرة (٢)..

وقد افتى علي (ع) بأن شارب الخمر يجلد ثمانين جلدة ، ففي موطأ مالك ان عمر بن الخطاب استشار عليا في حدّ شارب الخمر ، فقال : ارى ان تجلده ثمانين جلدة ، فجلده عمر ثمانين.

وفي تاريخ الفقه الاسلامي ، ان عمر بن الخطاب قد اتبع تعليل علي بن ابي طالب ، فجعلها ثمانين جلدة ، بقيت مشروعة حتى اليوم ، اذ قبل ذلك الصحابة في ذاك العهد ، وصار شرعا لنا دائما (٣).

وفي المسالك ان عمر بن الخطاب ، بعد أن استشار عليا في حد شارب الخمر ، أشار عليه ان يضربه ثمانين وبأنه إذا شرب سكر وإذا

__________________

(١) تاريخ الفقه الاسلامي ص ٧٦ والنص والاجتهاد ص ٢١١ عن فجر الاسلام ، نقلا عن اعلام الموقعين.

(٢) مسالك الأحكام للشهيد الثاني.

(٣) تاريخ الفقه الاسلامي ، للدكتور محمد يوسف ، وفيه عن الروض النضير ان عثمان في أيام خلافته ، نقض ما اتفق عليه المسلمون على عهد عمر بن الخطاب ، وجلده اربعين جلدة ،

١٩٢

سكر يهذي وإذا هذى افترى ، فجلده عمر ثمانين وعمل به اكثر العامة. وقال بعضهم بأربعين ، ونقل اتفاق الإمامية على الثمانين.

وفي تاريخ الفقه الإسلامي ، ما ملخصه ، ان عمر بن الخطاب وجماعة من اعيان الصحابة قد التبس عليهم الأمر في ميراث الجد مع الأخوة اذا ترك الميت جده واخوته ، فاستشاروا عليا وزيد بن ثابت في ذلك ، فأفتى علي بأن الجد يشارك الأخوة في هذه الحالة. وقد ضرب له مثلا على ذلك ليرفع ما في نفسه من الحيرة والتردد ، بسيل سال ، فانشعبت منه شعبة ، ثم انشعبت منه شعبتان ، ثم قال : «أرأيت لو ان ماء هذه الشعبة الوسطى رجع ، اليس الى الشعبتين جميعا؟» ووافقه على ذلك زيد بن ثابت ، بعد أن كان يرى ان الجد لا يزال معهم ، فانتهى عمر بن الخطاب الى رأيه ، وجعل الجد والأخوة في مرتبة واحدة ، وعمل بذلك المسلمون. وارتضاه الشافعية والمالكية والحنابلة ، أما الأحناف فيرون أن الجد بمنزلة الأب ، يحجب الأخوة عن الميراث ، وذلك رأي أبي بكر وبعض الصحابة (١).

وكان عمر بن الخطاب يتأسف ، وهو على المنبر ، لأن رسول الله (ص) فارق المسلمين ، ولم يعهد اليهم عهدا ينتهون إليه في امور ثلاثة : الكلالة والجد وأبواب من الربا ، ونقل له الباحثون في التشريع الاسلامي بعض الآراء المخالفة لما عليه اهل البيت وشيعتهم. منها انه كان يرى ان ضالة الإبل وغيرها من انواع الحيوان الذي لا يخاف عليه من السباع ، يجب التقاطها والاحتفاظ بها حتى يظهر صاحبها. ويذهب اهل البيت في مثل هذا النوع من الضالة ، عدم جواز اخذها ، بل تترك وشأنها ، إذا كانت في

__________________

(١) صفحة ٦٠ و ٦١ من تاريخ الفقه للدكتور محمد يوسف.

١٩٣

كلأ وماء ، ومن أخذها يكون ضامنا لتلفها ونتاجها. ويتفق رأيهم فيها مع الحديث المروي عن الرسول حيث قال : في جواب من سأله عن حكم اللقيطة. اما ضالة الإبل ما لك ولها ، معها سقاؤها وحذاؤها ، ترد الماء والشجر حتى يلقاها ربها (١).

ولعل ما نقل عنه (ع) في ذلك ، فيما إذا كانت الضالة في معرض التلف ، او كانت في محل لا ماء فيه ولا كلاء. ومذهب الشيعة في مثل ذلك وجوب حفظها.

ومنها انه كان يرى تضمين الأجير والصباغ والصانع ، اذا تلفت العين عندهم. وروى البيهقي جملة من الآثار التي تثبت انه كان يضمن الأجير ما يتلف تحت يده ، وانه يقول : «لا يصلح الناس إلا ذلك» (٢).

ويروي البيهقي عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي ، انه كان يضمن الصياغ والصانع. ومذهب اهل البيت في ذلك ان العين التي بيد الأجير امانة غير مضمونة إلا بالتعدي او التفريط بها ، وذلك فيما اذا تلفت بسبب لا يرجع اليه. أما إذا اتلفها الأجير فإنه يكون ضامنا لها ، سواء قصد اتلافها او لم يقصد ، وسواء كان ماهرا في صنعته او لم يكن. وكذا الحال في كل من اجر نفسه لعمل في مال المستأجر ، فإن تلف بسبب لا يرجع اليه ، لا يكون ضامنا له ، عملا بالنص القائل : «لا ضمان على مؤتمن». وان تلف بسببه او فعله ، كان ضامنا له ، قصد ذلك او لم يقصد. والمبدأ العام المتبع في مثل ذلك :

__________________

(١) تاريخ الفقه الاسلامي (ص ٨٦).

(٢) نفس المصدر.

١٩٤

«من اتلف مال غيره فهو له ضامن» (١).

والحكم بالضمان المنسوب الى علي (ع) ، يمكن ان يكون في مورد التعدي ، من الصباغ والصانع والأجير ، او التفريط والتهاون. ويؤيد ذلك ما روي عنه انه قال : «لا يصلح الناس إلا ذلك». وهي ظاهرة بأن تضمين الأجير لما يتلف في يده ، عقوبة له يقصد بها اصلاحه ، ليكون حريصا على ما تحت يده فلا يتعدى عليه او يفرط فيه. كما يمكن ان يكون حكمه بالضمان مقصورا على صورة ما اذا اتلفه في اثناء العمل الذي استؤجر عليه. ومنها انه كان يرى فيمن تزوج امرأة في عدتها ودخل بها ، ان له ان يتزوج بها بعد التفريق بينهم ان شاء ، اذا استكملت عدتها من الأول ، واعتدت منه عدة مستقلة ، كما روى عنه ذلك ابراهيم النخعي. وكان عمر بن الخطاب يرى حرمتها عليه ابدا (٢).

ومذهب اهل البيت في هذه المسألة ، انه اذا كان عالما بالحكم والموضوع لا تحل له ابدا ، دخل بها او لم يدخل ، وان كان جاهلا بهما أو بأحدهما ، وعقد عليها ولم يدخل بها يبطل العقد. وبعد ان تستكمل عدتها ، له ان يتزوجها بعقد جديد. اما اذا دخل بها في هذه الصورة حرمت عليه ايضا. وقد نصت على ذلك الاخبار الصحيحة المروية عنهم. فقد روى زرارة وداود ابن سرحان عن الصادق (ع) انه قال : «الذي يتزوج المرأة في عدتها ، وهو يعلم لا تحل له ابدا».

وروى محمد بن مسلم عن ابي جعفر الباقر (ع) : اذا تزوج الرجل

__________________

(١) وسيلة النجاة للمرحوم السيد أبو الحسن ، كتاب الأجرة.

(٢) تاريخ الفقه الاسلامي (ص ٩٠).

١٩٥

امرأة في عدتها ، يفرق بينهما ، وان كان دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها ويفرق بينهما ولا تحل له ابدا ، وان لم يدخل بها فلا شيء لها من المهر.

واذا صحت النسبة الى علي (ع) فلا بد أن يكون حكمه بأن له ان يتزوجها بعد ان تستكمل عدتها ، فيما اذا كان جاهلا بالحرمة ، او بأصل العدة ، ولم يكن قد دخل بها. ويؤيد ذلك أن الرأي المنسوب الى علي (ع) كان في حادثة وقعت على عهد عمر بن الخطاب وهي ان (طليحة الأسدية) كانت متزوجة برشيد الثقفي ، فلما طلقها تزوجها رجل قبل ان تستكمل عدتها ، فضربها عمر بن الخطاب وضرب زوجها ضربات وفرق بينهما (١).

وليس فيها ما يشير الى دخوله بها او علمهما بالحكم والموضوع. وليس ببعيد جهلهما في هذا الحكم وامثاله ، مما لم تكثر الحاجة اليه ، لا سيما والمسلمون في بداية عهدهم بتعاليم الاسلام واحكامه.

ومهما كان الحال فهو اعلم بما يفتي وبما يحكم ، ولم يكن احد من المسلمين يماري في احكامه ويتردد بها ، لأنهم يعلمون مقدار صلته بالرسول ، وانه كان يؤثره على كل اصحابه ، ولم يفارقه في سفر ولا حضر ، إلا في غزوة تبوك. وبهذه المناسبة قال له : «اما ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي» كما روى ذلك الترمذي والبخاري وغيرهما من محدثي اهل السنّة.

وقد ذكر جميع المحدثين آراءه في الفقه والحديث. وليس بوسعنا ان نستقصي جميع ما ذكروه ، ولكن المتتبع للآثار الاسلامية ومخلفات

__________________

(١) الجزء الثاني من تنوير الحوالك على موطأ مالك (ص ٧٠).

١٩٦

الصحابة يراه من اكبر المشرعين بعد الرسول ، واعلمهم بكتاب الله وسنة رسوله.

وقد عدّه الدكتور محمد يوسف في كتابه تاريخ الفقه الاسلامي من شيوخ التشريع واعلامه ، مع جماعة من الصحابة ، منهم عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وابو موسى الأشعري وغيرهم (١) ومع انه يدعي التحرر في ابحاثه والانطلاق من مخلفات العصور الماضية التي سخرت الأفكار والأقلام لمصالح الحكام واهوائهم ، يبدو في بعض الأحيان مسيّرا في فكره وقلمه لتلك المخالفات ، التي فرضتها السياسة ، فقد ذكره في عداد عبد الله وابي موسى الأشعري وغيرهما. مع ان عمر بن الخطاب نفسه كان يكرر : «لو لا علي لهلك عمر ، ولا بقيت لمعضلة ليس لها ابو الحسن» ، ولا يبيح لأحد من فقهاء الصحابة ان يفتي في مجلس فيه علي (ع) : «لا يفتين احدكم وعلي حاضر».

وهو الذي قال في ولده عبد الله ، حينما اشار عليه بعض المسلمين ان يستخلفه : «كيف اولي امر المسلمين من لا يحسن طلاق زوجته؟!» (٢) ومن لا يحسن امر الطلاق ، بشهادة والده فيه ، هل يجوز لمن يدعي التحرر في ابحاثه والتمرد على مخلفات الماضين ، ان يجعله الى جانب علي (ع) في التشريع الإسلامي؟! وفي طبقات ابن سعد : «أنه كان جيد الحديث ، غير جيد الفقه».

ومهما يكن الحال فالذي اردناه من ايراد هذه النبذة اليسيرة من أقضيته وفتاويه ، ان دور التشيع في الفقه الاسلامي كان بارزا منذ الأيام

__________________

(١) صفحة ٤٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي المجلد الثاني (ص ١٣٨) وشرح النهج المجلد الأول (ص ٦٤).

١٩٧

الأولى لوفاة الرسول (ص). وقد قام شيعة علي بنصيبهم في ذلك ، فساهموا في حفظ هذا التراث الإسلامي ، بنقل الحديث ونشر الأحكام. وذكرنا فيما سبق ان ابا رافع ، مولى رسول الله ، لازم عليا بعد وفاة الرسول وشهد معه حروبه وان ابنيه عبيد الله وعليا كان يكتبان لعلي (ع) أيام خلافته. وقد الف ابو رافع كتاب السنن والأحكام وكتاب القضايا وهو اول من جمع الحديث من الشيعة والف في الأحكام ، وكان يفتي الناس ويعلمهم الحلال والحرام.

ومنهم سلمان الفارسي ، وكان من اعيان الشيعة وأجلاء الصحابة وحواري الرسول ، وقد بلغت صلته بالرسول وايمانه به الى حدّ قال فيه الرسول : «سلمان منا اهل البيت». وأعطاه الرسول لقب المحمدي ، بدل الفارسي ، وبعد الرسول لازم عليا وأخذ العلم عنه. وروى الفضل بن يسار ، عن أبي جعفر الباقر انه قال له : ترى ما يروي الناس ، أن عليا (ع) قال في سلمان انه ادرك علم الأول وعلم الآخر ، قلت نعم! قال : فهل تدري ما عنى؟ قلت : يعني علم بني اسرائيل وعلم النبي. فقال ليس هكذا يعني ، ولكن علم النبي وعلم علي (ع) وأمر النبي وأمر علي (١).

وقد نهى سلمان الفارسي أبا الدرداء أن يجهد نفسه في العبادة ، وقال له : إن لنفسك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، صم يوما وافطر يوما ، وصل ونم وادّ لجسمك حقه. ولما بلغ قوله الرسول (ص) قال : لقد اشبع سلمان علما جما (٢).

__________________

(١) رجال الكشي (ص ١١).

(٢) المجلد الرابع من طبقات ابن سعد (ص ٨٥).

١٩٨

وقال فيه علي (ع) : ذاك امرؤ منا والينا أهل البيت ، من لكم بمثل لقمان الحكيم ، علم العلم الأول والعلم الآخر ، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر ، وكان بحرا لا ينزف؟ (١).

وقال فيه الفضل بن شاذان : ما نشأ في الإسلام رجل من كافة الناس كان أفقه من سلمان الفارسي (٢).

وقد ولاه عمر بن الخطاب على المدائن ، ولم تكن مهمة الوالي مقصورة على الشؤون الإدارية والسياسية فحسب ، بل كان بالإضافة الى هاتين يتولى أكثر الشؤون الدينية كالإفتاء وتعليم الأحكام ، لا سيما اذا كان الولاة كسلمان الذي جاء في احاديث الرسول (ص) عنه : «لقد اشبع سلمان علما جما».

ومن فقهاء الشيعة وحملة الحديث وأوعية العلم في عصر الصحابة ، عمار بن ياسر ، وقد بلغ من اخلاصه لدعوة الرسول المباركة أن قال فيه الرسول : «عمار مع الحق والحق مع عمار ، يدور معه كيفما دار».

وأخبره بأنه سيكون قتيلا على يد الفئة الباغية ، في حديث مشهور في كتب الحديث عند السنة والشيعة. وبقي عمار ينتظر ذلك المصير الذي آمن به ، وأيقن بوقوعه حتى كانت صفين ، وكان من أمره أن قتله أتباع معاوية ابن أبي سفيان ، وقد ولاه عمر بن الخطاب الكوفة ، فكان مرجعهم في جميع شؤونهم. وكانت الشؤون الدينية تشغل جانبا كبيرا من حياة الولاة والحكام ، لأنها قانون الدولة ، وعلى الحكام ان يعملوا على انتشارها بين افراد الشعب ، وتطبيقه على الجميع بنصه وروحه.

__________________

(١) المصدر السابق (ص ٨٦).

(٢) رجال الكشي (ص ١١).

١٩٩

وقد بلغ به الإيمان بدعوة الرسول والإخلاص لمبادئها ان اصبح من حواري الرسول والمقربين اليه. ولازم عليا ، حتى كانت نهايته بصفين. وهو القائل : «والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا اننا على الحق وهم على الباطل».

ومما لا بد منه ، بعد أن تهيأ له الجو المناسب ، وأصبح حاكما في بلد دخل في الإسلام بقوة السيف ، لا يعرف عن عقائد الاسلام وأحكامه شيئا ، ان ينصرف الى تعليم الناس الحلال والحرام ، ويغرس في نفوسهم مباديء الاسلام وأصوله ، كما نص عليها الكتاب والحديث.

وقال الاستاذ مصطفى عبد الرزاق : ان أبي بن كعب وعمارا بن ياسر وحذيفة اليمان وأبا الدرداء وسلمان الفارسي ، كانوا يفتون الناس في حياة الرسول (١).

ومن فقهاء الشيعة وأعيان الصحابة أبي بن كعب ، وهو من أعيان الشيعة ، كما نص عليه السيد علي بن صدر الدين المدني (٢). وقال السيد حسن الصدر : لقد أكثر السيد علي المدني من الأدلة على تشيعه وموالاته لأهل البيت عليهم‌السلام ، وذكره ابن سحنة في تاريخه ، فيمن تخلف عن البيعة مع علي (ع) وانه من الطليعة الأولى من المفسرين (٣).

وروى ثقة الاسلام الكليني عن الصادق جعفر بن محمد انه قال : أما نحن فنقرأ بقراءة ابي بن كعب. وفي أمالي الشيخ ابي جعفر محمد بن علي بن بابويه ، وخلاصة العلامة في الرجال ، ما يدل على جلالته

__________________

(١) تمهيد لتاريخ الفلسفة (ص ١٣٥).

(٢) الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة.

(٣) تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام.

٢٠٠