موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٧

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٧

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٥٢

رضاع الطفل من ثدي امّه :

وأكّد الإمام عليه‌السلام على ضرورة رضاع الطفل من لبن امّه ، قال عليه‌السلام :

« ما من لبن يرضع به الصّبيّ أعظم بركة عليه من لبن امّه » (١).

وقد أثبت الطبّ أنّ رضاع الطفل من لبن امّه يعود عليه بالنفع العميم ، فإنّ اللبن من ثدي معقّم ، وفيه من التراكيب ما يتناسب مع سنّ الطفل ، وأمّا إطعام الطفل بغيره فإنّه يسبّب له الكثير من الأمراض.

وقد بحثنا عن ذلك بصورة مفصّلة ونافعة في كتابنا ( نظام الاسرة في الإسلام ) ، وبهذا العرض الموجز ننهي الحديث عمّا اثر عن الإمام عليه‌السلام في علم الطب.

١٠ ـ علم الجيولوجيا

من العلوم التي عرض عليه‌السلام لها علم الجيولوجيا وذلك في بعض خطبه وأحاديثه والتي منها :

١ ـ قال عليه‌السلام :

« وأنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال ، وأرساها على غير قرار ، وأقامها بغير قوائم ، ورفعها بغير دعائم ».

الأرض كبقيّة الكواكب قائمة بقدرة الله تعالى وعظيم أمره في الفضاء ، لا تستند إلى قائمة تعتمد عليها ، ومن المضحك الرواية المفتعلة أنّها قائمة على قرن ثور ، فإنّها قد وضعتها اللجان التي أقامها معاوية لافتعال الحديث.

__________________

(١) مستدرك نهج البلاغة : ١٧١.

٤١

٢ ـ قال عليه‌السلام :

« فطر الخلائق بقدرته ، ونشر الرّياح برحمته ، ووتّد بالصّخور ميدان أرضه » (١).

إنّ الجبال التي خلقها الله تعالى والتي هي من عجائب مخلوقاته قد جعلها أوتادا في الأرض من أن تميد بأهلها.

٣ ـ قال عليه‌السلام :

« وعدّل حركاتها ـ أي الأرض ـ بالرّاسيات من جلاميدها ، وذوات الشّناخيب (٢) الشّمّ من صياخيدها (٣) ، فسكنت من الميدان (٤) ... » (٥).

تحدّث عليه‌السلام عن الجبال وأنّها هي التي تمسك الأرض أن تميد بأهلها ، وبالاضافة لذلك فإنّ لها أهمّية بالغة فإنّها تحافظ على التربة ، وعلى سطح الأرض من الزوال والانتقال ، فإنّ سطح الأرض لو كان خاليا من الجبال لكان عرضة للتغيير المستمر.

١١ ـ علم الفلسفة

ومن العلوم التي وضع اصولها وقواعدها ، الفلسفة الإلهيّة ، وهو أوّل من تبحّر فيها وتكلّم وفقا لطريقة الاستدلال الحرّ والبرهان المنطقي ، وتعرّض لمسائل فلسفية لم يتعرّض لها فلاسفة العالم في وقته ، فاهتم بهذا الشأن اهتماما بالغا ، وحتى في

__________________

(١) نهج البلاغة ـ محمّد عبده : ٧.

(٢) الشناخيب : القمم.

(٣) الصياخيد : وهي الصخور الشديدة.

(٤) الميدان : الاضطراب.

(٥) المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة : ٣٥.

٤٢

أحلك ساعات الحرب ؛ إذ

أنّ اعرابيا قام إليه يوم الجمل فسأله :

يا أمير المؤمنين ، أتقول إنّ الله واحد.

فحمل الناس عليه وقالوا : يا اعرابي ، أما ترى ما في أمير المؤمنين من تقسم القلب.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

« دعوه فإنّ الّذي يريده الأعرابي هو الّذي نريده من القوم ».

ثمّ قال :

« إنّ القول في أنّ الله واحد على أربعة أقسام :

فوجهان لا يجوزان على الله عزّ وجلّ ، ووجهان يثبتان فيه.

فأمّا اللّذان لا يجوزان عليه :

فقول القائل : واحد يقصد به باب الأعداد ، فهذا لا يجوز لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، أما ترى أنّه كفر من قال : إنّه ثالث ثلاثة.

وقول القائل : هو واحد من النّاس ، يريد به النّوع من الجنس ، فهذا ما لا يجوز عليه لأنّه تشبيه وجلّ ربّنا عن ذلك وتعالى.

وأمّا الوجهان اللّذان يثبتان فيه :

فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبه ، كذلك ربّنا.

وقول القائل : إنّه عزّ وجلّ أحديّ المعنى ، يعنى به أنّه لا ينقسم في وجوه ولا عقل ولا وهم ، كذلك ربّنا عزّ وجلّ » (١).

__________________

(١) بحار الأنوار ٢ : ٦٥.

٤٣

حرمة تعلّم السحر :

حرّم الإمام علم السحر لأنّه يؤدّي إلى شيوع الضلال بين الناس ، ويدعو إلى التأخّر والانحطاط ، فقد أثر عنه أنّ :

« السّاحر كالكافر! والكافر في النّار ».

إنّ الإسلام يدعو إلى التطوّر والتقدّم في ميادين العلوم ، والسحر يقف حائلا دون تطوّر الحياة فلذا حرّمه الإمام.

حرمة تعلّم التنجيم :

أمّا علم النجوم فإن كان المراد من تعلّمه معرفة الأنواء الجوية فلا إشكال في جوازه ، وإن كان المراد منه ربط الأحداث بالنجوم ، وأنّها علّة مؤثّرة في تكوين الامور فهذا من الكفر ،

وقد نهى الإمام عليه‌السلام عنه. فقد انبرى إليه منجّم لمّا أراد السير إلى حرب الخوارج فقال له : إن سرت يا أمير المؤمنين في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك ، فقال عليه‌السلام له :

« أتزعم أنّك تهدي إلى السّاعة الّتي من سار فيها صرف عنه السّوء؟

وتخوّف من السّاعة الّتي من سار فيها حاق به الضّرّ؟ فمن صدّقك بهذا فقد كذّب القرآن ، واستغنى عن الاستعانة بالله في نيل المحبوب ودفع المكروه ».

ثمّ أقبل على الناس وقال :

« أيّها النّاس ، إيّاكم وتعلّم النّجوم ، إلاّ ما يهتدى به في برّ أو بحر ، فإنّها تدعو إلى الكهانة ، والمنجّم كالكاهن ، والكاهن كالسّاحر ، والسّاحر كالكافر! والكافر في النّار! » (١).

__________________

(١) المكاسب المحرّمة ٢ : ٢٧٩ ـ باب التنجيم.

٤٤

الملاحم والمغيّبات

الّتي اخبر عنها الإمام

٤٥
٤٦

أمّا الإخبار بالمغيّبات والملاحم التي تحقّقت بعد ذلك على مسرح الحياة فإنّها من مختصّات الأنبياء وأوصيائهم ؛ لأنّها تكون شاهد صدق على نبوّتهم ، وآية واضحة على رسالتهم ، وقد أخبر الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كثير من الامور التي ستتحقّق من بعده ، وفعلا قد تحقّقت ، وكان من بين ما أخبر به ما يلي :

١ ـ أنّه أخبر يوم الخندق بفتح الشام وفارس واليمن ، وتحقّق جميع ذلك في حياته وبعد وفاته ، فقد رف لواء الإسلام على هذه المناطق ، وارتفعت فيها كلمة التوحيد ، وأقبرت الأفكار الجاهلية وعاداتها.

٢ ـ أحاط وصيّه وباب مدينة علمه الإمام عليه‌السلام علما بشهادته ، أنّه يقتله شبيه عاقر ناقة صالح ، ولم تمض السنون حتى عمّمه المجرم الأثيم ابن ملجم بالسيف ، وهو ماثل بين يدي الله تعالى ، وذكره سبحانه بين شفتيه.

٣ ـ أخبر سيّدة نساء العالمين بضعته فاطمة الزهراء عليها‌السلام أنّها أوّل أهل بيته لحوقا به ، ولم تمض إلاّ أيام حتى التحقت به.

٤ ـ أخبر المسلمين بشهادة ولده وريحانته الإمام الحسين على صعيد كربلاء ، وفعلا فقد استشهد أبو الأحرار في كربلاء بأيدي الطغمة الحاكمة من بني اميّة.

٥ ـ أخبر نساءه بأن إحداهنّ تكون صاحبة الجمل الأدبب ، وتنبحها كلاب الحوأب ، يقتل عن يمينها ويسارها قتلى كثيرة ، وفعلا فقد خرجت عائشة على وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخيه ونفسه ، مطالبة بدم عثمان الذي أفتت بكفره ومروقه من

٤٧

الدين ، وقد نبحتها كلاب الحوأب في طريقها لاحتلال البصرة ، كما قتل من معسكرها ومعسكر الإمام خلق كثير.

٦ ـ أعلم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصحابي العظيم الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر عن شهادته على أيدي الفئة الباغية ، وأنّ آخر شرابه من الدنيا ضياح من لبن ، وفعلا فقد استشهد هذا العملاق بأيدي الفئة الباغية من جند معاوية ، وكان آخر شرابه من الدنيا ضياح من لبن سقته إحدى السيّدات في جيش الإمام عليه‌السلام.

٧ ـ أنّه أسرّ إلى أهل بيته أنّهم المستضعفون من بعده ، وقد جرى عليهم الظلم والاعتداء من بني اميّة وبني العباس ، وتجرّعوا من الغصص والنكبات ما لا نظير لها في فضاعتها ومرارتها ، فكانوا حقّا من المستضعفين ومن المعذّبين في الأرض.

وكثير من أمثال هذه الأحداث أخبر عنها الصادق الأمين ، وقد جرت كلّها كما أخبر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أدلى بكثير من الأحداث الجسام التي قالها إلى وصيّه وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وقبل التحدّث عن الملاحم والأحداث التي أخبر عنها قبل وقوعها نتعرّض إلى ما أثر عنه من سعة علومه ، وإحاطته الكاملة بما سيجري في الدنيا ، ولنستمع إلى ذلك :

١ ـ أنّه لمّا بايعه الناس بالخلافة خرج إلى الجامع النبوي معتمّا بعمامة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لابسا بردته ، منتعلا بنعله ، متقلّدا سيفه ، فارتقى المنبر وشبّك بين أصابعه فوضعها في أسفل بطنه ثمّ قال :

« يا معشر النّاس ، سلوني قبل أن تفقدوني ، هذا سفط العلم ، هذا لعاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا ما زقّني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زقّا زقّا.

سلوني فإنّ عندي علم الأوّلين والآخرين.

٤٨

أما والله لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التّوراة بتوراتهم حتّى تنطق التّوراة فتقول : صدق علي ما كذب ، لقد أفتاكم بما أنزل الله فيّ.

وأفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم حتّى ينطق الإنجيل فيقول : صدق عليّ ما كذب ، لقد أفتاكم بما أنزل الله فيّ.

وأفتيت أهل القرآن بقرآنهم حتّى ينطق القرآن فيقول : صدق عليّ ما كذب ، لقد أفتاكم بما أنزل الله فيّ ، وأنتم تتلون القرآن ليلا ونهارا ، فهل فيكم أحد يعلم بما أنزل فيه؟

ولو لا آية في كتاب الله عزّ وجلّ لأخبرتكم بما كان ، وبما هو كائن إلى يوم القيامة ، وهي قوله تعالى : ( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ).

ثمّ قال : سلوني قبل أن تفقدوني ، فو الّذي فلق الحبّة ، وبرأ النّسمة لو سألتموني عن آية آية في ليل انزلت أو في نهار ، مكّيّها ومدنيّها ، سفريّها وحضريّها ، ناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وتأويلها وتنزيلها لأخبرتكم ... » (١).

أرأيتم سعة معارفه وعلومه وما يحمله من كنوز قد حوت أسرار الكون ، ومن المؤسف أنّ هذا العملاق العظيم يقرن بأعضاء الشورى الذين لا يفقهون بعض ما يفقهه الإمام.

٢ ـ روى الأصبغ بن نباتة قال : خطبنا أمير المؤمنين عليه‌السلام على منبر الكوفة ، فحمد

__________________

(١) بحار الأنوار ١٠ : ١١٧ ـ ١١٨ ، وقريب منه في فرائد السمطين. مناقب الخوارزمي : ٩١.

٤٩

الله وأثنى عليه ثمّ قال :

« أيّها النّاس ، سلوني قبل أن تفقدوني ، فإنّ بين جوانحي علما جمّا » (١).

٣ ـ قال عليه‌السلام :

« فاسألوني قبل أن تفقدوني ، فو الّذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين السّاعة ، ولا عن فئة تهدي مائة وتضلّ مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها » (٢).

٤ ـ قال عليه‌السلام وهو على منبر الكوفة :

« سلوني قبل أن تفقدوني ، فأنا لا اسأل عن شيء دون العرش إلاّ أجبت عنه ، لا يقولها بعدي إلاّ مدّع أو كذّاب » (٣).

٥ ـ قال عليه‌السلام :

« أيّها النّاس ، سلوني قبل أن تفقدوني ، فلأنا بطرق السّماء أعلم منّي بطرق الأرض » (٤).

ومن المؤكّد أنّه لم يتفوّه أحد من الصحابة وغيرهم بمثل هذا الكلام كما يقول ابن عبد البر (٥).

__________________

(١) المصدر السابق ١٠ : ١٢١.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٢ : ٢٨٦. بحار الأنوار ١٠ : ١٢٦.

(٣) بحار الأنوار ١٠ : ١٢٨.

(٤) الاستيعاب ٣ : ٣٩.

(٥) الرياض النضرة : ١٩٨. الصواعق المحرقة : ٧٦. المناقب ـ الموفّق بن أحمد الخوارزمي : ٩١. فضائل الصحابة ـ ابن حنبل ٢ : ٦٤٦.

٥٠

على أي حال فقد وهب الله هذا الإمام العظيم من العلوم والمعارف والحكمة ما لا يحصى ، كما أحاطه علما بما سيجري في الكون من أحداث ، وقد أخبر عن بعضها ، وتحقّقت على مسرح الحياة ، وقد اصطلح العلماء على تسمية ما أخبر به من الأحداث بالملاحم ، كان منها ما يلي :

٥١

إخباره بقتل الحسن عليه‌السلام

عند ما اغتال ابن ملجم الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فغشى عليه ولده الحسن عليه‌السلام فأخذ يبكي على أباه مهما ساعدته الجفون ، فسقطت قطرات من دموعه على وجه الإمام فأفاق ، فلمّا رآه قال له مهدّئا روعه :

« يا بنيّ ، ما هذا البكاء؟ لا خوف ولا جزع على أبيك بعد اليوم. يا بنيّ ، لا تبك ، فأنت تقتل بالسّمّ ... » (١).

__________________

(١) حياة الإمام الحسن عليه‌السلام : ٥٧٣.

٥٢

إخباره بقتل الحسين عليه‌السلام

استشفّ الإمام عليه‌السلام من وراء الغيب بما يجري على ولده ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإمام الحسين عليه‌السلام من القتل والتنكيل ، فأشاع ذلك بين الناس ، كما أخبر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل ، وقد أدلى الإمام عليه‌السلام بذلك في كثير من المناسبات وهذه بعضها :

١ ـ روى عبد الله بن نجي عن أبيه أنّه سافر مع الإمام عليه‌السلام إلى صفّين ، وكان صاحب مطهرته ، فلمّا حاذى نينوى ، تألّم الإمام وفزع كأشدّ ما يكون الفزع ، ورفع صوته بأسى وحزن قائلا :

« صبرا أبا عبد الله ، صبرا بشطّ الفرات » ، وبهر عبد الله وانبرى قائلا :

من ذا أبو عبد الله؟

فأجابه الإمام بنبرات تقطر حزنا قائلا :

« دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم وعيناه تفيضان ، فقلت :

يا نبيّ الله ، هل أغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تفيضان؟

قال : قام من عندي جبريل فأخبرني أنّ أمّتي تقتل الحسين ابني.

ثمّ قال : هل لك أن اريك من تربته؟

قلت : نعم.

٥٣

فمدّ يده ، فقبض. فلمّا رأيتها لم أملك عينيّ أن فاضتا » (١).

٢ ـ روى هرثمة بن سليم قال : غزونا مع عليّ بن أبي طالب غزوة صفّين ، فلمّا نزلنا بكربلاء صلّى بنا صلاة ، فلمّا سلّم رفع إليه من تربتها شيئا فشمّها ، ثمّ قال :

« واها لك أيّتها التّربة ، ليحشرنّ منك قوم يدخلون الجنّة بغير حساب ».

وعجب هرثمة من حديث الإمام ، ولم يكن من الذاهبين إلى إمامته ، فلمّا رجع من صفّين حدّث زوجته جرداء بنت سمير بما سمعه من الإمام ، وكانت شيعة له فقالت له : دعنا منك أيّها الرجل فإنّ أمير المؤمنين لم يقل إلاّ حقّا ...

ولم تمض الأيام حتى بعث المجرم ابن زياد بجيوشه إلى كربلاء لحرب ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان هرثمة من جملة الخارجين لحربه ، فلمّا انتهى إلى كربلاء ورأى الحسين وأصحابه تذكّر قول الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فكره حربه ، وأقبل إلى الإمام الحسين عليه‌السلام فأخبره بما سمعه من أبيه فقال له الإمام :

« معنا أنت أم علينا؟ ».

ـ لا معك ولا عليك ، تركت أهلي وولدي ، وأخاف عليهم من ابن زياد ..

فنصحه الإمام قائلا :

« ولّ هاربا حتّى لا ترى لنا مقتلا ، فو الّذي نفس محمّد بيده لا يرى مقتلنا اليوم أحد ولا يغيثنا إلاّ أدخله الله النّار ... ».

وانهزم هرثمة وولّى هاربا ، ولم يشترك في حرب الإمام الحسين (٢).

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر ١٣ : ٥٧ ـ ٥٨. المعجم الكبير ـ الطبراني ، رواه في ترجمته الإمام الحسين عليه‌السلام ٣ : ١٠٦.

(٢) وقعة صفّين : ١٥٧. نهج البلاغة ٣ : ١٧٠.

٥٤

٣ ـ روى أبو جعفة قال : جاء عروة البارقي إلى سعيد بن وهب ، وأنا أسمع ، فقال : حديث حدّثنيه عن عليّ بن أبي طالب ، قال : نعم ، بعثني مخنف بن سليم إلى عليّ فأتيته بكربلاء فوجدته يشير بيده ، ويقول : « هاهنا ، هاهنا ».

فبادر إليه رجل فقال له : ما ذاك يا أمير المؤمنين؟

فقال عليه‌السلام : « ثقل آل محمّد ينزل هاهنا ، فويل لهم منكم ، وويل لكم منهم ».

وانبرى الرجل قائلا : ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟

فأجابه الإمام :

« ويل لهم منكم تقتلونهم ، وويل لكم منهم يدخلكم الله بقتلهم النّار » (١).

٤ ـ روى الحسن بن كثير عن أبيه أنّ عليّا أتى كربلاء فوقف بها ، فقيل له : يا أمير المؤمنين ، هذه كربلاء ...

فأجابه الإمام بأذى وأسى قائلا :

« ذات كرب وبلاء ... » ، ثمّ أومأ بيده إلى موضع منها ، فقال :

« هاهنا موضع رحالهم ـ أي خيمهم ـ » ، وأشار بيده إلى مكان آخر منها فقال :

« هاهنا مهراق دمائهم » (٢).

٥ ـ روى أبو حبرة قال : صحبت عليّا حتى أتى الكوفة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

« كيف أنتم إذا نزل بذرّيّة نبيّكم البلاء بين أظهركم؟ »

فأجابوه : إذا نبلى الله فيهم بلاء حسناً ...

__________________

(١) وقعة صفّين : ١٥٨.

(٢) نهج البلاغة ٣ : ١٦٩. وقعة صفّين : ١٥٨.

٥٥

وردّ عليهم الإمام مفنّدا لمزاعمهم قائلا :

« والّذي نفسي بيده لينزلنّ بين أظهركم ولتخرجنّ إليهم فلتقتلنّهم ».

ثمّ قال :

« هم أوردوه بالغرور وعرّدوا

أحبّوا نجاة لا نجاة ولا عذر » (١)

لقد رفع الكوفيّون آلاف الرسائل إلى سيّد الأباة وزعيم الأحرار الإمام الحسين عليه‌السلام لينقذهم من عنف الأمويّين وظلمهم فاستجاب لهم ، فلمّا حلّ في ديارهم اجتمعوا عليه فقتلوه مع السادة العلويّين من أبنائه واخوانه وأبناء عمومته ، ومعهم النخبة الصالحة من أشراف الدنيا من أصحابه ، ومثّلوا شرّ تمثيل بأجسامهم الطاهرة ، ورفعوا رءوسهم على الرماح هدية لابن مرجانة وسيّده يزيد ... فكانت مأساة مروعة لم يشهد لها مثيل في تأريخ البشرية.

٦ ـ روى أبو هرثمة قال : كنت مع عليّ بنهر كربلاء ، فمرّ بشجرة تحتها بعر غزلان فأخذ من التراب قبضة فشمّها ، ثمّ قال : « يحشر من هذا الظّهر سبعون ألفا يدخلون الجنّة بغير حساب » (٢).

٧ ـ روى الطبراني بسنده أنّ الإمام عليّ عليه‌السلام قال :

« ليقتلنّ الحسين ، وإنّي لأعرف التّربة الّتي يقتل فيها بين النّهرين » (٣).

٨ ـ روى ثابت عن سويد بن غفلة أنّ الإمام عليه‌السلام خطب ذات يوم فقام رجل من تحت منبره فقال له : يا أمير المؤمنين ، إنّي مررت بوادي القرى فوجدت خالد بن عرفطة قد مات ، فأستغفر له ...؟

__________________

(١) مجمع الزوائد ٩ : ١٩٠. المعجم الكبير ـ الطبراني ٣ : ١١٠ ، الرقم ٢٨٢٣.

(٢) مجمع الزوائد ٩ : ١٩١. المعجم الكبير ـ الطبراني ٣ : ١١٨ ، الرقم ٢٨٢٥.

(٣) مجمع الزوائد ٩ : ١٩٠. المعجم الكبير ـ الطبراني ٣ : ١١٧ ، الرقم ٢٨٢٤.

٥٦

فردّ عليه الإمام :

« مه إنّه لم يمت ، ولا يموت حتّى يقود جيش ضلالة ، صاحب لوائه حبيب بن حماز ... ».

فقام إليه رجل وقال : يا أمير المؤمنين ، أنا حبيب بن حماز ، وإنّي لك شيعة! وكرّر الإمام قوله : « أنت حبيب » فيجيب : نعم ، فقال عليه‌السلام :

« إي والله إنّك لحاملها ، ولتحملنّها ، ولتدخلنّ من هذا الباب » ، وأشار إلى باب الفيل ، وهو أحد أبواب مسجد الكوفة.

قال ثابت : والله ما مات حتى رأيت ابن زياد قد بعث عمر بن سعد إلى قتال الحسين ، وجعل خالد بن عرفطة على مقدّمة الجيش ، وحبيب بن حماز صاحب رايته ، فدخل بها من باب الفيل (١).

٩ ـ روى عبد السمين : أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يخطب :

« سلوني قبل أن تفقدوني ، فو الله ما تسألوني عن شيء مضى ، ولا شيء يكون إلاّ أنبأتكم به ».

قال : فقام إليه سعد بن أبي وقّاص وقال : يا أمير المؤمنين ، اخبرني كم في رأسي ولحيتي من شعرة؟

فقال : « والله لقد سألتني عن مسألة حدّثني خليلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّك ستسألني عنها وما في رأسك ولحيتك من شعرة إلاّ وفي أصلها شيطان جالس ، وإنّ في بيتك لسخلا يقتل الحسين ابني ... » ، وعمر يومئذ يدرج بين يدي أبيه (٢).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٢ : ٢٨٦.

(٢) كامل الزيارات : ٧٤.

٥٧

١٠ ـ خطب الإمام عليه‌السلام فكان من بنود خطابه :

« سلوني قبل أن تفقدوني ، فو الله لا تسألوني عن فئة تضلّ مائة ، أو تهدي مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها وسائقها ، ولو شئت لأخبرت كلّ واحد منكم بمخرجه ومدخله وجميع شأنه ».

فانبرى له الوغد الخبيث تميم بن اسامة ، فقال له ساخرا : كم في رأسي طاقة شعر؟

فرمقه الإمام بطرفه وقال له :

« أما والله إنّي لأعلم ذلك ، ولكن أين برهانه لو أخبرتك به ، ولقد أخبرتك بقيامك ، ومقالك ، وقيل لي : إنّ على كلّ شعرة من شعر رأسك ملكا يلعنك ، وشيطانا يستفزّك ، وآية ذلك أنّ في بيتك لسخلا يقتل ابن رسول الله ، ويحضّ على قتله ».

قال ابن أبي الحديد : « كان الأمر بموجب ما أخبر به عليه‌السلام كان ابنه حصين ـ وهو ابن تميم ـ يومئذ طفلا صغيرا يرضع اللبن ، ثمّ عاش إلى أن صار على شرطة عبيد الله بن زياد ، وأخرجه عبيد الله إلى عمر بن سعد يأمره بمناجزة الحسين عليه‌السلام ويتوعّده على لسانه إن أرجأ ذلك ، فبلغ ابن سعد بذلك ، فقتل عليه‌السلام صبيحة اليوم الذي ورد فيه الحصين بالرسالة في ليلته » (١).

١١ ـ قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام للبراء بن عازب :

« يا براء ، يقتل ابني الحسين وأنت حيّ لا تنصره؟ ».

فقال البراء : لا كان ذلك يا أمير المؤمنين.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١٠ : ١٤.

٥٨

ولم تمض الأيام حتى استشهد سيّد شباب أهل الجنّة بتلك القتلة المروعة التي أذابت القلوب ، وكان البراء حيّا ، فتذكّر مقالة الإمام ، وندم كأشدّ ما يكون من الندم ، وقال : أعظم بها حسرة إذ لم أشهده واقتل دونه (١).

١٢ ـ قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام :

« كأنّي بالقصور قد شيّدت حول قبر الحسين ، وكأنّي بالأسواق قد حفّت حول قبره ، ولا تذهب الأيّام واللّيالي حتّى يسار إليه من الآفاق ، وذلك بعد انقطاع بني مروان ... » (٢).

وتحقّق ما أخبر به الإمام عليه‌السلام ، فقد استشهد الإمام أبو الأحرار بأيدي العصابة الأموية المجرمة ، وقد جهدوا على طمس قبر الإمام عليه‌السلام وإخماد ذكره ، ولما انقرضت دولتهم وتمزّقت أشلاؤهم ظهر مرقد سيّد الشهداء عليه‌السلام كأعزّ مرقد في دنيا الإسلام ، تهفو إليه القلوب ، وتشدّ إليه الرحال من كلّ فجّ عميق ، فالسعيد الذي يحظى بزيارته ، ويلثم أعتاب مرقده وضريحه.

لقد أصبح مرقد أبي الأحرار رمزا للكرامة الإنسانية ومنارا مشرقا لكلّ تضحية تقوم على الشرف والكرامة ، سلام الله عليك يا أبا عبد الله وعلى أبنائك وأصحابك.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١٠ : ١٤.

(٢) مسند الإمام زيد : ٤٧.

٥٩

إخباره بعدد الجيش الذي جاء لنجدته

ولمّا أرسل الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى الكوفة ليستنفر أهلها ، ويستعين بهم في حرب الجمل ، قال عليه‌السلام لابن عبّاس :

« سوف يأتي ولدي الحسن هذا اليوم ومعه عشرة آلاف فارس وراجل ، ولا ينقص واحد ولا يزيد واحد ».

قال ابن عباس : فلمّا وصل الحسن بالجند لم تكن لي همّة إلاّ مسألة الكاتب عن عدد الجند فسألته عن ذلك فقال : عشرة آلاف فارس وراجل لا ينقص واحد ولا يزيد واحد ، فعلمت أنّ ذلك العلم من الأبواب التي علّمه بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

__________________

(١) بحار الأنوار ٤١ : ٣٢٨.

٦٠