تفسير ابن عربي - ج ٢

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ٢

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٨
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

سورة مريم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ١١] (كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١))

(كهيعص) قد تقدم فيما سلف أن كل طالب ينادي ربّه ويدعوه إنما يستحق الإجابة إذا دعاه بلسان الحال وناداه باسمه الذي هو مصدر مطلوبه بحسب اقتضاء استعداده في ذلك الحال ، علم أو لم يعلم ، إذ العطاء والفيض لا يكون إلا بحسب الاستعداد ، والاستعداد لا يطلب إلا مقتضى ذلك الاسم فيجيبه بتجلي ذلك الاسم الذي يجبر نقصه ويقضي حاجته بإفادة مطلوبه كما أن المريض إذا قال : يا ربّ ، فمراده : يا شافي ، إذ الحق يبريه بذلك الاسم عند إجابته. وكذا الفقير إذا ناداه أجابه باسمه المغني إذ هو ربّه. فنادى زكريا عليه‌السلام ربّه ليهب له وليّا يقوم مقامه في أمر الدين ، وتوسل إليه بأمرين ، واعتذر إليه معتلا بأمرين ، توسل بالضعف والشيخوخة والوهن والعجز عن القيام بأمر الدين في قوله : (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) فأجابه باسمه الكافي فكفاه ضعفه وأعطاه القوّة وأيّده بالولد ثم بعنايته به قديما بقوله : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) فأجابه باسمه الهادي وهداه إلى مطلوبه بالبشارة والوعد ، لأن العناية (١) المقتضية للسعادة المستلزمة لسلب الشقاوة ، كما أشار إليها ، يلازمها عبارة عن علمه تعالى في الأزل بعين في العدم وتقتضي باستعدادها سعادة تناسبها وهو عين إرادته تعالى ذلك الكمال لها عند وجودها فلا بد من هداية لها إليه ، والهداية إنما تتم بالتوفيق ، وهو ترتيب الأسباب الموافقة لذلك المطلوب المؤدّية إليه ، ولم يجدها موافقة ووجد

__________________

(١) قوله : لأن العناية إلخ .. كذا في الأصل ، ولعل الناقل أحله ، وليحرر. اه.

٥

خلافها فخاف واعتذر إليه بالخوف من الموالي لعدم صلاحيتهم لذلك ، فأجابه باسمه الواقي ، فوقاه شرّهم ، وبامتناع وجود الولي من نسله لعدم الأسباب بقوله : (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) فأجابه باسمه العليم لأنه علم عدم الأسباب الذي تعلل به محتجا بها عن المسبب وعلم وجوده مع عدمها وما علمه لا بدّ من كونه ، كما قالت الملائكة لامرأة إبراهيم عليه‌السلام : (كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (١).

ولما بشره بالولد ، وهداه إلى مقتضى العلم ، تعجب منه لضراوته في عالم الأسباب بالحكمة وكرر التعلل بعدم الأسباب بقوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) إلخ ، لأنه كان يطلب ولدا حقيقيا يلي أمره ويحذو حذوه ويسلك طريقه في القيام بأمر الدين وإن لم يكن من نسله لعدم أهلية مواليه لذلك ، فكرر البشارة وهداه إلى سهولة ذلك في قدرته ، فالتمس علامة تدل عليه ، فهداه إليها وأنجز وعده باسمه الصادق فرحمه بهبة يحيى له. فاقتضت الأحوال الأربعة مع حال الوعد والبشارة إجابته بالرحمة عليه بالأسماء الخمسة. فعلى هذا يكون (ك) إشارة إلى الكافي الذي اقتضاه حال ضعفه وشيخوخته وعجزه و (ه) إشارة إلى الهادي الذي اقتضاه عنايته به وإرادة مطلوبه له و (ي) إشارة إلى الواقي الذي اقتضاه حال خوفه من الموالي و (ع) إشارة إلى العالم الذي اقتضاه إظهاره لعدم الأسباب و (ص) إشارة إلى الصادق الذي اقتضاه الوعد. ومجموع الأسماء الخمسة هو : الرحيم بهبة الولد ، وإفاضة مطلوبه في هذه الأحوال. فذكر هذه الحروف وتعدادها إشارة إلى أن ظهور هذه الصفات التي حصل بها هذه الأسماء هو ظهور رحمة عبده زكريا وقت ندائه وذكرها ذكر تلك الرحمة التي هي وجود يحيى عليه‌السلام. ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما : (ك) عبارة عن الكافي و (ه) عن الهادي و (ي) عن الواقي و (ع) عن العالم و (ص) عن الصادق والله أعلم.

والتطبيق أن يقال : نادى زكريا الروح في مقام استعداد العقل الهيولاني نداء خفيّا ، واشتكى ضعفه ، وتوسل بعنايته ، واشتكى خوف موالي القوى النفسانية وعقر امرأة النفس بولد القلب (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) العقل الفعّال (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) موصوفا بالكمالات المرضية (نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ) القلب (اسْمُهُ يَحْيى) لحياته أبدا (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أتوصل بها إليه (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ) ناس الحواس بالشواغل الحسيّة والمخالطة بالأمور الطبيعية (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا) أي : كونوا على عبادتكم المخصوصة بكل واحد منكم بالرياضة وترك الفضول دائما.

[١٢ ـ ١٥] (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥))

__________________

(١) سورة الذاريات ، الآية : ٣٠.

٦

(يا يَحْيى) القلب (خُذِ) كتاب العلم ، المسمى بالعقل الفرقاني (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ) أي : الحكمة (صَبِيًّا) قريب العهد بالولادة المعنوية (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) أي : رحمة بكمال تجليات الصفات (وَزَكاةً) أي : تقدّسا وطهارة بالتجرّد (وَكانَ تَقِيًّا) مجتنبا صفات النفس (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) الروح والنفس (وَسَلامٌ عَلَيْهِ) أي : تنزّه وتقدّس عن ملابسة المواد (يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ) بالفناء في الوحدة (وَيَوْمَ يُبْعَثُ) بالبقاء بعد الفناء (حَيًّا) بالله.

[١٦ ـ ٢٤] (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤))

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) المكان الشرقي هو مكان العالم القدسي لاتصالها بروح القدس عند تجرّدها وانتباذها عن ممكن الطبيعة ومقرّ النفس وأهلها القوى النفسانية والطبيعية. والحجاب الذي اتخذته من دونهم هو حظيرة القدس الممنوع من أهل عالم النفس بحجاب الصدر الذي هو غاية مبلغ علم القوى المادية ومدى سيرها ، وما لم تترق إلى العالم القدسي بالتجرد لم يمكن إرسال روح القدس إليها ، كما أخبر عنه تعالى في قوله : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) وإنما تمثل لها بشرا سويّ الخلق ، حسن الصورة ، لتتأثر نفسها به وتستأنس فتتحرّك على مقتضى الجبلة ويسري الأثر من الخيال في الطبيعة فتتحرك شهوتها ، فتنزل كما يقع في المنام من الاحتلام وتنقذف نطفتها في الرحم فيتخلق منه الولد. وقد مرّ أن الوحي قريب من المنامات الصادقة لهذه القوة البدنية وتعطلها عن أفعالها عنده كما في النوم ، فكل ما يرى في الخيال من الأحوال الواردة على النفس الناطقة المسماة في اصطلاحنا : قلبا ، والاتصالات التي لها بالأرواح القدسية يسري في النفس الحيوانية والطبيعية وينفعل منه البدن. وإنما أمكن تولد الولد من نطفة واحدة لأنه ثبت في العلوم الطبيعية أن منيّ الذكر في تكوّن الولد بمنزلة الإنفحة في الجبن ، ومنيّ الأنثى بمنزلة اللبن أي : العقد من منيّ الذكر ، والانعقاد من منيّ الأنثى لا على معنى أنّ منيّ الذكر ينفرد بالقوة العاقدة

٧

ومنيّ الأنثى بالقوة المنعقدة. بل على معنى أنّ القوة العاقدة في منيّ الذكر أقوى والمنعقدة في منيّ الأنثى أقوى وإلا لم يمكن أن يتحدا شيئا واحدا. ولم ينعقد منيّ الذكر حتى يصير جزء من الولد ، فعلى هذا إذا كان مزاج الأنثى قويا ذكوريا كما تكون أمزجة النساء الشريفة النفس ، القوية القوى ، وكان مزاج كبدها حارّا كان المنيّ المنفصل عن كليتها اليمنى أحرّ كثيرا من الذي ينفصل عن كليتها اليسرى ، فإذا اجتمعا في الرحم وكان مزاج الرحم قويا في الإمساك والجذب. قام المنفصل من الكلية اليمنى مقام الذكر في شدّة قوة العقد والمنفصل من الكلية اليسرى مقام منيّ الأنثى في قوة الانعقاد فيتخلق الولد ، هذا وخصوصا إذا كانت النفس متأيدة بروح القدس ، متقوية ، يسري أثر اتصالها به إلى الطبيعة والبدن ويغير المزاج ويمدّ جميع القوى في أفعالها بالمدد الروحاني فيصير أقدر على أفعالها بما لا ينضبط بالقياس والله أعلم.

(وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) دالة على البعث والنشور (وَرَحْمَةً) منا عليهم بتكميلهم به بالشرائع والحكم والمعارف وهدايتهم بسبب فعلنا ذلك فهو صورة الرحمة الإلهية المعنوية (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) في اللوح ، مقدرا في الأزل. وعن ابن عباس : فاطمأنت إليه بقوله : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) فدنا منها ، فنفخ في جيب الدرع ، أي : البدن ، وهو سبب إنزالها على ما ذكرنا كالغلمة مثلا والمعانقة التي كثيرا ما تصير سببا للإنزال. وقيل : إن الروح المتمثل لها هو روح عيسى عليه‌السلام عند نزوله واتصاله بها وتعلقه بنطفتها ، والحق أنه روح القدس لأنه كان السبب الفاعلي لوجوده ، كما قال : (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا). واتصال روح عيسى بالنطفة إنما يكون بعد حصول النطفة في الرحم واستقرارها فيه ريثما تمتزج وتتحد وتقبل مزاجا صالحا لقبول الروح (فَانْتَبَذَتْ بِهِ) أي : معه (مَكاناً قَصِيًّا) أي : بعيدا من المكان الأول الشرقي لأنها وقعت به في المكان الغربي الذي هو عالم الطبيعة والأفق الجسماني ، ولهذا قال : (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) نخلة النفس (فَناداها مِنْ تَحْتِها) أي : ناداها جبريل من الجهة السفلية بالنسبة إلى مقامها من القلب ، أي : من عالم الطبيعة الذي كان حزنها من جهته وهو الحمل الذي هو سبب تشوّرها وافتضاحها (أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) أي : جدولا من غرائب العلم الطبيعي وعلم توحيد الأفعال الذي خصك الله بها واصطفاك كما رأيت من تولد الجنين من نطفتك وحدها.

[٢٥ ـ ٣٤] (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي

٨

عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤))

(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ) نخلة نفسك التي بسقت في سماء الروح باتصالك بروح القدس ، واخضرّت بالحياة الحقيقية بعد يبسها بالرياضة وجفافها بالحرمان عن ماء الهوى وحياته ، وأثمرت المعارف والمعاني ، أي : حركيها بالفكر (تُساقِطْ عَلَيْكِ) من ثمرات المعارف والحقائق (رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي) أي : من فوقك رطب الحقائق والمعارف الإلهية وعلم تجليات الصفات والمواهب والأحوال (وَاشْرَبِي) من تحتك ماء العلم الطبيعي وبدائع الصنع وغرائب الأفعال الإلهية وعلم التوكل وتجليات الأفعال والأخلاق والمكاسب ، كما قال تعالى : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) (١) (وَقَرِّي عَيْناً) بالكمال والولد المبارك الموجود بالقدرة ، الموهوب بالعناية (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) أي : من أهل الظاهر المحجوبين عن الحقائق بظواهر الأسباب وبالصنع والحكمة عن الإبداع والقدرة الذين لا يفهمون قولك ولا يصدّقون بك وبحالك لوقوفهم مع العادة ، واحتجابهم بالعقول المشوبة بالوهم المحجوبة عن نور الحق (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) أي : لا تكلميهم في أمرك شيئا ولا تماديهم فيما لا يمكنهم قبوله حتى ينطق هو بحاله (وَالسَّلامُ عَلَيَ) في المواطن الثلاثة كما على يحيى لكون ذاتي مجردة مقدّسة لا تحتجب بالمواد حتى في الطفولة ، إذ معنى السلام : التنزّه عن العيوب اللاحقة بواسطة تعلق المادة (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِ) أي : كلمته التي هي عبارة عن ذات مجرّدة أزلية ، كما مرّ غير مرة.

[٣٥ ـ ٣٩] (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩))

(ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) لامتناع وجود شيء آخر معه (سُبْحانَهُ) عن أن يوجد معه شيء (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي : يبدعه بمجرّد تعلق إرادته به من غير زمان.

[٤٠ ـ ٥١] (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٦٦.

٩

إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١))

(إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) في القيامة الكبرى بالفناء المطلق والشهود الذاتي. الصدق أصل كل فضيلة ، وملاك كل كمال ، وخميرة كل مقام ، واستعداد كل موهبة (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) مما سوى الله من الأكوان التي تطلبها وتنسب التأثير إليها (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) في الحقيقة لعدم تأثيره. (قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ) أي : التوحيد الذاتي (سَلامٌ عَلَيْكَ) أي : جرّد الله ذاتك عن المواد التي احتجبت بها (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) سأطلب منه ستر ذاتك بنوره ومحو غشاوات صفاتك بصفاته ودناءة هيئات نفسك بأفعاله إن أمكن (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) بالكسر ، أي : مجرّدا ذاته وعلمه في السلوك لوجه الله لم يلتفت إلى ما سواه من وجهة حتى صفاته تعالى ، بل نفاها عن ذاته ، وهو ما زاغ البصر وما طغى بقوله : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (١). ومخلصا بالفتح ، أي : أخلصه الله عن أنانيته وأفنى البقية منه فخلص من الطغيان المذكور بالتجلي الذاتي التام ، واستقام بتمكين الله إياه كما قال : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) (٢) من ذنب ظهور الأنانية (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) مقام الرسالة دون مقام النبوّة لكونها مبينة للأحكام كالحلال والحرام ، منبهة على الأوضاع كالصلاة والصيام فهي متعلقة ببيان أحكام المكلفين. وأما النبوّة فهي عبارة عن الإنباء عن المعاني الغيبية كأحوال المعاد والبعث والنشور والمعارف الإلهية كتعريف الصفات والأسماء وما يليق بالله من التحميدات والتمجيدات والولاية فوقهما جميعا لكونها عبارة عن الفناء في ذات الله من غير اعتبار الخلق فهي أشرف المقامات لكونها تتقدم عليهما لأنها ما لم تحصل أولا لم تمكن النبوّة ولا الرسالة لكونها مقوّمة إياهما ولهذا قدم كونه مخلصا في القرآن بالفتح ، وأخرت النبوة عن الرسالة لكونها أشرف وأدل على المدح والتعظيم منها ولم يؤخر الولاية عنهما باعتبار الشرف لأنها وإن كانت أشرف لكنها باطنة لا يعرف شرفها وفضلها إلا الأفراد من العرفاء المحققين المخصوصين بدقة النظر دون غيرهم فلا يفيد المدح والتعظيم ولا الاقتصار عليها بقوله مخلصا وإن كانت أشرف لأنها قد توجد

__________________

(١ ـ ٢) سورة الأعراف ، الآية : ١٤٣.

١٠

بدونهما بخلاف العكس ، فلا يحسن وصفه إلا على هذا الترتيب.

[٥٢ ـ ٥٩] (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) أي : طور وجوده الذي هو نهاية طور القلب في مقام السرّ الذي هو محل المناجاة ، ولهذا قال : (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) وسمي كليم الله. وإنما وصفه بالأيمن الذي هو الأشرف والأقوى والأكثر بركة احترازا عن جانبه الأيسر الذي هو الصدر ، لأن الوحي إنما يأتي من عالم الروح الذي هو الوادي المقدس (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) إن كان بمعنى المكانة فهو قربه من الله ورتبته في مقام الولاية من عين الجمع ، وإن كان بمعنى المكان فهو الفلك الرابع الذي هو مقرّ عيسى عليه‌السلام لما ذكر من كونه مركز روحه في الأصل والمبدأ الأول لفيضانه إذا فاض عن محرك فلك الشمس ومعشوقه (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ) سمعوا بالنفس من كل آية ظاهرها ، وبالقلب باطنها ، وفهموا بالسرّ حدّها ، وصعدوا بالروح مطلعها ، فشاهدوا المتكلم موصوفا بالصفة التي تجلى بها في الآية (خَرُّوا سُجَّداً) فنوا في ذلك الاسم الذي تجلى به عند ظهوره بتلك الصفة الكاشفة عنها تلك الآية ، وبكوا اشتياقا إلى مشاهدته بسائر الصفات المشتمل عليه الرحمن أو الله وهو بكاء القلب إن لم يكن مستلزما لبقاء النفس من خوف البعد ، كما قال الشاعر :

ويبكي إن نأوا شوقا إليهم

ويبكي إن دنوا خوف الفراق

أضاعوا صلاة الحضور لكونهم في مقام النفس ، والحضور إنما يكون بالقلب ، ولا صلاة إلا به. ولذلك الاحتجاب بصفات النفس عن مقام القلب لزم اتباع الشهوات (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) شرّا وضلالا إذ كلما أمعنوا في اتباعها ازداد حجابهم فازداد ضلالهم وارتكبت الذنوب على الذنوب ، فازداد تورّطهم فيها ، كما قال عليه الصلاة والسلام : «الذنب بعد الذنب عقوبة للذنب الأول».

[٦٠ ـ ٦٣] (إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣))

١١

(إِلَّا مَنْ تابَ) عن الذنب الأول فرجع إلى مقام القلب (وَآمَنَ) باليقين (وَعَمِلَ صالِحاً) باكتساب الفضيلة (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) المطلقة بحسب استحقاقهم ودرجتهم في الإيمان والعمل (وَلا يُظْلَمُونَ) أي : لا ينقصون مما اقتضاه حالهم ومقامهم (شَيْئاً جَنَّاتِ عَدْنٍ) مرتبة بحسب درجاتهم في مقام النفس والقلب والروح (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ) المفيض بجلائل النعم وأصولها وعمومها (عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) في حالة كونهم غائبين عنها (إِلَّا سَلاماً) أي : ما يسلمهم من النقائص ويجردهم عن المواد من المعارف والحكم (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي : دائما أو بكرة في جنة القلب وقت ظهور نور شمس الروح ، وعشيّا في جنة النفس وقت غروبه.

(تِلْكَ الْجَنَّةُ) المطلقة التي تقع على واحدة منها (الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) مطلقا بحسب تقواه ، فإن اتقى الرذائل والمعاصي نورثه جنة النفس أي جنة الآثار ، وإن اتقى أفعاله بالتوكل فله جنة القلب وحضور تجليات الأفعال ، وإن اتقى صفاته في مقام القلب فله جنة الصفات ، وإن اتقى ذاته ووجوده بالفناء في الله فله جنة الذات.

[٦٤ ـ ٧٠] (وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠))

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) تنزّل الملائكة واتصال النفس بالملإ الأعلى إنما يكون بأمرين : استعداد أصلي وصفاء فطري يناسب به جوهر الروح العالم الأعلى ، واستعداد حاليّ بالتصفية والتزكية ولا يكفي مجرد حصولها فيه ، بل المعتبر هو الملائكة. ألا ترى إلى قوله : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) (١) كيف رتّب التنزل على الاستقامة التي هي التمكين الدال على الملكة. وإلى قوله في تنزّل الشياطين : (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢)) (٢) كيف أورد في حصول استعداد تنزّلهم بناء المبالغة الدال على الملكة والدوام فكذا لا تتنزل الملائكة إلا على الصدّيق الخير. وهذا الاستعداد الثاني إذا اجتمع مع الأول كان علامة إذن الحق وأمره ، إذ الفيض عام ، تام ، غير منقطع ، فحيث تأخر إنما تأخر لعدم الاستعداد ، فلذا لما استبطأ الوحي وقلّ صبره نزلت ، أي : وما نتنزّل باختيارنا بل باختياره وأمره ليس إلا.

__________________

(١) سورة فصلت ، الآية : ٣٠.

(٢) سورة الشعراء ، الآية : ٢٢٢.

١٢

(لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا) من أطوار الجبروت التي فوقنا وتتقدّم أطوارنا التي وجوهنا إليها ولا يحيط علمنا بها (وَما خَلْفَنا) من أطوار الملكوت الأرضية التي دون أطوارنا (وَما بَيْنَ ذلِكَ) من الأطوار الملكوتية التي نحن فيها ، كلهم في ملكة قهره وتحت سلطنة أمره وإحاطة علمه (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) ينسى شيئا يستعدّ لكمال فلا يفيض عليه أو تاركا لمستحق بدون حقه بل يحيط بكل الاستعدادات علما ويفيض الكمال عليها وينزل مقتضاها مع الحصول دفعة فإن تأخر الوحي فإنما كان من جهتك لا من جهته هو (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) يرب كلا منهما باسم يخصه ويدبره ويفيض ما يقتضيه حاله عليه فيرب الكل بجميع أسمائه (فَاعْبُدْهُ) بعبادتك التي يقتضيها حالك حتى تستعدّ لقبول الفيض ونزول الوحي ولا يكفي وجود العبادة بتهيئة الاستعداد بالتصفية مرة أو مرتين بل الدوام على ذلك معتبر ، فدم على ذلك الصفاء الموجب للقبول (وَاصْطَبِرْ) لعبادته بالتوجه إليه على الدوام (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) مثلا ، فتلتفت إليه وتقبل بوجهك نحوه فيفيض عليك مطلوبك (وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) في عالم الشهادة محسوسا أو شيئا يعتدّ به ، كما قال : (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) (١) لأن الوجود العيني في الأزل قبل الخلق كلا وجود لانطماسه في عين الجمع (لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) أي : لنحشرنّ المحجوبين المنكرين للبعث مع الشياطين الذين أغووهم وأضلوهم عن الحق لأنّ نفوس المحجوبين تناسب في الكدورة والبعد عن النور نفوس الشياطين ، فبالضرورة يحشرون معهم خصوصا إذا اتبعوهم في الاعتقاد (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ) الطبيعة في العالم السفلي لاحتجابهم بالغواشي الهيولانية والغواسق الظلمانية في الهياكل السجنية مقرنين في الأصفاد ، سرابيلهم من قطران (جِثِيًّا) لاعوجاج هياكلهم بسبب عوج نفوسهم فلا يستطيعون قياما (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) أي : لنخصّن من كل فرقة من هو أشدّ عتيا على الرحمن بعذاب أشدّ على ما علمنا من حاله ، فنحن أعلم به منه ، فنصليه بعذاب هو أولى به.

[٧١] (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١))

(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) أي : لا بدّ لكل أحد عند البعث والنشور أن يرد عالم الطبيعة لكونها مجاز عالم القدس (كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) أي : حكما جزما ، مقطوعا به. ومن بعث بردّ روحه إلى الجسد لا يمكنه الجواز على الصراط إلا بالجواز على جهنم ، لأن المؤمن لما جاء أطفأ نوره لهبها فلم يشعر بها. كما روي أنها تقول : جز يا مؤمن فإن نورك أطفأ لهبي. ولو سألته بعد دخول الجنة : كيف كان حالك في النار؟ لقال : ما أحسست بها. كما سئل الصادق عليه‌السلام : أتردونها أنتم أيضا؟ فقال : جزناها وهي خامدة. وعن ابن عباس : يردونها كأنها إهالة. وعن جابر بن

__________________

(١) سورة الإنسان ، الآية : ١.

١٣

عبد الله أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فقال : «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض : أليس وعدنا ربنا أن نرد النار؟ فيقال لهم : وردتموها وهي خامدة». وعنه رحمه‌الله أنه سئل عن هذه الآية فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الورود الدخول لا يبقى برّ ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم عليه‌السلام حتى أنّ للنار ضجيجا من بردها». وأما قوله : (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) (١) فالمراد عن عذابها.

[٧٢ ـ ٧٥] (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥))

(ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) لتجردهم بالجواز على الصراط الذي هو سلوك طريق العدالة إلى التوحيد كالبرق (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ) الذين نقصوا نور استعدادهم في الظلمات أو وضعوه غير موضعه (فِيها جِثِيًّا) لا حراك بهم لتوردهم في المواد الظلمانية كماقال عليه‌السلام : «الظلم ظلمات يوم القيامة».

[٧٦ ـ ٨٢] (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) أي : كما يمد أهل الضلالة في ضلالتهم بالخذلان مدّا يزداد فيه ضلالهم واحتجابهم كلما أمعنوا في جهلهم ورذائلهم كذلك يزيد الله المهتدين بالتوفيق كلما عملوا بما علموا استعدوا لقبول علم آخر فورثوه كماقال عليه‌السلام : «من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم». فيزيدهم عند العمل بمقتضى العلم اليقيني عين اليقين ، وعند العمل بمقتضاه حق اليقين (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) من العلوم والفضائل (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) لأدائها إلى التجليات الوصفية والجنات القلبية (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) بالرجوع إلى الذات الأحدية.

[٨٣ ، ٨٤] (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤))

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ١٠١.

١٤

(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) قد مرّ في باب تنزّل الملائكة أن النفس الخيّرة تستمد من الملكوت والملائكة السماوية لاتصالها بهم في الصفاء والتجرّد والنورية ، والنفوس الشريرة تستمد من النفوس المظلمة الأرضية لمناسبتها إياهم ومجانستها لهم في الظلمة والكدورة والخبث ، فتعجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شدّة ظلمتهم وتماديهم في الغواية والاحتجاب ، حيث تنزّل عليهم الشياطين دائما فتؤزهم أي : تحرّضهم وتخذلهم بإلقاء الوساوس والهواجس من أنواع الشرّ على التوالي (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) أي : أنفاسهم المقرّبة لهم إلى المصير إلى وبال كفرهم وأعمالهم وعذاب هيئاتهم وعقائدهم ، فإن لكل أجلا معينا سيصير إليه عن قريب.

[٨٥] (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥))

(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) إنما ذكر اسم الرحمن لعموم رحمته بحسب مراتب تقواهم كما ذكر في قوله : (مَنْ كانَ تَقِيًّا) (١) ، ولهذا لما سمعها بعض العارفين قال : ومن كان مع الرحمن فإلى من يحشر؟ فأجابه بعضهم بقوله : من اسم الرحمن إلى اسم الرحمن ومن اسم القهّار إلى اسم اللطيف. فإن المتّقي عن المعاصي والرذائل وصفات النفس الذي هو في أول درجة التقوى قد يحشر إلى الرحمن في جنة الأفعال ثم الصفات ثم بعد الوصول إلى الله في جنة الصفات له سير في الله بحسب تجليات الصفات ، وإذا انتهى السير إلى الذات يكون السير سيرا لله وفدا مكرمين.

[٨٦ ـ ٩٢] (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ) لأعمالهم الخبيثة (إِلى جَهَنَّمَ) الطبيعة (وِرْداً) كأنهم إبل عطاش فيوردهم النار (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) هذا العهد هو ما عاهد الله أهل الإيمان من الوفاء بالعهد السابق بالتوبة والإنابة إليه في الصفاء الثاني بعد الصفاء الأول ، وذلك الانسلاخ عن حجب صفات النفس والاتصاف بصفات الرحمن والاتصال بعالم القدس الذي هو حضرة الصفات ولهذا ذكر اسم الرحمن المعطي لأصول النعم وجلائلها المشتمل على سائر الصفات اللطيفة ، أي : لا يملك أحد أن يشفع له بالأمداد الملكوتية والأنوار القدسية إلا من استعدّ لقبول الرحمة الرحمانية واتصل بالجناب الإلهي بالعهد

__________________

(١) سورة مريم ، الآية : ٦٣.

١٥

الحقيقي. وعن ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه ذات يوم : «أيعجز أحدكم أن يتخذ عند كل صباح ومساء اللهمّ فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أني أعهد إليك أني أشهد أن لا إله إلا أنت ، وحدك لا شريك لك ، وأنّ محمدا عبدك ورسولك ، وأنك إن تكلني إلى نفسي تقرّبني من الشرّ وتباعدني من الخير ، وإني لا أثق إلا برحمتك ، فاجعل لي عهد تؤتنيه يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد».

[٩٣] (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣))

(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) لكونهم في حيز الإمكان ومكمن العدم لا وجود لهم ولا كمال إلا به ، أفاض باسم الرحمن وجوداتهم وكمالاتهم ، فهم أنفسهم ليسوا شيئا ، فلو لم يعبدوه حق عبادته باستعدادات أعيانهم في العدم لما وجدوا ، ولو لم يعبدوه بعد الوجود بالقيام بحقوق نعمه التي أنعمها عليهم لما كملوا ، فهم مربوبون ، مجبورون وفي طيّ قهره وملكته مقهورون.

[٩٤] (لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤))

(لَقَدْ أَحْصاهُمْ) في الأزل بإفادة أعيانهم واستعداداتهم الأزلية من فيضه الأقدس وتعيينها بعلمه (وَعَدَّهُمْ عَدًّا) فما هيأتهم وحقائقهم إنما هي صور معلومات ظهرت في العدم بمحض عالميته وبرزت إلى الوجود بفيض رحمانيته ، فكيف تماثله وتناسبه.

[٩٥] (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥))

(وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الصغرى منفردا مجردا عن الأسباب والأعوان كما كان في النشأة الأولى ويوم القيامة الوسطى (فَرْداً) من العلائق البدنية مجردا عن الصفات النفسانية والقوى الطبيعية. وأما في القيامة الكبرى فكل من عليها فان ، ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام.

[٩٦ ـ ٩٨] (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨))

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان الحقيقي العلمي أو العيني (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من الأعمال المزكية المصفية المعدّة لقبول تجليات الصفات بالتجرد عن ملابس صفاتهم (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) كماقال : لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها». وفي الحقيقة هذا الودّ أثر

١٦

ونتيجة العناية الأولى المستفادة من قوله : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (١) ، فإذا أحبه قبل الظهور في مكمن الغيب بمحبة الاجتباء ألزمه حبّه لله عند البروز وحرّكه إلى الوفاء بالعهد السابق فتجدّد ذلك العهد بالعقد اللاحق الذي هو العهد مع الله بالوفاء بذلك في متابعة الحبيب المطلق كما قال : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١)) (٢). وإن صحت المتابعة في الأعمال والأحوال أحبه الله بمحبة الاصطفاء فوق المحبة التي هي ثمرة المحبة الأولى لكون الأولى عينية كامنة ولكونها كمالية بارزة وقعت محبته في قلوب الخلق وظهر له القبول عند أهل الإيمان الفطري. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أحبّ الله عبدا يقول الله تعالى : يا جبريل قد أحببت فلانا فأحبه ، فيحبه جبريل ، ثم ينادى في أهل السماء : أن الله تعالى قد أحبّ فلانا فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يضع له المحبة في الأرض». وعن قتادة : ما أقبل عبد إلى الله إلا أقبل الله بقلوب العباد إليه. وهذا معنى قوله : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا)

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٥٤.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ٣١.

١٧

سورة طه عليه‌السلام

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٤] (طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤))

(طه) الطاء إشارة إلى الطاهر ، والهاء إلى الهادي. وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شدّة حنوه وتعطفه على قومه لكونه صورة الرحمة ومظهر المحبة ، تأسّف من عدم تأثير التنزيل في إيمانهم واستشعر البقية كما ذكر في قوله : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) (١). وزاد في الرياضة فكان يحيي الليالي بالتهجد وبالغ في القيام حتى تورّمت قدماه فأخبر أن عدم إيمانهم ليس من جهتك بل من جهتهم وغلظ حجابهم أعدم استعدادهم لا لبقاء صفات نفسك أو بقية أنائيتك أو وجود نقصك وقصورك في الهداية كما استشعرت فلا تتعب نفسك. ونودي باسمين من أسماء الله تعالى دالين على نزاهته عن الأمرين المذكورين وجود البقية أو القصور عن الهداية فقيل : يا طاهر عن لوث البقية ، يا هادي (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) وتتعب بالرياضة لكن لتذكير من يلين قلبه ويستعدّ لقبوله بعد صفائك وطهارتك وقد حصل الأمران بحمد الله وكنت كاملا مكملا. وما المقصود بالرياضة إلا هذان الأمران اللذان ظهرا فيك تجلينا عليك بالاسمين المذكورين فلم تتعب نفسك وإنما لم يحصل الاهتداء بهدايتك لقسوة القلوب التي هي ضدّ الخشية واللين الذي هو شرط في حصوله لا لقصورك. ويجوز أن يكون قسما لا نداء ، أي : أقسم بالاسمين اللذين يربه بهما ويتجلى بهما له لإفادة التزكية والتخلية إذ المقصود بالإنزال حصول أثرهما فيك لا التعب والمشقة وقد حصل فلا تفرط في الرياضة ، ولهذا المعنى سمي آل محمدا : آل طه ، أي بحصول المعنيين لهم وظهور مسمى الاسمين فيهم (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ) إلى قوله : (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) معناه : أنزلناه تنزيلا ممن اتّصف بجميع الصفات الجمالية والجلالية فكان لذاتك نصيب من جميعها وإلا لما أمكنك قبوله وحمله إذ الأثر الوارد لا بد وأن يناسب المورد كما ناسب المصدر ، فلما كان مصدره الذات الموصوفة بجميع الأسماء الحسنى وجب أن يكون مورده الذي هو ذاتك كذلك موصوفة بها ، فكما خلق السموات العلا والأرض أي : عالم الأرواح وعالم الأجسام الذي هو

__________________

(١) سورة الكهف ، الآية : ٦.

١٨

الجسم المطلق وجعلها حجب جلاله الساترة لجماله كذلك حجبك بسماوات طبقات غيوبك من الحجب السبعة المذكورة التي هي روحانيتك ومراتب كمالك وأرض شهادتك التي هي بدنك.

[٥] (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥))

(الرَّحْمنُ) أي : ربّك الجليل ، المحتجب بحجب المخلوقات لجلاله ، هو الجميل ، المتجلي بجمال رحمته على الكل ، إذ لا يخلو شيء من الرحمة الرحمانية وإلا لم يوجد.

ولهذا اختصّ الرحمن به دون الرحيم لامتناع عموم الفيض للكل إلا منه ، فكما استوى على عرش وجود الكل بظهور الصفة الرحمانية فيه وظهور أثرها أي : الفيض العام منه إلى جميع الموجودات فكذا استوى على عرش قلبك بظهور جميع صفاته فيه ووصول أثرها منه إلى جميع الخلائق ، فصرت رحمة للعالمين وصارت نبوّتك عامة خاتمة. فمعنى الاستواء : ظهوره فيه سويا تاما إذ لا يطابق كلها مظهر غيره فلا يستوي ولا يستقيم إلا عليه ، ولذلك لم يكن له عليه‌السلام ظل إذ لم يبق من ذاته مع صفاته بقية لم تتحقق بالحق بالبقاء بعد الفناء التام.

[٦] (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦))

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ) إلى قوله : (وَما تَحْتَ الثَّرى) بيان لشمول قهره وملكته للكل ، أي : كلها تحت ملكته وقهره وسلطنته وتأثيره لا توجد ولا تتحرك ولا تسكن ولا تتغير ولا تثبت إلا بأمره وكذلك فنيت بالكلية مقهورة بوحدانيته وفناء قهاريته لا تسمع ولا تبصر ولا تبطش ولا تمشي إلا به وبأمره.

[٧ ـ ١٢] (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨) وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢))

(وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) بيان لكمال لطفه أي : علمه نافذ في الكل يعلم ظواهرها وبواطنها والسر وسر السر ، فكذلك إن تجهر وإن تخفت فيعلمه بجهر وبخفت. ولما كانت الصفات المذكورة هي الأمهات التي لا صفة إلا تحت شمولها ولا اسم إلا كان مندرجا في هذه الأسماء المذكورة ولم تتكثّر الذات بها ، قال : (اللهُ) أي : ذلك المنزل الموصوف بهذه الصفات هو الله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لم تتكثر ذاته الأحدية وحقيقة هويته بها ولم يتعدّد ، فهو هو في الأبد كما كان في الأزل لا هو إلا هو ولا موجود سواه باعتبار واحديته ومصدريته لما ذكر (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) التي هي ذاته مع اعتبار تعيينات الصفات (إِذْ رَأى

١٩

ناراً) هي روح القدس التي ينقدح منها النور في النفوس الإنسانية رآها باكتحال عين بصيرته بنور الهداية (فَقالَ لِأَهْلِهِ) القوى النفسانية (امْكُثُوا) اسكنوا ولا تتحرّكوا إذ السير إنما يصير إلى العالم القدسي ويتصل به عند هذه القوى البشرية من الحواس الظاهرة والباطنة الشاغلة لها (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي : رأيت نارا (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) أي : هيئة نورية اتصالية ينتفع بها كلكم فيتنوّر وتصير ذاته فضيلة (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ) من يهديني بالعلم والمعرفة الموجب للهداية إلى الحق أي : اكتسب بالاتصال بها الهيئة النورية أو الصور العلمية (فَلَمَّا أَتاها) أي : اتصل بها (نُودِيَ) من وراء الحجب النارية التي هي سرادقات العزة والجلال المحتجبة بها الحضرة الإلهية (يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) محتجبا بالصورة النارية التي هي أحد أستار جلالي متجليا فيها (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) أي : نفسك وبدنك أو الكونين لأنه إذا تجرّد عنهما فقد تجرّد عن الكونين أي : كما تجرّدت بروحك وسرّك عن صفاتهما وهيئاتهما حتى اتصلت بروح القدس تجرّد بقلبك وصدرك عنهما بقطع العلاقة الكلية ومحو الآثار والفناء عن الصفات والأفعال. وإنما سماهما نعلين ولم يسمهما ثوبين لأنه لو لم يتجرّد عن ملابسهما لم يتصل بعالم القدس والحال حال الاتصال ، وإنما أمره بالانقطاع إليه بالكلية كما قال : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) (١) فكأنه بقيت علاقته معهما والتعلق بهما يسوّخ قدمه التي هي الجهة السفلية من القلب المسماة بالصدر ، فهما بعد التوجه الروحي والسري نحو القدس ، فأمره بالقطع عنهما في مقام الروح ، ولهذا علل وجوب الخلع بقوله : (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) أي : عالم الروح المنزّه عن آثار التعلق وهيئات اللواحق والعلائق المادية المسمى طوى ، لطيّ أطوار الملكوت وأجرام السموات والأرضين تحته. ولقد صدق من قال : أمر بخلعهما لكونهما من جلد حمار ميت غير مدبوغ. وقيل : لما نودي وسوس إليه الشيطان : إنك تنادى من شيطان! فقال : أفرق به ، إني أسمع من جميع الجهات الست بجميع أعضائي ولا يكون ذلك إلا بنداء الرحمن.

[١٣ ، ١٤] (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤))

(وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) هذا وعد بالاصطفاء الذي كان بعد التجلي التام الذاتي الذي جعل جبل وجوده دكّا بالفناء فيه بالاندكاك وخروره صعقا عند إفاقته بالوجود الحقاني كما قال تعالى : (فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) (٢) ، وهذا التجلي هو تجلي الصفات قبل تجلي الذات ،

__________________

(١) سورة المزمل ، الآية : ٨.

(٢) سورة الأعراف ، الآيات : ١٤٣ ـ ١٤٤.

٢٠