تعليقات الفصول في الأصول - ج ١

محمّد حسين بن عبد الرحيم الحائري الإصفهاني

تعليقات الفصول في الأصول - ج ١

المؤلف:

محمّد حسين بن عبد الرحيم الحائري الإصفهاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مطبعة الآداب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٠

١
٢

بسم الله الرحمن الرّحيم

نحمدك اللهم يا من أتقن بحكمته صنائع الملك والملكوت وأحكمها اصولا وفروعا ، وثناء عليك يا من فطر العقول من عوالم الجبروت ثم بهرها بعالم الشهادة فضلا عن عوالم الغيب بما ابدع فيه من دقائق الحكم المرتبة فصولا ففصولا ، وأشرف تحياتك وتسليماتك على أشرف صحفك البارعة ونسخك الجامعة التي فرت بها مشكلات متن الوجوب ، وجمعت فيها بين كتاب التدوين والتكوين وفرقت بها بين الحق والباطل والكفر والإيمان ، فهي على ميزان الجمع والتفرقة قرآن وفرقان : محمد وآله الطاهرين ، صلوات الله عليهم أجمعين ولعنة الله على أعدائهم الى يوم الدين.

وبعد : فقد شرّفت خواطرى ، وكرمت نواظرى بمطالعة هذه التعليقة الأنيقة ، لا بل هي اللآلئ المكنونة والدراري المصونة ، التي قذف بها لجي خاطر مولانا وعمادنا وشيخنا واستادنا قدوة الحكماء الراسخين ، واسوة العرفاء الشامخين ، عيلم العلماء المحققين ، وانموذج الفقهاء والمجتهدين المتطلع في العلوم المحمدية ، الجامع لشتات الفنون العقلية والنقلية ، المنيب الأواه ، المستقر في بحار معرفة الله عما دب محار المتهجدين ، وأبو ذري منابر المجتهدين شعر وأنحاء القول فيه : علم عيلم ، ضرب الزجاج لنور الله في المثل ، الشيخ الأوحد الأمجد شيخنا الحاج الشيخ أحمد الشيرازي مولدا النجفي مهاجرة ومسكنا ، عمر الله به من مدارس العلوم دوارسها ، واثمر بتحقيقاته من أصول التحقيق مغارسها.

٣

وقد علق ـ دام ظله ـ هذه التعليقة الشريفة على الفصول ، التي وقفت دون مشكلاتها أذهان جملة من الفحول ، ولم يتهيأ لجل المحصلين الى تحصيل اكثر مطالبها الوصول ، وكانت احوج كتاب الى حاشية تكشف عن وجوه مخدراته النقاب ، وتعليقة ترفع عن محاسن غامضاته الحجاب ، لإحكام مبانية ودقة معانيه ، وابتناء جملة من مطالبه على علم عزيز الحصول ، ومن جهل الأكثر به وقصور جم عن نيله عاد بينهم مطروحا في زوايا الخمول

ولكن لا غرو في ذلك عليه ، فان نسبتهم اليه كضراء الحسناء قلن لوجهها حسدا وبغيا «انه لذميم» ، وهو ـ دام ظله ـ رباني تلك العلوم ، وفرداني هاتيك المعالم والرسوم ، عمادها بل عميدها ، وواحدها بل وحيدها.

ولما لم يتفق الى الآن من يعطي هذا الكتاب حقه ، ولا يتيسر لأوحدي من الناس من يجمع رتقه وفتقه انتدب ذلك الجناب بهمة تسهل عندها الصعاب ، فحل رموزه وفتح كنوزه ، وسهل مصادره وموارده ، واستخرج ذخائره وفوائده ، وأبان الحق له وعليه ، وتصدى لنصول المعارضة والإيرادات فدفعها عنه بكلتي يديه.

وكان اشتغاله بتحبير ذلك التحرير المروزي بتطريز نسايج الحرير أيام تدريسه ذلك الكتاب على حوزة من أفاضل الطلاب في المدرسة الفتحية المشرفة بجوار صحن الروضة الحيدرية ـ على مشرفها آلاف الثناء والتحية ـ فجاءت بحمد الله تعالى وحسن توفيقه بأحسن مما كانت ترتجيه الآمال ، وفوق ما كان نفوس الطلاب تطلبه بلسان الحال والمقال ، ينتفع ويرتفع بها المنتهى والمبتدي ، ويغترف ويقتطف من بحارها وأزهارها المجتني والمجتدي

فحق لذي الطبائع السليمة والمطابع لو طبعتها بسواد إنسان العيون على الأبصار والمسامع ، وقل لمبتغي الدقائق وطلاب الحقائق لو اتخذوا مراجعتها ورودا ، وصيروها روضة يستشفون من مضامينها رياضيا وورودا

٤

فلعمر الله لقد أبدع فيما أودع ، وأبهر فيما أظهر ، واغرب عما اعرب وأنصف فيما صنف ، واجاد وزاد فيما أفاد.

وله ـ دام ظله ـ رسالة أنيقة تتضمن تحقيق مسألة رشيقة ، هي مسألة جواز دفع الخمس الى المنتسب الى هاشم بالأم ، وهي مسألة بافرادها بالبحث عنها حقيقة ، وقد تجاوز فيها من قنطرة المجاز الى الحقيقة ، وسماها (قسطاط القسط في إحقاق حق السبط) ، وكان القول بالجواز عنده هو الجيد ، ولا غرو فسيد الأقوال قول السيد.

فنسأل الله تعالى أن يديمه علم هداية الأنام ، ورافع راية التحقيق في شرايع الاسلام ، بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الكرام ، صلوات الله عليهم الى يوم القيام ، وحمد الله هو المبدأ والختام.

حرره بيده الفانية الخاطئة راقم برده وناظم عقده مؤسّسه ومنتهيه المذنب الخاطئ محمد حسين بن الشيخ على آل موسى بن جعفر كاشف الغطاء

قد تم بحمد الله الملك المنان سلخ جمادي الآخرة سنة ١٣٢٤ ه‍.

٥

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم اجمعين ، الى قيام يوم الدين.

٦

قوله «قده» : وذكر نبذة من مباديه اللغوية.

اعلم أن المبادئ هي ما يبتنى عليه العلم ، وهو إما تصورات وإما تصديقات :

أما التصورات فهي حدود اشياء تستعمل فيه ، وهي إما موضوعه وإما جزء من موضوعه وإما جزئي تحت موضوعه وإما عرض ذاتى لموضوعه ، وهذه الاشياء إما أن يكون التصديق بوجودها وابنيتها مقدما على العلم كالموضوع وما يدخل فيه من الجزء والجزئي ، وإما أن يكون التصديق بوجودها وابنيتها إنما يحصل في العلم نفسه ، كالأعراض الذاتية للموضوع

فحدود القسم الأول بحسب الماهية ويكون جواب ما الحقيقية ، إذ هي بعد الفراغ عن التحقق والوجود ، وحدود القسم الثاني ـ اذا حدد بها وذكرت على سبيل المبدأ التصورية ـ كانت بحسب الأسماء وشروحا لفظية وحدودا اسمية وجواب ما الشارحة الذي يقال له بالفارسية «پاسخ پرسش نخستين» ، اذ بعد لم يتحقق وجود القسم الثاني هلية البسيطة ، بل علم تحققه ووجوده في العلم لا قبله ، ويمكن أن تصير تلك الحدود بعد العلم بوجود القسم الثاني حدودا حقيقية وجوابا لما الحقيقية كما لا يخفى.

وأما التصديقات فهي المقدمات التي تؤلف منها أقيسة العلم ، وهي إما بينة وإما مأخوذة ببينة ، والقسم الأول يجب قبوله ويسمى بالعلوم المتعارفة ، وهي مبادئ على الاطلاق. والقسم الثاني يجب تسليمه ليبتنى عليه ، ومن شأنه أن يبين في علم آخر ، فيكون من المقاصد والمسائل لذلك العلم الآخر ومن المبادئ لهذا العلم المبنى عليه.

٧

وهذه المبادئ المأخوذة إن كان تسليمها مع مسامحة ما وعلى حسن الظن بالعلم والمعلم سميت «أصولا موضوعة» ، وإن كان مع استنكار وتشكيك تسمى «مصادرة» ، وقد تكون مقدمة واحدة أصولا موضوعة عند شخص ومصادرة عند شخص آخر وتسمى «الحدود» والواجب تسليمها «أوضاعا».

ثم المبادئ مطلقا إما عامة أو خاصة ، فالمبادئ التصورية العامة من الاجناس والأعراض العامة ، والمبادئ التصورية الخاصة هي الفصول والخواص ، والمبادئ التصديقية الخاصة مثل قضايا مخصوصة لها خصوصيات بمطالب مخصوصة ، والمبادئ التصديقية العامة المشتركة بخلافها ، مثل أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان ، وهذا اكثر شركة واشمل عموما وسعة في المبادئ التصديقية ، حتى يقال لها «مبدأ المبادئ وأول الأوائل في الأزمان».

ومعلوم أن استنتاج جميع المطالب موقوف عليه ، إذ الاستدلال على المطلوب والنتيجة إما بالقياس المستقيم وإما بالقياس الخلفي ، ففي الأول اذا ثبت المطلوب فما لم يلحظ استحالة اجتماع النقيضين لم يتم المرام ، لجواز أن يكون نقيض النتيجة ايضا حقا مع قطع النظر عن استحالة اجتماع النقيضين ، وفى الثاني اذا بطل نقيض النتيجة جاز أن تكون النتيجة أيضا باطلة مع قطع النظر عن امتناع ارتفاع النقيضين ، ومع ملاحظته تكون النتيجة حقا فيتم المرام.

فاذا تقرر ما ذكرنا فنقول : مراده ـ قدس‌سره ـ بالمبادئ اللغوية المبادئ التصورية ، إذ ذكر ـ قدس‌سره ـ في هذه المقدمة حدود الكلي والجزئي والمشترك والمترادف والحقيقة والمجاز ، وهي حدود الأعراض الذاتية. ويحتمل على بعد أن يكون مراده المبادئ التصديقية ، وكون تلك الحدود

٨

تصديقات باعتبار حملها على محدوداتها والاذعان الحاصل منها.

ووجه نسبة هذه المبادئ الى اللغة في قوله «المبادئ اللغوية» هو تعلق هذه المبادئ باللغة وارتباطها بها ، لا كونها من المسائل المعنونة في كتب اللغة وفنها ومقاصدها ـ كما هو ظاهر غير خفي.

ومراده «قده» من اللغة التي هي منسوب اليها إما اللغة بالمعنى الأخص المقابل للعرف العام والخاص وإما بالمعنى الاعم الشامل لهما ، وعلى الأول فيعلم حال العرفين بالمقايسة بخلاف الثاني. ولا يخفى أن الثانى أنسب بالمقام.

قوله : وربما يذكر فيها بعض ... الخ

وجه الاستطراد هو أنه لما جرى ذكر الحقيقة والمجاز وبيان مفهومهما ناسب أن يبحث في أن لهذين المفهومين مصداقا بالنسبة الى الشرع ام لا؟

وبعبارة اخرى : بعد وضوح مفهومهما ينبغي أن يلاحظ هل لهما تحقق ووجود بحسب الشرع ، فذكر مباحث الحقيقة الشرعية فاستتبعت مباحث الصحيح والأعم كما هو واضح.

وأما مباحث استعمال اللفظ في اكثر من معنى فوجه الاستطراد فيها هو أن الكلام راجع الى أن هذين المفهومين هل يقعان ويتحققان في صورة الاجتماع أم لا؟

وأما مباحث المشتق فلما لم تكن طويلة الذيل متفننة المسائل متشعبة الفروع كمباحث الأوامر والنواهي والعام والخاص وغيرها حتى تستقل بعنوان ، فناسب أن تذكر في المقدمة ـ فافهم.

٩

قوله : فسيأتي بيانه في موضوعه.

يعني في مباحث الاجتهاد والتقليد عند ذكر الشروط والامور التي يتوقف الاجتهاد عليها.

قوله «قده» : وكأن هذا مراد من فسره بأسفل الشيء.

المفسر هو الفيروزآبادي صاحب القاموس ، ووجه التعبير بلفظ كأن الدال على التحير والترديد هو أنه يحتمل أن يكون مراد الفيروزآبادي معنى أعم مما فسره به «قده» لأنه قد يقال أسفل الشىء وإن لم يكن فيه ابتناء اصلا ، كما يقال «أسفل الوادي» ، وليس فيه ابتناء لا حسا وهو ظاهر ولا عقلا لان اسفل الوادى وأعلاه متساويان في المقومية للوادي وعدمها ، ولا يكون الأسفل موقوفا عليه والأعلى موقوفا.

قوله «قده» : ومن فسره بالقاعدة التي ... الخ

معطوف على قوله «من فسره بأسفل الشيء» فيكون مدخولا لكلمة كأن الدالة على التحير ، ويكون وجه التعبير بها هو ان المراد بالابتناء ان كان أعم من الحسي والعقلي وبالقاعدة هي اساس البنيان العقلي والحسي الذي يسمى بالفارسية «شالوده» او كان المراد بالابتناء هو خصوص الحسي وبالقاعدة أعم لم يكن الحدان متساويين متوافقين. نعم ان أخذا على نهج واحد بحسب العموم والخصوص تساويا وتوافقا.

قوله : وقد يطلق ويراد به معنى السابق.

الظاهر أنه أراد السابق بالسبق الزماني الشامل لسبق الزمانيات بعضها على بعض وسبق أجزاء الزمان بعضها على بعض ، لوضوح أن المثالين

١٠

الأولين من قبيل الاول والاخيرين من قبيل الاخير.

قوله «قده» : وليس بنيا على المعنى السابق.

يعني ليس هذا المعنى وهو السابق راجعا الى المعنى الذي سبق ذكره وهو ما يبتنى عليه الشيء.

قوله : إذ لا يفهم منه معنى البناء.

وجه حصول معنى البناء فى الاول دون الاخير هو أنه في الاول حركة استكمالية طولية ، ولا ريب في ان فى الاستكماليات لهسا ثم لبسا وربحا ثم ربحا لا؟؟؟؟ لبس وخلع وربح وخسران ، فالكمال اللاحق والصورة اللاحقة تبنى على الكمال السابق والصورة السابقة ، غاية الامر تحذف عن الصورة السابقة نقصها. وهذا بخلافه في الاخير ، حيث أن بين البياض والسواد مثلا تضادا وتقابلا وتخالفا ، فلا بد من زوال أحد الضدين في تحقق الضد الآخر ، إذ عدم المانع شرط ، فليس القابل للضد الآخر الا المحل من حيث هو دون المحل المتلبس بالضد ، لان القابل لا بد وأن يجتمع مع المقبول ، والمحل المتلبس مع الضدين يستحيل أن يجتمع مع الضد الآخر وإلّا اجتمع فيه الضدان فلا يكون قابلا فلا يكون مبنى فلم يحصل البناء وهو المطلوب.

وبهذا البيان البرهانى ظهر اندفاع ما لعله يتوهم من حصول معنى البناء في الاخير أيضا ، بتقريب أن المحل لا بد وأن يكون موجودا حتى يكون قابلا ، إذ الكلام في القابل الخارجي دون القابل التحليلي التعملي العقلي ، ولا ريب في أن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، ولا ريب في أن الاعراض المكتنفة بالشيء إما أمارات التشخيص على ما هو الحق عندنا وإما مشخصات على مذهب القوم فلا بد من اعتبارها في تشخص الشيء. فالبياض مثلا لا بد من اعتباره في

١١

المثال الاخير حتى يكون المحل متشخصا موجودا متحققا ، فيصير قابلا للسواد مثلا ، فتحقق فيه البناء وحصل.

وتوضيح الاندفاع هو أن البياض ضد ومانع عن وجود السواد فكيف يكون مصححا لقبوله لتحققه؟

وأما تشخيص المحل فليس بخصوص هذا البياض بل بمطلق الالوان والاعراض كما هو واضح ، إذ ليس المشخص وامارة التشخص خصوص لون مثلا وإلّا بطل الشخص بكليته بتبدل ذلك اللون كما هو ظاهر ـ فافهم فان فى المقام بعد كلاما لا يسع الوقت ذكره.

قوله «قده» : لوجود العلاقة ...

وهى علاقة المشابهة ، لان بين المعنى الحقيقي والمجازي مشابهة في كونها موقوفا عليه : أما في المثالين الاولين فالامر ظاهر ، وأما في الأخير فلأن قولنا في الاصل فيهما بمعنى الزمان السابق علة معدة لوجود الزمان اللاحق ، فيكون موقوفا عليه.

قوله : يطلق غالبا ...

وجه التقييد بالغلبة هو أنه قد يطلق الاصل على الكتاب فيقال له أصل أي كتاب ، وقد يطلق على اصل العدم عند عدم الدليل إن جعل أصلا مستقلا على حدة.

قوله «قده» : واحترز به عن فهم غيره.

يعني احترز بقوله «عن غرض المتكلم» عن فهم غير غرض المتكلم من مطالب أخر ومقاصد أخرى.

١٢

قوله «قده» : وفهمه بغير كلامه.

يعني احترز بقوله «من كلامه» عن فهم غرض المتكلم لا من كلامه بل من قرائن حالية مقامية وقرائن اخرى خارجة.

قوله «قده» : وكأن هذا مراد من فسره.

وجه التعبير بلفظ كأن الدال على التحير والتردد هو أن قول المفسر بأنه هيئة ... الخ يحتمل وجهين :

(الأول) ـ أن يكون مراده بالمعاني مقابل الصورة. وبعبارة أخرى أن يكون مراده بالمعاني المعاني الجزئية المدركة للوهم والعقل المقيد والمضاف والمحبة الجزئية والعداوة الجزئية وغيرها ، ومراده بما تحس الصور الجزئية المحسوسة بالحواس الظاهرة بل الحس المشترك المسمى ببنطاسيا والهيئة باصطلاح المشائين بمعنى العرض في لسان الاشراقيين ، فيكون حاصل التفسير هو أن الادراك هيئة نفسانية وكيف نفسانى بها يتحقق ويدرك وينال المعاني الجزئية المتعلقة بالصورة المحسوسة الجزئية كمحبة زيد وعداوة عمرو ، فعلى هذا يكون الفهم أخص من الادراك ويكون نحوا خاصا من الادراك

ويحتمل أن يكون مراده بالمعاني المدرك بالذات مقابل المدرك بالعرض ويكون المراد بما تحس المدرك بالعرض ، فيكون مساويا للادراك.

وبيان ذلك : هو أن المدرك إما أن يدرك بالذات وإما أن يدرك بالعرض ، والمدرك بالذات هو الذي لا يدرك بصورة زائدة بل يدرك بنفسه كالصورة الحاصلة لانفسنا حيث انها لا تحتاج في إدراكها الى صورة اخرى والمدرك بالعرض هو الصورة الحاصلة في الخارج المنغمرة في المواد الموجبة للجهل والاحتجاب ، ولا بد في إدراكها من نزع الصورة عن المادة

١٣

وتجريدها عنها لتحصل لها وجود نوري فيحصل العلم والانكشاف ، فعلى هذا يكون المعنى : هيئة نفسانية بها تنال المدركات بالذات الشاملة للمعاني والصور كما هو واضح.

ولا يذهب عليك ان تلك المدركات بالذات وإن كانت عين العلم وبعبارة أخرى تلك المعاني وإن كانت عين تلك الهيئة النفسانية ذاتا ، حيث أن العلم والمعلوم والادراك والمدرك متحدان ذاتا إلّا انه يكفى التعدد الاعتباري ، اذ لا يخفى ان تلك الهيئة إن لوحظت كونها انكشافا فتكون علما ، وان لوحظت كونها منكشفا بلا حاجة الى صورة زائدة وهيئة أخرى تكون معلوما ـ فافهم بعون الله وحسن تأييده.

قوله «قده» : وكأن هذا مراد من فسره بسرعة ـ الخ

المقصود من المبادئ المقدمات ومن المطالب النتائج ، ووجه التعبير بلفظ كأن واضح ، اذ ظاهر الحدين متغايران ، كما اعترف به «قده» ، مضافا الى أن الحد الأول لم تؤخذ فيه السرعة ، بل المأخوذ فيه اعم من أن يكون على وجه السرعة أو غيرها كما لا يخفى.

قوله «قده» : وقد ضعف الاول.

مراده من الأول هو التفسير بمطلق الادراك ، ومن الثانى هو التفسير بجودة الذهن.

قوله «قده» : بل هو حقيقة فى عرفهم ممنوع.

بل لعل الاستعمال في الاعم يكون مجازا بمعونة القرينة ، كما فى قولهم «العلم إن كان إذعانا للنسبة فهو تصديق وإلّا فتصور» ، وكما في قولهم «الحد والقول الشارح موجب للعلم بالمحدود».

١٤

قوله «قده» : إلّا أنه مجاز باعتبار العرف واللغة ...

إن كان استدراكا عن قوله «متداولا» فلا يخفى بعده لفظا ومعنى أما بعده لفظا فواضح ، وأما بعده معنى بل عدم صحته فلأن المجازية عند العرف واللغة لا يكون منافيا لمطلق التداول في عرف اهل الميزان بل ينافي التداول الحقيقي ، فلا يصح الاستدراك.

وإن كان استدراكا عن قوله «بل هو حقيقة فى عرفهم» يصح لفظا ومعنى ، إلا أنه يبقى قوله «وإن كان متداولا» بلا استدراك.

ولا يخفى عدم صحته وسلاسته ، فحق العبارة أن يقول : وان كان متداولا على وجه الحقيقة في عرفهم إلا أنه مجاز بحسب العرف العام واللغة كما هو واضح. وأما علاقة التجوز بحسبها فهي علاقة العموم والخصوص ، حيث أنه استعمل العلم الموضوع للادراك التصديقي وهو الخاص في مطلق الادراك وهو العالم.

قوله «قده» : كمجازية إطلاقه ـ الخ.

إن كان المطلق عليه والمستعمل فيه خصوص الاعتقاد الظني فالمجاز مجاز استعاري علاقته المشابهة ، إذ الاعتقاد الظني مشابه للاعتقاد الجزمي في كونه راجحا ، وان كان المطلق عليه مطلق الاعتقاد فالمجاز مجاز إرسالي وعلاقته العموم والخصوص ، حيث استعمل اللفظ الموضوع للخاص وهو الاعتقاد الجزمي في العام وهو مطلق الاعتقاد.

قوله «قده» : وهو الظاهر.

ما استظهر ـ قدس‌سره ـ بالنسبة الى انتفاء الأخير وهو المطابقة لو سلم بتقريب : ان العلم الغير المطابق للواقع ليس بعلم ، إذ العلم هو

١٥

الانكشاف وليس فيه انكشاف أصلا إذ ليس فيه منكشف بل هو جهل مركب ، فبصحة السلب يعلم أن لفظ «العلم» مجاز في غير المطابق ، إلّا انه غير مسلم بالنسبة الى انتهاء الثابت ، اذ لا ريب في انه لا يتبادر من لفظ العلم العلم الذي لا يزول به تشكيك المشكك ويكون ثابتا حتى يكون علامة لكون اللفظ مجازا في غير الثابت ، حيث أن تبادر الغير علامة المجازية. ولا شبهة في انه قلما يتفق في النظريات علم لا يمكن زواله بالتشكيك ، فيلزم أن لا يكون غالب العلوم علما حقيقة.

ولا يذهب عليك أنه بناء على المجازية في الغير الثابت والغير المطابق تكون العلاقة علاقة العموم والخصوص ، حيث ان لفظ العلم موضوع لخصوص المطابق الثابت ، فاستعمل في الأعم ـ فافهم.

قوله «قده» : وهي الهيئة الراسخة ـ الخ.

قد سلف منا أن الهيئة في مصطلح المشائين هو العرض في لسان الاشراقيين ، والمراد منها هو العرض الحاصل للنفس الذي يسمى بالكيف النفساني ، ومراتبه الكيفيات النفسانية الأربع : «الأولى» الخطرة وهي التي تخطر بالبال وتذهب كالبرق. «والثانية» الحالة وهي التي تحل في النفس ولا تذهب بسرعة إلا انه يسهل زوالها. «والثالثة» الملكة وهي التي تحل في النفس وترسخ فيها بحيث يعسر زوالها. «والرابعة» الاستقامة وهي التي تكون حالة فى النفس راسخة فيها بحيث يمتنع زوالها.

والمصنف «قده» فسر الملكة بتفاسير ثلاثة : «الأول» الهيئة الراسخة الناشئة عن الممارسة فيما أضيف اليه الملكة ، مثلا ملكة الفقه كيف نفساني وهيئة ترسخ في النفس ويكون رسوخها ناشئا عن الممارسة

١٦

فى الفقه الذي تضاف اليه الملكة فيقال ملكة الفقه مثلا. «والثاني» الهيئة الراسخة الناشئة وان لم يكن رسوخها ناشئا عن الممارسة فيما أضيف اليه ، وهو المعني بقوله : مطلقا. «والثالث» مطلق التهيؤ أي وان لم يكن راسخا ، فيكون قوله «مطلق التهيؤ» معطوفا على قوله «الهيئة الراسخة».

ولا يذهب عليك أنه إن كان المراد بالتهيؤ هو تهيؤ النفس بتلك الهيئة وتصورها بتلك الصورة. وبعبارة اخرى كون تلك الهيئة والصورة حالة فيها حاصلة فلا ريب في فساده ، وإن أريد الحالة مقابل الملكة لا أنها هي هي ـ كما هو مقتضى التحديد والتفسير وان كان المراد به القوة والاستعداد والقابلية كما سيصرح به فيما سيأتي ـ فهو أوضح فسادا.

ولا ريب في أن مجرد القابلية ليست ملكة ، وسيجيء بيان منشأ المغالطة إن شاء الله تعالى.

قوله «قده» : بالغلبة أو النقل ...

أى بالوضع التخصصي التعيني أو الوضع التخصصي التعييني كما هو ظاهر يحتمل رجوعه الى النقل ، يعني الظاهر كون العلم حقيقة في الملكة على وجه النقل والوضع التعييني ، لكن ما استظهره غير ظاهر بل ممنوع ، بل الظاهر بل المقطوع حصول الوضع التعيني.

ويحتمل رجوعه الى قوله «لكنه حقيقة» يعني أن الظاهر حصول الحقيقة والوضع ، فيكون ما استظهره حقا ، إلا أنه لا يخفى ما في هذا الاحتمال من البعد.

١٧

قوله «قده» : وإطلاقه عليه مبنى ـ الخ.

يحتمل أن يكون مراده أن اطلاقه على وجه الحقيقة مبني على اخذه بمعنى الإدراك. بتقريب : ان لفظ «العلم» لم يوضع لخصوص التصور حتى يكون إطلاقه عليه على وجه الحقيقة ، بل وضع بحسب العرف الخاص الميزاني لمطلق الإدراك ، فيكون إطلاقه على التصور حقيقة اذا كان من باب الإطلاق والانطباق. ولكن فيه : ان الغرض ليس تعدد خصوص المعاني الحقيقية للعلم ، والشاهد عليه ذكره «قده» في اطلاقات العلم اطلاقه على المسائل مع تردده «قده» كما سيجيء في كون الإطلاق على وجه الحقيقة أو المجاز.

ويحتمل أن يكون مراده أن مطلق إطلاقه على التصور مبني على أخذه بمعنى الإدراك. والتقريب هو : ان التصور لا يمكن أن يكون معنى مجازيا للعلم بمعنى التصديق ، لعدم العلاقة ، فبقي أن يكون مجازا له بمعنى الإدراك الذي هو موضوع له بحسب العرف الخاص الميزاني ، فيكون استعماله في خصوص التصور مجازا لتحقق علاقة العموم والخصوص. ولكن فيه :

ان التجوز بالنسبة الى العلم بمعنى التصديق ممكن لتحقق علاقة المشابهة ، حيث أن التصور يشابه التصديق في كونه انكشافا ، فيكون استعمال اللفظ الموضوع للتصديق في التصور استعارة ـ فافهم.

قوله «قده» : ولو بالقوة.

بيانه هو ان مسائل كل علم هي قضايا واقعية أو محمولات منتسبة الى موضوعاتها بحسب الواقع وان لم يعلمها عالم. مثلا : الفاعل مرفوع بحسب الواقع وان لم يدركها أحد. فمسائل كل علم من شأنها أن تصير

١٨

معلومة ، فتكون معلومات بالقوة ، فيكون اطلاق المعلوم عليها من باب علاقة الأول.

ولا يخفى أن هذا يصير من باب سبك المجاز من المجاز ، حيث انه أطلق العلم على المعلوم ثم اطلق المعلوم على ذات المعلوم وهو المعلوم بالقوة تأمل تنل.

قوله : والظاهر أن هذا المعنى ... الخ.

يعنى أن اطلاق العلم على التصديق بالاعتبار الأخير ـ أي المنع من النقيض ـ ثابت بحسب العرف واللغة ، واستعمال الأحكام في التصديقات المانعة من النقيض شائع في العلوم ولا سيما علم الميزان. ولكن الميزانيين كثيرا يستعملون الأحكام في التصديق بالمعنى الأعم ، أي وإن لم يكن مانعا من النقيض.

قوله «قده» : بعلاقة المجاورة أو الحلول.

بيانه هو أنه لا ريب في أن الإذعان والتصديق متعلق بالنسب الحكمية وحالّ فيها ، فتكون العلاقة علاقة الحلول ، وأما اطلاق الاحكام على المسائل فان أريد بالمسائل المحمولات المنتسبة فلا ريب في أن الانتساب قيد خارج مجاور للمحمولات ويكون ذلك الانتساب محلا للاذعان والتصديق فلا جرم تكون الاحكام بمعنى التصديقات التي هي حالة في الانتساب الذي هو مجاور للمسائل مجاورة لها ، فتكون العلاقة علاقة المجاورة ، وان كان المراد بالمسائل القضايا فتكون العلاقة علاقة الجزء والكل.

قوله «قده» : ان اعتبرت من حيث انتسابها ـ الخ.

اذ من الواضح انه لو لم يعتبر انتساب الوجوب الى شيء بل علم

١٩

الوجوب من غير انتساب لم يكن فقها ، وهو واضح.

قوله «قده» : ولا يصح حملها حينئذ على التصديقات.

مقصوده ـ قدس‌سره ـ أن الفقه هو التصديقات الشرعية الحاصلة للمستنبط ، وأما الإدراك المتعلق بتلك التصديقات فليس بفقه.

وبعبارة أخرى : الفقه هو العلم البسيط دون العلم المركب ، وهو العلم بالعلم ، اذ لا ريب في انه اذا علم انسان الاحكام الشرعية المعهودة فهو فقيه سواء التفت الى علم أو لم يلتفت ، وهذا واضح.

نعم اذا أريد من الأحكام تصديقات الشارع لا تصديقات المستنبط صح ، إذ الفقه بالحقيقة هو العلم بتصديقات الشارع. إلا أن هذا الحمل مع بعده ـ حيث أن الظاهر من الأحكام بمعنى التصديقات هو تصديقات المستنبط ـ لا يختص بمن يرى صحة التصديقات للشارع ، بل هذا الحمل لا بد منه لمن يرى صحة التصديقات ومن لم يرها ، لأن هذا الحد للفقه مشترك بين الكل ولا بد له من معنى يصح على مذاق الكل ، وهذا الحمل غير صحيح على مذاق البعض.

بيان ذلك : إن العلم على قسمين : حضوري ، وحصولي. والعلم الحضوري هو علم الشىء بذاته وعلم العلة بمعلوله وعلم الفاني بالمفنى فيه ، والعلم الحصولي هو العلم بما عدا هذه الأمور. ولا بد في العلم الحصولي من حصول صورة زائدة في ذات العالم ، بخلاف العلم الحضوري حيث انه لا يحتاج الى ارتسام صورة ومئونة زائدة ، ولا ريب فى أن المقسم للتصور والتصديق هو العلم الحصولي الارتسامي.

قال شارح منطق حكمة الإشراق : ان العلم الذي هو مورد القسمة الى التصور والتصديق فى فواتح كتب المنطق هو العلم المتجدد الذي لا يكفي

٢٠