الموسوعة القرآنيّة - ج ٩

ابراهيم الأبياري

الموسوعة القرآنيّة - ج ٩

المؤلف:

ابراهيم الأبياري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة سجل العرب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٤

الباب الرابع عشر

تفسير

القرءان الكريم

٤١
٤٢

هذا التفسير

مستسقى من جميع أمهات كتب التفسير ويجمع كل

ما هو جوهرى دون ما هو عرضى ويجد فيه المقبل على كتاب

الله تعالى كل ما يعنيه ويغنى به عن الرجوع إلى غيره ويتميز

بعرض ينفرد به عن كتب التفسير مطولها وموجزها فهو قد

جمع بين اللغة والإعراب والأحكام ، وهو لم يترك آية دون

أن يتوفاها بيانا ، وهو قد ساق هذا البيان فى إيجاز غير مخل

حتى يكون القارئ على بينة من كل لفظ من ألفاظ الآية!.

٤٣
٤٤

(١)

سورة الفاتحة

وتسمى :

١ ـ سورة الحمد ، لأن فيها ذكر الحمد.

٢ ـ فاتحة الكتاب ، لأنه تفتتح قراءة القرآن بها لفظا.

٣ ـ أم الكتاب ، لأنها أوله.

٤ ـ أم القرآن ، لأنها أوله.

٥ ـ المثاني ، لأنها تثنى فى كل ركعة.

٦ ـ القرآن العظيم لتضمنها جميع علوم القرآن ، إذ هى تشتمل على الثناء على الله عزوجل ، وعلى الأمر بالعبادات ، وعلى الابتهال إليه تعالى فى الهداية إلى الصراط المستقيم.

٧ ـ الشفاء ، لقوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فاتحة الكتاب شفاء من كل داء.

٨ ـ الرقية ، لما جاء فى الأثر أنه رقى بها.

٩ ـ الأساس ، لقول الشعبي لرجل شكا خاصرته : عليك بأساس القرآن فاتحة الكتاب.

١٠ ـ الوافية ، لأنها لا تحتمل الاختزال.

١١ ـ الكافية ، لأنها تكفى عن سواها ولا يكفى سواها عنها.

والإجماع على أنها سبع آيات.

وهى مكية.

وقيل : مدنية.

وقيل : نزل نصفها بمكة ونصفها بالمدينة.

وقراءتها فى الصلاة متعينة للإمام والمنفرد فى كل ركعة.

٤٥

ويسن لقارئ القرآن أن يقول بعد الفراغ من الفاتحة بعد سكتة على (نون) (ولا الضالين) : آمين.

ومعنى (آمين) : اللهم استجب لنا ، وضع موضع الدعاء.

وفى (آمين) لغتان :

١ ـ المد ، على وزن (فاعيل) مثل : ياسين.

٢ ـ القصر ، على وزن (يمين).

١ ـ (بسم الله الرحمن الرحيم) :

قسم أنزله تعالى عند رأس كل سورة ، يقسم لعباده : أن هذا حق.

وعن العلماء :

١ ـ أنها ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها ، وهو قول مالك.

٢ ـ أنها آية من كل سورة ، وهو قول عبد الله بن المبارك.

٣ ـ أنها ليست بآية الا فى الفاتحة وحدها ، وهو قول الشافعي.

ولا خلاف بينهم فى أنها آية من سورة النمل.

ويقال لمن قال : (بسم الله) : بسمل ، وبسمل الرجل ، إذا قال : بسم الله ، ومعنى (بسم الله) ، أي بالله ، ومعنى بالله ، أي بعون الله وتوفيقه وبركته ، وعلى هذا فاسم ، صلة زائدة ، وزيدت لإجلال ذكره تعالى وتعظيمه.

ودخول الباء على (اسم) ، اما :

١ ـ على معنى الأمر ، ويكون التقدير : ابدأ بسم الله.

٢ ـ على معنى الخبر ، ويكون التقدير : ابتدأت بسم الله.

وقيل : المعنى :

١ ـ ابتدائى بسم الله ، فهى فى موضع رفع خبر الابتداء.

٢ ـ أو ابتدائى مستتر ، فيكون الخبر محذوف.

٤٦

وهى تكتب بغير ألف ، استغناء عنها بباء الإلصاق ، فى اللفظ والخط ، لكثرة الاستعمال ، بخلاف قوله تعالى : (اقرأ باسم ربك) لقلة الاستعمال.

واختصت باء الجر بالكسر :

١ ـ ليناسب لفظها عملها.

٢ ـ لأنها لا تدخل إلا على الأسماء التي خصت بالخفض.

٣ ـ للتفرقة بينها وبين ما يكون من الحروف اسما ، مثل الكاف.

و (اسم) ، وزنه : افع ، والذاهب منه الواو ، لأنه من : سموت.

وجمعه : أسماء : وتصغيره : سمى.

وألفه ، ألف وصل ، وقد تقطع فى الشعر.

(الله) هذا الاسم الأكبر من أسمائه تعالى وأجمعها ، لذا قيل :

انه اسم الله الأعظم ، ولم يسم به غيره ، لذلك لم يثن ولم يجمع.

والأكثرون على أنه مشتق ، لا علم موضوع للذات (إله) فأدخلت الألف واللام بدلا من الهمزة. وقيل : انه مشتق من إله الرجل ، إذا تعبد ، والله سبحانه ، على هذا ، معناه : المقصود بالعبادة ، والألف واللام لازمة له لا يجوز حذفهما منه ، وبدليل دخول حرف النداء عليه ، تقول : يا الله وحروف النداء لا تجتمع مع الألف واللام للتعريف ، وهذا يعنى أنه علم موضوع للذات.

(الرحمن) : قيل : لا اشتقاق له ، لأنه من الأسماء المختصة به سبحانه ، ولو كان مشتقا من الرحمة ، لا تصل بذكر المرحوم ، وجاز أن يقال : الله رحمن بعباده.

وقيل : انه مشتق من الرحمة ، يعنى على المبالغة ، ومعناه ذو الرحمة الذي لا نظير له فيها. وهو لا يثنى ولا يجمع ، كما يثنى (الرحيم) ويجمع.

٤٧

وأكثر العلماء على أن (الرَّحْمنِ) مختص بالله عزوجل لا يجوز أن يسمى به غيره.

(الرَّحِيمِ) صفة مطلقة للمخلوقين ، ولما فى (الرَّحْمنِ) من العموم قدم على (الرَّحِيمِ).

وقيل : الرحيم ، أي بالرحيم ، يعنى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتقدير : بسم الله الرحمن وبالرحيم ، أي وبمحمد ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصلتم الى ، أي باتباعه.

وقد وصفه الله تعالى بهذا الوصف ، وذلك حيث يقول تعالى (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ).

٢ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، الحمد : الثناء الكامل ، والألف واللام لاستغراق الجنس من المحامد ، فهو سبحانه يستحق الحمد بأجمعه.

والفرق بين الحمد والشكر :

أن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان.

والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان.

وأجمع القراء على رفع الدال من (الْحَمْدُ لِلَّهِ).

وروى عن سفيان بن عيينة : الحمد لله بنصب الدال ، على إضمار فعل.

وروى عن الحسن بن أبى الحسن ، وزيد بن على : الحمد لله ، بكسر الدال ، على اتباع الأول الثاني.

(رَبِّ الْعالَمِينَ) أي مالكهم ، وكل من ملك شيئا فهو ربه ، فالرب : المالك.

٤٨

والرب : اسم من أسماء الله تعالى ، ولا يقال فى غيره الا بالاضافة.

والعالمون ، بفتح اللام ، جمع عالم ، بفتح اللام أيضا ، وهو كل موجود سوى الله تعالى ، ولا واحد له من لفظه.

٣ ـ (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وصف نفسه تعالى بعد (رَبِّ الْعالَمِينَ) بأنه (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) لأنه لما كان فى اتصافه برب العالمين ترهيب قرنه بالرحمن الرحيم لما تضمن من الترغيب ، ليجمع فى صفاته بين الرهبة منه ، والرغبة اليه ، ليكون أعون على طاعته وأمنع.

٤ ـ (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، وقرأ محمد بن السميفع بنصب (مالِكِ).

وفى مالك لغات أربع : مالك ، وملك بفتح فكسر ، وملك بفتح فسكون ، ومليك.

وقرئ : مالك ، وملك ، بفتح فكسر.

وقيل : ان ملك ، أعم وأبلغ من (مالِكِ) ، إذ كل ملك مالك ، وليس كل مالك ملكا.

واليوم : عبارة عن وقت طلوع الفجر الى وقت غروب الشمس ، فاستعير فيما بين مبتدأ القيامة الى وقت استقرار أهل الدارين فيهما.

والدين : الجزاء على الأعمال والحساب بهما.

ورب قائل يقول : كيف قال : مالك يوم الدين ، ويوم الدين لم يوجد بعد ، فكيف وصف نفسه بملك ما لم يوجده؟

قيل : ان مالكا ، اسم فاعل ، من ملك يملك ، واسم الفاعل فى كل العرب قد يضاف الى ما بعده ، وهو بمعنى الفعل المستقبل.

وقد يكون تأويل المالك راجعا الى القدرة ، أي انه قادر فى يوم الدين ، أو على يوم الدين واحداثه.

٤٩

وخص يوم الدين ، وهو مالك له ولغيره ، لأنه فى الدنيا ثمة من ينازع فى الملك ، وفى ذلك اليوم لا ينازعه أحد فى ملكه ، وكلهم خضعوا له.

٥ ـ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) :

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) رجع من الغيبة الى الخطاب على التلوين.

ونعبد : نطيع ، والعبادة : الطاعة والتذلل.

(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أي نطلب العون والتأييد والتوفيق.

وقرئ : نستعين ، بكسر النون ، وهى لغة تميم وأسد وقيس وربيعة.

٦ ـ (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) :

اهدنا ، دعاء ورغبة من المربوب الى الرب ، والمعنى : دلنا على الصراط المستقيم وأرشدنا إليه.

والصراط المستقيم : دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره.

والصراط : الطريق ، وقرئ : السراط ، بالسين ، من الاستراط ، وهو الابتلاع ، كأن الطريق يسترط من يسلكه.

والمستقيم ، صفة للصراط ، أي الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف.

٧ ـ (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) :

صراط ، بدل من الأول ، بدل الشيء من الشيء.

ولغة القرآن (الَّذِينَ) فى الرفع والنصب والجر. وهذيل تقول : اللذون فى الرفع.

وأنعمت عليهم ، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

٨ ـ (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) :

المغضوب عليهم ، هم اليهود ، والضالون : النصارى.

وقيل : المغضوب عليهم : المشركون. والضالون : المنافقون.

وعليهم ، فى موضع رفع ، لأن المعنى : غضب عليهم.

٥٠

والضلال : الذهاب عن سنن القصد وطريق الحق.

والأصل فى (الضَّالِّينَ) الضالين ، حذفت حركة اللام الأولى ، ثم أدغمت اللام فى اللام.

وقرأ أيوب السختياني (الضألين) بهمز غير ممدود ، كأنه فر من التقاء الساكنين ، وهى لغة.

(٢)

سورة البقرة

سورة البقرة مدنية ، نزلت فى مدد شتى.

١ ، ٢ ـ (الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) :

(الم) الحروف التي فى أوائل السور فيها أقوال :

قيل : هى سر الله فى القرآن.

وقيل : هى من التشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه.

وقيل : هى من المكتوم الذي لا يفسر.

وقيل : هى أسماء للسور.

وقيل : هى أقسام أقسم الله تعالى بها لشرفها وفضلها ، وموضع القسم (لا رَيْبَ فِيهِ) ، وتكون (لا) جواب القسم.

(ذلِكَ الْكِتابُ) : أي هذا الكتاب ، و (ذلِكَ) قد تستعمل فى الاشارة الى حاضر ، وإن كان موضوعا للاشارة الى غائب ، فالاسم (ذلِكَ) إشارة الى القرآن ، موضوع موضع : هذا. وقد جاء (هذَا) بمعنى (ذلِكَ).

وقيل : هو على بابه ، إشارة الى غائب.

(الْكِتابُ) أي القرآن.

(لا رَيْبَ فِيهِ) نفى عام ، ولذلك نصب الريب به.

والريب : الشك والارتياب.

٥١

أي إنه حق وإنه منزل من عند الله.

(فِيهِ) : الضمير فى موضع خفض بفي.

(هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) :

الهدى : الرشاد والبيان ، أي فيه كشف لأهل المعرفة ورشد وزيادة بيان.

والهدى هديان :

هدى دلالة ، وهو الذي تقدر عليه الرسل وأتباعهم.

وهدى تأييد وتوفيق ، وهو الذي تفرد به سبحانه.

والهدى : مؤنث ، وقيل : مذكر.

(لِلْمُتَّقِينَ) خص الله تعالى المتقين بهدايته ، وان كان هدى للخلق أجمعين ، تشريفا لهم ، لأنهم آمنوا وصدقوا بما فيه.

٣ ـ (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) :

(وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) معطوف جملة على جملة. واقامة الصلاة : أداؤها بأركانها وسننها وهيئاتها فى أوقاتها.

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) :

رزقناهم : أعطيناهم. والرزق : ما صح الانتفاع به.

والرزق ، بالكسر ، الاسم ، وبالفتح : المصدر.

ينفقون : يخرجون. والانفاق : إخراج المال من اليد.

والمراد بالنفقة هنا الزكاة لمقارنتها الصلاة ، وقيل : نفقة الرجل على أهله.

٤ ـ (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) :

(يُؤْمِنُونَ) المراد : مؤمنو أهل الكتاب.

٥٢

(بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يعنى القرآن.

(وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) يعنى الكتب السالفة.

(وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) ، أي وبالبعث والنشر هم عالمون.

واليقين : العلم دون الشك.

٥ ـ (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) :

(مِنْ رَبِّهِمْ) فيه رد على القدرية فى قولهم : يختلقون ايمانهم وهداهم.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) :

هم ، يجوز أن يكون مبتدأ ثانيا وخبره (الْمُفْلِحُونَ) ، والثاني وخبره خبر الأول. ويجوز أن تكون (هُمُ) زائدة ، ويسميها البصريون فاصلة ، والكوفيون عمادا. والمفلحون ، خبر (أُولئِكَ).

والمفلحون ، أي الفائزون بالجنة والباقون فيها.

٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) :

لما ذكر تعالى المؤمنين وأحوالهم ذكر الكافرين ومآلهم.

والكفر ، ضد الايمان.

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ) أي معتدل عندهم الانذار وتركه. وجىء بالاستفهام. من أجل التسوية.

(أَأَنْذَرْتَهُمْ) الانذار : الإبلاغ والاعلام ، ولا يكاد يكون الا فى تخويف يتسع زمانه للاحتراز. فإن لم تتسع زمانه للاحتراز كان اشعارا ولم يكن انذارا.

(لا يُؤْمِنُونَ) ، موضعه رفع ، خبر (إِنَ) ، أي ان الذين كفروا لا يؤمنون.

وقيل : خبر (إِنَ) سواء ، وما بعده يقوم مقام الصلة.

٥٣

٧ ـ (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) :

بيّن الله سبحانه فى هذه الآية المانع لهم من الايمان بقوله (خَتَمَ اللهُ).

والختم : التغطية على الشيء والاستيثاق منه حتى لا يدخله شىء.

والختم يكون محسوسا ، كما سبق ، ومعنى ، كما فى هذه الآية ، فالختم على القلوب : عدم الوعى عن الحق سبحانه. وعلى السمع :

عدم فهمهم للقرآن إذا تلا عليهم ، أو دعوا الى وحدانيته. وعلى الأبصار : عدم هدايتها للنظر فى مخلوقاته وعجائب مصنوعاته.

(عَلى قُلُوبِهِمْ) فيه دليل على فضل القلب على جميع الجوارح.

(وَعَلى سَمْعِهِمْ) فيه دليل على فضل البصر لتقدمه عليه.

وجمع الأبصار ووحد السمع ، لأنه مصدر يقع للقليل والكثير.

(وَلَهُمْ) أي للكافرين المكذبين.

(عَذابٌ عَظِيمٌ) :

العذاب ، أي لون من ألوان الإيذاء ، وسمى العذاب عذابا لأن صاحبه يحبس ويمنع عنه جميع ما يلائم الجسد من الخير ، ويهال عليه أضدادها. وفى المثل لألجمنك لجاما معذبا ، أي مانعا عن ركوب الناس.

٨ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) :

(وَمِنَ النَّاسِ) أي من المنافقين. والناس ، اسم جنس ، واسم الجنس لا يخاطب به الأولياء. والناس ، اسم من أسماء الجموع ، جمع انسان ، وانسانة ، على غير اللفظ.

والايمان معرفة بالقلب ، وقول باللسان ، وعمل بالأركان.

٩ ـ (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) :

٥٤

(يُخادِعُونَ اللهَ) أي يخادعونه عند أنفسهم وعلى ظنهم.

وقيل : فى الكلام حذف ، تقديره : يخادعون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، جعل خداعهم لرسوله خداعا له.

ومخادعتهم : ما أظهروه من الايمان خلاف ما أبطنوه من الكفر.

وقيل : يخادعون الله ، أي يفسدون ايمانهم وأعمالهم فيما بينهم وبين الله تعالى بالرياء ، إذ أصل الخدع : الفساد.

(وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) نفى وإيجاب ، أي ما تحل عاقبة الخدع إلا بهم.

(وَما يَشْعُرُونَ) أي يفطنون أن وبال خدعهم راجع إليهم ، فيظنون أنهم قد نجوا بخدعهم وفازوا ، وانما ذلك فى الدنيا ، لا فى الآخرة.

١٠ ـ (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) :

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ابتداء وخبر ، أي بسكونهم الى الدنيا ، وغفلتهم عن الآخرة.

والمرض عبارة مستعارة للفساد الذي فى عقائدهم.

والمعنى : قلوبهم مرضى لخلوها عن العصمة والتوفيق والرعاية والتأييد.

(فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) ، قيل : هو دعاء عليهم ، ويكون المعنى : زادهم الله شكا ونفاقا.

وقيل : هو : إخبار من الله تعالى عن زيادة مرضهم ، أي فزادهم الله مرضا الى مرضهم ، أي وكلهم الى أنفسهم ، وجمع عليهم هموم الدنيا ، فلم يتفرغوا عن ذلك الى اهتمام بالدين.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم موجع.

وأليم ، أي مؤلم موجع.

(بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) ، ما ، مصدرية ، أي بتكذيبهم للرسل.

٥٥

١١ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) :

(إِذا) فى موضع النصب على الظرفية ، والعامل فيها (قالُوا) ، وهى تؤذن بوقوع الفعل المنتظر. وهى اسم يدل على زمن مستقبل ، ولم تستعمل الا مضافة الى جملة.

(قِيلَ) من القول ، وأصلها : قول ، نقلت كسرة الواو الى القاف فانقلبت الواو ياء.

(لا تُفْسِدُوا) لا ، نهى. والفساد : ضد الصلاح ، وحقيقته العدول عن الاستقامة الى ضدها.

(فِي الْأَرْضِ) الأرض ، اسم جنس ، مؤنثة.

(مُصْلِحُونَ) اسم فاعل من : أصلح.

وانما قالوا ذلك على ظنهم.

١٢ ـ (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) :

ردا عليهم وتكذيبا لقولهم ، وكسرت إن لأنها مبتدأة.

وهم ، يجوز أن يكون مبتدأ ، والمفسدون ، خبره ، والمبتدأ وخبره خبر ان.

ويجوز أن تكون هم توكيدا للهاء والميم فى إنهم ، والتقدير ألا إنهم المفسدون.

(وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) : لكن ، حرف تأكيد واستدراك ، ولا بد فيه من نفى واثبات ، ان كان قبله نفى كان بعده إيجاب ، وان كان قبله إيجاب كان بعده نفى ، ولا يجوز الاقتصار بعده على اسم واحد إذا تقدم الإيجاب ولكن تذكر جملة مضادة لما قبلها ، كما فى هذه الآية.

والمعنى : أنهم كانوا يعملون الفساد سرا ويظهرون الصلاح ، وهم لا يشعرون أن أمرهم يظهر عند النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٥٦

أو أن يكون فسادهم عندهم صلاحا وهم لا يشعرون أن ذلك فساد.

١٣ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) يعنى المنافقين.

(آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) يعنى المنافقين. أي صدقوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشرعه ، كما صدق المهاجرون والمحققون من أهل يثرب.

(قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) يعنى مؤمنى أهل الكتاب ، أو أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وهذا القول من المنافقين ، انما كانوا يقولونه فى خفة واستهزاء.

والسفه : الخفة والرقة ، والسفهاء ، أي الجهال والخرقاء.

(وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) للرّين الذي على قلوبهم.

١٤ ـ (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ).

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) ، أصل (لَقُوا) : لقيوا ، نقلت الضمة الى القاف وحذفت الياء لالتقاء الساكنين.

(وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) ، خلوا ، هنا بمعنى : ذهبوا وانصرفوا من أجل هذا عديت بحرف الجر (إِلى) ، ولو كانت بمعنى : انفردوا ، لعديت بالباء.

والشياطين ، جمع شيطان ، على التكثير. والمراد بشياطينهم : رؤساؤهم فى الكفر.

(إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) أي مكذبون بما ندعى اليه. وقيل :

ساخرون. والهزء : السخرية واللعب.

١٥ ـ (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) :

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أي ينتقم منهم ويعاقبهم ، ويجازيهم على استهزائهم ، فسمى العقوبة باسم الذنب.

٥٧

(وَيَمُدُّهُمْ) : أي يطيل لهم المدة ويمهلهم ويملى لهم.

(فِي طُغْيانِهِمْ) أي كفرهم وضلالهم ، وأصل الطغيان : مجاوزة الحد. أي يمدهم بطول العمر حتى يزيدوا فى الطغيان فيزيدهم فى عذابه.

(يَعْمَهُونَ) : يعمهون ، أي يترددون متحيرين فى الكفر ، يقال عمه الرجل إذا حار.

١٦ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) :

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) ، ضمت الواو فى (اشْتَرَوُا) فرقا بينها وبين الواو الأصلية ، والضمة فى الواو أخف من غيرها لأنها من جنسها.

واشتروا ، من الشراء ، والشراء ، هنا مستعار ، والمعنى : استحبوا الكفر على الايمان ، فعبر عنه بالشراء ، لأن الشراء يكون فيما يحبه مشتريه ، يعنى : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى ، أي استبدلوا واختاروا الكفر على الايمان ، وجاء بلفظ الشراء توسعا ، لأن الشراء والتجارة راجعان الى الاستبدال.

وأصل الضلالة : الحيرة ، ويسمى النسيان ضلالة ، لما فيه من الحيرة.

(فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) أسند تعالى الربح الى التجارة ، على عادة العرب فى قولهم : ربح بيعك ، والمراد : فما ربحوا فى تجارتهم.

(وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) فى اشترائهم الضلالة.

١٧ ـ (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) :

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) مثلهم ، رفع بالابتداء ، والخبر

٥٨

فى (الكاف) فهى اسم. ويجوز أن يكون الخبر محذوفا ، تقديره : مثلهم مستقر كمثل ، فالكاف هنا ، حرف.

والمثل : الشبيه.

(الَّذِي) يقع للواحد والجمع ، ومن العرب من يأتى بالجمع بلفظ الواحد. والمعنى : كمثل الذين استوقدوا نارا ، ولذلك قال : ذهب الله بنورهم ، فحمل أول الكلام على الواحد ، وآخره على الجمع.

واستوقد نارا ، بمعنى : أوقد.

(فَلَمَّا) جوابها محذوف ، وهو : طفئت ، وقيل : جوابها : ذهب.

(بِنُورِهِمْ) الضمير للمنافقين ، والاخبار بهذا عن حال تكون فى الآخرة.

وقيل : الضمير يعود على (الَّذِي) وعلى هذا يتم تمثيل المنافق بالمستوقد ، لأن بقاء المستوقد فى ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق فى حيرته وتردده.

(ناراً) النار ، مؤنثة ، وهى من النور والاشراق.

(ما حَوْلَهُ) ما ، زائدة مؤكدة ، وقيل : مفعولة للفعل : أضاءت. وحوله ، ظرف مكان ، والهاء ، فى موضع خفض بإضافته إليها.

(ذَهَبَ) وأذهب ، لغتان ، من الذهاب ، وهو زوال الشيء.

(وَتَرَكَهُمْ) أي أبقاهم.

(فِي ظُلُماتٍ) جمع ظلمة.

وقرأ الأعمش : ظلمات ، بإسكان اللام ، على الأصل ، ومن قرأها بالضم ، فللفرق بين الاسم والنعت.

(لا يُبْصِرُونَ) فعل مستقبل فى موضع الحال ، كأنه قال : غير مبصرين ، وعلى هذا فلا يجوز الوقف على (ظُلُماتٍ).

٥٩

١٨ ـ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) :

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) أي هم صم ، خبر ابتداء مضمر.

وفى قراءة (صما بكما عميا) بالنصب على الذم.

والصمم : الانسداد ، فالأصم : من انسدت خروق مسامعه.

والأبكم : الذي لا ينطق ولا يفهم ، فاذا فهم فهو الأخرس.

وقيل : الأخرس والأبكم واحد.

والعمى : ذهاب البصر ، وقد عمى ، فهو أعمى ، وقوم عمى.

وليس الغرض فى هذا كله نفى الإدراكات عن حواسهم جملة ، وانما الغرض نفيها من جهة ما.

(فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي الى الحق ، لسابق علم الله تعالى فيهم.

١٩ ـ (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) :

(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) أو ، بمعنى الواو. وقيل : هى للتخيير ، أي مثلوهم بهذا أو بهذا ، لا على الاقتصار على أحد الأمرين ، والمعنى : أو كأصحاب صيب.

والصيب : المطر.

والسماء : ما علا ، والأرض : ما سفل.

(فِيهِ ظُلُماتٌ) ابتداء وخبر.

(وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) معطوف عليه.

وقال : ظلمات ، بالجمع ، إشارة الى ظلمة الليل ، وظلمة الدجن ، وهو الغيم ، وجمعت من حيث تتراكب وتتزايد.

والرعد : اسم الصوت السموع من اصطكاك السحب ، والبرق : ما ينقدح من اصطكاكها.

٦٠