موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٧

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٧

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٥٢

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ )

البقرة : ٢٤٧

( وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً )

الإسراء : ٨٥

( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ )

آل عمران : ٤٤

( وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ )

آل عمران : ١٧٩

( تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا )

هود : ٤٩

٣
٤

تقديم

أمّا الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فهو رائد النهضة الفكرية والعلمية في دنيا الإسلام ، والعقل المفكّر في عالم الإنسانية ، الذي استوعب أسرار الكون ودقائق الموجودات بذاتياتها وجنسها وفصلها وغوامض محتوياتها ، كما أحاط بما يتحقّق من بعده على مسرح الحياة من أحداث وشئون أسماها العلماء بالملاحم والمغيّبات ، وقد استمدّ ذلك كلّه من أخيه وابن عمّه الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد غذّاه بمواهبه وعبقرياته ، وأفاض عليه معارفه وعلومه ليكون امتدادا لوجوده ومبلّغا لرسالته ، تلك الرسالة العظمى التي غيّرت مجرى التاريخ ، وأضاءت سماء الكون بما تحمله من القيم والمبادئ التي لم تعرفها الإنسانية من قبل ، فكان الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام هو الذي وعاها ، وانطبعت في دخائل نفسه فكان هو الأمين عليها ، والمبلّغ لها من بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ويعرض هذا الجزء من الموسوعة إلى فضل العلم والحثّ على تعلّمه ، وإلى بعض العلوم التي فتقها وأسّسها ، كما يتعرّض إلى كوكبة من الملاحم والمغيّبات التي أخبر عنها ، راجيا من الله تعالى أن أكون قد واكبت الحقّ وسايرت بدقّة وأمانة سيرة هذا الإمام الملهم العظيم الذي هو نسخة من التقوى والمواهب لا ثاني لها في تاريخ عظماء الإنسانية سوى الرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... إنّه تعالى وليّ التوفيق

النّجف الأشرف

باقر شريف القرشى

١٥ / صفر / ١٤٢٠ هـ

٥
٦

العلم والتّعليم

٧
٨

ومن أهمّ البرامج السياسية في حكومة الإمام عليه‌السلام نشر التعليم ، ومحو الامّية ، وإشاعة العلم بين الناس فقد اتّخذ جامع الكوفة مدرسة ومعهدا لإلقاء محاضراته العلمية وقيمه الفكرية ، والتي كان منها الدعوة إلى الله تعالى ، وإظهار فلسفة التوحيد وإقامة الإيمان بالله تعالى على ضوء الأدلّة العلمية الحاسمة التي لا تقبل الجدل والتشكيك ، بالاضافة إلى مواعظه العملاقة التي كانت تهزّ أعماق النفوس خوفا ورهبة من الله تعالى.

وقد تخرّج من مدرسته جماعة من عظماء الإسلام أمثال الصحابي العظيم عمّار بن ياسر ، وحجر بن عدي ، وكميل بن زياد ، وأبي الأسود الدؤلي ، وميثم التمّار ، وغيرهم من الذين أقاموا صروح النهضة العلمية في الإسلام.

وعلى أي حال فإنّا نعرض ـ بإيجاز ـ لبعض ما اثر عن هذا الإمام الملهم العظيم من الكلمات القيّمة في تبجيل العلم ، وذمّ الجهل ، وتكريم العلماء ، وبعض العلوم التي أقامها ، وفيما يلي ذلك :

الإشادة بالعلم :

أمّا العلم فهو من أفضل المحاسن التي يتحلّى بها الإنسان ويسمو إلى أرقى مستويات الكمال ، وبالعلم تكون نهضة الامم وبلوغها إلى أهدافها ، ومستحيل أن تحتلّ أمّة من الامم مركزا مهمّا تحت الشمس وهي قابعة في أسر الجهل.

وقد أشاد إمام المتّقين كثيرا بالعلم ، ولنقرأ بعض أحاديثه :

٩

١ ـ قال عليه‌السلام في حديثه مع تلميذه العالم كميل بن زياد :

يا كميل ، العلم خير من المال ، العلم يحرسك وأنت تحرس المال.

والمال تنقصه النّفقة ، والعلم يزكو على الإنفاق ، وصنيع المال يزول بزواله.

يا كميل بن زياد ، معرفة العلم دين يدان به ، به يكسب الإنسان الطّاعة في حياته ، وجميل الأحدوثة بعد وفاته.

والعلم حاكم ، والمال محكوم عليه.

يا كميل ، هلك خزّان الأموال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدّهر :

أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة (١).

حكى هذا الكلام أهمّية العلم ، وأنّه أثمن شيء في الحياة ، ولا يقاس به المال الذي هو شريان الحياة.

وقد تميّز العلم على المال ؛ فإنّ العلم ينمو بإنفاقه على الطلاب والسائلين ، وأمّا المال فإنّه يفنى بالإنفاق ، كما أنّ العلماء باقون على امتداد التاريخ وأمّا أصحاب الثروات العظيمة فإنّهم يفنون بموتهم وتتلاشى ثرواتهم من بعدهم.

٢ ـ قال عليه‌السلام :

« العلم إحدى الحياتين » (٢).

ما أروع هذه الكلمة التي أحاطت بقيمة العلم ، فهو إحدى الحياتين اللتين يخلد بهما الإنسان.

__________________

(١) نهج البلاغة ٣ : ١٦٤.

(٢) مستدرك نهج البلاغة : ١٨٠.

١٠

٣ ـ قال عليه‌السلام :

« العلم تحفة في المجالس ، وصاحب في السّفر ، وانس في الغربة ... » (١).

حقّا إنّ العلم زينة المجالس ، فبه تزهو وتسمو وتتميّز عن بقيّة المجالس العارية من العلم ، كما أنّه صاحب وصديق مؤنس في السفر وأنس في الغربة.

أهمّية العالم :

وتحدّث الإمام عن أهمّية العالم ، وسموّ مكانته الاجتماعية وإنّ موته خسارة على الناس ، قال عليه‌السلام :

« إذا مات المؤمن العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء إلى يوم القيامة » (٢).

تكريم العالم :

وحثّ الإمام عليه‌السلام على تكريم العالم وتبجيله والاعتراف له بالفضل ، قال عليه‌السلام : « من حقّ العالم عليك إذا أتيته أن تسلّم عليه خاصّة ، وعلى القوم عامّة ، ولا تجلس قدّامه ، ولا تشر بيدك ، ولا تغمز بعينك ، ولا تقل : قال فلان خلاف قولك ، ولا تأخذ بثوبه ، ولا تلحّ عليه في السّؤال فإنّما هو بمنزلة النّخلة المرطبة الّتي لا يزال يسقط عليك منها شيء » (٣).

وتحدّث الإمام عليه‌السلام بهذه الكلمات عن حقوق العالم ، ولزوم رعايته واحترامه

__________________

(١) مستدرك نهج البلاغة : ١٨٦.

(٢) مستدرك نهج البلاغة : ١٧٧.

(٣) العقد الفريد ٢ : ٢٢٤.

١١

تكريما لعلمه وإشادة بفضله لأنّه مصدر عطاء وفيض للمجتمع توجيها وسلوكا وآدابا.

أخذ المحاسن من كلّ علم :

قال عليه‌السلام : « العلم أكثر من أن يحصى ، فخذوا من كلّ شيء أحسنه » (١).

وهذه الكلمة من روائع الحكم ، ومن محاسنها فإنّ العلم كنز لا يحصى ما فيه ، وعلى المرء أن يختار أبدع وأروع ما فيه ، وقد نظم بعض الشعراء هذه الكلمة الحكمية للإمام عليه‌السلام بقوله :

ما حوى العلم جميعا رجل

لا ولو مارسه ألف سنه

أنّما العلم بعيد غوره

فخذوا من كلّ شيء أحسنه (٢)

تشجيعه للحركة العلمية :

كان الإمام عليه‌السلام يدعو المجتمع إلى العلم ويحثّهم عليه ، وقد خطب في الكوفة فقال : « من يشتري علما بدرهم؟ ». فقام الحارث الأعور فاشترى صحفا بدرهم ثمّ جاء بها إلى الإمام عليه‌السلام ، فكتب له بها علما كثيرا (٣) ، وقد دلّت هذه البادرة على مدى تشجيعه للعلم ، وحثّه على تدوينه وكتابته.

العمل بالعلم :

وأكّد الإمام على ضرورة العمل بالعلم في كثير من أحاديثه كان منها ما يلي :

__________________

(١) معجم الأدباء ١ : ٧٣.

(٢) التمثيل والمحاضرة ـ الثعالبي : ١٦٥.

(٣) تقيد العلم : ٩٠. طبقات ابن سعد ٦ : ١١٦.

١٢

١ ـ قال عليه‌السلام :

« العلم مقرون بالعمل : فمن علم عمل ؛ والعلم يهتف بالعمل ، فإن أجابه وإلاّ ارتحل عنه » (١).

والمراد من قوله عليه‌السلام : فإن أجابه وإلاّ ارتحل عنه ، أي أنّ العالم إذا لم يعمل بعلمه ، ولم يسر على ضوئه فإنّ الله تعالى يسلبه عنه.

٢ ـ قال عليه‌السلام :

« وإنّ العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الّذي لا يستفيق من جهله ؛ بل الحجّة عليه أعظم ، والحسرة له ألزم ، وهو عند الله ألوم كالسّائر على غير طريق ... والعامل بالعلم كالسّائ على الطّريق الواضح. فلينظر ناظر : أسائر هو أم راجع؟! » (٢).

أنّ الذي لا يهتدي بعلمه كالسالك في الطرق الملتوية القاتمة التي تهوي به إلى مستوى سحيق من الانحطاط ما له من قرار.

٣ ـ قال عليه‌السلام :

« أوضع العلم ما وقف على اللّسان ، وأرفعه ما ظهر في الجوارح والأركان ... » (٣).

٤ ـ قال عليه‌السلام :

« ربّ عالم قد قتله جهله ، وعلمه معه لا ينفعه » (٤).

__________________

(١) تصنيف نهج البلاغة : ٢٣٠٢.

(٢) نهج البلاغة : الخطبة ١١٠.

(٣) المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة : ١٠٩.

(٤) المصدر السابق : ١١٠.

١٣

وكثير من هذه الكلمات الذهبية أدلى بها أمير البلاغة والبيان وهي تهيب بالعلماء أن يعملوا بما علموا وأن تتوافق أعمالهم مع أقوالهم الداعية إلى الهدى والصلاح.

أنواع طلاب العلم :

تحدّث الإمام عليه‌السلام عن أصناف طلبة العلوم فقال :

« طلبة هذا العلم على ثلاثة أصناف ، ألاّ فاعرفوهم بصفاتهم :

صنف منهم يتعلّمون العلم للمراء والجدل.

وصنف للاستطالة والحيل.

وصنف للفقه والعمل.

فأمّا صاحب المراء والجدل فإنّك تراه مماريا للرّجال في أندية المقال ، قد تسربل بالتّخشّع ، وتخلّى عن الورع ، فدقّ الله من هذا حيزومه ، وقطع منه خيشومه.

وأمّا صاحب الاستطالة والحيل ، فإنّه يستطيل على أشباهه من أشكاله ، ويتواضع للأغنياء من دونهم ، فهو لحلوائهم هاضم ، ولدينه حاطم ، فأعمى الله بصره ، ومحى من العلماء أثره.

وأمّا صاحب الفقه والعمل ، فتراه ذا كآبة وحزن ، قام اللّيل في حندسه ، وانحنى في برنسه يعمل ويخشى فشدّ الله من هذا أركانه ، وأعطاه الله يوم القيامة أمانه » (١).

__________________

(١) مستدرك نهج البلاغة : ١٧٧.

١٤

وألمّ هذا الحديث الشريف بأنواع طلبة العلم وحكى أهدافهم ، فبعضهم يطلبه لأغراضه الشخصية من دون أن يبتغي به رضا الله تعالى والدار الآخرة ، وهؤلاء هم الأخسرون عملا ، وأكّد الإمام هذا المعنى في حديث آخر له قال :

« لو أنّ حملة العلم حملوه بحقّه لأحبّهم الله وأهل طاعته من خلقه ، ولكنّهم حملوه لطلب الدّنيا فمقتهم الله وهانوا على النّاس » (١).

إنّ من يطلب العلم ويتحمّل الجهد الشاقّ في سبيله إن كان هدفه رضا الله والدار الآخرة فاز في دنياه وآخرته ، وإن كان هدفه رغبات الدنيا والتفوّق على غيره فقد خسر خسرانا مبينا.

ذمّ أهل الرأي :

ذمّ الإمام عليه‌السلام أهل الرأي الذين يفتون بآرائهم من دون علم قال عليه‌السلام :

« ترد على أحدهم القضيّة في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ، ثمّ ترد تلك القضيّة بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الّذي استقضاهم ، فيصوّب آراءهم جميعا ـ وإلههم واحد! ونبيّهم واحد! وكتابهم واحد! أفأمرهم الله ـ سبحانه ـ بالاختلاف فأطاعوه!

أم نهاهم عنه فعصوه!

أم أنزل الله سبحانه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه!

أم كانوا شركاء له ، فلهم أن يقولوا ، وعليه أن يرضى؟

أم أنزل الله سبحانه دينا تامّا فقصّر الرّسول صلّى الله عليه وسلّم عن

__________________

(١) بحار الأنوار ٢ : ٣٧.

١٥

تبليغه وأدائه ، والله سبحانه يقول : ( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) ، وقال : وفيه تبيان لكلّ شيء ، وذكر أنّ الكتاب يصدّق بعضه بعضا ، وأنّه لا اختلاف فيه فقال سبحانه : ( وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) (١).

عرض الإمام عليه‌السلام إلى ما يفتي به العاملون بآرائهم وأقيستهم ، وأنّها على ضلال يا له من ضلال ، فهي متناقضة متباينة ليس فيها بصيص من نور الإسلام وهديه.

بذل العلم :

وحثّ الإمام عليه‌السلام العلماء على بذل العلم وإشاعته بين الناس ، فقد جاء في كتابه :

« إنّ الله لم يأخذ على الجهّال عهدا بطلب العلم حتّى أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم للجهّال ؛ لأنّ العلم كان قبل الجهل » (٢).

لقد عنى الإمام بصورة إيجابية بإشاعة العلم ونشره بين الناس ، وقد حثّ العلماء وألزمهم بتعليم المجتمع وتثقيفه والسهر على رفع مستواه الفكري.

حثّه على جودة الخطّ :

حثّ الإمام عليه‌السلام أصحابه وجهاز حكومته على جودة الخطّ ، وقال لهم :

« الخطّ الحسن يزيد الخطّ وضوحا » (٣).

ومن الجدير بالذكر أنّ المصحف الكريم لم يكن منقّطا ، وأوّل من نقّطه

__________________

(١) المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة : ١٩.

(٢) اصول الكافي ١ : ٤١.

(٣) صبح الأعشى ٣ : ٢٥.

١٦

أبو الأسود الدؤلي ، وذلك بتلقين وإرشاد من الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام (١).

أنواع العلوم :

كان الإمام عليه‌السلام خزانة من العلوم والمعارف لم يعهد له نظير في عظماء الدنيا وعباقرة العالم ، وقد فتق أبوابا من العلوم تربو على ثلاثين علما لم يكن يعرفها العرب وغيرهم من قبل حسبما يقول العقّاد ، وقد أثر عنه القول :

« العلوم أربعة : الفقه للأديان ، والطّبّ للأبدان ، والنّحو للّسان ، والنّجوم لمعرفة الزّمان » (٢).

وقد أعرب الإمام عليه‌السلام عن أساه وحزنه لأنّه لم يجد من يبثّ إليه علومه حتى تستفيد منها العامّة وتتطوّر بها الحياة ، وقد قال عليه‌السلام : « إنّ هاهنا ـ وأومأ إلى صدره الشريف ـ لعلما جمّا ، لو أصبت له حملة » (٣).

لقد كان صدره الشريف خزانة لعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو باب مدينة علمه ووارث علومه وحكمه وآدابه ، وعلى أي حال فإنّا نعرض إلى بعض العلوم التي أثرت عنه وهي :

١ ـ علم النحو

والشيء المحقّق الذي لا ريب فيه هو أنّ أوّل من وضع علم النحو وأرسى قواعده هو الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ونعرض إلى بعض البحوث المرتبطة به ، وهي :

__________________

(١) صبح الأعشى ٣ : ١٤٩. مفتاح السعادة ١ : ٨٩ ، أنّ أوّل من نقّط المصحف الإمام عليّ عليه‌السلام.

(٢) مفتاح السعادة ١ : ٣٠٣.

(٣) المصدر السابق ١ : ٤٣.

١٧

في اللغة :

النحو في اللغة الطريق والجهة والقصد ، ومنه انتحاه إذا قصده ، سمّي به هذا العلم ، وذلك لينحي سمت كلام العرب في تصرّفه من اعراب وغيره من ليس منهم فيضارعهم في اللحن ، وقد عرض أبو الأسود ما أخذه من الإمام في هذا العلم فعرضه عليه فقال له : « ما أحسن هذا النّحو الّذي نحوت » ، ولذلك سمّي هذا النحو نحوا (١) في الاصطلاح.

أسباب وضعه :

وذكر المؤرّخون عدّة أسباب مختلفة لوضع هذا العلم الذي أصبح من أبرز العلوم العربية ، ومن أكثرها فائدة وهي :

١ ـ روى الأصمعي قال : سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول : جاء أعرابي إلى عليّ عليه‌السلام فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، كيف تقرأ هذه الحروف : لا يأكله إلاّ الخاطون ، كلّنا والله يخطو؟ فتبسّم أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال :

« يا أعرابيّ ، لا يأكله إلاّ الخاطئون ».

قال : صدقت والله يا أمير المؤمنين ما كان الله ليظلم عباده ، ثمّ التفت الإمام إلى أبي الأسود الدؤلي فقال :

« إنّ الأعاجم قد دخلت في الدّين كافّة فضع للنّاس شيئا يستدلّون به على صلاح ألسنتهم » ورسم له الرفع والنصب والخفض (٢).

٢ ـ سمع الإمام أعرابيا يقرأ الآية : ( أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ )

__________________

(١) تاج العروس ١٠ : ٣٦٠. النزهة ٣ : ١. المثل السائر : ٧. لسان العرب ١٥ : ٣١٠.

(٢) الزينة في الكلمات الإسلامية العربية ـ أبو الحاتم أحمد الرازي : ٧٢. النزهة : ٨.

١٨

قرأ بخفض الرسول ، وقال الاعرابي برئت من رسول الله ، فأنكر عليه الإمام وأرشده إلى الصواب وهو النصب ، ثمّ رسم لأبي الأسود صناعة النحو (١).

هذه بعض الأسباب التي حفّزت الإمام إلى وضعه لعلم النحو وتأسيسه له.

القواعد التي وضعها الإمام عليه‌السلام :

وذكر المؤرّخون أنّ الإمام عليه‌السلام دفع إلى أبي الأسود رقعة مكتوبا فيها :

« الكلام كلّه : اسم ، وفعل ، وحرف ، فالاسم من أنبأ عن المسمّى ، والفعل ما أنبئ به ، والحرف ما أفاد معنى. واعلم أنّ الأسماء ثلاثة : ظاهر ومضمر ، واسم لا ظاهر ولا مضمر ... ».

ثمّ وضع أبو الأسود بابي العطف والنعت ، ثمّ بابي التعجّب والاستفهام إلى أن وصل إلى باب إنّ وأخواتها ما خلا لكن ، فلمّا عرضها على الإمام أمره بضمّ لكن إليها ، وكلّما وضع بابا من أبواب النحو عرضه عليه (٢).

وفي رواية أنّ أبا الأسود دخل على عليّ فوجده مطرقا مفكّرا ، فسأله عن سبب ما به ، فذكر له أمر اللحن وما فشا من الخطأ في ألسنة الناس ، وأنّه يريد أن يضع كتابا في اصول العربية ، فانصرف عنه وهو مغموم فألقى الإمام عليه رقعة كتب فيها :

« الكلام كلّه : اسم ، وفعل ، وحرف ، فالاسم من أنبأ عن المسمّى ، والفعل ما أنبئ به ، والحرف ما أفاد معنى ـ أي في غيره ـ ... ».

ثمّ أمره أن ينحو نحوه وأن يزيد عليه ، فجمع أبو الأسود أشياء وعرضها عليه فكان من ذلك حروف النصب كان منها : إن وأن وليت ولعلّ وكأنّ ، ولم يذكر « لكنّ »

__________________

(١) الخصائص ٢ : ٩.

(٢) النزهة ـ ابن الأنباري : ٤. ضحى الإسلام ٢ : ٢٨٥.

١٩

فأشار عليه الإمام بإدخالها عليها (١).

وعلى أي حال فإنّ علم النحو واضعه ومؤسّسه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام باب مدينة علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

٢ ـ علم الفقه

من العلوم التي وضع اسسها وأقام مناهجها علم الفقه الشريف.

يقول ابن أبي الحديد : « ومن العلوم علم الفقه ، وهو عليه‌السلام أصله وأساسه ، وكلّ فقيه في الإسلام فهو عيال عليه ، ومستفيد من فقهه ، أمّا أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمّد وغيرهما ، فأخذوا عن أبي حنيفة ، وأمّا الشافعي فقرأ على محمّد بن الحسن فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة ، وأبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمّد » (٣).

وقرأ جعفر على أبيه عليه‌السلام ، وينتهي الأمر إلى عليّ عليه‌السلام ، وأمّا مالك بن أنس فقرأ على ربيعة الرأي ، وقرأ ربيعة على عكرمة ، وقرأ عكرمة على عبد الله بن عباس ، وقرأ عبد الله بن عباس على عليّ بن أبي طالب ، وإن شئت رددت إليه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك ، فهؤلاء الفقهاء الأربعة.

وأمّا فقه الشيعة فرجوعه إليه ظاهر ، وأيضا فإنّ فقهاء الصحابة كان من بينهم

__________________

(١) أنباء الرواة ١ : ٤.

(٢) معجم الادباء ١٤ : ٤٢ ـ ٥٠. شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ٢٠.

(٣) أعلن أبو حنيفة أنّه تتلمذ عند الإمام الصادق عليه‌السلام واستفاد منه بقوله : « لو لا السنّتان لهلك النعمان » يعني بالسنتين اللتين تتلمذ فيهما عند الإمام عليه‌السلام يراجع في ذلك موسوعة حياة الإمام الصادق للمؤلّف.

٢٠