باقر شريف القرشي
المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٥٢
البشارة بمولد الإمام زين العابدين عليهالسلام
عند اقتران الإمام الحسين عليهالسلام بالسيّدة الجليلة شاه زنان بارك الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام لولده قائلا :
« يا أبا عبد الله ، ليلدنّ لك منها غلام خير أهل الأرض » (١).
وفعلا فقد تحقّق ما أخبر عنه الإمام عليهالسلام ، فقد ولدت لولده الحسين عليهالسلام سيّد الساجدين وتاج البكّائين زين العابدين صاحب رسالة الحقوق ، والتي هي من أذخر الرسائل الحقوقية ، والصحيفة السجّادية وهي إنجيل آل محمّد ... (٢).
__________________
(١) الأحاديث الغيبية ٢ : ١٧٦.
(٢) قد ذكرنا مفصّلا عن حياة الإمام عليّ بن الحسين عليهماالسلام في كتابنا : حياة الإمام زين العابدين عليهالسلام في مجلّدين.
مقتل الإمام الرضا عليهالسلام
عن النعمان بن سعد قال : قال أمير المؤمنين عليهالسلام :
« سيقتل رجل من ولدي بأرض خراسان بالسّمّ ظلما ، اسمه اسمي ، واسم أبيه اسم ابن عمران موسى عليهالسلام ، ألا فمن زاره في غربته غفر الله عزّ وجلّ له ذنوبه ما تقدّم منها وما تأخّر ... » (١).
لقد تحقّق ما أخبر به عليهالسلام فقد رزق الإمام موسى بن جعفر عليهالسلام بالإمام الرضا ، والذي هو أثرى شخصية عرفها التأريخ بعلومه ومعارفه في زمانه ؛ إذ فتك به المأمون العباسي بالسمّ بعد ما غرّبه عن الأوطان فمضى عليهالسلام شهيدا محتسبا (٢).
__________________
(١) عيون أخبار الرضا ٢ : ٢٥٨.
(٢) قد ذكرنا عن حياته مفصلا في كتابنا : حياة الإمام عليّ بن موسى الرضا عليهالسلام ، في مجلّدين.
مدينة بغداد
اجتاز الإمام عليهالسلام على أرض بغداد ، فقال عليهالسلام :
« ما تدعى هذه الأرض؟ ».
فقالوا له : بغداد.
قال : « نعم ، تبنى هاهنا مدينة » ، وذكر أوصافها (١).
وتحقّق ذلك ، فقد بنيت بغداد وازدهرت في العصر العباسي ، فكانت عاصمة الدنيا ، وذكر الرواة أنّ الحسن بن ذكوان الفارسي التقى بالإمام ، وطلب منه أن يدعو الله له.
فقال له الإمام : « إنّك ستعمّر ، وتحمل إلى مدينة يبنيها رجل من بني عمّي العبّاس تسمّى بغداد ، ولا تصل إليها ، وتموت بموضع يقال له المدائن ».
فكان كما قال عليهالسلام (٢).
__________________
(١) مناقب آل أبي طالب ١ : ٤٢٢.
(٢) بحار الأنوار ٤١ : ٣٠٧.
عدد ملوك بني العبّاس
وكان ممّا أخبر به الإمام عليهالسلام أنّه عدد ملوك بني العباس الذين يحكمون العالم الإسلامي ، قال عليهالسلام :
« ويل هذه الامّة من رجالهم الشّجرة الملعونة الّتي ذكرها ربّكم تعالى ، أوّلهم خضراء وآخرهم هزماء ، ثمّ يلي بعدهم أمر أمّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم رجال : أوّلهم أرأفهم ، وثانيهم أفتكهم ، وخامسهم كبشهم ، وسابعهم أعلمهم ، وعاشرهم أكفرهم ، يقتله أخصّهم به ، وخامس عشرهم كثير العناء ، قليل الغناء ، وسادس عشرهم أقضاهم للذمم ، وأوصلهم للرّحم ، كأنّي أرى ثامن عشرهم تفحص رجلاه في دمه بعد أن يأخذه جنده بكظمه ، من ولده ثلاث رجال : سيرتهم سيرة الضّلال ، الثّاني والعشرون منهم الشّيخ الهرم ، تطول أعوامه ، وتوافق الرّعيّة أيّامه ، السّادس والعشرون منهم يشرد الملك منه شرود النّقنق (١) ، ويعضده الهزرة المتفيهق ، لكأنّي أراه على جسر الزّوراء قتيلا ، ذلك بما قدّمت يداك ، وإنّ الله ليس بظلاّم للعبيد » (٢).
__________________
(١) النّقنق : جمعه نقانق ، ذكر النّعامة.
(٢) بحار الأنوار ٤١ : ٣٢٢.
وأوضح المجلسي بنود هذه الخطبة قال :
« إنّ أوّلهم ـ أي أوّل بني العبّاس ـ هو السفاح كان أرأفهم (١).
وأنّ ثانيهم هو المنصور كان أفتكهم ، أي أجرأهم ، وأشجعهم ، وأكثرهم قتلا للناس خدعة وغدرا.
وأنّ خامسهم وهو الرشيد كان كبشهم ؛ إذ لم يستقرّ ملك أحد منهم كاستقرار ملكه ، وأنّ سابعهم وهو المأمون كان أعلمهم ، واشتهار وفور علمه من بينهم يغني عن البيان.
وأنّ عاشرهم وهو المتوكّل أكفرهم بل أكفر الناس كلّهم أجمعين لشدّة نصبه وإيذائه لأهل البيت عليهمالسلام وشيعتهم وسائر الخلق ، وأنّ من قتله كان من غلمانه الخاصّة.
وأنّ خامس عشرهم المعتمد على الله أحمد بن المتوكّل ، وهو وإن كان زمان خلافته ثلاث وعشرين سنة لكن كان في أكثر زمانه مشتغلا بحرب صاحب الزنج وغيره ، فلذا وصفه عليهالسلام بكثرة العناء.
وسادس عشرهم المعتضد بالله رأى في النوم رجلا أتى دجلة فمدّ يده إليها ، فاجتمع مائها فيها ، ثمّ فتح كفّه ففاض الماء ، فسأل المعتضد أتعرفني؟ قال : لا ، قال : أنا عليّ بن أبي طالب إذا جلست على سرير الخلافة فأحسن إلى أولادي ، فلمّا وصلت إليه الخلافة أحبّ العلويّين وأحسن إليهم ، فلذا وصفه عليهالسلام بقضاء العهد وصلة الرحم.
وثامن عشرهم هو جعفر الملقّب بـ المقتدر بالله ، وخرج مونس الخادم من جملة عسكره ، وأتى الموصل واستولى عليه ، وجمع عسكرا ورجع وحارب
__________________
(١) أي أرأفهم من بين ملوك بني العباس على العلويّين.
المقتدر في بغداد ، وانهزم عسكر المقتدر ، وقتل هو في المعركة ، واستولى على الخلافة من بعده ثلاثة من أولاده ، الراضي بالله محمّد بن المقتدر ، والمتّقي بالله إبراهيم بن المقتدر ، والمطيع لله فضل بن المقتدر.
وأمّا الثاني والعشرون منهم فهو المكتفي بالله عبد الله ، وادّعى الخلافة بعد مضي إحدى وأربعين سنة من عمره ـ سنة ثلاثة وثلاثين وثلاثمائة ـ ، واستولى أحمد ابن بويه في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة على بغداد ، وأخذ المكتفي وسمل عينه وتوفّي في سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة.
ويقال : إنّه كانت أيام خلافته سنة وأربعة أشهر.
ويحتمل أن يكون من خطأ المؤرّخين أو رواة الحديث بأن يكون في الأصل الخامس والعشرون أو السادس والعشرون ، فالأوّل هو القادر بالله أحمد بن إسحاق ، وقد عمّر ستا وثمانين سنة ، وكانت مدّة خلافته إحدى وأربعين سنة ، والثاني القائم بأمر الله كان عمره ستّا وسبعين سنة وخلافته أربعا وأربعين سنة وثمانية أشهر.
ويحتمل أن يكون عليهالسلام إنّما عبّر عن القائم بأمر الله بالثاني والعشرين لعدم اعتداده بخلافة القاهر بالله ، والراضي بالله والمقتدر بالله والمكتفي بالله لعدم استقلالهم وقلّة أيام خلافتهم.
فعلى هذا يكون السادس والعشرون الراشد بالله ، فإنّه هرب في حماية عماد الدين الزنجي ، ثمّ قتله بعض الفدائيّين ، فقد قتل في أصفهان.
ويحتمل أن يكون المراد بالسادس والعشرين المستعصم ، فإنّه قتل كذلك وهو آخرهم ، وإنّما عبّر عنه كذلك مع كونه السابع والثلاثين منهم لكونه السادس والعشرين من عظمائهم ، لعدم استقلال كثير منهم وكونهم مغلوبين للمماليك والأتراك.
ويحتمل أيضا أن يكون المراد السادس والعشرون من العباس وأولاده ، فإنّهم
اختلفوا في أنّه هل هو الرابع والعشرون من أولاد العباس أو الخامس والعشرون منهم ، وعلى الأخير يكون بانضمام العباس السادس والعشرون وعلى الأخيرين يكون مكان يعضده يقصده » (١).
__________________
(١) بحار الأنوار ٤١ : ٣٢٣ ـ ٣٢٤.
فتنة الزنج
من الأحداث الجسام التي أخبر عن وقوعها الإمام عليهالسلام هي فتنة صاحب الزنج ، فقد زعم أنّه علي بن محمّد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين عليهالسلام ، وقد احتفّ به الزنج ، ووعدهم بالتحرير والظفر بأموال الدولة وتسخيرها لمصالحهم ، فانصاعوا له ، والتفّوا حوله ، وقد تحدّث المؤرّخون عن تفصيل الحادثة والفتوحات التي تمّت له ، وإلى ما جرى عليه.
وعلى أي حال فلنستمع إلى ما قاله الإمام عليهالسلام في وصف جيشه وإلى الدمار الذي حلّ في البلاد من جرائمهم ، قال عليهالسلام :
« يا أحنف ، كأنّي به ـ أي بصاحب الزنج ـ وقد سار بالجيش الّذي لا يكون له غبار ولا لجب ، ولا قعقعة لجم ، ولا حمحمة خيل يثيرون الأرض بأقدامهم كأنّها أقدام النّعام ».
أشار الإمام عليهالسلام إلى أوصاف جيش صاحب الزنج ، وأنّهم في منتهى التدريب العسكري ، لا غبار لهم ، ولا قعقعة لجم ، ولا حمحمة خيل ، وهذه الأوصاف أروع ما توصف به الجيوش المنظّمة التي بلغت الذروة في تدريبها.
ثمّ عرض الإمام عليهالسلام إلى ما تعانيه البلاد من الدمار والخراب من ذلك الجيش قال عليهالسلام :
« ويل لسكككم العامرة والدّور المزخرفة الّتي لها أجنحة كأجنحة
النّسور ، وخراطيم كخراطيم الفيلة ، من أولئك الّذين لا يندب قتيلهم ، ولا يفقد غائبهم ... » (١)
وقد عانت البلاد الإسلامية أقسى ألوان المحن والخطوب من جيش صاحب الزنج ، فقد تهدّمت الدور وتخرّبت المزارع وتدهور الاقتصاد العامّ ، وكان ذلك في سنة ٢٥٥ ه ، وقد ذكرت مصادر التاريخ تفصيل تلك الأحداث المروعة المؤسفة.
__________________
(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٨ : ١٢٥.
حكومة بني بويه
أخبر الإمام عليهالسلام عن حكومة بني بويه فقال :
« ويخرج من ديلمان بنو الصّيّاد (١) ، ثمّ يستشري أمرهم حتّى يملكوا الزّوراء ، ويخلعوا الخلفاء ... ».
فقام شخص وقال : كم مدّتهم يا أمير المؤمنين؟
فقال عليهالسلام : « مائة ـ أي مائة عام ـ أو تزيد قليلا ».
واستطرد الإمام عليهالسلام في ذكرهم قائلا :
« والمترف ابن الأجذم يقتله ابن عمّه على دجلة ... ».
أشار عليهالسلام إلى عزّ الدولة بختيار بن معزّ الدولة أبي الحسين ، وكان معزّ الدولة أقطع اليد ، قطعت يده لنكوصه في الحرب ، وكان ابنه مترفا صاحب لهو وشرب ، قتله عضد الدولة فناخسرو ابن عمّه بقصر الجصّ على دجلة ، وسلب ملكه ، فأما خلعهم للخلفاء فإنّ معزّ الدولة خلع المستكفي ، وأقام عوضه المطيع ، وبهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة ، وخلع الطائع ورتّب مكانه القادر ، وكانت مدّة ملكهم كما أخبر به الإمام عليهالسلام (٢).
__________________
(١) قال ابن أبي الحديد : كان أبوهم يصيد السمك ، ويتقوّت به هو وعياله ، فأخرج من ولده ملوكا ثلاثة ، ونشر رايتهم حتى ضربت الأمثال بملكهم.
(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٧ : ٤٩.
دولة المغاربة
من المغيّبات التي أخبر عنها الإمام عليهالسلام ظهور دولة للعلويّين بالمغرب العربي بقيادة أبي عبد الله المهدي ، وهو أوّل ملوكهم ، قال عليهالسلام :
« ثمّ يظهر صاحب القيروان الغضّ البضّ ، ذو النّسب المحض ، المنتجب من سلالة ذي البداء ، المسجّى بالرّداء » (١).
قال ابن أبي الحديد : « كان عبيد الله المهدي أبيض ، مترفا ، مشربا بحمرة ، رخص البدن تار (٢) الأطراف ، وذو البداء هو إسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق عليهالسلام ، وهو المسجّى بالرداء ؛ لأنّ أباه سجّاه بردائه لمّا مات ، وأدخل عليه وجوه الشيعة يشاهدونه ليعلموا موته ، وتزول عنهم الشبهة في أمره » (٣).
ومن المؤسف أنّه لم تؤمن بموت إسماعيل كوكبة من الشيعة وهم الإسماعيلية ، فقد اعتقدوا بحياته ، وأنّه ارتفع إلى السماء كما ارتفع السيّد المسيح.
__________________
(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٧ : ٤٩.
(٢) التار : الممتلئ جسمه ريا.
(٣) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٧ : ٤٩.
الثورة في طبرستان
من المغيّبات التي أخبر عنها الإمام عليهالسلام ظهور ثورة طبرستان يقوم بها بعض السادة كالناصر والداعي وغيرهما ، قال عليهالسلام :
« وإنّ لآل محمّد بالطّالقان لكنز سيظهره الله إذا شاء دعاؤه حتّى يقوم بإذن الله فيدعو إلى دين الله » (١).
وتحقّق ذلك ، فقد ثار هؤلاء السادة الأعلام في طالقان رافعين شعار الإسلام ، ومتبنّين الدعوة إلى حكم القرآن.
__________________
(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٧ : ٤٨.
حكومة القرامطة
وأخبرنا الإمام عن القرامطة الفئة الضالّة التي لا عهد لها بالإسلام. قال عليهالسلام فيهم :
« ينتحلون لنا الحبّ والهوى ، ويضمرون لنا البغض والقلى ، وآية ذلك قتلهم ورّاثنا ، وهجرهم أحداثنا » (١).
ظهرت القرامطة على مسرح الحياة الإسلامية ، فأشاعت الفساد والقتل والنهب والدمار ، وقد أحلّت ما حرّم الله تعالى ، وحرّمت ما أحلّ الله ، وهي كالشيوعية في تعاليمها ومروقها من الدين ، وقد استباحوا قتل السادة العلويّين ، فقد قتلوا كوكبة من أعلامهم ذكر أسماءهم أبو الفرج الأصفهاني (٢).
وقد عرفوا بالنصب والعداء لأهل البيت عليهمالسلام ، فقد اجتاز أبو الطاهر سليمان بن الحسن الجنابي ، وهو من أعلامهم على مدينة النجف الأشرف وعلى مدينة كربلاء المقدّسة ، ولم يعرج على زيارة المرقدين المكرّمين (٣).
__________________
(١) المصدر السابق ١٠ : ١٤.
(٢) مقاتل الطالبيّين : ٤٥٠.
(٣) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١٠ : ١٤.
التتر
من المغيّبات التي أخبر عنها الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام ، والتي تحقّقت بعد مئات من السنين هي المحنة الكبرى التي امتحن بها المسلمون امتحانا عسيرا ، وهي افول الخلافة الإسلامية ، وانطواء حكم بني العباس الذين أسرفوا في اقتراف ما حرّم الله ، فقد كانت لياليهم الحمراء حافلة بالخمور والمجون ، ولم يكن للإسلام حكم واقعي وإنّما صورة حكم.
وعلى كلّ حال فقد زحف التتر إلى احتلال عاصمة الإسلام بغداد ، وسقطت بذلك الدولة الإسلامية العظمى ، وقد أمعنوا في قتل الأبرياء وإشاعة الخوف والارهاب بين المسلمين ، وعمدوا إلى تدمير المعالم الإسلامية في المدينة ، وكان من أفجعها تدمير المكتبة المستنصرية التي كانت تضمّ مئات آلاف الكتب ، فالقيت في حوض دجلة ، وبذلك فقد خسر العالم الإسلامي أهمّ ثرواته الفكرية والعلمية.
ولنستمع إلى ما قاله الإمام عليهالسلام في وصف التتر ، وما يلحقونه في بلاد المسلمين من الدمار الشامل قال عليهالسلام :
« كأنّي أراهم قوما كأنّ وجوههم المجانّ المطرّقة (١) ، يلبسون السّرق (٢)
__________________
(١) المجان : جمع مجن ـ بكسر الميم ـ : الترس ، سمّي مجنا لأنّه مستتر به.
(٢) السرق : شقق الحرير.
والدّيباج ، ويعتقبون (١) الخيل العتاق. ويكون هناك استحرار قتل حتّى يمشي المجروح على المقتول ، ويكون المفلت أقلّ من المأسور! » (٢).
وانبرى بعض أصحاب الإمام قائلا له : لقد اعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب ...
فتبسّم الإمام عليهالسلام وقال له :
« يا أخا كلب ، ليس هو بعلم غيب ، وإنّما هو تعلّم من ذي علم ـ يعني أنّه مستقى ومستمدّ من أخيه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ. وإنّما علم الغيب علم السّاعة ، وما عدّده الله سبحانه بقوله : ( إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ... ) ، فيعلم الله سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى ، وقبيح أو جميل ، وسخيّ أو بخيل ، وشقيّ أو سعيد ، ومن يكون في النّار حطبا ، أو في الجنان للنّبيّين مرافقا. فهذا علم الغيب الّذي لا يعلمه أحد إلاّ الله ، وما سوى ذلك فعلم علّمه الله نبيّه فعلّمنيه ، ودعا لي بأن يعيه صدري ، وتضطمّ (٣) عليه جوانحي » (٤).
وقد أوضح الإمام عليهالسلام العلم الذي عنده إنّما هو مستمدّ من أخيه وابن عمّه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأنّه ليس بعلم الغيب الذي لم يطّلع عليه أحد سوى الله تعالى خالق الكون وواهب الحياة.
__________________
(١) يعتقبون الخيل : أي يجتنبونها لينتقلوا من غيرها إليها.
(٢) نهج البلاغة ـ محمّد عبده ٢ : ١٤.
(٣) تضطم : أي تجتمع عليها جوانح صدري.
(٤) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٨ : ٢١٥.
وعلى أي حال فقد تحقّق ما أخبر به الإمام عليهالسلام ، فقد احتلّ الجناة التتر مدينة بغداد ، وسقطت بذلك الدولة الإسلامية ، وقد أمعن الغزاة في قتل الأبرياء وعاثوا فسادا في الأرض.
ومن المؤكّد أنّ السبب في هذه المأساة الخالدة سوء السياسة العباسية ، الذين اقترفوا كلّ ما حرّم الله ، ولم يؤثر عن الكثيرين منهم إلاّ الفسق والفجور ومناجزة المصلحين ، ومعاداة أهل البيت عليهمالسلام والامعان في قتلهم ومطاردة شيعتهم وأنصارهم ، وبذلك فقد فتحوا الطريق لهولاكو في غزو بغداد والقضاء على الدولة الإسلامية.
الفتن بعد وفاته
وأحاط الإمام عليهالسلام أصحابه بما يحدث بعد وفاته من الفتن والخطوب ، قال عليهالسلام :
« وإنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفي من الحقّ ، ولا أظهر من الباطل ، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله ؛ وليس عند أهل ذلك الزّمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حقّ تلاوته ، ولا أنفق (١) منه إذا حرّف عن مواضعه ؛ ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف ، ولا أعرف من المنكر! فقد نبذ الكتاب حملته ، وتناساه حفظته ؛ فالكتاب يومئذ وأهله طريدان منفيّان ، وصاحبان مصطحبان في طريق واحد لا يؤويهما مؤو.
فالكتاب وأهله ـ وهم أهل البيت ـ في ذلك الزّمان في النّاس وليسا فيهم ، ومعهم وليسا معهم! لأنّ الضّلالة لا توافق الهدى ، وإن اجتمعا.
فاجتمع القوم على الفرقة ، وافترقوا عن الجماعة ، كأنّهم أئمّة الكتاب وليس الكتاب إمامهم ، فلم يبق عندهم منه إلاّ اسمه ، ولا يعرفون إلاّ خطّه وزبره (٢). ومن قبل ما مثّلوا بالصّالحين كلّ مثلة ، وسمّوا
__________________
(١) أنفق : أي أروج.
(٢) الزبر : الكتابة.
صدقهم على الله فرية ، وجعلوا في الحسنة عقوبة السّيّئة » (١).
وتحقّقت هذه الخطوب بعد وفاة الإمام عليهالسلام ، فقد آل الحكم إلى معاوية ، ومن بعده إلى بني مروان ، ولم يألوا جهدا في محاربة الإسلام ، والبغي والقتل لحماته ، وقد جمد الكتاب ، وساد المنكر ، وراج الباطل ، وأقبل الناس على مآثم الحياة ، واقتراف الرذائل ، وأعرب عليهالسلام عن ذلك في حديث آخر قال عليهالسلام :
« وأخذوا ـ أي الناس ـ يمينا وشمالا ظعنا في مسالك الغيّ ، وتركا لمذاهب الرّشد. فلا تستعجلوا ما هو كائن مرصد ، ولا تستبطئوا ما يجيء به الغد. فكم من مستعجل بما إن أدركه ودّ أنّه لم يدركه. وما أقرب اليوم من تباشير غد! » (٢).
__________________
(١) نهج البلاغة : ٦٣ ، الخطبة ١٤٧.
(٢) نهج البلاغة : ٦٤ ، الخطبة ١٥٠.
أحداث آخر الزمان
وتحدّث باب مدينة علم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عمّا يحدث في آخر الزمان من الفتن والبلاء ، وقد أدلى بذلك في كثير من المناسبات والتي منها :
١ ـ قال عليهالسلام :
« يأتي على النّاس زمان لا يقرّب فيه إلاّ الماحل ، ولا يظرّف فيه إلاّ الفاجر ، ولا يضعّف فيه إلاّ المنصف ، يعدّون الصّدقة فيه غرما ، وصلة الرّحم منّا ، والعبادة استطالة على النّاس! فعند ذلك يكون السّلطان بمشورة النّساء ، وإمارة الصّبيان! » (١)
إنّ البشرية تكون في قوس النزول ، وفي منتهى الانحطاط إذا سارت فيها هذه الامور التي تفضّل ببيانها الإمام.
٢ ـ قال عليهالسلام :
« يأتي على النّاس زمان لا يبقى فيه من القرآن إلاّ رسمه ، ومن الإسلام إلاّ اسمه ، ومساجدهم يومئذ عامرة من البناء ، خراب من الهدى ، سكّانها وعمّارها شرّ أهل الأرض ، منهم تخرج الفتنة ، وإليهم تأوي
__________________
(١) نهج البلاغة ـ قصار الحكم ٤ : ٦٤٧.
الخطيئة ؛ يردّون من شذّ عنها فيها ، ويسوقون من تأخّر عنها إليها. يقول الله تعالى : فبي حلفت لأبعثنّ على أولئك فتنة تترك الحليم فيها حيران ، وقد فعل ، ونحن نستقيل الله عثرة الغفلة » (١).
إنّ الإسلام العظيم الذي ارتضاه الله دينا لجميع البشرية أينما كانوا لا صلاح ولا سعادة ولا استقرار من دونه ، وقد يأتي زمان على المسلمين فينحرفون عنه ، ولا يبقى منه إلاّ اسمه ، وذلك أسوأ الأزمان وأكثرها قتاما.
٣ ـ قال عليهالسلام :
« يأتي على النّاس زمان عضوض (٢) ، يعضّ الموسر فيه على ما في يديه ولم يؤمر بذلك ، قال الله سبحانه ( وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ). تنهد فيه الأشرار ، وتستذلّ الأخيار ، ويبايع المضطرّون ، وقد نهى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن بيع المضطرّين » (٣).
وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض الملاحم والمغيّبات التي أدلى بها الإمام عليهالسلام ، وقد تحقّقت على مسرح الحياة ، وبها نطوي الحديث عن هذا الكتاب الذي هو جزء من موسوعة حياته.
__________________
(١) نهج البلاغة ـ قصار الحكم ٤ : ١٨٣.
(٢) العضوض : الشديد.
(٣) نهج البلاغة ـ قصار الحكم ٤ : ٤٦١.