تاريخ الفقه الجعفري

هاشم معروف الحسني

تاريخ الفقه الجعفري

المؤلف:

هاشم معروف الحسني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٩

مصيره الذي رسمه له الموجهون لسياسته على يد الثائرين من مختلف البلاد. فالتشيع في جميع أدواره لم يختلف فيما تعنيه هذه الكلمة ، وإنما الشيء الذي برز فيه هو الموقف السلبي الذي وقفه الشيعة من الدولتين الأموية والعباسية ، لخروجهما عن النهج الذي رسمه الإسلام للحاكم واستبدادهما بالأمة ومقدراتها ، وحملهم الناس على الخضوع والاعتراف لهم بالملكية المطلقة. ولو كانت سيرة أبي بكر وعمر كسيرة غيرهما من الأمويين والعباسيين لوقف الشيعة منهما عين الموقف الذي وقفوه مع الأمويين غير مهادنين ولا مسالمين ، مهما كانت النتيجة ، لأن الحكم عندهم وسيلة لإحقاق الحق وتطبيق العدالة والمساواة بين افراد الأمة وإن اختلفت العناصر وتباينت الألوان.

فما ذكره بعض الكتاب من أن المعنى المصطلح عليه في التشيع وهو الفرقة المتميزة بعقائدها وعاداتها الخاصة ، المعروفة عند الفقهاء والمتكلمين ومؤرخي الفرق وغير ذلك مما يقصدون من كلمة التشيع ، هذا المعنى للتشيع لم يكن له في عهد الامام عين ولا اثر ، وانما كان للإمام في عهده أنصار واتباع وكانت كثرة المسلمين كلها انصارا له واتباعا.

وينتهي الكاتب في بحثه عن التشيع في العصور المتأخرة عن عصر الامام (ع) الى ان فرقة التشيع بالمعنى المعروف نشأت وتكونت وأصبحت حزبا سياسيا منظما لعلي وبنيه بعد أن وقع الصلح بين الحسن (ع) ومعاوية على شروط ، لم يف له بشيء منها (١).

ولكن الباحث الخبير والمتتبع لسير الحوادث ، التي رافقت النزاع على

__________________

(١) الدكتور طه حسين في المجلد الثاني من كتابه الفتنة الكبرى ، علي وبنوه.

١٢١

الخلافة وموقف رجال الشيعة من السقيفة ونتائجها ، لا بد وأن ينتهي الى ما ذكرناه من ان التشيع منذ يومه الأول لم يختلف عن بقية الأيام التي أعقبت مولده ، وهو في جميع أدواره بمعنى واحد. وإنما الذي حدث ان الشيعة ، بدأوا في عهد معاوية ، حينما سلك في سيرته وسياسته غير ما ألفوه في عهد من تقدم عليه ، ينظمون صفوفهم ويهاجمون الحكام لأنهم أمعنوا في الجور والظلم والعدوان ، باسم الخلافة الإسلامية وتحت شعارات الدين. لذا فقد أعلن ائمة الشيعة وشيعتهم موقفهم تجاه معاوية ومن جاء من بعده من ملوك الأسرة الأموية ، تمشيا مع المبدإ الذي رسمه الإسلام والقرآن ، ليسير على نهجه كل من يتولى أمر الأمة : وهذا لا يعني أن التشيع من عهد الرسول الى زمن معاوية يختلف عن معناه في عصر الأمويين وغيره من العصور.

نعم الشيء الذي برز في خلافة علي (ع) وبعدها هو انتشار التشيع واتساعه بشكل لم يعهد قبل ذلك لأسباب ، يمكن ان يكون أهمها جور معاوية واستئثاره بمقدرات الأمة بعد عدل علي (ع) وإيثاره لأضعف الناس على نفسه. لا سيما وان البقية الصالحة من صحابة الرسول كانت الى جانب علي (ع) في أيام خلافته ، وكانت تعرف له حقه في الخلافة وتعمل من أجل إشاعة ذلك وانتشاره بين المسلمين ، حتى ان عليا نفسه كان حريصا على إشاعة أحاديث استخلاف الرسول له بين صفوف المسلمين. وفي جملة من خطبة التي كان يلقيها في المسجد الأعظم أو غيره على الجماهير المحتشدة حوله ، كان يصرح بحقه في الخلافة منذ وفاة الرسول الأعظم (ص). وقد استنطق في بعض مواقفه جماعة من الصحابة الذين حضروا بيعة الغدير ليقولوا ما سمعوه من الرسول بشأن استخلافه ، فقام جماعة ، منهم البدري وغيره ، وألقوا على مسامع ذلك الحشد حديث الخلافة ، كما سمعوه من الرسول في

١٢٢

غدير خم وغيره من المواقف (١).

وقد حصل نتيجة لذلك ولجور الأمويين وطغيانهم ان اتسعت الجبهة التي تعارض الأمويين وكان لها صبغة التشيع في الغالب ، لأن زعماءها كانوا من الشيعة المؤمنين بحق أهل البيت ، والتف حولهم الناقمون على سياسة الأمويين. بعد التجربة المريرة التي مروا بها أيام معاوية وولده المستهتر بمقدسات الإسلام وكرامة الملايين من المسلمين. فمن الطبيعي اذن ان يرى المسلمون في ولاية أهل البيت امتدادا لولاية علي (ع) بعد ان ذاقوا الأمرين من معاوية وولاته.

ولو لا ان الحسن (ع) قد التزم جانب الحكمة والتريث ورفض جميع المحاولات التي قام بها الشيعة لإقناعه بإعلان العصيان والثورة على معاوية ، لوقعت سلسلة من المجازر في جميع البلاد الإسلامية ، بين الشيعة ومن التف حولهم من الناقمين ، لجور الأمويين من جهة ، وبين أنصار معاوية من جهة أخرى ، وكانت المؤتمرات تعقد في الكوفة وغيرها من مدن العراق للدعاية لأهل البيت ، والوفود بين آونة وأخرى تفد على الحسن والحسين لاعلامهما بتكتل مختلف الطبقات من الشعب ، والنقمة العارمة على معاوية وولاته. ونتيجة لتلك المؤتمرات التي كانت تعقد لهذه الغاية توسل أهل الكوفة بزعيمين من زعماء الشيعة وهما قيس بن سعد الأنصاري وسليمان بن صرد الخزاعي لاقناع الحسن (ع) بالرجوع عن مهادنة معاوية بعد ان تبين للعالم الإسلامي ان معاوية لم يف له بشيء مما عاهد الله عليه (٢). ومع أن هذين من خلص أعيان الشيعة وذوي المكانة بين المسلمين لم يستجب الحسن (ع)

__________________

(١) شرح النهج لابن ابي الحديد.

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد.

١٢٣

لرأيهما ، وأمرهما بالصبر والتريث حقنا للدماء وحرصا على مصلحة الإسلام العليا.

كما وانه من الثابت ان البعض من الانتهازيين الذين كانوا يعلنون العصيان في الكوفة وغيرها من مدن العراق ، كانوا يستغلون صبغة التشيع لحركتهم الثورية ، لاستجلاب عطف الجماهير الشعبية والحصول على تأييدها لمقاومة الحكام الأمويين ، لأنهم كانوا أكثر الفرق في العراق ، وكانوا ينضمون الى كل ثائر في وجه الظلم والطغيان ، ولو لم يكن بواقعة يتشيع لعلي وبنيه. وليس أدل على ذلك من وقوفهم بجانب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، بعد أن سمى نفسه بناصر المؤمنين وتأييدهم له في ثورته على الأمويين (١).

كما وان ثورة الخراساني ، أبي مسلم ، قامت على سواعدهم ، لأنه ظهر فيها بمظهر الدعوة لأهل البيت والتظلم لما لحقهم من الأذى والقتل والتشريد ، متخذا هذا الشعار ستارا لنجاح دعوته.

ومهما يكن الحال فالتاريخ مليء بالشواهد على أن التشيع لا يختلف فيما تعنيه هذه الكلمة ، في جميع الأدوار والمراحل التي مر بها. فما ذكره بعض الكتاب من ان التشيع بمعناه المعروف عن أهل الفرق والذي أصبح مذهبا وعقيدة بالمعنى المعروف عند الفقهاء والمتكلمين ، هذا المعنى للتشيع قد حدث بعد عصر الإمام (ع) ، هذه الدعوى لا تؤيدها الوقائع التاريخية ، لأن المعروفين بالتشيع لعلي (ع) من أعيان الصحابة في عهد الرسول وبعد وفاته لا يختلفون عن غيرهم ممن تأخر عنهم في مفهوم التشيع بما له من المعنى المعروف عند الفقهاء والمتكلمين في العصور المتأخرة عن عصر الرسول والصحابة.

__________________

(١) العراق في ظل العهد الأموي للدكتور علي حسين الخرطبولي.

١٢٤

الفصل الثالث

في

أدوار التشريع وأصوله بعد وفاة الرسول (ص)

لقد بزغ فجر الإسلام والعالم أحوج من أي وقت مضى إلى نظام شامل لجميع نواحي الحياة يجمع الناس على الحق ويساوي بينهم في الحقوق والواجبات ويوحد بينهم في عبادة إله واحد لا شريك له ولا نظير ، ويدعوهم الى العمل بجد وإخلاص لبناء مجتمع صالح تسوده العدالة ويسيطر فيه الخير والهدى على الشر والطغيان فجاء محمد (ص) بشريعته الخالدة البعيدة في أصولها عن الأوهام والخرافات ، والتي هي في فروعها اداة طبيعية لحل المشاكل وتذليل مشاكل الحياة في كل زمان ومكان. وطبيعي أن يتم التشريع على مراحل مختلفة وان يبلغ ما قدر له من نضج وكمال بعد انتقال الرسول الى الرفيق الأعلى.

والتشريع في مرحلته الأولى ، كان عماده القرآن والسنة على اختلافها من قول الرسول ، أو فعله وتقريره ونحوا من اثنين وعشرين عاما تكامل فيها التشريع بواسطة الوحي ، وبلغ الرسول بدوره كل ما أوحي إليه من تشريعات وخلافها بنفسه وبواسطة من كان يختارهم

١٢٥

للتبليغ خارج المدينة التي اتخذها المقر الرئيسي لدولته الفتية الناشئة ، وقد ذكرنا في الفصل الأول من هذا الكتاب صورا عن التشريع الإسلامي كما نص عليه الكتاب والسنة ، وأوردنا نماذج من التشريعات التي وضع أصولها ومبادئها القرآن الكريم ، وأتمها الرسول (ص) بأقواله وأفعاله كما أوحى إليه من ربه. وبوفاته انتهت المرحلة الأولى من مراحل التشريع ، وانقطعت بوفاته اخبار السماء ، ولكنه خلف للبشرية تشريعا كاملا وافيا بحاجاتهم مهما طال الزمان وتطورت الحياة ، ولم يبق على المسلمين من بعده الا الرجوع الى الكتاب الكريم والسنة النبوية والتفريع والتطبيق واستلهامهما لإعطاء الحوادث المتجددة حكمها في كل زمان ومكان بالطرق المألوفة في مقام التفاهم.

المرحلة الثانية من مراحل التشريع :

هذه المرحلة تبتدئ بعد وفاة الرسول (ص) حيث انقطع الوحي بوفاته ، ولم يعد من سبيل الى المسلمين إلا الرجوع إلى نصوص القرآن وظواهره ، والى السنة المروية عن الرسول (ص) سواء منها ما كان في مقام التشريع ، وما ورد عنه في أحكام الحوادث ، وحل الخصومات ونحو ذلك. ومما لا شك فيه أن المهمة الملقاة على عاتق الصحابة في هذا الدور تتطلب جهدا منهم في تفريع الأحكام وتطبيق الأصول والقواعد العامة على الجزئيات والموارد المختلفة ، ذلك لأن أكثر آيات التشريع قد وضعت المبادئ العامة ، وتركت تفصيلها وبيان ماهيتها وكيفيتها الى الرسول (ص) ، وبعضها لم يكن صريحا في المراد بنحو يمتنع عن التأويل ولا يتسع لأكثر من معنى ، وما هو نص في مورده من آيات الكتاب الكريم ينحصر في موارد محدودة ، والسنة لم تكن مدونة في كتاب مستقل ، بل كانت في صدور الحفاظ المتفرقين ، وقد أكلت

١٢٦

حروب الردة جماعة منهم ، على ان السنة الصحيحة لم تتعرض لأحكام الجزئيات ما كان منها وما هو كائن ، لا سيما وقد انتشر الإسلام انتشارا عظيما سريعا في سنوات معدودات ، ونال المسلمون من الغنى في المال وزخرف الحياة ما لا عهد لهم به من قبل ، بعد استيلائهم على بلاد الفرس والرومان ، تلك البلاد الغنية بحضاراتها وعلومها المتمدنة كأرقى ما وصلت إليه المدنية في ذلك العصر ، فواجه المسلمون بعد وفاة الرسول مسائل كثيرة ، ومشاكل في كل شأن من شؤون الحياة نتجت عن اتصال العرب بغيرهم وتطور الحياة في مختلف الميادين وكل هذه الحوادث تحتاج الى تشريعات لم يكونوا يحتاجون إليها من قبل ولم ترد نصوص في الكتاب والسنة تتعرض لأحكامها ، فنتج من كل ذلك أصلان من أصول التشريع وهما الإجماع والقياس. وأصبحت أصول التشريع أربعة بعد وفاة الرسول (ص) ، ويبدو ان الإجماع في المرحلة الأولى من مراحل تطوره كان قوامه اتفاق جماعة من الفقهاء على رأي واحد في المسألة الواحدة.

قال الدكتور محمد يوسف موسى : كان أبو بكر إذا سئل عن شيء أو جاءه خصم في قضية من القضايا نظر أولا إلى القرآن ، فإن وجد فيه حكم الواقعة المطلوب معرفة حكم الله فيها قضى به ، فان لم يجد ما يريد لجأ الى ما يعرفه من أحاديث الرسول فإن وجد طلبه قضى به ، فان لم يجد لا في الكتاب ولا في السنة لجأ إلى الصحابة ، فإن وجد عند أحدهم في ذلك شيئا عن الرسول قضى به. وحمد الله على ان في الأمة من يحفظ علم رسوله وان أعياه الأمر جمع من يرى من خيار الناس وأهل الرأي والعلم فاستشارهم ، ثم يقضي بما يجتمعون عليه.

وأضاف الى ذلك : ان عمر بن الخطاب بعد ان آلت اليه خلافة المسلمين ، إذا لم يجد ما يبغي في القرآن والحديث ، فإن لم يجد لأبي بكر

١٢٧

قضاء في المسألة ، أخذ بما يجمع عليه أهل العلم والرأي من الصحابة (١).

وقد تضاعفت الحاجة الى الخروج من تلك الأزمة التي أحس بها المسلمون بعد وفاة الرسول وهي فقرهم في المصادر التي تحل مشاكلهم وتؤمن لها الحلول الصحيحة عند ما أخذ الكثيرون من الصحابة ينزحون عن المدينة إلى تلك البلاد التي فتحها المسلمون ، وما نتج عن ذلك من شيوع الحديث والكذب فيه ، وتعمق المسلمين في دراسة القرآن والسنة ، فكان من الطبيعي أن تضعف الثقة ببعض المرويات عن الرسول (ص) وان يصح الحديث عند شخص ولا يصح عند غيره ، وان يصبح استفادة الحكم من الكتاب منوطا بالاجتهاد في الغالب ، ولذا كثر الاختلاف بين الصحابة في فهم آيات التشريع وفي الفتوى واعتماد كل منهم على أحاديث ينسبها الى الرسول مؤيدة لادعائه وعلى بعض الآيات القرآنية.

ومهما كان الحال فالإجماع قد وضع نواته الشيخان أبو بكر وعمر عند ما كانت الحوادث تعرض عليهما ولا يجدان لها حلا في الكتاب والسنة ، ويؤيد ذلك ما جاء في تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ الخضري : ان أبا بكر كان إذا لم يجد في الكتاب نصا ، ولا عند الناس سنة يجمع الناس ويستشيرهم ، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به.

وأضاف الى ذلك : كان الشيخان إذا استشارا جماعة في حكم فأشاروا فيه برأي تبعه الناس ، ولا يسوغ لأحد ان يخالفه ، وسمي

__________________

(١) انظر المدخل لدراسة نظام المعاملات للدكتور محمد يوسف مرسي ص ٢٩ وانظر اعلام الموقعين لابن القيم ج ١ ص ٥١ و ٧٠.

١٢٨

إبداء الرأي بهذا الشكل إجماعا (١).

وجاء عن المبسوط للسرخسي : ان عمر كان يستشير الصحابة مع فقهه ، حتى كان إذا رفعت إليه حادثة قال ادعوا عليا وادعوا لي زيدا. فكان يستشيرهما ثم يفصل بما اتفقا عليه.

وقال الشعبي : كانت القضية ترفع الى عمر بن الخطاب فربما تأمل في ذلك ويستشير أصحابه.

ورووا عن سعيد بن الحسيب ان عليا (ع) قال : قلت يا رسول الله الأمر ينزل بنا ما لم ينزل فيه القرآن ، ولم تمض فيه منك سنة قال أجمعوا له العالمين فاجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد (٢).

الى غير ذلك من الوثائق التي تنص على ان الصحابة كانوا يقدسون رأي الجماعة إذا اتفقوا على شيء واحد وكان ذلك منهم البذرة الأولى للإجماع الذي تتطور أخيرا وأصبح موضع جدل بين العلماء في بعض نواحيه كما سنعرض بعض الآراء فيه في الفصول الآتية :

وقد غالى بعض أنصار الإجماع فادعوا بأن الرسول (ص) هو الذي وضع لهم نواته ورووا عنه أنه قال : ما اجتمعت أمتي على ضلال ، ويد الله مع الجماعة ، وانه أمرهم بأن يجمعوا العالمين ويعملوا برأيهم فيما إذا عرضت عليهم مشكلة ولم يجدوا حكمها في الكتاب والسنة (٣).

كما استدلوا أيضا بالآية من سورة النساء : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ

__________________

(١) تاريخ التشريع للخضري ص ١١٤ و ١١٥.

(٢) انظر فجر الإسلام لأحمد أمين ص ٢٣٩ و ٢٤٠.

(٣) كما جاء ذلك في مروية سعيد بن الحسيب عن علي (ع) التي أوردناها من قبل.

١٢٩

مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً).

وبالآية من سورة البقرة : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً).

وبالآية من سورة آل عمران : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) الى غير ذلك من الآيات التي اعتمد عليها أنصار هذا النوع من الإجماع (١).

القياس :

الأصل الرابع الذي التجأ إليه المسلمون بعد وفاة الرسول لحل مشاكلهم القياس ، وقد وجدوا فيه منفسا لهم في الخروج من تلك الأزمة التي أحاطت بهم نتيجة لكثرة الحوادث التي واجهتهم بعد ان اتصلوا بغيرهم من الأمم المتحضرة.

والقياس المصطلح عند العاملين به ، تسوية واقعة لم يرد نص بحكمها بواقعة ورد نص بحكمها في الحكم الذي ورد به النص لتساوي الواقعتين في علة ذلك الحكم (٢) ، ولعل عمر بن الخطاب كان من أكثر الصحابة عملا به وتحمسا له واوصى القضاة والولاة الذين كان يرسلهم الى مختلف الأقطار بالرجوع اليه والاعتماد عليه في القضاء والإفتاء ، فقد أمر شريح القاضي حينما أرسله إلى الكوفة ليقضي بين أهلها ان يجتهد

__________________

(١) انظر العدة للشيخ الطوسي ، والأحوال العامة للفقه المقارن للسيد محمد تقي الحكيم ص ٢٥٧ وما بعدها حيث أورد مجموعة في أدلتهم عن سلم الوصول ورسالة الطوفي وغيرهما.

(٢) انظر مصادر التشريع فيما لا نص فيه للشيخ عبد الوهاب خلاف ص ١٦.

١٣٠

برأيه في الحوادث التي لم يجد عليها نصا في الكتاب والسنة.

وكتب الى ابي موسى الأشعري أحد قاضته. القضاء فريضة محكمة أو سنة متبعة وأضاف الى ذلك : الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة ، اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها الى الله وأشبهها بالحق (١).

وقد راج القياس بعد عصر الصحابة وتلقاه أكثر الفقهاء بالقبول ولا سيما بين فقهاء العراق وبخاصة الأحناف وعند ما بدأ العلماء في التدوين وتعليل الحوادث كان للقياس النصيب الوافر من الأدلة على جواز الرجوع إليه في استخراج الأحكام عند القياسيين ، فقد استدلوا على اعتباره بالكتاب والسنة والإجماع والعقل ، وجاء في بعض أدلتهم ان الرسول نفسه كان يرجع الى القياس في كثير من الوقائع التي كانت تعرض عليه ولم يوح اليه بحكمها.

وبأنه حينما أرسل معاذ بن جبلة إلى اليمن ليقضي بين أهلها ، قال له كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال : اقضي بكتاب الله فإن لم أجد فبسنة رسول الله ، فإن لم أجد اجتهد رأيي ولا آلو ، فضرب رسول الله صدره بيده وقال : الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضي رسول الله ، حيث أقرّه ودعا له على العمل بالرأي الشامل للقياس (٢).

وقد تحدثنا عن القياس والإجماع مفصلا وعن المراحل التي مرا بها

__________________

(١) انظر تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ محمد الخضري ص ١٥١ ومصادر التشريع للشيخ عبد الوهاب ص ٢٨.

(٢) انظر مصادر التشريع ص ٢٧ وتاريخ التشريع للخضري.

١٣١

منذ نشأتهما في فجر الإسلام إلى المرحلة الأخيرة من المراحل التي استقرأ عليها.

ومع ان الحاجة الملحة لمعرفة أحكام الحوادث المتجددة هي التي اضطرتهم الى الاعتماد على الإجماع والقياس واعتبارهما أصلين من أصول التشريع من حيث عدم توفر النصوص الكافية بأحكام الحوادث المتجددة على حد زعمهم ، مع كل ذلك فإنهم كما يتراءى من سيرتهم كانوا يتشددون في قبول المرويات عن الرسول (ص) ولا يقبلون الحديث الا بعد تحليف الراوي أو تقديم البينة.

وجاء في بعض المرويات ان عمر بن الخطاب كان يضرب المكثرين من الرواية بدرته ، وقيل لأبي هريرة لم أكثرت من الحديث ، أكنت تحدث في زمن عمر هكذا؟ قال : لو كنت أحدث في زمن عمر بمثل ما أحدثكم ضربني بمخفقته (١).

وعن الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ : ان الصديق جمع الناس بعد وفاة الرسول (ص) لما رآهم يحدثون عنه فقال : انكم تحدثون عن رسول الله (ص) أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشد اختلافا ، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا ، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه. وأضاف الى ذلك في الكتاب المذكور : ان قرضة بن كعب قال : لما سيرنا عمر بن الخطاب الى العراق مشى معنا وقال لنا : أتدرون لم شيعتكم؟ قالوا مكرمة لنا قال : ومع ذلك فإنكم تأتون أهل قرية لهم دوي في القرآن كدوي النحل ، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم جردوا الحديث وأقلوا من

__________________

(١) انظر تاريخ التشريع الإسلامي للخضري ص ١٠٨.

١٣٢

الرواية عن رسول الله وانا شريككم ، فلما قدم قرضة قالوا حدثنا : فقال لهم لقد نهانا عمر عن الحديث.

ولما حدث ابي بن كعب عن بناء بيت المقدس انتهره عمر بن الخطاب وهم يضربه ، فاستشهد ابي بن كعب بجماعة من الأنصار ، ولما شهدوا بأنهم سمعوا الحديث من رسول الله (ص) تركه ، فقال له ابي ا تتهمني على حديث رسول الله قال : يا أبا المنذر ، والله ما اتهمتك عليه ، ولكني كرهت ان يكون الحديث عن رسول الله (ص) ظاهرا (١). الى غير ذلك من المرويات الكثيرة التي تؤكد انهم مع حاجتهم الملحة الى حديث الرسول (ص) كانوا يتشددن في قبول الرواية ، وينهون عن التحدث بسنته ، ويبدو أن الخليفة الثاني كان من أشدهم تحمسا واندفاعا لمنع الصحابة من إظهار الحديث ، ويؤيد ذلك قوله لأبي بن كعب : كرهت ان يكون الحديث عن رسول الله (ص) ظاهرا.

ولكن الذين قاموا بهذه المحاولة من الصحابة قد تذرعوا بالسببين التاليين :

١ ـ مخافة الكذب على الرسول (ص) كما يظهر ذلك من بعض النصوص.

٢ ـ التخوف من اتجاه المسلمين نحو الحديث وهجر القرآن كما جاء في حديث عمر بن الخطاب مع قرضة الأنصاري. وقال محمد عجاج الخطيب في كتابه السنة قبل التدوين : وقد كان تشدد عمر بن الخطاب

__________________

(١) انظر السنة قبل التدوين الى محمد عجاج الخطيب ص ٩٧ و ١١٥ ، وتاريخ التشريع للخضري ص ١٠٨.

١٣٣

للمحافظة على القرآن بجانب المحافظة على السنة ، فقد خشي ان يشتغل الناس بالرواية عن القرآن الكريم ، وأراد ان يحفظ المسلمون القرآن جيدا ثم يعتنوا بالحديث الشريف الذي لم يكن قد دون كله في عهد الرسول (١).

ومهما كان الحال فالذي تؤيده النصوص التاريخية أن الخليفة الثاني هو الذي حمل لواء التشدد في الرواية والتضييق على السنة ومعاقبة المكثرين من المحدثين ، وأنه كان يحاول صرف الانظار عنها بدليل قوله لأبي بن كعب : كرهت ان يكون الحديث عن رسول الله (ص) ظاهرا ، هذا القول يبعث على التساؤل ويثير الشكوك حول هذه المحاولة لا سيما والمسلمون بعد انقطاع الوحي بوفاة الرسول ، وبعد ان تضاعفت حاجتهم الى النصوص الشرعية بسبب الحوادث المتجددة والتبدل الذي طرأ على حياتهم قد أصبحوا في أمس الحاجة الى سنته وسيرته لاستلهام الحلول لمشاكلهم من أي وقت مضى وليس من المستبعد ان تكون المصلحة السياسية هي التي فرضت عليهم التشدد في الرواية والتضييق على الرواة ، مخافة ان ينتشر بين المسلمين ما حدث به النبي (ص) في فضل اخصامهم السياسيين الذين ابعدوا بالأمس القريب عن الخلافة بحجة ان الرسول (ص) لم يوص بها لأحد من الناس ، وترك أمرها إلى الأمة لتختار لنفسها من تراه صالحا لهذه المهمة.

ومجمل القول لقد كان من نتائج الموقف الذي وقفه الصحابة بعد الرسول من الاعتماد على اجتهاداتهم والتشدد في الحديث ، ان وقع اختلاف بينهم في كثير من الأحكام ، وعلى سبيل المثال نذكر موردا من

__________________

(١) انظر ص ٩٦ من الكتاب المذكور.

١٣٤

تلك الموارد التي كانت محلا للخلاف بين ائمة التشريع من الصحابة.

لقد افتى علي (ع) بأن الحامل المتوفى عنها زوجها عليها ان تعتد بأبعد الأجلين ، بمعنى انها إذا ولدت قبل ان تمضي على وفاته أربعة أشهر وعشرا عليها ان تنتظر الى تمام هذه المدة ، وان انتهت المدة المذكورة قبل ان تضع حملها تمتد عدتها الى وضع الحمل ، ويمكن ان يكون هذا الحكم منه (ع) مستمدا من الآيتين الواردتين لبيان حكم الحامل إذا طلقها الزوج أو توفي عنها.

قال سبحانه في سورة الطلاق : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) وقال في الآية ٢٣٤ في سورة البقرة : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً).

فهاتان الآيتان تتعارضان في الحامل المتوفى عنها زوجها إذا أولدته قبل مضي أربعة أشهر وعشر ، فالآية الأولى تقضي بانتهاء عدتها بوضع الحمل كما تقضي الثانية بعدم انتهاء عدتها الا بعد مضي أربعة أشهر وعشرة أيام من تاريخ الوفاة ، ومقتضى القواعد المقررة في مباحث الأصول للجمع بين الأدلة المتعارضة ، هو الأخذ بما افتى به علي (ع).

وقد افتى عمر بن الخطاب : بأن عدتها تنتهي بوضع الحمل ، واعتمد في ذلك على ما روي من أمر سبيقة بنت الحارث الاسلمية. فإنها بعد ان أولدت لخمسة وعشرين يوما من وفاة زوجها أفتاها النبي (ص) بانقضاء عدتها وقال الشيخ الخضري في تاريخ التشريع الإسلامي : ان عليا (ع) في فتواه قد عمل بالآيتين جميعا (١).

__________________

(١) انظر تاريخ التشريع للخضري ص ١١٩ ولا يخفى ان حكم علي (ع) في هذه المسألة يستلزم التصرف في آية وأولات الأحمال وليس عملا بالآيتين كما يدعي

١٣٥

ومن أمثلة الخلاف بين الصحابة ، ما جاء في بعض المرويات ان رجلا تزوج من امرأة ولم يفرض لها صداقا ومات قبل ان يدخل بها ، فأفتاهم عبد الله ابن مسعود بأن لها صداق أمثالها من النساء ، وكان ابن مسعود متخوفا من هذا القضاء ، ولما حدثه معقل بن سنان الأشجعي أحد الصحابة ان رسول الله قضى بمثل ذلك ارتاحت نفسه ، ولكن عليا (ع) قد خالفه في ذلك وأفتاهم بأن عليها ان تعتد وترث من ماله ولا صداق لها (١) الى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي أوردها المؤلفون في تاريخ التشريع وتدوين السنة ، ويبدو من تلك الأمثلة ان عليا (ع) كان طرفا في أكثر الخلافات التي كانت تحدث بين الصحابة في تشريع الأحكام بعد وفاة الرسول (ص) ، وأن أحكامهم لا تنسجم مع النصوص القرآنية ، ولا مع المبادئ العامة للتشريع ، ولا بد لهم من الوقوع في هذه الفوضى بعد ان تشددوا في قبول الأحاديث ، وفتحوا باب الاجتهاد والعمل بالرأي ، وقاسوا الأشياء بالأشياء والنظائر بمثلها.

فأعطوا الأمور المشتركة في العلة المستنبطة أو في المصلحة حكما واحدا ، ونتيجة ذلك ان الشارع قد ساوى في الأحكام بين المتماثلات ، وخالف بينها في غير مورد التماثل والتشابه ، مع العلم بأنه قد فرق بين المتماثلات أحيانا في الحكم ، وساوى بين المختلفات في بعض الأحيان (٢) ولذا فإن جماعة من فقهاء الصدر الأول كانوا ينهون عن

__________________

الخضري والمسوغ لهذا التصرف هو قوة الظهور الموجود في الآية رقم ٢٣٤ من سورة البقرة.

(١) المصدر السابق ص ١١٧.

(٢) وقد مثل الفقهاء لاختلاف الحكم في الأمور المتماثلة بقطع يد السارق للمال

١٣٦

القياس ، لأنه يؤدي أحيانا إلى تحريم الحلال ، وتحليل الحرام.

وكان الشعبي يقول للعاملين بالقياس : انما هلكتم حين تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس (١).

وكذلك الحال بالنسبة إلى الإجماع الذي نسبه الخضري وغيره إلى الصحابة ، فإن الإجماع بهذا المعنى لا يمنع من الخلاف في المسألة الواحدة ، ولا من الإجماع المعارض له ، لأنه كما يدعون يحصل من اتفاق جماعة من الصحابة على رأي واحد ، ولا يشترط فيه اتفاق الصحابة كلهم على ذلك الرأي كما قدمنا.

ولو ان الحكام بعد الرسول تركوا أمر التشريع الى علي (ع) واكتفوا بالخلافة ، وانصرفوا إلى إدارة شؤون الأمة ، لأغناهم ذلك عما وقع المسلمون فيه من الاختلاف في الحديث والأحكام ، ولما احتاجوا الى القياس الذي يؤدي أحيانا إلى تحريم الحلال وتحليل الحرام ، كما نص على ذلك ابن مسعود والشعبي وغيرهما ، ولا إلى الإجماع الذي يحصل من اتفاق جماعة مهما قل عددهم ، ولكن على ما يبدو انهم كانوا يحاولون ان لا يبرز علي (ع) والصفوة من اتباعه على غيرهم من المسلمين في التشريع بعد الرسول (ص) ، كما برز هو وشيعته في تدعيم دعوة الرسول وتثبيت أركانها ، ولكن عليا (ع) رأى من واجبه بعد أن انصرف عن الشؤون السياسية وقام أبو بكر وغيره بأمر الخلافة ، ان

__________________

القليل ، وعدم ثبوته بالنسبة لغاصب المال الكثير ، ولتساوي الحكم في الأمور المختلفة بإيجاب الكفارة على من قتل إنسانا وعلى من أفطر في رمضان متعمدا ، أو ظاهر زوجته. ومقتضى القياس التساوي في الأول وعدمه في الثاني.

(١) انظار إبطال القياس لابن حزم ص ٧٠ وما بعدها وتاريخ الفقه الإسلامي ص ٢٤٦.

١٣٧

يتجه الى نشر رسالة الإسلام وتعليم الأحكام والإفتاء بين الناس ، فالتف حوله المسلمون يأخذون عنه دينهم وتعاليم كتابهم ، حتى ان الخليفة نفسه لم ير بدا من الإشادة بعلمه وقضائه ، فقال فيه كلماته المأثورة :

«لا يفتين أحدكم في المسجد وعلي حاضر» ، «لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن» ، «لو لا علي لهلك عمر».

ولم ينس أحد من المسلمين قول النبي فيه : (أقضاكم علي) ولا دعاءه له حينما بعثه على قضاء اليمن : اللهم اهد قلبه وثبت لسانه.

وحينما نزلت الآية الكريمة : (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) بأن تكون اذن علي (ع).

أجل انهم جميعا يعلمون ذلك ويؤمنون بأن هذه الدعوات المباركات خير ضامن لعلي (ع) بما يند عن شفتيه من آراء وأحكام وقضاء بين الناس ، حتى ان عليا نفسه قد زودته الدعوات ثقة في حكمه وقضائه فقال بعدها :

«ما شككت في قضاء بين اثنين».

وإذا تجاهل بعض المسلمين أحاديث الوصية والخلافة لمصالح سياسية فليس بوسعهم ان يتجاهلوا قول الرسول فيه : انا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها ، ولا بوسعهم ان ينكروا مكانته من الرسول وعلمه الغزير الواسع وصدقه في كل ما يحدث به عن نفسه ، وهو القائل علمني رسول الله الف باب من العلم ينفتح لي في كل باب الف باب.

ليس في وسعهم ان يترددوا في شيء من ذلك بعد ان عرفوا صلته

١٣٨

بالرسول وإيثاره له على جميع المسلمين ، وإحاطته بجميع أحكام الإسلام وأسرار الكتاب ، لذلك كان مما لا بد وان يرجعوا اليه وينظروا الى آرائه بعين الاعتبار ، ولا بد له من ان يستغل الظروف المناسبة لتفقيه الناس وتعليم الأحكام ونشر رسالة الإسلام ، وتدوين الحديث والفقه فأول ما قام به ان جمع القرآن الكريم وفسر غوامضه وبين مجملاته وأوضح المتشابه منه. وكان في أيام الرسول يكتب في الألواح والرقاع ، بواسطة كتاب الوحي ، ولم يكن على عهده قد جمع في كتاب واحد.

قال ابن شهرآشوب (١) : «أول من صنف في الإسلام أمير المؤمنين علي (ع) ، جمع كتاب الله جل جلاله».

وقال ابن النديم : «ترتيب سور القرآن في مصحف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، ونقل عن ابن المنادي انه قال : حدثني الحسن بن العباس عن عبد الرحمن بن ابي حماد عن الحكم بن ظهير السدوسي عن عبد خير عن علي (ع) انه رأى من الناس طيرة بعد وفاة النبي (ص) فأقسم ان لا يضع على ظهره رداءه ، حتى يجمع القرآن ، فجلس في بيته ثلاثة أيام ، حتى جمع القرآن ، فهو أول مصحف جمع فيه القرآن من قلبه وكان عند أهل جعفر» (٢).

وفي المجلد الأول من أعيان الشيعة (٣) عن السيوطي في الإتقان ، قال ابن حجر : «وقد ورد عن علي (ع) انه جمع القرآن على ترتيب النزول عقيب موت النبي (ص) ، أخرجه أبو داود. وقال محمد بن

__________________

(١) المجلد الأول من أعيان الشيعة للعلامة الأمين.

(٢) الفهرست لابن النديم.

(٣) للعلامة الأمين.

١٣٩

سيرين : لو أصبت ذلك الكتاب كان فيه العلم. وفي مناقب شهرآشوب قال : وفي اخبار أهل البيت عليهم‌السلام انه آلى ان لا يضع رداءه على عاتقه إلا للصلاة. وفي أعيان الشيعة عن الشيرازي إمام أهل السنة في الحديث والتفسير ، وأبو يوسف يعقوب في تفسيره عن ابن عباس في قوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ).

قال : ضمّن الله محمدا ان يجمع القرآن بعد رسول الله علي بن أبي طالب ، فجمع الله القرآن في قلب علي ، وجمعه علي بعد موت الرسول بستة أشهر. ثم قال : وفي اخبار أبي رافع ان النبي (ص) قال في مرضه الذي توفي فيه لعلي (ع) : يا علي ، هذا كتاب الله ، خذه إليك. فجمعه علي في ثوب إلى منزله فلما قبض النبي (ص) جلس علي (ع) فألفه كما أنزل الله ، وكان به عالما.

وقال العلامة شرف الدين : ان عليا جمع القرآن مرتبا على حسب النزول ، وأشار الى عامه وخاصه ، ومطلقه ومقيده ، ومحكمه ومتشابهه ، وناسخه ومنسوخه ، وعزائمه ورخصه ، وسننه وآدابه ، ونبّه على أسباب النزول في آياته البينات. املى ستين نوعا من أنواع علوم القرآن ، وذكر لكل نوع مثالا يخصه (١). وفي أعيان الشيعة ان عليا نوع القرآن الى ستين نوعا. ثم ذكر تلك الأنواع وأمثلتها من كتاب الله كما وردت عن علي (ع).

ثم قال : وحينما سئل (ع) عن الناسخ والمنسوخ قال : ان الله سبحانه بعث رسوله بالرأفة والرحمة ، فكان من رأفته ورحمته انه لم ينقل قومه في أول نبوته عن عاداتهم ، حتى استحكم الإسلام في قلوبهم

__________________

(١) المراجعات للعلامة السيد عبد الحسين شرف الدين.

١٤٠