موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٧

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٧

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٥٢

فقال رجل : والله لا يقول ذلك أحد إلاّ ابرنا عترته ، فقال عليه‌السلام :

« اذكر الله ، وأنشد أن يقتل منّي إلاّ قاتلي » (١).

٣ ـ روى أبو الطفيل قال : لمّا دعا عليّ الناس إلى البيعة أتاه عبد الرحمن بن ملجم المرادي مرّتين أو ثلاثا ، ثمّ قال : « أين أشقاها؟ أما والّذي نفسي بيده لتخضبنّ هذه من هذه » ، أي لحيته من دم رأسه (٢).

٤ ـ عن ابن الطفيل قال : شهدت جنازة أبي بكر يوم مات ، وشهدت عمر حين بويع ، وعلي عليه‌السلام جالس ناحية إذ أقبل غلام يهودي عليه ثياب حسان وهو من ولد هارون حتى قام على رأس عمر.

فقال : يا أمير المؤمنين ، أنت أعلم هذه الامّة بكتابهم وأمر نبيّهم.

قال : فطأطأ عمر رأسه.

فقال له الغلام : إيّاك أعني ، وأعاد عليه القول.

فقال له عمر : ما ذاك؟

قال : إنّي جئتك مرتادا لنفسي ، شاكّا في ديني.

فقال : دونك هذا الشاب.

قال : ومن هذا الشاب؟

قال : عليّ بن أبي طالب ابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو أبو الحسن والحسين وزوج فاطمة بنت رسول الله ، فأقبل اليهودي على عليّ بن أبي طالب فقال :

أكذلك أنت؟

قال : « نعم ».

__________________

(١) اسد الغابة ٤ : ٣٤.

(٢) المحن : ٩٦.

٨١

قال : فإنّي اريد أن أسألك عن ثلاثة وثلاثة وواحدة ـ إلى أن قال ـ : فأخبرني عن الواحدة ، فأخبرني عن وصيّ محمّد كم يعيش من بعده؟ وهل يموت أو يقتل؟

قال : « يا هارونيّ ، يعيش بعده ثلاثين سنة لا يزيد يوما ولا ينقص يوما ، ثمّ يضرب ضربة هاهنا ـ يعني قرنه ـ فتخضب هذه من هذه ».

قال : فصاح الهاروني ... وهو يقول : أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له (١).

٥ ـ أعلن الإمام عن شهادته وشهادة سبطي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحسن والحسين ، قال :

« أما والله لاقتلنّ أنا وابناي هذان ـ وأشار إلى الحسن والحسين ـ وليبعثنّ الله رجلا من ولدى آخر الزّمان يطالب بدمائنا ، وليغيبنّ عنهم ، تميّزا لأهل الضّلالة حتّى يقول الجاهل : ما لله في آل محمّد حاجة » (٢).

٦ ـ يقول محمّد بن سيرين : « إن كان أحد يعلم متى أجله ، فإنّ عليّ بن أبي طالب كان يعلم متى أجله ، قال العباس بن ميمون : فحدّثت به ابن عائشة فقال : أنت تعلم يا ابن أخي أنّه قاتل يوم الجمل فلم يتكلّم ، ويوم صفّين فلم يتكلّم ، ولقد لقي ليلة الهرير ما لقي فلم يتخوّف ، ولم ينطق بشيء ، فلمّا رجع إلى الكوفة بعد قتله الخوارج قال :

ألا ينبعث أشقاها ، ليخضبنّ هذه من هذه » (٣).

وتحقّق ما أخبر به الإمام ، فقد استشهد في بيت الله الحرام في شهر رمضان ، وذكر الله بين شفتيه ، فقد اغتاله عبد الرحمن بن ملجم المرادي أشقى الأوّلين

__________________

(١) فرائد السمطين ١ : ٣٥٤.

(٢) بحار الأنوار ٥١ : ١١٢.

(٣) ذيل الأمالي والنوادر ٣ : ١٧٠.

٨٢

والآخرين ، واستشهد ولده الزكي ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد اغتاله بالسمّ ابن هند ، واستشهد ولده الإمام الحسين عليه‌السلام بصورة مروعة وجرت عليه من المآسي والأهوال ما لا يوصف.

هذه بعض الأحاديث التي أعلن الإمام فيها بشهادته ، وأثرت عنه بهذا المضمون كوكبة اخرى من الأحاديث ، منها :

٨٣

ما يجري على الحجر الأسود

في خطبة له عليه‌السلام قال ـ وهو يشير إلى السارية التي يستند إليها في مسجد الكوفة ـ :

« كأنّي بالحجر الأسود منصوبا هاهنا ، ويحهم! إنّ فضيلته ليست في نفسه ، بل في موضعه واسسه ، يمكث هاهنا برهة ثمّ هاهنا برهة ـ وأشار إلى البحرين ـ ثمّ يعود إلى مأواه وأمّ مثواه ».

قال ابن أبي الحديد : ووقع الأمر بموجب ما أخبر به عليه‌السلام (١).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١٠ : ١٤.

٨٤

إخباره عن شهداء فخّ

أخبر الإمام عليه‌السلام عن السادة العلويّين الذين استشهدوا في واقعة فخّ دفاعا عن حقّ المظلومين والمضطهدين ، وكانت شهادتهم مروعة كشهادة سيّدهم أبي الأحرار الإمام الحسين عليه‌السلام ، فقد اقترف الطاغية الدنس الهادي العباسي معهم من الجرائم ما تصدّع من هولها الجبال ، وقد قال الإمام عليه‌السلام في عظيم شأنهم :

« هم خير أهل الأرض » (١).

__________________

(١) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة ٧ : ٨٣.

٨٥

إخباره عن شهادة ذي النفس الزكية

من المغيّبات التي أخبر عنها الإمام عليه‌السلام أنّه أخبر عن شهادة العلوي الثائر العظيم ذي النفس الزكيّة ، وأنّه يستشهد بالمدينة عند أحجار الزيت (١) ، فقد استشهد هذا العلوي على يد السفّاك المنصور الدوانيقيّ (٢).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٧ : ٢١٧.

(٢) عرضنا بصورة موضوعية عن كيفيّة شهادته في كتابنا : حياة الإمام موسى بن جعفر عليهما‌السلام.

٨٦

إخباره عن شهادة إبراهيم

أخبر الإمام عليه‌السلام عن شهادة العلوي المجاهد العظيم إبراهيم بن عبد الله بن الحسن الذي أراد هو وأخوه أن يقيما حكم القرآن ، وينقذا المسلمين من الطغمة العباسية .. فقد ثارا على أبي جعفر المنصور الذي أغرق البلاد بالظلم والجور ونهب ثروات المسلمين.

قال عليه‌السلام في شأنه :

« يقتل بعد أن يظهر ، ويقهر بعد أن يقهر ، يأتيه سهم غرب ـ أي لا يعرف راميه ـ تكون فيه منيّته ، فيا بؤسا للرامي ، شلّت يداه ووهن عضده » (١).

ونعرض ـ بإيجاز ـ إلى قصّة هذا العلوي المجاهد الذي ثار على أقذر حاكم عرفه التاريخ وهو الدوانيقي ، لقد أعلن إبراهيم ثورته الخالدة على الدوانيقي بعد مقتل أخيه محمّد ، وقد رثاه وهو على المنبر بقوله :

سابكيك بالبيض الرقاق وبالقنا

فإنّ بهما ما يدرك الطالب الوترا

وإنّا اناس لا تفيض دموعنا

على هالك منّا ولو قصم الظهرا

ولست كمن يبكي أخاه بعبرة

يعصرها من ماء مقلته عصرا

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٧ : ٤٨.

٨٧

ولكن أشفي فؤادي بغارة

ألهب في قطري كتائبها جمرا (١)

وزحف إبراهيم بجيوشه صوب الكوفة لاحتلالها ، وكانت مقرّا للسفّاك المنصور ، فانهزم جيش الطاغية شرّ هزيمة وجعل يقول لوزيره الربيع متعرّضا بما أخبر به الإمام الصادق عليه‌السلام من استيلاء العبّاسيّين على الحكم قائلا :

أين قول صادقهم؟ وكيف لم ينلها أبناؤنا؟ فأين امارة الصبيان؟

وتحقّق ما تنبأ به الإمام الصادق عليه‌السلام ، وما أخبر به جدّه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام من قبل ، فقد كرّت جيوش المنصور بعد هزيمتها بسبب نهر لقيها فلم تقدر على اجتيازه ، فعادوا بأجمعهم ، وكان أصحاب إبراهيم قد مخروا الماء ليكون قتالهم من وجه واحد ، فلما انهزموا منعهم الماء من الفرار ، وثبت إبراهيم في نفر من أصحابه فقاتلهم حميد بن قحطبة ، وجاء سهم غادر فأصاب حلق إبراهيم فقضى عليه ، وقال لأصحابه : أنزلوني ، فأنزلوه عن مركبه وهو يقول :

« وكان أمر الله قدرا مقدورا » ، أردنا أمرا وأراد الله غيره (٢) ، ثمّ لفظ أنفاسه الأخيرة. وانطوت بذلك أروع صفحة من صفحات الجهاد الإسلامي المقدّس ، فقد آلت الخلافة إلى غادر ماكر بخيل ، فإنّا لله ولا حول ولا قوّة إلاّ به.

__________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر عليهما‌السلام ١ : ٤٠٦.

(٢) حياة الإمام موسى بن جعفر عليهما‌السلام ١ : ٤٠٨.

٨٨

تبشيره بالإمام المهدي عليه‌السلام

وتواترت الأخبار عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام بظهور المصلح الأعظم قائم آل محمّد صلوات الله عليه الذي يقيم اعوجاج الدين ، ويصلح ما افسد من امور الدنيا ، ويملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا. وهذه الطائفة من الأخبار التي أثرت عنه في حفيده المنتظر :

١ ـ قال الإمام عليه‌السلام لولده سيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين عليه‌السلام :

« التّاسع من ولدك يا حسين هو القائم بالحقّ ، المظهر للدّين ، الباسط للعدل ... ».

وانبرى الإمام الحسين قائلا :

« إنّ ذلك لكائن يا أمير المؤمنين؟ ».

« إي والّذي بعث محمّدا بالنّبوّة ، واصطفاه على جميع البريّة ، ولكن بعد غيبة وحيرة ، لا يثبت فيها على دينه إلاّ المخلصون ، المباشرون لروح اليقين الّذين أخذ الله ميثاقهم بولايتنا ، وكتب في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروح منه ... » (١).

حكى هذا الحديث حتميّة خروج المصلح الأعظم وأنّ خروجه يكون بعد

__________________

(١) بحار الأنوار ٥١ : ١١٠.

٨٩

غيبة وحيرة في نفوس الناس ، ولا يثبت على الإيمان به إلاّ المخلصون في دينهم.

٢ ـ روى أبو وائل قال : نظر عليّ عليه‌السلام إلى الحسين عليه‌السلام فقال :

« إنّ ابني هذا سيّد كما سمّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وسيخرج من صلبه رجل باسم نبيّكم يخرج على حين غفلة من النّاس ، وإماتة الحقّ ، وإظهار الجور ، ويفرح لخروجه أهل السّماء وسكّانها ، وهو رجل أجلى الجبين ، أقنى الأنف ، ضخم البطن ، أذيل الفخذين ، بخدّه الأيمن شامة ، أبلج الثّنايا ، يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما وجورا » (١).

حكى هذا الحديث ملامح الإمام المنتظر عليه‌السلام ، وامارات ظهوره وأنّه إذا ظهر يقيم الحقّ بجميع رحابه ومفاهيمه.

٣ ـ خطب الإمام عليه‌السلام خطبة جليلة كان من بنودها التعرّض إلى قائم آل محمّد عليه‌السلام كان منها :

« وليكوننّ من يخلفني في أهل بيتي رجل يأمر بأمر الله ، قويّ يحكم بحكم الله ، وذلك بعد زمان مكلح مفصح ، يشتدّ فيه البلاء ، وينقطع فيه الرّجاء ، ويقبل فيه الرّشاء » (٢).

أشار الإمام عليه‌السلام إلى وقت خروج المصلح الأعظم وأنّه في وقت يغرق الناس بالبلاء والفتن ، وإذا خرج سلام الله عليه فإنّه يبنى حكمه على الحقّ المحض والعدل الخالص.

٤ ـ روى الأصبغ بن نباتة أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قال :

« المهديّ منّا فى آخر الزّمان ، لم يكن في أمّة من الامم مهديّ

__________________

(١) بحار الأنوار ٥١ : ١١٠.

(٢) عقد الدرر : ١٨٢ ، الباب الثالث ـ الإمام المهدي.

٩٠

ينتظر غيره » (١).

إنّ قائم آل محمّد من دوحة النبوّة والإمامة ، وليس له شبيه يماثله في جميع شعوب العالم وامم الأرض ، وهو المنتظر لإقامة الحقّ ، والقضاء على المناهج الفاسدة التي لا بصيص فيها من نور العدل.

٥ ـ قال عليه‌السلام :

« سيأتي الله بقوم يحبّهم الله ويحبّونه ، ويملك من بينهم غريب وهو المهديّ ، فيملك بلاد المسلمين بأمان ، ويصفو له الزّمان ، ويسمع كلامه ويطيعه الشّيوخ والفتيان ، ويملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا » (٢).

حكى هذا الحديث عن سعة ملك الإمام عليه‌السلام ، وإذعان الناس لحكمه ، وأنّه يشيع فيهم الأمن والرخاء والعدل.

٦ ـ روى الأصبغ بن نباتة ، قال : أتيت الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فوجدته مفكّرا ينكت الأرض ، فقلت له :

يا أمير المؤمنين ، ما لي أراك مفكّرا تنك في الأرض أرغبة فيها؟

فأجابه الإمام :

« لا والله ما رغبت فيها ـ أي في الخلافة ـ ولا في الدّنيا يوما قطّ ، ولكنّي فكّرت في مولود يكون من ظهري الحادي عشر من ولدي هو المهديّ يملأها عدلا ، كما ملئت جورا وظلما تكون له حيرة وغيبة يضلّ فيها أقوام ، ويهتدي فيها آخرون ».

وانبرى الأصبغ يطلب المزيد من الايضاح قائلا :

__________________

(١) حياة الإمام محمّد المهدي : ١٨٣.

(٢) ينابيع المودّة : ٤١٦.

٩١

يا أمير المؤمنين ، إنّ هذا لكائن؟

« نعم ، إنّه مخلوق ، وأنّى لك بالعلم بهذا الأمر ... يا أصبغ ، اولئك خيار هذه الأمّة مع أبرار هذه العترة ».

سارع الأصبغ قائلا : ما يكون بعد ذلك؟

« يفعل الله ما يشاء ، فإنّ له إرادات وغايات ونهايات » (١).

إنّ ظهور المصلح الأعظم من الامور الحتمية التي لا يخالجها شكّ ولا ريب ، فإنّ ظهوره من الألطاف التي يخصّ الله تعالى بها عباده لإنقاذهم من الحياة البائسة الآثمة ، ويعيد لهم حكم الإسلام ، ودوره المشرق في إصلاح المجتمع وتطويره.

وعلى أي حال فقد أثرت عن إمام المتّقين ووصيّ رسول ربّ العالمين أحاديث كثيرة تبشّر بظهور الإمام المهدي عليه‌السلام ، وأنّه يملأ الدنيا قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.

__________________

(١) بحار الأنوار ٥١ : ١١٨.

٩٢

مع أعشى باهلة

كان الإمام عليه‌السلام على المنبر يخطب ، ويذكر الملاحم التي ستجري على مسرح الحياة ، فقام إليه أعشى باهلة ، وكان غلاما فأنكر عليه مقالته ، وقال له : ما أشبه هذا الحديث بحديث خرافة ، فرمقه الإمام بطرفه وقال له :

« إن كنت آثما فيما قلت رماك الله بغلام ثقيف ».

وانبرى إليه رجال فسألوه عن غلام ثقيف من هو؟ فقال عليه‌السلام :

« غلام يملك بلدتكم هذه لا يترك لله حرمة إلاّ انتهكها ، ويضرب عنق هذا الغلام بالسّيف ... ».

كم يملك يا أمير المؤمنين؟

« عشرين عاما ... ».

وسألوه أنّه يقتل أو يموت حتف أنفه ، فأجابهم أنّه يموت حتف أنفه ، قال إسماعيل بن رجاء : فو الله لقد رأيت بعيني أعشى باهلة قد احضر من جملة الأسرى من جيش عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث بين يدي الحجّاج فقرّعه ووبّخه ، واستنشده شعره الذي كان يحرّض فيه على حرب الحجّاج فأمر بضرب عنقه (١).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٢ : ٢٨٩.

٩٣

مع جندب الأزدي

شهد جندب بن عبد الله الأزدي مع الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام حرب الجمل وصفّين ، وكان على يقين لا يخامره شكّ بضلالة من حاربهم الإمام ، فلمّا كانت واقعة النهروان داخله شك وقال في دخائل نفسه : قراؤنا وخيارنا نقتلهم إنّ هذا لأمر عظيم! وخرج غدوة يمشي ، ومعه أداوة ، وقد نصب له ترسا ليستظلّ به من حرارة الشمس ، فاجتاز عليه‌السلام وقال له :

« يا أخا الأزد ، أمعك طهور؟ ».

نعم.

فناوله الإداوة ، ومضى الإمام بعيدا بحيث لا يراه أحد ثمّ أقبل وقد تطهّر فجلس في ظلّ الترس ، وجاء فارس يريد الإمام عليه‌السلام ، فأمره بإحضاره ، فلمّا مثل عنده قال له : يا أمير المؤمنين ، قد أقبل القوم وقطعوا النهر ...

فردّ الإمام عليه بلا تردّد قائلا :

« كلاّ ما عبروا ... ».

بلى والله عبروا.

« كلاّ ... ».

وأقبل شخص آخر صوب الإمام ، فقال له :

٩٤

يا أمير المؤمنين ، قد عبر القوم ...

« كلاّ ما عبروا ... ».

وراح الرجل يقسم بالله على ذلك قائلا :

والله ما جئتك حتى رأيت الرايات في ذلك الجانب والأثقال.

فردّ عليه الإمام بعنف :

« والله ما فعلوا ، وإنّه ـ أي قبل النهر ـ لمصرعهم ، ومهراق دمائهم ... ».

وقد كان الرجلان عينين للخوارج ، أرسلا للإمام لبعض الأغراض العسكرية حتى يزحف لهم جند الإمام.

ونهض الإمام عليه‌السلام ومعه الأزدي ، فقال في قرارة نفسه الحمد لله الذي بصرني هذا الرجل ، وعرفني أمره ، فهو أحد رجلين : أمّا رجل كذّاب جريء ، أو على بيّنة من ربّه ، وعهد نبيّه ، اللهمّ إنّي أعطيك عهدا تسألني عنه يوم القيامة ، إن أنا وجدت القوم قد عبروا أن أكون أوّل من يقاتله ، وأوّل من يطعن في عينه بالرمح ، وإن كان القوم لم يعبروا ، أن أقيم معه على المناجزة والقتال ، فدفعنا إلى الصفوف ، فوجدنا رايات القوم وأثقالهم كما هي :

وأقبل الإمام فأخذ بقفاي وقال يحكي ما أضمره في نفسه :

« يا أخا الأزد ، أتبيّن لك الأمر؟ ».

أجل يا أمير المؤمنين!!

« شأنك بعدوّك ... ».

وانضم في سلك الجيش ، وأخذ يقاتل الخوارج على بصيرة من أمره (١).

__________________

(١) بحار الأنوار ٤١ : ١٨٤ ـ ١٨٥.

٩٥

مع المبايعين للضبّ

روى الثقة الأمين الأصبغ بن نباتة ، قال : أمرنا الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام بالمسير إلى المدائن ، فسرنا يوم الأحد ، وتخلّف عمرو بن حريث ـ وهو من رءوس المنافقين ـ ومعه سبعة من أصحابه ، فخرجوا للتنزّه في ( الخورنق ) وبينما هم يتغدّون إذ خرج عليهم ضبّ ، فصادوه ، فأخذ عمرو بن حريث فنصب كفّه ، وقال :

بايعوا هذا أمير المؤمنين ، فبايعه السبعة وعمرو ثامنهم ، ثمّ ارتحلوا فقدموا المدائن ، وكان الإمام يخطب ، فلمّا نظر إليهم قال :

« يا أيّها النّاس ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسرّ إليّ ألف حديث ... وإنّي سمعت الله تعالى في كتابه يقول : ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) ، وإنّي اقسم لكم بالله تعالى ، ليبعثنّ يوم القيامة ثمانية نفر يدعون بإمامهم ، وهو ضبّ ، ولو شئت أن اسمّيهم لفعلت ».

وذاب ابن حريث وارتعدت أوصاله من هذا النبأ (١).

__________________

(١) بحار الأنوار ٤١ : ٢٨٦ ـ ٢٨٧.

٩٦

مع ذي الثدية

ذو الثدية هو الخويصر التميمي ، حرقوص بن زهير المعروف بذي الثدية ، من رءوس المنافقين والمارقين من الإسلام ، وهو الذي قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما كان يقسّم المال أعدل ، فغضب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال :

« ويلك من يعدل إذا لم أعدل! ».

وروى أنس قال : كان في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل يعجبنا تعبّده واجتهاده ، فذكرناه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسمه فلم يعرفه ، فبينما نحن نذكره إذ طلع الرجل علينا فقلنا هو هذا ، فقال :

« إنّكم لتخبروني عن رجل أنّ في وجهه لسفعة من الشّيطان ».

فأقبل حتى وقف عليهم ولم يسلّم ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« انشدك الله ، هل قلت : حتّى وقفت على المجلس ، ما في القوم أحد أفضل منّي أو خيرش؟ ... ».

اللهمّ نعم.

ثمّ مضى يصلّي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« من يقتل الرّجل؟ »

قال أبو بكر : أنا فدخل عليه فوجده يصلّي فقال : سبحان الله!! أأقتل رجلا

٩٧

يصلّي ، وقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قتل المصلّين ، وقفل راجعا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له :

« ما فعلت؟ ».

قال : كرهت أن أقتله وهو يصلّي ، وقد نهيت عن قتل المصلّين ، فندب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه ثانيا ، فانبرى عمر وقال : أنا فمضى إليه فوجده واضعا جبهته لله فكره أن يقتله ، فرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقال له : « مهيم؟ » (١) قال عمر : وجدته واضعا جبهته لله فكرهت أن أقتله ، فندب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى قتله ، فانبرى إليه الإمام عليه‌السلام فوجده قد خرج ، فأقبل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأخبره بخروجه ، فقال :

« لو قتل ما اختلف من أمّتي رجلان » (٢).

لقد انطوت نفس ذي الثدية على الكفر ، وكان إسلامه ظاهريا ، وقد تمرّد على الإمام عليه‌السلام الذي هو نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسبما دلّت عليه آية المباهلة ، فقد أعلن العصيان المسلّح على حكومة الإمام عليه‌السلام في حرب النهروان ، وهو من أعلام الخوارج ، ولمّا انتهت الحرب ، وسقطوا قتلى في أرض المعركة طلب الإمام من أصحابه أن يلتمسوا له ذا الثدية ، فبحثوا عنه فلم يجدوه فأخبروا الإمام بذلك ، فأمرهم ثانيا بالبحث عنه قائلا :

« ما كذبت ولا كذّبت على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّه لناقص اليد ليس فيها عظم ، في طرفها حلمة مثل ثدي المرأة ، عليها خمس شعرات أو سبع ، رءوسها مقصعة ».

__________________

(١) كلمة استفهام معناها ما حالك أو ما حدث لك أو ما الخبر؟

(٢) النص والاجتهاد : ١١٨ ، الطبعة السابعة ، نقلا عن امّهات المصادر الإسلامية.

٩٨

وأمر الإمام بإحضار جثّته ، فلمّا مثلت أمامه كشفوا عن يده ، فإذا ليس له يد ، وإنّما على منكبه ثدي كثدي المرأة ، وعليه شعرات سود تمتدّ حتى تحاذي بطن يده الاخرى ، فإذا تركت عادت ، ولمّا رأى الإمام ذلك خرّ لله تعالى ساجدا (١).

لقد تحقّق ما أخبر به الإمام في شأن ذي الثدية وكان ذلك ممّا عهد به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه.

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣٨٥.

٩٩

إخباره بحكومة مروان وأولاده

واستشفّ الإمام عليه‌السلام من وراء الغيب أنّ مروان بن الحكم الوزغ ابن الوزغ سوف يلي الحكم مع أبنائه الأربعة وهم بنو عبد الملك : الوليد ، سليمان ، يزيد ، وهشام ، ولم يل الحكم من بني اميّة ولا من غيرهم اخوة إلاّ هؤلاء (١) ، وكان إعلان الإمام عليه‌السلام عن ذلك حينما القى القبض على مروان بعد انتهاء حرب الجمل ، وجيء به أسيرا ، وقد تشفّع به الإمامان الحسن والحسين عليهما‌السلام فقالا لأبيهما :

« يبايعك يا أمير المؤمنين ».

وزهد الإمام في بيعته قائلا :

« أو لم يبايعني بعد قتل عثمان؟ لا حاجة لي في بيعته! إنّها كفّ يهوديّة لو بايعني بكفّه لغدر بسبّته. أما إنّ له إمرة كلعقة الكلب أنفه ، وهو أبو الأكبش الأربعة ، وستلقى الأمّة منه ومن ولده يوما أحمر! » (٢).

وحكت هذه الكلمات ما يلي :

١ ـ إنّها ألمّت بنفسية مروان ، وحكت طباعه وميوله ، وكان من أبرزها الغدر والمكر ، وخبث السريرة ، فقد بايع الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد قتل عثمان بن

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٦ : ١٤٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٦ : ١٤٦.

١٠٠