تاريخ الفقه الجعفري

هاشم معروف الحسني

تاريخ الفقه الجعفري

المؤلف:

هاشم معروف الحسني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٩

إلى المدينة وشهد معه جميع مشاهده ، ولازم عليا أمير المؤمنين من بعده ، وكان من خيار الشيعة. ثم قال : ولأبي رافع كتاب السنن والأحكام والقضايا ، وقد اشتمل كتابه على الصلاة والصيام والحج والزكاة والقضايا.

وبعد ان انتهى الى هذا الحد ، قال : وعلي بن ابي رافع تابعي ومن خيار الشيعة ، كانت له من أمير المؤمنين صحبة ، وكان كاتبا له ، وقد جمع كتابا في فنون من الفقه والوضوء والصلاة وسائر الأبواب.

ثم نقل عن موسى بن عبد الله بن الحسن (ع) أنه قال : سأل رجل ابي عن التشهد فقال : هات كتاب ابن ابي رافع ، فأخرجه وأملاه علينا (١). وقال المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين ان عبيد الله بن ابي رافع ، كاتب علي ووليه ، سمع النبي وروى عنه قوله لجعفر بن ابي طالب : أشبهت خلقي وخلقي. كما ذكر ذلك احمد بن حنبل في مسنده.

وألف عبيد الله كتابا فيمن حضر صفين مع علي (ع) من الصحابة ، ونقل عنه ابن حجر كثيرا في اصابته (٢).

وذكر الشيخ أبو جعفر الطوسي (٣) والنجاشي (٤) وابن شهرآشوب وغيرهم ممن كتب من الشيعة وألف في صدر الإسلام ، وان سلمان الفارسي صنف كتاب حديث الجاثليق الرومي الذي بعثه ملك الروم.

__________________

(١) في كتابه الرجال ، المسمى رجال النجاشي.

(٢) المراجعات للعلامة شرف الدين.

(٣) في الفهرست ،

(٤) في رجاله.

١٦١

وألف أبو ذر كتابا سماه الخطبة ، يشرح فيها الأمور بعد النبي (ص). وألف الأصبغ بن نباتة كتابين : مقتل الحسين وكتاب عجائب أحكام أمير المؤمنين. وروى عن علي (ع) عهدة للأشتر على مصر ، ووصيّته لولده محمد بن الحنفّية.

وألف سليم بن قيس كتابا في الإمامة ، يرويه عن علي (ع) وجماعة من كبار الصحابة. وليس بين الشيعة خلاف في ان هذا الكتاب من تأليف سليم بن قيس.

والف ميثم التمار في الحديث ، وروى عنه الطوسي في أماليه والكشي في رجاله والطبري في بشارة المصطفى (١).

ومحمد بن قيس البجليّ صاحب أمير المؤمنين ، له كتاب رواه عن علي (ع). وفي الفهرست (٢) ان كتاب محمد بن قيس البجليّ لما عرض على ابي جعفر الباقر (ع) ، قال : هذا قول أمير المؤمنين (ع).

وغير هؤلاء كثير ممن ورد ذكرهم في كتب الرجال والحديث مع المؤلفين ، في الفترة التي تلي وفاة الرسول إلى نهاية ملك معاوية بن ابي سفيان. ولا نريد ان نستقصي جميع أسمائهم ومصنفاتهم. ويكفينا هذا العدد اليسير لإثبات ان التشيع قد ساهم بنصيب وافر في التشريع الإسلامي وتدوين آثار الرسول وحديثه. ولو لم يسجل التاريخ لأحد شيئا من ذلك ، لكان ما كتبه علي (ع) بخط يده وما قام به من جهود

__________________

(١) قال العلامة الأمين في الجزء الأول من أعيان الشيعة أنه ألف كتابا في الحديث ، وروى عنه جماعة ، منهم الطوسي والكشي والطبري. قتل سنة ٦٠ من هجرة الرسول إلى المدينة.

(٢) للشيخ الطوسي.

١٦٢

في تشريع الأحكام والقضاء والإفتاء كافيا لنسبة التشريع الإسلامي بعد الرسول اليه وحده.

فقد كتب الفقه وقواعده العامة ، وكل ما شرعه القرآن وجاءت به السنة ، وبقيت كتبه من أعظم المصادر بعد كتاب الله عند الأئمة من أبنائه ، ولما انتهت الى حفيديه الباقر والصادق عليهما‌السلام ، كانت مصدرهما في نشر تعاليم الإسلام والفقه ، وإليها كانا يرجعان ، كما ذكر ذلك الكثير من رواة حديثهم وأصحابهم ، وجاء في بعض المرويات عن الامام الباقر انه قال : عندنا صحيفة من كتب علي (ع) طولها سبعون ذراعا فنحن نتتبع ما فيها لا نعدوها.

وليس من السهل انتشارها قبل الزمن الذي عاش فيه الإمامان الباقر والصادق ، ففي عهد الخلفاء الثلاثة لم يكن بوسعه ان ينشرها بين المسلمين بعد ان منع عمر بن الخطاب من تدوين الفقه والحديث ، ودان المسلمون برأيه ، حتى أصبح سنة من سنن الإسلام. وبعد عصرهم جاءت الدولة الأموية فسخرت كل امكانياتها للقضاء على التشيع وآثاره ، وأصبح الحديث عنه يجر من ورائه أقصى العقوبات ، فكان ولا بد لتلك الآثار ان لا تظهر في تلك الظروف العصيبة من تاريخ الشيعة وقد بلغ الحال بمن كان يريد ان ينقل عن علي (ع) شيئا من الآثار ان يقول : حدثني أبو زينب. ومع ان عليا وبنيه وشيعتهم لم يكن بوسعهم ان ينشروا تلك الآثار الكريمة ، التي استمدها علي من الكتاب والرسول ، كانوا يأتون أحيانا ويحدثون بما فيها من أحكام وأحاديث تختلف عما يفتي به الجمهور أو يحدث به عن الرسول ، كما سيتبين ذلك من حديثنا عن أثر التشيع في الفقه والحديث في عصر الصحابة ، في الفصول الآتية

١٦٣

اثر المنع من تدوين الحديث والفقه

على التشريع الإسلامي

ذكرنا في الفصل السابق ان جماعة من وجوه الصحابة أشاروا على الخليفة بتدوين الحديث وجمعه في كتاب خاص ، كما جمعوا الألواح والرقاع التي كتب عليها آيات القرآن. ولكن الخليفة الثاني رأى ان ذلك قد يؤدي بالمسلمين الى التشاغل بالحديث وهجر القرآن ، كما فعل اليهود والنصارى ، فمنع من تدوينه. واستمر المسلمون زمنا طويلا يعتمدون في نقل الحديث على ما سمعوه من الرسول أو صحابته ، من غير ان يدونوا منه شيئا ما ، حسب ما يزعم المحدثون من أهل السنة. مع ان الحاجة اليه لم تكن بأقل من الحاجة الى الكتاب الكريم من ناحية التشريع ، لأنه الأصل الثاني للأحكام ومرجعه الوحيد بعد كتاب الله. والمسلمون لم يكونوا طرازا واحدا في الفقه والعلم والحفظ ولا نمطا متشابها في الفهم والتفكير ، بل كانوا في ذلك على طبقات ودرجات من حيث عملهم وضبطهم ودينهم ، شأن الناس في جميع الأدوار.

١٦٤

وقد اتسعت حاجة الناس الى حملة العلم وحفاظ الحديث باتساع الدولة الإسلامية ، بعد ان غزا الإسلام جزءا كبيرا من العالم ، وبعد ان انتقل المسلمون من دور تغلب عليه البداوة ، الى دور تغلب عليه الحضارة والنعيم والعمران ، بسبب اتصالهم بالأمم التي غزاها الإسلام وامتزاجهم بها. فكان من الطبيعي ، وقد انتقلوا من حياتهم الأولى ، حياة البداوة والبساطة ، أن تتضاعف حاجتهم الى الفقه ومعرفة الحلال والحرام وأحاديث الرسول ، وتفهم آيات القرآن لتطبيق تصرفاتهم على قواعد الدين وأصوله ، لا سيما وان الدين هو قانون الدولة ، وفي ضمن حدوده يجب ان تعمل الأمة في جميع نواحي الحياة ومراحل تطورها.

وقد وجد المسلمون ، ومن بينهم الفقهاء والمحدثون ، منفسا للخروج من الحجاز ، بسبب الفتوحات الإسلامية والغزوات والحروب ، فانتشر حملة الفقه والحديث في جميع الأقطار التي غزاها الإسلام ، والتي لا تزال في بداية عهدها بالدين الجديد ، ليعلموا الناس أصول الدين وفروعه. ووجد المسلمون الجدد أنفسهم مضطرين إلى معرفة أحكام الإسلام ، لأنها نظام الدولة ، وعلى أساسها يجب أن يسير الناس في كل شؤونهم ، فرجعوا الى من هاجر إليهم من عاصمة الإسلام ، فكان من آثار ذلك ان كثر المحدثون عن الرسول وانتشر الحديث المنسوب اليه ، واستغل فريق ممن سكن المدينة ورأى الرسول تقدير الجماهير له وتقديسهم لحديثه ، فرووا عنه ما أرادوا ، بدافع الكيد للإسلام والتشويه لأصوله وتعاليمه ، فكانت الفوضى التي لا بدّ منها في مثل هذه الظروف ، بعد ان كان أمر الحديث موكولا الى الحفاظ وحدهم ، وليس عليهم من رقيب سوى دينهم وضمائرهم.

ولم يكن أحد من فقهاء الصحابة ورواه السنة يحسبون ما سيؤول

١٦٥

إليه أمر الحديث ، بعد فترة قصيرة على وفاة الرسول. حتى ان الخليفة نفسه الذي منع من تدوينه ، لم يكن يحسب ان يصل الأمر بأبي هريرة وزمرته الى ما وصلوا اليه. وبالأمس القريب ضربه بدرته لأنه روى عن الرسول ما لم يحدث به. وحبس عبد الله بن مسعود وأبا الدرداء وأبي بن كعب ، لأنهم أكثروا الحديث عن الرسول ، مع ان هؤلاء الثلاثة من خيرة الصحابة وأعيانهم (١).

لقد منع عمر بن الخطاب من تدوين الحديث والفقه بعد تفكير طويل دام شهرا كاملا ، لأنه تخوف الكذب على الرسول.

وبالأمس القريب قال في علي كلماته الخالدات : «لو لا علي لهلك عمر ، لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو حسن».

وفي مسجد النبي على حشد من فقهاء الصحابة وجملة الحديث : «لا يفتين أحدكم في المسجد وعلي حاضر».

ان ذلك ليدعو الى التساؤل ويترك في نفس الباحث ألوانا من الشكوك حول هذا التصرف. لما ذا لم يكلفه بجمع الحديث وتدوينه ، وهو يعلم أنه أعرفهم بالحديث وأقربهم كان من الرسول. ولم يغب عنه شيء بما حدث به وشرعه ، منذ بعثه الله حتى الساعات الأخيرة من حياته. ولو كلفه بذلك ، كما كلف زيد بن ثابت بجمع الرقاع والألواح ، التي كتب عليها آيات القرآن ، لوفر على المسلمين جهودا استغرقت العشرات من السنين ، وسهل على من بعده الوصول إلى أحكام الله وفهم آي القرآن المجيد. ولما ابتليت الأمة بمثل أبي هريرة

__________________

(١) تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ محمد الخضري والسنة قبل التدوين الى محمد عجاج الخطيب.

١٦٦

وكعب الأحبار وعبد الله بن وهب ، وأمثال هؤلاء المأجورين الذين شوهوا الحديث وادخلوا فيه من البدع ، التي تشوه تعاليم الإسلام وتطمس من اضوائه. وأعانهم على ذلك بعض الحكام المنحرفين عن جادة الإسلام ، فسهلوا لهم طريق الدس والكذب وسخروا الدين للسياسة ، التي انحرفوا بها عن تعاليم القرآن ومبادئ الإسلام.

ومهما بلغ ايمان الباحث بتصرفات الصحابة وقد استها فلن يجد سبيلا إلى إزاحة ما يعترضه من الشكوك في هذا التصرف.

لقد تخوف الكذب على الرسول ، ان هو أباح لهم ان يدونوا حديثه وأحكام الإسلام ، مع علمه ان بين حملة الحديث من صحابة الرسول جماعة شهد لهم الرسول بالصدق والورع ، كأبي ذر وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر وحذيفة اليمان وأبيّ بن كعب وخزيمة بن ثابت وعبد الله بن العباس ، وأمثال هذه الطبقة الصالحة. وفي المسلمين عترة الرسول ، التي أمر المسلمين بالرجوع إليها بعد كتاب الله كما نص على ذلك حديث الثقلين الذي رواه أكثر المحدثين من السنة والشيعة.

لقد كان الأجدر بأبي حفص رحمه‌الله ، وهو المعروف بحكمته وبعد نظره ان يترك المسلمين وشأنهم ، بعد ان أجمعت كلمتهم على ضرورة تدوين آثار الإسلام وأحاديث الرسول ويسهل لهم تحقيق هذا الأمر بكل الوسائل.

ولو وفق لذلك لعصم الأمة والسنة مما وقعت فيه ولأرتج على الكاذبين باب الوضع ، ولما لعبت في الحديث أيدي الأمويين ، تلك العصابات المجرمة التي حكمت الأمة باسم الدين والإسلام وسهلت لفئة من المأجورين أساليب الدس والكذب على الرسول ، بدافع الكيد للإسلام وتثبيت عروشهم. ومهما كان الحال فالقائمون على أمر الأمة قد

١٦٧

سهلوا لهؤلاء ، بقصد أو بدون قصد ، تشويش الحديث وتشويه السنة الكريمة ، ولكن الحريصين على كتاب الله وسنة نبيه العظيم ، وعلى رأسهم علي (ع) ، قد بذلوا أقصى ما لديهم من جهد لتثبيت دعائم الدين ونشر تعاليمه ، فدونوا الحديث والفقه وجميع ما جاء به الإسلام ، حتى أرش الخدش ، كما دلت على ذلك كتب الحديث وأخبار أهل البيت الصحيحة.

قال الأستاذ محمود أبو رية (١) : كان من آثار تأخير تدوين الحديث وربط ألفاظه بالكتاب ، الى ما بعد المائة الأولى للهجرة وصدر كبير من المائة الثانية ، ان اتسعت أبواب الرواية وفاضت انهار الوضع ، بغير ما ضابط ولا قيد ، حتى بلغ ما روي من الأحاديث الموضوعة عشرات الألوف ، لا يزال أكثرها مثبتا في الكتب المنتشرة بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

ووضع الحديث على رسول الله ، كان أشد خطرا على الدين وأنكى ضررا بالمسلمين من تعصب أهل المشرقين والمغربين ، وان تفرق المسلمين إلى شيعة ورافضة وخوارج ونصيرية ، لهو أثر من آثار الوضع في الدين.

ثم نقل عن السيد رشيد رضا (٢) : إن أهم أسباب الوضع هو ما وضعه الزنادقة ، اللابسون لباس الإسلام غشا ونفاقا. وقصدهم بذلك إفساد الدين وإيقاع الخلاف والافتراق في الإسلام. قال حميد بن زيد : وضعت الزنادقة أربعة آلاف حديث ، وهذا بحسب ما وصل اليه علمه

__________________

(١) في كتابه : أضواء على السنة المحمدية ، تحت عنوان : الوضع في الحديث وأسبابه صفحة ٨٠.

(٢) من المجلد الثالث من مجلة المنار صفحة (٥٤٥).

١٦٨

واختباره في كشف كذبها ، وإلا فقد نقل المحدثون ان زنديقا واحدا وضع هذا المقدار! قالوا : لما أخذ ابن ابي العوجاء لتضرب عنقه قال : وضعت فيكم أربعة آلاف حديث ، أحرم فيها الحلال وأحل الحرام.

وقد ذكر الأستاذ أبو ريّه قسما كبيرا من الأحاديث الموضوعة بواسطة أبي هريرة وكعب الأحبار وغيرهما في فضل معاوية وبلاد الشام ، كما جاء في كتابه الاضواء (١). ثم قال : لم يكن الوضع على رسول الله مقصورا على أعداء الدين وأصحاب الأهواء ، وإنما كان الصالحون من المسلمين يضعون كذلك أحاديث على رسول الله ويجعلون ذلك حسبة لله بزعمهم. ويحسبون أنهم بعملهم هذا يحسنون صنعا. وإذا سألهم سائل ، كيف تكذبون على رسول الله؟ قالوا : نكذب له لا عليه. وذكر أن عبد الله النهاوندي ، سأل غلام أحمد ، من أين لك هذه الأحاديث ، التي تحدث بها في الرقائق؟ قال : وضعناها لنرقق بها قلوب العامة (٢).

وبلغ بهؤلاء الحال انهم كانوا إذا استحسنوا شيئا صيرورة حديثا ، كما نقل في الاضواء عن ابن عساكر في تاريخه.

وقد وضع أبو هريرة نواة هذا الأسلوب من الوضع في جملة الأحاديث التي رواها المحدثون من السنة عنه. فقد أخرج الطحاوي في المشكل عن أبي هريرة ان النبي (ص) قال : إذا حدثتم حديثا تعرفونه ولا تنكرونه ، فصدقوا به ، قلته أم لم أقله. فإني أقول ما يعرف ولا ينكر.

__________________

(١) ص ٩١ ـ ٩٨.

(٢) الاضواء ص ١٠٢ و ١٠٣.

١٦٩

وأورد عنه ابن حزم في الأحكام انه قال ، إن رسول الله (ص) قال.

«ما بلغكم عني من قول حسن لم أقله ، فأنا قلته» (١).

لم يكتف أبو هريرة بما وضعه من الأحاديث التي نسبها الى الرسول بدافع الكيد للإسلام وإرضاء لسيده معاوية بن أبي سفيان ، بل هيأ لغيره أسباب الوضع ومناسباته ، فنسب الى رسول الله هذا النوع من الحديث ، ليكون أساسا لكل من يحاول الدس والكذب والتشويش على الإسلام ومبادئه ، بحجة انهم يكذبون للرسول لا عليه ، كما ذكر بعض الرواة.

وبعد ان ذكر الأستاذ أبو ريّة أقسام الوضع في الحديث وأسبابه وكيف شاع وانتشر بعد عصر الصحابة ، تعرض لجماعة ممن اشتهروا بالوضع في عصر الصحابة وكانوا المرجع الأول لمن جاء بعدهم من الوضاعين.

قال تحت عنوان الاسرائيليات في الحديث (٢) :

ولما كان أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود ، لأنهم بزعمهم شعب الله المختار ، فلا يعترفون لأحد غيرهم بفضل ، ولا يقرون لنبي بعد موسى برسالة ، فإن رهبانهم وأحبارهم لم يجدوا بدا ، وبخاصة بعد ان غلبوا على أمرهم وأخرجوا من ديارهم ، من أن يستعينوا بالمكر ويتوسلوا بالدهاء ، لكي يصلوا الى ما يبتغون ، فهداهم المكر اليهودي الى ان يتظاهروا بالإسلام ويطووا أنفسهم على دينهم ، حتى يخفى

__________________

(١) الاضواء ص ١٠١.

(٢) صفحة ١٠٨.

١٧٠

كيدهم ، ويجوز على المسلمين مكرهم ، قد كان أقوى هؤلاء الكهان دهاء وأشدهم مكرا ، كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سبأ.

ولما وجدوا ان حيلهم قد راجت بما أظهروه من كاذب الورع والتقوى ، وان المسلمين قد سكنوا إليهم واغتروا بهم ، جعلوا أول همهم ان يضربوا المسلمين في صميم دينهم ، وذلك بأن يدسوا إلى أصوله التي قام عليها ما يريدون من أساطير وخرافات وأوهام وترهات.

ولما عجزوا عن ان ينالوا من القرآن الكريم لأنه قد حفظ بالتدوين واستظهره الآلاف من المسلمين ، وانه قد أصبح بذلك في منعة من ان يزاد فيه كلمة ، أو يندس فيه حرف ـ اتجهوا الى الحديث عن النبي ، فافتروا ما شاءوا ان يفتروا عليه من الأحاديث التي لم تصدر عنه. وأعانهم على ذلك ان ما تحدث به النبي في حياته لم يكن محدود المعالم ، ولا محفوظ الأصول ، لأنه لم يدون في عهده كما دون القرآن ، ولا كتبه صحابته من بعده ، وان باستطاعة كل ذي هوي أو دخيلة سوء ان يتدسس اليه بالافتراء ويسطو عليه بالكذب. ويسر لهم كيدهم ان وجدوا الصحابة يرجعون إليهم في معرفة ما لا يعلمون من أمور العالم الماضية.

فالكاتب المذكور يرى ان عدم تدوين الأحاديث في حياة الرسول وبعده ، قد هيأ لهؤلاء سبيل الكذب على الرسول والكيد للإسلام. وهؤلاء هم الذين يسروا لمن جاء بعدهم أن يروي عن الرسول ما يمليه عليه الهوى ، وان يتزلف الى الحكم بالافتراء على الله ورسوله ، للتمويه على الناس بشرعية خلافتهم ، وتبرير ما يقومون به من اجرام وعدوان وتحكم في الأمة ومقدراتها.

ولو ترك المسلمون ، بعد وفاة الرسول وشأنهم ، يدونون الحديث

١٧١

والأحكام التي شرعها الإسلام ، لم يكن شيء مما وقع في عصر الصحابة والتابعين وغيره من العصور. ولو وقع لما كان بتلك الكثرة التي طغت على السنة الصحيحة ، وبدّدت اضواءها ، ولكان من السهل اليسير على الباحث تصفية المكذوب من الأحاديث المنسوبة إلى الرسول ، بعد ان كانت أصول الحديث مدونة في كتاب واحد.

والنتيجة التي لا بدّ للباحث أن ينتهي إليها ان المسؤول الأول عن كل ما صدر من أبي هريرة وغيره من الوضاعين هو الذي منع من تدوين السنة وأحكام الإسلام. ولولاه لم يكن لهؤلاء ذلك المجال الذي اتسع لهم ، بسبب رأي الخليفة عمر بن الخطاب ، ولما استطاع ابن أبي العوجاء ان يدس أربعة آلاف حديث يحرم فيها الحلال ويحلل الحرام ، كما أخبر عن نفسه حينما أحس بالموت.

وقد ذكر الأستاذ أبو ريّة في كتابه الاضواء ، سيلا من الأحاديث التي دسها كعب الأحبار وأبو هريرة ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام في السنة النبوية وأصبحت بين الأحاديث المروية في صحاح أهل السنة.

ويبدو ان معاوية بن أبي سفيان كان يقرّب اليه كعبا وأمثاله ، ولذا نراهم ينسبون الى الرسول أحاديث في فضل الشام وحمص ومن يسكنهما من المسلمين. فقد روى لمعاوية ان الرسول قال : أهل الشام سيف من سيوف الله ، ينتقم الله بهم من العصاة. ومعلوم ان العصاة بنظر كعب الأحبار وسيده معاوية هم علي ومن معه من المسلمين ، في العراق وغيرها من بلاد الإسلام ، لأنهم لا يرون ابن هند أهلا للخلافة.

ثم يعود الى الحديث عن الشام وغيرها من المدن التي استطاع معاوية أن يبسط نفوذه فيها ، فيقول : «الشام صفوة الله من بلاده ، إليها يجتبي صفوته من عباده. فمن خرج من الشام الى غيرها فبسخطه

١٧٢

ومن دخلها فبرحمته. طوبى للشام ، ان الرحمن لباسط رحمته عليه ، ويبعث الله من مدينة بالشام يقال لها حمص سبعين ألفا يوم القيامة لا حساب عليهم ولا عذاب» (١).

ليس من الغريب ان يبسط الله سبحانه رحمته على الشام لأن بها معاوية وولده يزيد وأتباعهما الطغاة ، ويقبضها عن مدينة الرسول (ص) وان ضمت إليها جسده الطاهر وأجساد الصفوة من المسلمين ، الذين جاهدوا الكفار والمنافقين ، أمثال معاوية وابي سفيان وغيرهما من مشركي قريش.

ويجب ان يكون لمدينة حمص هذا الشأن العظيم عند الله سبحانه ، بعد ان سكنها كعب الأحبار وضمت رفاته بعد موته ، ورفات أنصار معاوية وأعوانه الذين عاثوا في الأرض فسادا وقتلوا الصلحاء والأبرياء.

وبعد ان تكلم الأستاذ أبو ريّة عن طائفة من الوضاع ، الذين استغلوا عدم تدوين الحديث في الفترة التي تلي وفاة الرسول ـ بتجرد وإخلاص ، مستعملا دينه ومنطقه السليم ، في جميع ابحاثه حول هذه المواضيع ـ انتقل الى شيخ الوضاع ، عميل الأمويين أبي هريرة الذي دخل في الإسلام قبل وفاة الرسول بثلاث سنين ، وترك من الحديث عنه أكثر من ستة آلاف حديث ، مع العلم بان جميع صحابة الرسول الذين عاشروه طيلة حياته وفي جميع أوقاته ، ومن بينهم علي بن أبي طالب (ع) ، باب مدينة العلم ، لم تسجل لهم كتب الحديث ، مجتمعين ، ما سجلته لأبي هريرة ، الذي دخل الإسلام في الأيام الأخيرة من حياة الرسول (ص).

__________________

(١) الاضواء صفحة ١٣١.

١٧٣

لقد تحدث عن المؤلف صغيرا وكبيرا ، واستعرض شطرا من حياته ، ليضع بين يدي القارئ اضواء نيرة على كذب أحاديثه التي ملأ بها بطون الكتب وصحاح إخواننا أهل السنة.

واحتلت أحاديثه الصادرة في الكتب المعدة لتدوين الحديث الصحيح عندهم ، وفاز هو بإعجابهم وتقديسهم له ولحديثه ، على ما في أحاديثه من مشكلات وخرافات وترهات ، أصح ما يقال فيها انها مطاعن على الدين ومعول هدام لتعاليم الإسلام والقرآن. تلك التعاليم المقدسة ، التي تحرر العقول من الأوهام والخرافات ، وتحث على العلم ، الذي يصقل العقول ويهذب النفوس ويفيد الإنسانية ويحارب الإلحاد والوثنية. لقد تحدث الأستاذ أبو ريّة عن الاسم الصحيح لأبي هريرة ، وخرج من بحثه بدون أن يهتدى لاسمه ، بعد ان نقل عن القطب الحلبي أنه اجتمع في اسمه واسم أبيه أربعة وأربعون قولا ، وان النووي استخلص له اسم عبد الرحمن بن صخر من ثلاثين قولا. ولما لم يجد بين تلك الأقوال التي بلغت أربعة وأربعين على رواية القطب الحلبي ، قولا تطمئن إليه النفس ، لم ير بدأ أن يتحدث عنه بكنيته ، التي اشتهر عنها في كتب الحديث ، والتي كان من أسبابها ، كما تحدث هو عن نفسه ، انه حينما كان يرعى الغنم لأهله كان يصحب هرة ويلاعبها في أكثر أوقاته ، فكني بها لأنها كانت تصحبه أينما ذهب.

كما وانه هو المصدر الوحيد لكل من تحدث عن نشأته وتاريخه قبل ان يدخل الإسلام ، ولم يعرف عنه أحد شيئا ، الا من خلال حديثه عن نفسه.

لقد أخبر عن نفسه انه نشأ فقيرا معدما ، يخدم الناس بطعام بطنه. وكان منذ صباه أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطنه ، يخدمها

١٧٤

أينما ذهبت ويجدو لركبها إذا ركبت. وفي رواية ابن قتيبة : كان أميا لا يقرأ ولا يكتب ، وانه أسلم في غزوة خيبر ، بعد ان تخطى الثلاثين من عمره ، وصحب النبي (ص) ليشبع بطنه. كما جاء في حديث رواه احمد والشيخان ، عن سفيان ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن الأعرج. قال ، سمعت أبا هريرة يقول : اني كنت امرءا مسكينا ، اصحب رسول الله على ملء بطني.

وكان يفضل جعفر بن أبي طالب على جميع الصحابة ، حتى على أخيه علي (ع) ، لأنه كان كثير الإحسان إلى الفقراء ، والإطعام للمساكين. ومن ألقابه المحببة الى نفسه (شيخ المضيرة) وهي نوع خاص من الطعام الذي كان يعده له معاوية ، ومن أطايب طعامه ، وجاء عنه أنه قال : مضيرة معاوية أدسم وأطيب ، والصلاة خلف علي أفضل. وقد مضى الأستاذ أبو ريّة في حديثه عن جشع هذا الشيخ وشرهه ، وأنه لم يكن يتصور من الدنيا إلا ان يشبع بطنه مهما كلفه ذلك من ثمن. وبلغ به الحال أنه قال ، كما نقل عنه الثعالبي : ما شممت رائحة أطيب من رائحة الخير ، وما رأيت فارسا أحسن من زبد على تمر (١).

قال الأستاذ أبو ريّة : ولكثرة ما رواه من الأحاديث عن الرسول استخف به الناس وبأحاديثه. فعن ابي رافع : ان رجلا من قريش أتى أبا هريرة في حلة وهو يتبختر فيها ، فقال : يا أبا هريرة ، إنك تكثر الحديث عن رسول الله ، فهل سمعته يقول في حلتي هذه شيئا ، فقال ، سمعت أبا القاسم يقول : ان رجلا ممن كان قبلكم ، بينما هو يتبختر في

__________________

(١) الاضواء صفحة ١٥٨ نقلا عن خاص الخاص للثعالبي صفحة ١١٢ جلد ٢.

١٧٥

حلة ، إذ خسف الله به الأرض ، فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة ، فوالله ، ما أدري لعله كان من قومك أو من رهطك! (١).

وعلى ما يبدو ان أبا هريرة مستعد لأن يروي عن الرسول كل شيء وأصبح الكذب على رسول الله أيسر عليه من أي شيء آخر ، ولذلك أدناه معاوية إليه وجعله من أقرب المقربين وأوفرهم عطاء ، لأنه وجد عنده موردا خصبا يمكنه ان يستغله لتدعيم ملكه والطعن على علي (ع). بشرط ان يهيئ له معاوية المضيرة ، تلك الأكلة الشهية المحببة الى نفسه. ومعاوية مستعد لها ولأكثر منها من ألوان الطعام وآلاف الدنانير التي كان يغدقها عليه من أموال المسلمين ، حتى تغير حاله من ضيق الى سعة ، ومن فقر الى ثراء ، وأصبح يلبس الخز والساج المزرور بالديباج (٢) ، بعد ان كان يستر جسمه بخرقة بالية ، يجمعها بيده ، ليستر عورته ، والقمل يدب عليها. وبعد ان كان يخر مغشيا عليه في مسجد رسول الله من الجوع ، فيجيء الجائي ، فيضع رجله على عاتقه ويظنه مجنونا ، وما به سوى الجوع (٣) كما أخبر عن نفسه.

لقد نشأ أبو هريرة فقيرا معدما ، يخدم الناس بطعام بطنه ، ولم تتغير حالته حتى بعد دخوله الإسلام. ولم يجد من الخليفتين ، ابي بكر وعمر ، ما كان يصبو اليه من النعيم والثراء. ويدل على ذلك ان عمر بن الخطاب ، لما عزله عن ولاية البحرين ، قال له : هل علمت من حين استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين ، وكان ذلك سنة

__________________

(١) الاضواء ص ١٦٢ عن البداية والنهاية.

(٢) كما جاء في طبقات ابن سعد وغيرها من كتب التراجم.

(٣) كما جاء في رواية البخاري ، الاضواء صفحة ١٨٦. وانظر السنة قبل التدوين ترجمه أبي هريرة ص ٤١٣ وما بعدها.

١٧٦

احدى وعشرين للهجرة.

ومن كانت هذه حالته ، ليس من المستغرب عليه ، ان يبتعد عن علي ، الذي كان أكثر طعامه خبز الشعير والخل ، ويميل إلى دولة بني أمية ذات الأطعمة الناعمة والعطاء الجزيل.

إن عليا أحمي حديدة لأخيه عقيل المكفوف وأعطاه إياها ، لما طلب منه أكثر من عطائه ، ليسد جوعه وجوع أولاده. فما ذا يأمل منه أبو هريرة ، وقد رأى منه هذا الصنيع مع أخيه ، أقرب الناس اليه؟ وبالأمس القريب أعطاه سليل أمية (عثمان) عشرة آلاف دينار حينما روى له ان الرسول قال : ستلقون بعدي فتنة واختلافا ، فقال له قائل من الناس ، فمن لنا يا رسول الله. أو ما تأمرنا؟ فقال : عليكم بالأمين وأصحابه ، وهو يشير إلى عثمان (١).

وحينما روى عن الرسول أنه قال : ان أشد أمتي حبا لي قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني ، يعملون بما جاء في الورق المعلق ، يعني بذلك المصاحف التي كتبها عثمان (٢).

لقد اتجه أبو هريرة الى الأمويين على عهد عثمان ، وكان في ذلك مسيرا لما فطر عليه وبرز في حياته منذ صباه ، وكان من أغلى أمانيه ، وهو إشباع بطنه.

واتجه إليه الأمويون ، فكان يعطيه عثمان ويدنيه ، وبعده اعتزل عليا ومال مع معاوية ، ومعاوية كان أحوج له ولأمثاله من عثمان ، فأغدق عليه العطاء ووفر له أسباب النعيم ، وبنى له قصرا في العقيق ، واقطعه

__________________

(١) نقله في الاضواء عن مسند احمد.

(٢) نفس المصدر ، عن البداية والنهاية لابن كثير.

١٧٧

أرضا واسعة في العقيق وذي الحليفة ، وزوجه بسرة بنت غزوان ، أخت الأمير عتبة بن غزوان ، التي كان يخدمها ويحدو لركبها ، أيام عرية وفقره ، بطعام بطنه (١). وقد اخرج عنه ابن سعد انه قال : أكريت نفسي من ابنة غزوان على طعام بطني وعقبة رجلي. فكانت تكلفني أن أركب قائما وأورد حافيا ، فلما كان بعد ذلك ، زوجنيها الله ، فكلفتها ان تركب قائمة وان تورد حافية (٢).

ولم يرو أحد من الرواة ان أبا هريرة حمل السيف مع من حمله من أنصار الأمويين. ويؤيد ذلك ما جاء عن جماعة من المحدثين ان أبا هريرة كان في صفين يصلي أحيانا في جماعة علي (ع) ويأكل في جماعة معاوية ، وإذا حمي الوطيس لحق بالجبل. فإذا سئل ، قال : علي أعلم ومعاوية أدسم والجبل أسلم (٣).

ليس بالبعيد ان يكون معاوية هو الذي أشار عليه ان يعتزل الحرب عند ما يحمي وطيسها ، ويكون على مقربة منها ، ليغري من استطاع من أصحاب علي ، بدسائسه وأحاديثه المكذوبة ، لأن المادة التي وجدها عنده ، لم يجدها مع أحد من اتباعه ، حتى مع ابن العاص ، ساعده الأيمن. ولم يكن في حاجة الى سيفه ، بعد ان وجد من أهل الشام تحمسا واندفاعا لا مثيل له.

ان أنصار معاوية لا يعرفون له منقبة في الإسلام ، ولا فضيلة يتحدث بها الرواة عن الرسول ، في حين انهم يعرفون لخصمه آلاف

__________________

(١) الاضواء ص ١٨٧.

(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد ، طبع بيروت.

(٣) أبو هريرة.

١٧٨

الفضائل والمناقب ، لذا فهو يشعر بأنه في أمس الحاجة لأبي هريرة وأمثاله ، ممن يخلقون الحديث في فضله والطعن على علي وتخذيل الناس عن حقه. ان هذا النوع من السلاح يغنيه عن جهاد العشرات ممن حملوا السلاح واقتحموا المعركة.

ان معاوية يتمنى ان يكون لديه العشرات من أمثال (شيخ المضيرة) ، ليضعوا له من الأحاديث عن الرسول في الثناء عليه والطعن في علي (ع) ومهما كان الثمن فهو سخي في بذله.

لهذه الأسباب كان الأمويون يقربون إليهم هذا الشيخ وأمثاله ، ويجزلون له العطاء. وكان هو يضع لهم من الحديث ما يريدون.

وروى عنه الخطيب أنه قال : ناول رسول الله (ص) معاوية سهما وقال له : خذ هذا السهم حتى تلقاني به في الجنة.

وروى عنه ابن عساكر وابن عدي والخطيب والبغدادي أنه قال : سمعت رسول الله يقول : ان الله ائتمن على وحيه ثلاثة : انا وجبريل ومعاوية (١).

ونظر يوما إلى عائشة بنت طلحة فقال : سبحان الله ، ما أحسن ما غذاك أهلك والله ما رأيت وجها أحسن منك إلا وجه معاوية على منبر رسول الله (٢).

وروى الأعمش عنه ان أبا هريرة لما قدم مع معاوية العراق ، عام الجماعة ، جاء إلى مسجد الكوفة ، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس ، جثا على ركبتيه ، ثم ضرب صلعته مرارا وقال : يا أهل العراق ،

__________________

(١) الاضواء ص ١٨٩ ـ عن البداية والنهاية لابن كثير.

(٢) العقد الفريد ص ١٠٩ ج ٦.

١٧٩

أتزعمون اني أكذب على الله ورسوله وأحرق نفسي بالنار؟! والله لقد سمعت رسول الله يقول : لكل نبي حرما وان حرمي بالمدينة ما بين عير الى ثور ، فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وأشهد بالله أن عليا أحدث فيها. ولما بلغ معاوية قوله ، أجازه وأكرمه وولاه امارة المدينة (١).

وقد ذكر الأستاذ أبو ريّة ، بعنوان تشيّع أبي هريرة لبني أميّة انه لم يصاحب النبي الا على ملء بطنه ، كما ذكر هو مرارا عن نفسه. وانه قد اتخذ الصفة ملاذا لفقرة ، يأكل فيها كما يأكل سائر أهلها ، ويأكل عند النبي وأصحابه. ومن كان هذا شأنه لا يكون ولا جرم الا مهينا لا شأن له ولا خطر. وقد ظل على هذه المهانة زمن النبي (ص) وأبي بكر وعمر. ثم أخذ يظهر في زمن عثمان ، بعد انزوائه ، ويبدو للناس بعد خفائه.

ولما شبت نار الحرب بين علي ومعاوية ـ وان شئت فقل لما انبعث الصراع بين الأموية والهاشمية ، بعد ان توارى ، فرقا من القوة ، في زمن النبي وخليفتيه ابي بكر وعمر ، وانقسم المسلمون فرقا ـ اتجه أبو هريرة إلى الناحية التي يميل إليها طبعه وتتفق مع هوى نفسه ، وهي ناحية معاوية ، إذ كانت تملك من أسباب السلطان والترف والمال والنعيم ما لم تملك ناحية علي (ع) التي ليس فيها الا الفقر والجوع والزهد.

وليس بغريب على من نشأ نشأة أبي هريرة وعاش عيشته ان يتنكب الطريق التي تؤدي الى علي ، وان يتخذ سبيله إلى معاوية ليشبع نهمه من ألوان موائده الشهية ويقضي وطره من رفده وصلاته وعطاياه السنية (٢).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ص ٣٥٨ ـ ج ١.

(٢) الاضواء ص ١٨٥.

١٨٠