تاريخ الفقه الجعفري

هاشم معروف الحسني

تاريخ الفقه الجعفري

المؤلف:

هاشم معروف الحسني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٩

في النهي عن التبرج والخروج كما كن يخرجن قبل الإسلام. وكما نصت هذه الآية على عدم جواز التبرج ، فقد نصت بعض الآيات على أن على المؤمنين إذا أرادوا أن يسألوهن شيئا أن يكون ذلك من وراء حجاب صونا للفريقين عن الوساوس والشهوات.

قال سبحانه بعد بيان جملة من الآداب التي يجب على المؤمنين التزامها مع الرسول : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ).

وكما خاطب القرآن نساء النبي وكلفهم بالحجاب خاطب المؤمنين ونساءهم بمثل ذلك كما ذكرنا وأمرهم بغض الأبصار وحفظ الفروج وعدم التبرج لغير أزواجهن. قال سبحانه : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) ، (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَ)(١). وأول ما خاطب الرجال بغض الأبصار وحفظ الفروج عما لا يجوز النظر إليه ، وبعد أن بين تكليف الرجل من حيث جواز النظر وعدمه توجه إليها بالخطاب يأمرها بغض بصرها عما لا يجوز النظر اليه وحفظ فرجها عن كل أحد إلا عن زوجها ، ونهاها أن تبدي زينتها لأي كان من الناس إلا عن الأخ والابن والأب وما يتفرع عن هؤلاء.

وعند جميع المسلمين لا يجوز النظر الى جسد المرأة وشعرها

__________________

(١) سورة النور ، من الآية ٣١.

١٠١

ومحاسنها ، فما عليه الكثيرات من النساء يخالف التشريع الإسلامي ولا يتفق مع تعاليمه وآدابه ولا يقره الدين بحال من الأحوال ، ولا مصدر له إلا تدهور الأخلاق وتجاهل القيم الإنسانية والمبادئ الإسلامية العالية.

لقد أدرك الاستعمار بأن العقيدة الإسلامية ومبادئ الإسلام يشكلان خطرا على نفوذه وسيطرته. فيما لو قدر للمسلمين ان يطبقوا نصوص الإسلام وتعاليمه ، فاتجه هو ودعاته إلى محاربة العقيدة الإسلامية وتوجيه المسلمين توجيها يصرفهم عن واقع دينهم ، ليبقي له نفوذه وسلطانه ما يسهل له طرق الاستغلال والاستثمار والسيطرة عليهم. لقد نادى بحرية المرأة ونادى بها الإسلام من قبل ، ولكن الإسلام نادى بها في حدود الصون والكرامة والعزة وأعطاها حقها كاملا غير منقوص وأمدها بكل أسباب القوة التي تهيئها لأداء مهمتها في الحياة. ونادى بها أعداء الإسلام في حدود الأزياء والألوان والشواطئ التي تجمع الرجال والنساء عراة من كل شيء إلا من الشهوات الجامحة والنفوس المريضة ، وعلى كل حال فالنصوص القرآنية فرضت على المرأة أن تلتزم جانب الحشمة ولا تجعل من نفسها فريسة لذوي الشهوات والغرائز الشرهة وسلكت بها الطريق الذي لا جور فيه ولا عدوان عليها ، فنهتها عن إبداء زينتها الا ما ظهر منها. وقد جاء في تفسيرها ان المراد بما ظهر منها هو الوجه والكفان وإليه ذهب جماعة من علمائنا (١) ، وصرحت بذلك بعض الروايات الصحيحة كصحيحة مسعدة بن زياد ، قال : سمعت أبا جعفر (ع) وقد سئل عما تظهر المرأة من زينتها قال : الوجه والكفان ، ويؤيد ذلك قوله سبحانه : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى

__________________

(١) قال في الجواهر : لأنهما المراد مما ظهر منها كما اعترف به غير واحد.

١٠٢

جُيُوبِهِنَ) والخمار ثوب تغطي به المرأة رأسها وترسل الباقي منه على ظهرها (١) ، وقال جماعة من علماء الشيعة : يجب ستر الوجه والكفين عملا بإطلاق الآية ، فيكون المراد من المستثنى وهو ما ظهر منها الملابس والثياب الظاهرة. وفي بعض التفاسير أن المراد بما ظهر هو ما أظهرته الريح بدون قصد منها ، ومهما كان المراد فالحجاب مفروض في الإسلام ونص عليه الكتاب والسنة والقدر المتبقي منه ما عدا الوجه والكفين.

نظام الإرث في القرآن :

لقد وضع الإسلام للتوارث مبدءا عاما لا حيف فيه على أحد من أولياء الميت ، وعلى أساسه تعددت مراتب الوارث. قال سبحانه : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) وقال سبحانه : الأقربون أولى بالمعروف.

والمعروف عند العرب قبل الإسلام اختصاص الإرث بالذكور من أولاد الميت ، لأنهم الذين يحملون السيف ويقرون الضيف ، ولما جاء الإسلام ساوى بين الأولاد في أصل الإرث ذكورا كانوا أو اناثا. قال سبحانه : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً). وكما ساوى بينهما في كل ما شرعه الإسلام سوى ما تقتضيه طبيعة كل من الجنسين ساوى بينهما في أصل الميراث ولم يحرمها مما تركه أبواها ، غير انه جعل لها نصف ما للرجل من مال المورث ، ولا حيف عليها في هذا التفاوت ، لأن جميع ما يصل إليها من المال موفر عليها ، فلها في بيت أبيها عليه النفقة ، وإذا تزوجت كان لها على زوجها حق الإنفاق ، ومهما

__________________

(١) مجمع البيان المجلد الرابع صفحة ١٣٨.

١٠٣

كان عندها من مال لا تكلف في الإنفاق منه ولا تتحمل شيئا من تكاليف الحياة وشؤون البيت ، أما الرجل فيبقى في رعاية أبويه وعالة على أبيه حتى إذا ما تزوج تحمل أعباء الزوجة ونفقات بيته وأسرته ، وعليه أن يقوم بنفقات أبويه أحيانا عند ما تدعوه الحاجة لذلك : فكل ما يدخل على المرأة من إرث وصداق وغيرهما تدخره لنفسها ، وليس عليها أن تنفق منه شيئا على أسرتها ما دامت تعيش مع زوجها. فالإسلام في هذا التشريع قد وفر لها أسباب الراحة وأعطاها من المال أكثر مما أعطى الرجل ووفر عليها كل ما فرضه لها من إرث وغيره.

لذلك كان نظام الإسلام في الإرث يحفظ للمرأة حقها ويتفق مع ما يعانيه الرجل من أعباء الأسرة وتكاليفها.

قال سبحانه : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ)(١) وهذه الآية تعرضت لنصيب البنت الواحدة وما يزيد عنها ، فإن كانت واحدة فلها من مال المورث النصف بالفرض ، فإذا لم يكن معها وارث آخر كان لها تمام المال عند الشيعة الإمامية ، وعند غيرهم يكون النصف الثاني للعصبة ، للأخوة أو الأعمام. وإن ترك الميت أكثر من بنت واحدة كان لهن الثلثان والثلث الباقي من المال يرد عليهن ايضا. وعند غير الشيعة يكون للإخوة أو الأعمام. وقد فرض القرآن للأبوين الثلث لكل واحد منهما السدس مع الولد للميت ومع عدمه ترث الأم الثلث والباقي للأب ، وإذا كان للميت اخوة كان نصيب الأم السدس والباقي للأب. قال سبحانه : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا

__________________

(١) سورة النساء من الآية ١١.

١٠٤

السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ)(١).

كما فرض القرآن للزوج من زوجته النصف مع عدم الولد والربع مع وجوده والباقي الى الأقرب إليها ، وفرض لها الربع من ماله إذا لم يكن له ولد ، فإن كان له ولد فلها الثمن. وما بقي من المال يكون لأقاربها الأقرب فالأقرب. قال سبحانه : (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ، فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ)(٢) وفي ميراث الكلالة وهم من يتقربون الى الميت بالأم كالإخوة والأخوات من الأم فللواحد منهم السدس فان زادوا عن الواحد فهم شركاء في الثلث بالغا عددهم ما بلغ. قال سبحانه : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ)(٣) ، وفي ميراث الأخوة ترث الأخت الواحدة من أخيها النصف وما زاد على الواحدة فلهن الثلثان وإن كانوا ذكورا وإناثا فللذكر مثل حظ الأنثيين. قال سبحانه : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)(٤).

__________________

(١) سورة النساء من الآية ١١.

(٢) سورة النساء من الآية ١٢.

(٣) سورة النساء من الآية ١٢.

(٤) نفس السورة من الآية ١٧٦.

١٠٥

لقد اشتملت هذه الآيات وغيرها على الخطوط العامة لقواعد الإرث وأصول التوارث في الإسلام. ومع انها تستوعب جميع فروعه ومراتب الوارث ، ولكن بعد ان تبين أن الأقربية إلى المورث لا بدّ من مراعاتها في توزيع السهام ، وبعد بيان سهام الأولاد والأخوة والإباء والأمهات والبنات والأخوات ، يصبح من السهل التوصل لمعرفة نصيب الفروع لهذه العناوين ، هذا بالإضافة الى ما تضمنته السنة من الإيضاح والتفصيل لكثير من مسائل الإرث ومقادير السهام بالنسبة الى جميع مراتب الوارث.

أحكام العقود والمعاملات في القرآن :

لقد تعرضت بعض الآيات القرآنية الكريمة بصورة إجمالية لحكم العقود والمعاملات التي لا بد منها في تعامل الناس بعضهم مع بعض ، سواء كان التعامل بطريق البيع أو بغيره من العقود وبصورة خاصة تعرضت لحكم البيع وحالاته لكثرة تداوله واستعماله وحددت حلية الأموال التي تنتقل من شخص لآخر بالمعاملات الجارية بين الناس كالعقود والهبات. وجعلت الميزان العام لحلية الأموال هو التجارة عن تراض منهما ولم تستثن الآيات الكريمة من حلية الأموال المتداولة بين الناس إلا ما كان عن طريق الربا ، فقد أكد القرآن حرمته في عدد من آياته لأنه كان بيعا بنظرهم قبل التشريع. قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) ، والعقد يشمل جميع أنواع المعاملات التي تعارف استعمالها بين الناس.

وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ

__________________

(١) سورة المائدة الآية الأولى.

١٠٦

بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ)(١) وقال سبحانه بالنسبة إلى الربا وحكمة : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)(٢). وقد ورد ذكر الربا مكررا في الآيات الكريمة وامتثل بعضها على التهديد والوعيد على استعمال هذه التجارة وأكل المال المأخوذ بهذا العنوان.

وقد جعل القرآن للدين المؤجل حدودا وشروطا حتى لا يقع بين المتداينين ما يؤدي الى ضياع الحق والتنازع ويحفظ لكل منهما حقه. قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ).

العقوبات التي نص عليها القرآن :

وقد تحدث القرآن الكريم عن العقوبات الأخروية في كثير من سوره وآياته وتوعد المجرمين بأسوإ أنواع العقاب والعذاب ، أما العقوبات الدنيوية التي لا بد منها لحفظ النظام ومحاربة الفساد في الأرض فقد فرض قسما منها على بعض المخالفات كالقتل والقذف والزنا والسرقة والفساد في الأرض وحدد العقوبة على كل منها وبين نوعها ، وترك الأمر

__________________

(١) سورة النساء الآية ١٩.

(٢) سورة البقرة آية ٢٧٥.

١٠٧

في غير هذه المخالفات الى السلطان وترك له ان يعمل بما توحيه اليه المصلحة لحمل الناس على الجادة القويمة والطريق الواضح.

وقد كان للعرب قبل الإسلام نظام خاص في مقام القصاص ، وفي الغالب تتحمل قبيلة الجاني مسؤولية الجناية إذا كان المجني عليه شريفا في قومه وعشيرته ، فينتج منها قتل العشرات والمئات ونهب الأموال وإباحة الأعراض. ولما جاء الإسلام أقر عقوبة القصاص ولكنه جعل المسؤولية فيها على الجاني وحده ولم يأخذ البريء بجرم السقيم ، وجعل لولي الدم سلطانا في ذلك على ان يستعمل حقه ان شاء مع غريمه. قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى)(١) وقيل في سبب نزولها ان حيين من العرب لأحدهما قوة على الآخر أقسموا ان يقتلوا الحر بالعبد والرجل بالمرأة والرجلين بالرجل الواحد ، فنزلت هذه الآية لتحد من كبريائهم وعنصريتهم ، وفي نفس الوقت تحفظ لأولياء المقتول حق المطالبة بدمه ، فالحر بمثله والعبد بمثله والأنثى بمثلها ، والتجاوز عن هذا المبدأ عدوان لا يقره الإسلام.

أما في قتل الخطأ وشبهه فالذي فرضه الإسلام هو الدية ، ولا قصاص فيه. وولي المقتول في قتل العمد إذا عفا عن الدم واختار الدية ، فعلى القاتل ان يدفعها اليه. وقد أقر الإسلام نظام الديات عند العرب فجعل على من قتل مؤمنا خطأ عتق عبد مؤمن ، ودية يسلمها إلى ورثة المقتول. أما إذا كان المقتول مؤمنا وأولياؤه على غير الإسلام ، فليس على القاتل إلا العتق ، لأن أولياءه لا يرثون منه شيئا. وقد نصت الاية الكريمة على ذلك. قال سبحانه : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ

__________________

(١) سورة البقرة آية ١٧٨.

١٠٨

رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)(١).

والمقصود من ذلك ما أشرنا إليه من أن القاتل إذا لم يعلم ايمان المقتول ، بأن ظنه مشركا مهدور الدم كما هو الحال في قتل الخطأ وشبهه يأتي فيه التفصيل الذي ذكرناه (٢).

ومن الأحكام التي شرعها الإسلام ونص عليها القرآن عقوبة الزاني كما جاء في الآية : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) الآية (٣).

كما فرض على من يرمون المحصنات بالزنى ان يثبتوا دعواهم بأربعة شهود ، فإن لم يثبتوا ذلك فعلى الحاكم أن يجلدهم ثمانين جلدة ، ولا يقبل لهم شهادة أبدا وعلى ذلك نصت الآية الكريمة : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً)(٤).

كما وأن هناك أنواعا من العقوبات والتأديب للعصاة فرضها القرآن قطعا لمادة الفساد. ولم يتعرض القرآن الكريم لبعض ما شرعه الإسلام اتكالا على الرسول الكريم (ص) الذي بين كل ما أوحي اليه ، وقد أوصى القرآن بالرجوع الى الرسول والأخذ عنه بقوله : (ما آتاكُمُ

__________________

(١) سورة النساء آية ٩٢.

(٢) كما في مجمع البيان عن ابن عباس وغيره.

(٣) سورة النور من الآية ٢.

(٤) سورة النور من الآية ٤.

١٠٩

الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وفي آية أخرى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى). فلم يبق بعد ذلك من فرق بين ما جاء به القرآن وما جاءت به السنة

١١٠

الفصل الثاني

في الوضع السياسي بعد وفاة الرسول

هذه لمحة عن آيات التشريع الإسلامي ، التي ورد ذكرها في القرآن الكريم. وليس بوسعنا ان نستقصي جميع ما شرعه الإسلام. ولكننا أردنا بذلك ان نلمح الى بعض الآيات الكريمة ، تمهيدا لما نحن بصدده من تاريخ التشريع الإسلامي ومدى مساهمة التشيع فيه.

والذي لا بد من الإشارة إليه هو ان التشريع قد انتهى بموت الرسول (ص) ولم يكن للمسلمين بعد وفاته ان يشرعوا من قبل أنفسهم. كما وانه لم يكن للاجتهاد مجال في عهد الرسول. ففي عاصمة الإسلام كان المسلمون يأخذون أحكامهم منه مباشرة ، وأما في خارجها فقد كان (ع) يرسل الصفوة من أصحابه لتعليم الأحكام ، والقضاء بين الناس فيما يختلفون فيه. ولقد وجه اهتمامه لتركيز دعوته وغرس مبادئ الإسلام في النفوس بالحكمة والموعظة الحسنة ، معتمدا على

١١١

ايمانه وإخلاصه لتلك الدعوة مهما كلفته من متاعب وآلام ، لذلك فقد قاسى وتحمل من قومه ما لم يتحمله نبي من قبله ، وبعد ان تهيأ له من الأنصار والأعوان ما يكفيه لأن ينتقم بهم لنفسه وللمعذبين ، لم يفكر في ذلك ، لو لا ان الله سبحانه أمره بقتالهم ورد عدوانهم.

وفي جميع المراحل التي مر بها قبل هجرته وبعدها ، لم ينقطع عنه الوحي حتى في أيام حروبه مع المنافقين والمشركين ، الى ان أكمل الله دينه وبلغه الرسول (ص) للحاضر والغائب وكانت لله بذلك الحجة البالغة على خلقه (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ).

ولم يرحل الى جوار ربه إلا بعد ان عبد لهم الطريق وسهل لهم السبيل ، فأقام عليا (ع) من بعده إماما وهاديا بأمر من الله رب العالمين ، حتى لا تكون أمورهم فوضى تتقاذفهم الأهواء والميول وأرشدهم القرآن اليه بقوله :

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) حيث لم تكن هذه الصفات لغيره وهو وحده الذي تصدق في صلاته.

ومن إشارة النبي إليه بالخلافة ، منذ بعث نبيا ، حتى كانت حجة الوداع. وكان موقفه الذي لا يختلف فيه اثنان من المسلمين حينما خطب في ذلك الحشد الذي رافقه بعد أداء فريضة الحج ، مصرحا بخلافة علي ، بالأسلوب المتبع يومذاك ، الذي فهمه المسلمون ولم يترددوا في المقصود منه.

فمن جميع ذلك وتلميحاته وإشاراته ، التي لا يخلو منها موقف من مواقفه الكريمة ـ آمن الكثير بحق علي في الخلافة. وإذا أضفنا الى ذلك ما ورد على لسان الرسول في مدحه والثناء على شيعته ، وما كان يحيطه

١١٢

به من عناية واشادة ببطولاته وخدماته في سبيل هذا الدين ، يتبين لنا ان فكرة التشيع التي برزت في عهد الرسول قد غذاها الرسول نفسه بالقول والعمل في كثير من المناسبات ، حتى احتلت مركزها الاسمي في نفوس الكثير منهم. وأصبحوا يرون عليا وأبناءه الطاهرين دعامة للحق وترجمانا للكتاب ، ومرجعا لهم في أمور الدين والدنيا. كما كان أكثرهم يراه صاحب الحق الشرعي في الخلافة ، حتى هو نفسه كان مطمئنا لحقه فيها.

ولما فوجئ بنبإ السقيفة استغرب ان يستغل جماعة من الصحابة انصرافه الى تجهيز الرسول ، بعد ان لحق بالرفيق الأعلى ، وأن يتنكروا لما سمعوه منه ولمسوه من حرصه على استخلافه من بعده.

فولاء أهل البيت والتشيع لهم ولد بعد مولد الإسلام بقليل ونما بنمو الإسلام وتركز في النفوس ، حتى أصبح عقيدة يوم كانت بيعة الغدير حيث استجاب الرسول (ص) لنداء ربه : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

وفي الآية إشارة الى ان قوما من ذوي الأطماع ، كانوا يعملون جهدهم لإقصاء علي عن حقه ويعارضون فكرة الخلافة ، وكان الرسول يعرفهم بأسمائهم ويتخوف خلافهم عليه وكيدهم للإسلام ، لو عقد له البيعة العامة في أيام الموسم لينتشر نبأها في أنحاء الجزيرة بين الملايين من المسلمين. ولما نزلت الآية لم ير بدا من موقفه الذي وقفه ، ليؤدي إلى الملإ الذي احتشد حوله رسالة السماء. وكما أشرنا فيما مضى ان أهل الأطماع تكتلوا لاقصائه عن حقه ، حتى كانت الفرصة المواتية ، وكانت السقيفة ، التي اجتمع فيها الأنصار حول زعيمهم سعد بن عبادة

١١٣

الأنصاري ، للمطالبة بحقهم في الخلافة. وليس من البعيد أن تكون هذه الوثبة من الأنصار لاضعاف جانب المهاجرين بعد ان لمسوا منهم أنهم يعملون لاقصاء علي عن الخلافة.

ونتيجة لذلك كان الحزب الثالث الذي شكله الأنصار ، فكانت الحجة للمهاجرين على الأنصار ، ما جاء على لسان عمر بن الخطاب : من ذا ينازعنا سلطان محمد (ص) وامارته ، ونحن أولياؤه وعشيرته ، إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة ، فكان لهذه الكلمات أثر بالغ في نفوس البعض من المسلمين. وبها استعان المهاجرون على انتزاع الخلافة من أيدي الأنصار ، ونادى بها من الأنصار بشير بن سعد ، بدافع الحسد لابن عمه سعد ، مرشح الأنصار الأول. ولكي يضعف جانبه انشق عن قومه ونادى : ألا ان محمدا أيها الناس ـ من قريش ، وان قومه أحق به وأولى ، وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدا.

ولما أنكر عليه الحباب قوله متهما إياه بالحسد قال : لا والله ولكني كرهت أن أنازع قوما حقا جعله الله فيهم ، فكان لهذا الانقسام بين زعماء الأنصار أثره البالغ ، في أضعاف جبهتهم وقوة الجبهة الثانية ، التي تنادي بأحقية المهاجرين ، لأن قوم محمد اولى بميراثه. كما كانت هذه الحجة هي السلاح للمتحمسين من المهاجرين ، لمصلحة علي (ع). وقالوا ان الخلافة لو كانت بالقرابة كما يدعون ، لم يكن لهم فيها من نصيب ، لأن بني هاشم وعلى رأسهم علي (ع) أقرب الناس من الرسول وأولاهم بميراثه.

ولكن المهاجرين لم يجدوا سلاحا يقاومون به الأنصار ، الذين جاهدوا في سبيل هذه الدعوة المباركة ، إلا هذا النوع من التهويش

١١٤

الذي أثر على بعض السذج والبسطاء من ضعاف النفوس.

أما العارفون وأصحاب البصائر النافذة النيرة من المهاجرين والأنصار ، حتى الذين تسلحوا بهذا المنطق أنفسهم ، يعلمون انه لا يمت للواقع بأية صلة ، لأن الإسلام ألغى جميع الامتيازات وجعل الميزان الوحيد هو العمل الطيب وخدمة الإسلام ، ولم تغب عن أذهانهم مواقف الرسول (ص) ونصوصه ، منذ أن بدأ دعوته حتى يومه الأخير ، ومع انه سلاح مفلول الحد فقد خدمهم في حينه ، واستطاعوا التهويش به وتضليل بعض الفئات من الناس.

أما شيعة علي (ع) فقد آثروا التريث بالأمر والاعتصام بالصبر ما دام صاحبهم الذي بايعوه بالأمس ـ منصرفا بكليته عن دنياهم ومشغولا حتى عن نفسه ، لمصابه الأليم بفقد الرسول الأعظم (ص).

ولما أودع الرسول في مقره وقف يطالب بحقه في الخلافة ومعه عدد ليس بالقليل من أعيانهم وذوي السابقة فيهم. ولم ير بدا من الاحتجاج عليهم بالحجة التي تغلبوا فيها على الأنصار فقال : «تركتم الثمرة وتعلقتم بالشجرة».

ولما لجأوا إلى الإجماع الذي أعدوه ـ نقض عليهم بتخلف جماعة من المسلمين عن السقيفة لا يجوز ان تحل عقدة أو تبرم اخرى بدون أن يكون لهم رأي فيها.

فحجة القرابة كانت لمصلحته والاجتماع لم تستكمل عناصره ليكون في جانبهم ، وأحاديث الرسول لا يزال صداها يرن في أعماق نفوسهم ، ولكن حسد قريش لهاشم ولعبد المطلب ، وريثه الأول في زعامته ، ولمحمد الذي حملهم على الإسلام ولعلي (ع) الذي سما على

١١٥

هام الناس في علمه وشجاعته وخدماته في سبيل تثبيت دعائم الدين ، كل ذلك كان له أبلغ الأثر في وقوفهم هذا الموقف من استخلافه ، فاحتشدوا حول منافسة صفوفا متراصة ، حتى تم لهم الانتصار وانتزعوا الخلافة منه انتزاعا.

وكانت الجماعة المحيطة بعلي من صحابة الرسول ، من خيرة صحبه وأقربهم إلى نفسه وأحبهم إلى قلبه الكبير ـ كانوا أشرف المسلمين قلوبا وأرواحا وأولهم سابقة لدين الله ، كسلمان الفارسي وأبي ذر والبراء بن عازب وحذيفة اليماني وعبادة بن الصامت وأبي الهيثم ، وأمثالهم كثيرون لم يحضروا بيعة السقيفة ، ولو حضروها لما ألقوا قيادهم لشيخ تميم ، ولم يمسحوا بأكفهم على يده ، لأنهم كانوا يعلمون تمام العلم أي الناس أحق بهذا الأمر ، وأولى بأن تمسح أكفهم على يده ويلقوا زمامهم اليه طائعين. فاجتمعوا ومعهم الكثرة من المهاجرين والأنصار في جوف الليل يدبرون ويتشاورون. وانطلقوا من مكمنهم بعد ان انتهى بهم التفكير إلى إعادة الأمر للمهاجرين والأنصار ، ليختاروا من هو جدير بولاية أمر الأمة.

ولما تطاير نبأ هذا التذمر من هذا الحادث المفاجئ استجاب له الكثيرون ممن بايعوا لأبي بكر وأدركوا أن الإنصاف كان يحتم عليه التريث في الأمر ، حتى تتم مواراة جثمان الرسول (ص). وكان عليهم أن يلتزموا جانب التدبر والحكمة قبل الإقدام على ما أقدموا عليه ، وأن يستجيبوا لما يحيط بالإسلام من إخطار على يد عصابة المرتدين وأنصار الكذبة من المتنبئين ، لو وقع بينهم وبين الأنصار قتال على الخلافة. كل ذلك لم يفكروا فيه ولم يفكروا حتى بالرسول وجثمانه لا يزال في بيته. وقد نسي عمر بن الخطاب نفسه قبل ساعة ،

١١٦

وهو كالمدهوش ، حينما سمع نبأ وفاة الرسول (ص) يقول : إن محمدا لم يمت وسيرجع ليقطع ايدي اناس وارجلهم ، وبقي ساعة يهدد بهذه الكلمات حتى تلا عليه بعض المسلمين : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ). كل ذلك لم يفكروا فيه ولم ينظروا الى الأحداث المنتظرة ممن دخلوا في الإسلام ، ولما يستحكم في نفوسهم ، لا سيما اذا استحكم الخلاف بين صحابة الرسول على الخلافة.

ولكن عليا (ع) الحريص على رسالة الاسلام ومقدساته ، يرى أن مصلحة الاسلام قبل كل شيء. وإذا كان يطالب بحقه الشرعي فذاك لكي يعمل على بعث الدين ونشر تعاليمه وتطبيق مبادئه وغرسها في النفوس ، والخلافة لا تساوي في حسابه شيئا اذا لم تؤد الى هذه الغاية.

ولقد قال لابن عمه عبد الله بن عباس ، وهو يخصف نعله : إن إمرتكم لأهون من هذه النعل إلا أن احق حقا وأبطل باطلا.

وبعد أن توالت الأحداث وانتشرت دعوة المرتدين والمتنبئين ، والدين جديد لم يكن له تلك القداسة عند الكثير من الاعراب وسكان البادية ، لا سيما وقد بلغهم ما حدث من نزاع على الخلافة في حاضرة الإسلام بين المهاجرين والأنصار والهاشميين ، مما أدى الى نشاط حركة الردة عند بعض القبائل العربية. لهذه الأخطار التي احدقت بالاسلام ، وهو لا يزال في فجره الأول ، آثر علي (ع) أن يتغاضى عن حقه ، ويعمل معهم صفا واحدا لدفع تلك الأخطار المخيفة ، بعد أن صارح القوم بما في نفسه بلا مواربة ولا اخفاء ، فقال مخاطبا لأبي بكر : لم يمنعنا عن بيعتك انا ننافسك على خير ساقه الله اليك ، ولكنا نرى ان هذا الأمر هو حقنا ، وقد استبددتم به علينا ، وقال في موقف آخر : أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة ، وانه ليعلم أن محلي منها محل القطب

١١٧

من الرحى. لقد صارح أبا بكر بذلك ليكشف له وللملأ من حوله أنه إن طالب بحقه فذاك لمصلحة الاسلام وإن تغاضى فلمصلحة الاسلام ايضا وعليهم أن يتحملوا مسؤولية ذلك عند الله سبحانه.

لقد مضى معهم حيطة منه على الاسلام ، وانصرف عن دنيا الخلافة يشرح لهم غوامض الاسلام ويحل مشكلاته ويرسي قواعده في نفوسهم. وقد غاب بانيه بالأمس ، وأحكامه ومبادئه لم تزل بعيدة عن أذهان الكثير منهم. وبعد ان وجدوا فيه وهو سليل الهاشميين وتلميذ الرسول الأعظم مشعلا من ذلك النور وتراث الاسلام الروحي كاملا في شخصه الكريم ، التفوا حوله يضيء لهم انحاء حياتهم الروحية والمدنية ويحل لهم مشاكلهم كلما تشعبت او اصابها تعقيد والقى على التشريع الاسلامي وجميع مشاكل الحياة وأصول القضاء أضواء لامعة حتى قال فيه عمر بن الخطاب : «لا بقيت لمعضلة ليس لها ابو الحسن».

اختصاص اسم الشيعة بالموالين لعلي وبدء التشيع :

لقد سبق منا أن الرسول هو الذي بذر التشيع لعلي (ع) وكان حريصا على نمو تلك البذرة. ففي كثير من مواقفه ولمناسبات كثيرة كان يلمح تارة ويصرح اخرى بما لعلي من المكانة الرفيعة والمواقف التي ساعدت في بناء هذا الدين وتركيز دعائمه. ولم يزل على ذلك حتى لفظ نفسه الأخير ، وقد سمى أولياءه بالشيعة ووعدهم بحسن المصير يوم القيامة ، كما جاء في كثير من الأحاديث. ففي ربيع الأبرار (١) عن النبي (ص) أنه قال : «يا علي إذا كان يوم القيامة أخذت بحجزة الله وأخذت انت بحجزتي وأخذ ولدك بحجزتك وأخذ شيعة ولدك بحجزتهم ،

__________________

(١) للزمخشري.

١١٨

فترى أين يؤمر؟» وقال ابن حجر (١) : «اخرج الطبراني عن علي (ع) ان خليلي رسول الله قال : يا علي إنك ستقدم على الله وشيعتك راضين مرضيين ويقدم عليه اعداؤك غضابى مقمحين» وجاء في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) ان النبي قال لعلي (ع) هم أنت وشيعتك (٢) ، وبمضمون ذلك روايات كثيرة تتضمن مدح الشيعة والثناء عليهم نقلها اهل الحديث عن الرسول منذ قام يدعو الناس الى الاسلام.

ومن مجموع ذلك تبين أن تسمية الموالين لعلي وبنيه بالشيعة كان في أيام الرسول وورد على لسانه ، ولا شك بأن لأحاديث الرسول فيه وفي شيعته اثره البالغ في تعلق فئة كبيرة من المسلمين بعلي (ع) وإيمانها بحقه في الخلافة الاسلامية. ففي خطط الشام قال : عرف جماعة من كبار الصحابة بموالاة علي في عصر رسول الله (ص) ، مثل سلمان الفارسي القائل : بايعنا رسول الله على النصح للمسلمين والائتمام بعلي بن أبي طالب والموالاة له ، ومثل أبي سعيد الخدري الذي قال : أمر الناس بخمس فعملوا بأربع وتركوا واحدة. ولما سئل عن الأربع قال : الصلاة والزكاة وصوم رمضان والحج. قيل له فما الواحدة؟ قال : ولاية علي بن أبي طالب. قيل له وانها لمفروضة معهن؟ قال : نعم هي مفروضة معهن؟ ومثل أبي ذر وعمار بن ياسر وحذيفة اليماني وذي الشهادتين خزيمة بن ثابت وأبي ايوب الأنصاري (٣) ، وقد أدرك هذه الحقيقة جماعة من الكتاب العرب وغيرهم من المستشرقين ، وأنكروا

__________________

(١) كما في الصواعق.

(٢) ذكره ابن حجر عن الحافظ جمال الدين الرواندي عن ابن عباس.

(٣) محمد كرد علي في خطط الشام.

١١٩

على من قال بأن التشيع نشأ من تأثير مذاهب الفرس في الاسلام ، وانه لم يكن قبل الفتح الاسلامي. قال المستشرق فلهوزن في بحثه عن التشيع : ان حركة التشيع نشأت على تربة عربية خالصة ولم تنتشر بين غير الساميين الا بعد ظهور المختار.

وقال : (جولد تشيهر) فيما كتبه عن الشيعة ، في جملة فصوله من كتابه المترجم الى العربية : ان من الحقائق الأولية ان مسألة الخلافة قسمت المسلمين الى فرقتين : أهل السنة والشيعة. وكان لأهل البيت فريق يعترف سرا بحقوقهم حتى في عهد الخلفاء الثلاثة الأولين ، ولكن هذا الفريق لم يكن يجاهر بالخصام ، وبعد عصر هؤلاء الخلفاء صار يعارض كل من حكم من غير أبناء علي (١). لقد انتهى الكاتب في بحثه عن تاريخ التشيع الى حقيقة لا بد للباحث المجرد أن ينتهي اليها. ولو لا الخلافة الاسلامية لم يكن هذا الصراع بين المسلمين منذ اليوم الأول لوفاة الرسول حتى اليوم. وإن كنا لا نوافقه في رأيه بأن المؤمنين بحق علي لم يجاهروا بذلك. ان هؤلاء وقفوا الى جانب علي ، ولم يبايعوا احدا إلا بعد أن بايع علي (ع) ، حرصا منه على مصلحة الاسلام العليا. وكانوا يجاهرون برأيهم في كل مناسبة تدعو لذلك. ووقفوا من الخلفاء موقف الناقد لتصرفاتهم كلما لمسوا منهم ضعفا او استئثارا بحقوق الآخرين. وقد وقف ابوذر وعمار بن ياسر وغيرهما من زعماء الشيعة البارزين موقف المعارض لسياسة عثمان بن عفان وسيرته بعد أن نهج على غير الخطة التي رسمها الرسول لنفسه وللولاة من بعده ، ووقف الى جانبهم بعض الوجوه من صحابة الرسول ، واتسعت حركة المعارضة حتى شملت العواصم الاسلامية الكبرى. وأخيرا لقي

__________________

(١) العقيدة والشريعة في الاسلام.

١٢٠