بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٥

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي

بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٥

المؤلف:

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي


المحقق: عبدالعليم الطحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٤

منثورا. وقد علمنا أنّ الله تعالى إنّما يتقبّل من المتّقين ، فرجع الأمر كلّه إلى التّقوى. وقال بعض المريدين لشيخه : أوصنى قال : أوصيك بما أوصى الله تعالى الأوّلين والآخرين / وهو قوله : (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ)(١). قال الشيخ أبو حامد رحمه‌الله : أليس الله سبحانه أعلم بصلاح العبد من كلّ أحد ، ولو كانت فى العالم خصلة هى أصلح للعبد وأجمع للخير ، وأعظم للأجر ، وأجلّ فى العبوديّة ، وأعظم فى القدر ، وأولى فى الحال ، وأنجح فى المآل من هذه الخصلة الّتى هى التقوى لكان الله سبحانه أمر بها عباده وأوصى خواصّه بذلك ؛ لكمال حكمته ورحمته ، فلمّا أوصى بهذه الخصلة جميع الأوّلين والآخرين [من](٢) عباده واقتصر عليها علمنا أنّها الغاية التى لا متجاوز عنها ، وأنّه عزوجل قد جمع كلّ محض نصح ، ودلالة ، وإرشاد ، وتأديب ، وتعليم ، وتهذيب فى هذه الوصيّة الواحدة كما يليق بحكمته ورحمته ، فهى الخصلة الجامعة لخير الدّنيا والآخرة ، الكافية لجميع المهمات ، المبلغة إلى أعلى الدّرجات. وهذا أصل لا مزيد عليه ، وفيه كفاية لمن أبصر النّور واهتدى ، وعمل واستغنى. والله ولىّ الهداية والتّوفيق. ولقد أحسن القائل :

من عرف الله فلم تغنه

معرفة الله فذاك الشّقى

ما يصنع العبد بعزّ الغنى

والعزّ كلّ العزّ للمتّقى

روى الثّعلبىّ (٣) بسنده عن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال : «قرأ

__________________

(١) الآية ١٣١ سورة النساء.

(٢) تكملة يقتضيها السياق.

(٣) الكافى الشافى لابن حجر ١٧٤ وفيه أيضا : رواه أبو نعيم موقوفا على قتادة فى ترجمته فى الحلية.

٢٦١

النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)(١) قال : مخرجا من مهمّات الدّنيا (٢) ، ومن غمرات الموت ، ومن شدائد يوم القيامة».

وقال الحسن بن الفضل : ومن يتّق الله فى أداء الفرائض يجعل له مخرجا من العقوبة ، ويرزقه الثّواب من حيث لا يحتسب.

وقال عمرو بن عثمان الصوفىّ : ومن يقف عند حدوده ويجتنب معاصيه يخرجه من الحرام إلى الحلال ، ومن الضّيق إلى السّعة ، ومن النّار إلى الجنّة.

وقال أبو سعيد الخرّاز : ومن يتبرّأ من حوله وقوّته بالرّجوع إليه يجعل له مخرجا ممّا كلّفه بالمعونة له. وقيل : ومن يتّق الله فى الرّزق وغيره بقطع العلائق ، يجعل له مخرجا بالكفاية ، ويرزقه من حيث لا يحتسب.

وروى الثّعلبىّ مسندا عن أبى الدّرداء ، قال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّى لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) فما زال يقولها ويعيدها (٣)».

وقال عكرمة والشّعبىّ والضّحّاك : من يطلّق [طلاق] السّنّة يجعل له مخرجا إلى الرّجعة ، ويرزقه من حيث لا يرجو ولا يتوقّع.

__________________

(١) الآيتان ٢ ، ٣ سورة الطلاق.

(٢) فى الكشاف : شبهات الدنيا.

(٣) رواه ابن حنبل فى الزهد وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن أبى ذر مرفوعا (الكافى الشافى / ١٧٤). وفى رواية الكشاف : فما زال يقرؤها ويعيدها.

٢٦٢

وروى عن ابن عبّاس قال : «جاء عوف بن مالك الأشجعىّ إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إنّ ابنى أسره العدوّ وجزعت الأمّ فما تأمرنى؟ قال : آمرك وإيّاها أن تستكثرا من قول : لا حول ولا قوّة إلّا بالله» ، فانصرف إليها فقالت : ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : أمرنى وإيّاك أن نستكثر من قول : لا حول ولا قوّة إلّا بالله. قالت : نعم ما أمرك به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجعلا يقولان ذلك ، فغفل العدوّ فاستاق غنمهم ، فجاء به إلى أبيه وهى أربعة آلاف شاة فنزلت : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)(١). وقال / مقاتل : أصاب غنما ومتاعا فرجع إلى أبيه ، فانطلق أبوه فأخبر النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخبره ، فسأله أن يحلّ له أن يأكل ممّا أتاه ابنه. فقال له النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم : فأنزل الله عزوجل هذه الآية.

__________________

(١) رواه الثعلبى من طريق الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس. ورواه البيهقى فى الدلائل من طريق أبى عبيدة بن عبد الله ابن مسعود عن أبيه ، ورواه الحاكم عن جابر (الكافى الشافى / ١٧٤).

٢٦٣

٤٦ ـ بصيرة فى وكد ووكز

وكد بالمكان يكد وكودا : أقام به. وقولهم : وكد وكده ، أى قصد قصده.

والوكائد : السّيور التى يشدّ بها القربوس إلى دفّتى السّرج ، الواحد وكاد وإكاد.

قال ابن عبّاد : الوكد بالضم : الجهد والسّعى ، يقال كان وكدى من الأمر ما فعلته ، أى كان جهدى.

والتّواكيد (١) والتّآكيد (٢) ، والمياكيد (٣) : الوكائد.

والتّوكيد والتّأكيد واحد ، وبالواو أفصح ، قال الله تعالى : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها)(٤).

والتّوكيد دخل فى الكلام على وجهين : تكرير صريح ، وغير صريح ، نحو قولك : رأيت زيدا زيدا ، وغير الصّريح نحو قولك : فعل زيد نفسه وعينه ، والقوم أنفسهم وأعيانهم. والرّجلان كلاهما والمرأتان كلتاهما ، والرّجال أجمعون ، والنساء جمع.

وجدوى التوكيد أنّك إذا كرّرت فقد قرّرت المؤكّد وما علق به فى نفس السّامع ومكّنته فى قلبه ، وأمطت شبهة ربّما خالجته ، أو توهّمت غفلة وذهابا عما أنت بصدده فأزلته.

__________________

(١) التواكيد والتآكيد والمياكيد ، قالوا أنها جموع لا مفرد لها ، قد أنكر بعضهم التواكيد وفى مفردات الراغب : والسير الذى يشد به القربوس يسمى التأكيد ويقال توكيد ، وواضح أن التأكيد مفرد التأكيد والتوكيد مفرد التواكيد التى أنكرها بعضهم.

٢٦٤

الوكز : الدفع ، والطّعن ، والضّرب بجمع الكفّ (١) ، يقال : وكزه يكزه وكزا.

قال الزّجّاج فى قوله تعالى : (فَوَكَزَهُ مُوسى)(٢) : أى ضربه بجمع كفّه ، وقد قيل : ضربه بالعصا ، يقال : وكزه بالعصا أى ضربه بها.

وقربة موكوزة أى مملوءة ، وقد وكزتها وكزا.

وتوكّز لكذا وتوفّز وتوشّز ، أى تهيّأ له. وتوكّز على عصاه ، أى توكّأ.

__________________

(١) قيده التاج بقوله : على الذقن.

(٢) الآية ١٥ سورة القصص.

٢٦٥

٤٧ ـ بصيرة فى وكل

التّوكيل : أن تعتمد غيرك وتجعله نائبا عنك. والوكيل : فعيل بمعنى مفعول ، وقوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)(١) أى اكتف به أن يتوكّل أمرك ويتوكّل لك ، وعلى هذا حسبنا الله ونعم الوكيل. وقوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)(٢) أى بموكّل عليهم وحافظ لهم ، كقوله : لست عليهم بمسيطر (٣). وقوله : (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً)(٤) : أى من يتوكّل عنهم. قال الله تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٥) ، وقال : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(٦) ، وقال : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)(٧) ، وقال : عن أوليائه : (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(٨) ، وقال : (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا)(٩) ، وقال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ)(١٠) ، وقال : (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)(١١) ، وقال : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ)(١٢) ، وقال : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)(١٣) وقال عن أنبيائه ورسله : (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا

__________________

(١) الآية ٨١ سورة النساء وورد فى آيات أخرى.

(٢) الآيات ١٠٧ سورة الأنعام ، ٤١ سورة الزمر. ٦ سورة الشورى.

(٣) الآية ٢٢ سورة الغاشية.

(٤) الآية ١٠٩ سورة النساء.

(٥) الآية ٢٣ سورة المائدة.

(٦) الآية ١٢٢ سورة آل عمران وورد فى آيات أخر.

(٧) الآية ٣ سورة الطلاق.

(٨) الآية ٤ سورة الممتحنة.

(٩) الآية ٢٩ سورة الملك.

(١٠) الآية ٧٩ سورة النمل.

(١١) الآية ٣ سورة الأحزاب.

(١٢) الآية ٥٨ سورة الفرقان.

(١٣) الآية ١٥٩ سورة آل عمران.

٢٦٦

سُبُلَنا)(١) ، وقال عن أصحاب نبيّه : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(٢) وقال : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(٣). وفى الصّحيحين حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنّة بغير حساب : «هم الّذين لا يسترقون ولا يتطيّرون وعلى ربّهم يتوكّلون (٤)». وعن الترمذىّ يرفعه : «لو أنّكم تتوكّلون على الله حقّ توكّله لرزقتم كما يرزق الطّير تغدو خماصا وتروح بطانا» (٥).

ثمّ التّوكّل نصف الإيمان ، والنّصف الثانى الإنابة ، فالتّوكّل هو الاستعانة ، والإنابة هو العبادة.

(فصل) منزلة التوكّل من أوسع المنازل وأجلّها وأجمعها ، ولا تزال معمورة بالنازلين ، فلنذكر معنى التوكّل ودرجاته (٦).

قال الإمام أحمد رحمه‌الله : التوكّل عمل القلب ، ومعنى ذلك أنّه عمل قلبىّ ليس للجوارح فيه مدخل ، وهو من باب الإدراكات والعلوم. ومن الناس من يجعله من باب المعارف فيقول : هو علم القلب بكفاية

__________________

(١) الآية ١٢ سورة إبراهيم.

(٢) الآية ١٧٣ سورة آل عمران.

(٣) الآية ٢ سورة الأنفال.

(٤) أخرجه البزار عن أنس كما فى (الفتح الكبير) وتمامه : «هم الذين لا يكتوون ولا يكوون ولا يسترقون» الحديث.

(٥) أخرجه الإمام أحمد فى مسنده والترمذى فى صحيحه وابن ماجه والحاكم فى مستدركه عن عمر (الفتح الكبير) والرواية فى الفتح : «لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ...» الحديث.

(٦) فى كتاب إحياء علوم الدين للغزالى : قد أكثر الخائضون فى بيان حد التوكل واختلفت عباراتهم وتكلم كل واحد عن مقام نفسه وأخبر عن حده كما جرت عادة أهل التصوف به.

٢٦٧

الربّ عنده. ومنهم من يفسّره بسكون حركة القلب فيقول : التّوكّل هو انطراح (١) القلب بين يدى الله ، كانطراح الميّت بين يدى الغاسل يقلّبه كيف يشاء ، أو ترك الاختيار والاسترسال مع مجارى الأقدار

قال سهل : التوكّل : الاسترسال مع الله على ما يريد (٢). ومنهم من يفسّره بالرّضا ، سئل يحيى بن معاذ ، متى يكون الرّجل متوكّلا؟ قال : إذا رضى بالله وكيلا. ومنهم من يفسّره بالثقة بالله والطّمأنينة إليه. وقال ابن عطاء : التوكّل : أن لا يظهر فيك (٣) انزعاج إلى الأسباب مع شدّة فاقتك إليها.

وقال ذو النّون : هو ترك (٤) تدبير النّفس ، والانخلاع من الحول والقوّة. وإنّما يقوّى العقد على التوكّل إذا علم أنّ الحقّ سبحانه يعلم ويرى ما هو فيه. وقيل : التّوكّل (٥) : التّعلّق بالله فى كلّ حال. وقيل : التوكّل : أن ترد عليك موارد الفاقات فلا تسمو إلّا إلى من له الكفايات. وقيل : نفى الشّكوك والتّفويض إلى مالك الملوك. وقال ذو النّون : خلع الأرباب ، وقطع الأسباب ، يريد قطعها من تعلّق القلب بها لا من ملابسة الجوارح لها.

ومنهم من جعله مركّبا من أمرين ، قال أبو سعيد الخرّاز (٦) : التّوكّل : اضطراب بلا سكون ، وسكون بلا اضطراب. وقال أبو تراب النخشبى

__________________

(١) يرى الغزالى أن هذه أعلى درجات التوكل.

(٢) وهو المعروف بترك التدبير كما يقول الغزالى.

(٣) فى ا ، ب : فيه والتصويب من السياق فبعدها أضاف كلمة الفاقة إلى ضمير الخطاب.

(٤) عبارة ذى النون كما فى الإحياء : خلع الأرباب وقطع الأسباب وستأتى عنه هنا.

(٥) هو قول أبى عبد الله القرشى كما فى الإحياء.

(٦) إحياء علوم الدين ٤ / ٢٢٨.

٢٦٨

هو طرح البدن فى العبوديّة ، وتعلّق القلب بالرّبوبيّة ، والطمأنينة إلى الكفاية ، فإن أعطى شكر ، وإن منع صبر ، فجعله مركّبا من خمسة أمور : القيام بحركات العبوديّة ، وتعلّق القلب بتدبير الربّ ، وسكون إلى قضائه وقدره ، وطمأنينة بكفايته ، وشكر إذا أعطى ، وصبر إذا منع.

وقال أبو يعقوب النهرجورىّ : التوكّل (١) على الله تعالى بكمال الحقيقة وقع لإبراهيم الخليل ، فى الوقت الذى قال لجبريل عليه‌السلام : «أمّا إليك فلا».

وأجمع القوم على أنّ التوكّل لا ينافى القيام بالأسباب ، بل لا يصحّ التوكّل إلا مع القيام بها ، وإلّا فهو بطالة ، وتوكّل فاسد. قال سهل : من طعن فى الحركة فقد طعن فى السنّة ، ومن طعن فى التّوكّل فقد طعن فى الإيمان (٢). فالتوكّل حال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والكسب سنّته ، فمن عمل على حاله فلا يتركنّ سنّته. وسئل سهل عن التّوكل فقال : قلب عاش مع الله بلا علاقة. وقيل : التوكّل : قطع العلائق ومواصلة الحقائق. وقيل : هو أن يستوى عندك الإكثار والإقلال ، وهذا من موجباته وآثاره لا أنه حقيقته. وقيل : هو ترك (٣) كلّ سبب يوصل إلى سبب حتّى يكون الحقّ تعالى هو المتولّى لذلك. وهذا صحيح من وجه باطل من وجه ، فترك الأسباب / المأمور بها قادح فى التوكّل ، وقد تولّى الحقّ إيصال العبد بها ، وأمّا ترك الأسباب المباحة فإنّ تركها لما هو

__________________

(١) فى ا ، ب : التوقع (تحريف).

(٢) عبارة الإحياء عن سهل : من طعن على التكسب فقد طعن على السنة ، ومن طعن على ترك التكسب فقد طعن على التوحيد (إحياء / ٤ : ٢٣٢).

(٣) هو قول أبى عبد الله القرشى كما فى الإحياء (٤ : ٢٢٨).

٢٦٩

أرجح منها مصلحة فممدوح ، وإلّا فمذموم. وقيل : هو إلقاء [النّفس فى](١) العبودية وإخراجها من الرّبوبيّة. وقيل هو التسليم لأمر الربّ وقضائه. وقيل : التّفويض إليه فى كلّ حال. وقيل : التوكّل بداية ، والتّسليم وساطة ، والتفويض نهاية.

قال أبو علىّ الدّقّاق. التوكّل (٢) ثلاث درجات : التوكّل ، ثم التّسليم ، ثمّ التّفويض ، فالمتوكّل يسكن إلى وعده ، وصاحب (٣) التسليم يكتفى بعلمه ، وصاحب التّفويض يرضى بحكمه. فالتوكّل صفة المؤمنين ، والتّسليم صفة الأولياء ، والتّفويض صفة الموحّدين. التوكّل صفة الأنبياء ، والتسليم صفة إبراهيم الخليل ، والتّفويض صفة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وحقيقة الأمر أنّ التوكّل حال مركّبة من مجموع أمور لا يتمّ حقيقة التوكّل إلّا بها ، وكلّ أشار إلى واحد من هذه الأمور أو اثنين أو أكثر ، فأوّل ذلك معرفة الربّ تعالى وصفاته من : قدرته ، وكفايته ، وقيّوميّته (٤) ، وانتهاء الأمور إلى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته ، وهذه المعرفة أوّل درجة يضع بها العبد قدمه فى مقام التوكّل.

الدّرجة الثانية : إثبات الأسباب والمسبّبات ، فكلّ من نفاها فتوكّله مدخول (٥) ؛ وهذا عكس ما يظهر فى بادئ (الرأى) (٦) أن إثبات

__________________

(١) تكملة من الإحياء والعبارة من قول ذى النون المصرى (٤ / ٢٢٨).

(٢) الإحياء : ٤ / ٢٢٨.

(٣) فى الإحياء : والمسلم.

(٤) قيوميته : قيامه تعالى بأمر خلقه فى إنشائهم ورزقهم وعلمه بمستقرهم ومستودعهم فلا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا بقدرته هذه.

(٥) مدخول : مشوب بما يفسده ولذا يقول الغزالى فى الإحياء : التباعد عن الأسباب كلها مراغمة للحكمة وجهالة لسنة الله.

(٦) سقط من ا.

٢٧٠

الأسباب يقدح فى التوكّل ، وأنّ نفيها تمام التوكّل ، فاعلم أنّ إثبات (١) الأسباب فى [حصول المتوكّل به لا يناقض التوكل (٢)] فهو كالدّعاء الذى جعله الله سببا فى حصول المدعوّ به ، فإذا اعتقد العبد أنّ التوكّل لم ينصبه الله سببا ولا جعل دعاءه سببا لنيل شىء ، لأنّ (٣) المتوكّل فيه المدعوّ بحصوله إن كان قدّر فسيحصل (٤) ، توكّل أو لم يتوكّل ، دعا أو لم يدع ، وإن لم يقدّر فلن (٥) يحصل ، توكّل أيضا أو ترك التوكّل [فهذا العبد مراغم لحكمة الله جاهل بسنته](٦) [وقد] صرّح هؤلاء أنّ التوكّل والدّعاء عبوديّة محضة ، لا فائدة فيه إلّا ذلك ، ولو ترك العبد التوكّل والدعاء لما فاته شىء ممّا قدّر له ، [بل](٧) من غلاتهم (٨) من يجعل الدّعاء (٩) بعدم المؤاخذة على الخطإ والنّسيان عديم الفائدة إذ هو مضمون الحصول ، حتى قال بعضهم فى تصنيف له : لا يجوز الدّعاء بهذا وإنّما يجوز تلاوة لا دعاء ، قال : لأنّ الدّعاء يتضمّن الشّكّ فى حصوله ووقوعه ، لأنّ الدّاعى بين الخوف والرّجاء ، والشكّ فى وقوع ذلك شكّ فى خبر الله. فانظروا إلى ما أفاد إنكار الأسباب من العظائم وتحريم الدّعاء بما أثنى الله به على عباده وأوليائه بالدّعاء به وبطلبه. ولم يزل المسلمون من عند نبيّهم وإلى الآن يدعون به فى مقامات الدّعاء ، وهو من أفضل الدّعوات.

__________________

(١) فى ا ، ب : تفات ولعلها تصحيف إثبات وهو ما يقتضيه السياق.

(٢) ما بين القوسين تكملة يقتضيها المقام وقد اعتمدنا فيها على ما فى الإحياء من عبارات وما سيرد فى عباراته من تفصيلات.

(٣) فى ا ، ب : «فإن» وما أثبتنا أوضح.

(٤) فى ا : يحصل.

(٥) فى ا ، ب : «لم» وما أثبتناه أولى.

(٦) ما بين القوسين تكملة يقتضيها المقام وقد اعتمدنا فيها على ما تقدم من عباراته أول الفصل.

(٧) فى ا ، ب : «ومن».

(٨) فى ا ، ب : علاماتهم وما أثبتنا يقتضيه السياق.

(٩) يريد الدعاء الوارد فى قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) : آية ٢٨٦ سورة البقرة.

٢٧١

وجواب هذا الوهم الباطل هو (١) أن يقال : بقى قسم آخر غير ما ذكرتم من القسمين ، هو أن يكون قضى بحصول الشىء عند حصول سببه من التوكّل والدّعاء ، فنصب الدّعاء والتوكّل سببين لحصول المطلوب ، وقضى بحصوله إذا فعل العبد سببه ، فإذا لم يأت بالسبب امتنع المسبّب ، وهذا كما إذا قضى بحصول الولد إذا جامع الرّجل من يحبلها فإذا لم يجامع لم يحصل (٢) الولد. وقضى بحصول الشبع والرىّ إذا أكل / وشرب ، فإذا لم يفعل لم يشبع ولم يرو. وقضى بحصول الحجّ والوصول إلى مكّة إذا سافر وركب الطّريق ، فإذا جلس فى بيته لا يصل إلى مكّة أبدا. وقضى بدخول الجنّة إذا أسلم وأتى بالأعمال الصّالحة ، فإذا لم يسلم ما دخلها أبدا. فوزان (٣) ما قاله منكرو الأسباب أن يترك كلّ من هؤلاء السبب الموصّل ويقول : إن كان قضى لى وسبق لى فى الأزل حصول الولد والشّبع والرىّ والحجّ ونحوه فلا بد أن يصل إلىّ ، تحرّكت أو لم أتحرّك ، تزوّجت أو تركت ، سافرت أو تركت ، وإن لم يكن قضى لى لم يحصل لى أيضا ، فعلت أو تركت ، فهل يعدّ أحد هذا القائل من جملة العقلاء؟ وهل البهائم إلّا أفهم منه ، فإنّ البهيمة تسعى فى السّبب. فالتوكّل من أعظم الأسباب الّتى يحصل بها المقصود ويندفع بها المكروه ، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التّوكّل ، (ولكن من تمام التوكّل) (٤) عدم الرّكون (إلى) (٥) الأسباب وقطع علاقة القلب بها ، فيكون حال

__________________

(١) ا ، ب : وهو.

(٢) فى ا : يحبل ، وفى ب : يخلق وما أثبتنا هو عبارة المؤلف فيما سيأتى من تفصيلاته.

(٣) فوزان ما قاله : كفاؤه وما يجب أن يكون نتيجة له.

(٤) سقط من ا.

(٥) سقط من ا.

٢٧٢

قلبه قيامه بالله لا بها ، فلا تقوم عبوديّة الأسباب إلّا على ساق التوكّل ، ولا تقوم ساق التوكّل إلا على قدم العبودية.

الدّرجة الثّالثة : رسوخ القلب فى مقام التّوحيد ؛ فإنّه لا يستقيم توكّل العبد حتى يصحّ له توحيده ، بل حقيقة التوكّل توحيد القلب ، فما دامت فيه علائق الشّرك فتوكّله معلول مدخول ، وعلى قدر تجريد التوحيد يكون صحة التّوكّل ، فإنّ العبد متى التفت إلى غير الله أخذ ذلك الالتفات شعبة من شعب قلبه فنقص من توكّله على الله بقدر ذهاب تلك الشّعبة.

الدّرجة الرابعة : اعتماد القلب على الله واستناده إليه بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشويش الأسباب ولا سكون إليها ، بل يخلع السكون إليها من قلبه ويلبس السّكون إلى مسبّبها.

الدّرجة الخامسة : حسن الظّنّ بالله تعالى ، فعلى قدر حسن ظنّك به ورجائك له يكون توكّلك عليه.

الدّرجة السّادسة : استسلام القلب له وانحداث دواعيه كلّها إليه ، وقطع منازعاته ، وبهذا فسّره من قال : أن يكون كالميّت بين يدى الغاسل.

الدّرجة السّابعة : التفويض ، وهو روح التوكّل وحقيقته ولبّه ، وهو إلقاء أموره كلّها إلى الله تعالى ، وإنزالها به رغبا واختيارا لا كرها واضطرارا ، بل كتفويض الابن العاجز الضعيف المغلوب أموره إلى (م ١٨ ـ بصائر ذوى التمييز)

٢٧٣

أبيه [و](١) الغلام بشفقته عليه ورحمته ، وتمام كفايته وحسن ولايته له ، فإذا وضع قدمه فى هذه الدّرجة انتقل منها إلى درجة الرضا ، وهى ثمرة التوكّل. ومن فسّر التوكّل بها فإنّما فسّره بأحد ثمراته وأعظم فوائده ، فإنه إذا توكّل حقّ التوكّل رضى بما يفعله وكيله.

والمقدور يكتنفه أمران : التوكّل قبله ، والرّضا بعده ، فمن توكّل على الله قبل الفعل ، ورضى بما قضى له بعد الفعل فقد قام بالعبوديّة.

واعلم أنّ التوكّل من أعمّ المقامات تعلّقا بالأسماء الحسنى ، فإنّ له تعلّقا خاصّا بعامّة أسماء الأفعال ، وأسماء الصّفات ، فله تعلّق باسمه الغفّار / ، والتّواب ، والغفور ، والرّحيم ؛ وتعلّق باسمه الفتّاح ، والوهّاب ، والرزّاق ، والمعطى ؛ وتعلّق باسمه المعزّ والمذلّ ، والخافض والرّافع ، والمانع من جهة توكّله عليه فى إذلال أعداء دينه ومنعهم أسباب النصر وخفضهم ؛ وتعلّق بأسماء القدرة والإرادة ، وله تعلّق عام بجميع الأسماء الحسنى ، ولهذا فسّره من فسّره من الأئمة بأنّه (٢) من المعرفة بالله ، وإنما أراد أنّه بحسب معرفة العبد يصحّ له مقام التّوكّل ، فكلّما كان بالله أعرف كان توكّله عليه أقوى. وكثير من المتوكّلين يكون مغبونا فى توكّله ، وقد توكّل حقيقة التوكّل وهو مغبون ، كمن صرف توكّله إلى حاجة جزئية استفرغ فيها قوّة توكّله ويمكنه فعلها بأيسر شىء ، وتفريغ قلبه للتوكّل فى زيادة الإيمان والعلم ونصرة الدّين والتأثير فى العالم خيرا ، فهذا توكّل العاجز القاصر الهمّة ؛ كما يصرف بعضهم توكّله ودعاءه

__________________

(١) تكملة يقتضيها سياق العبارة.

(٢) فى ا ، ب : «فإنه».

٢٧٤

إلى وجع يمكن مداواته بأيسر شىء ، أو جوع يمكن زواله بنصف درهم ، ويدع صرفه إلى نصرة الدّين وقمع المبتدعين ومصالح المسلمين.

وقال الشيخ أبو إسماعيل عبد الله الأنصارىّ : هو على ثلاث درجات : الأولى : التوكّل مع الطلب ، ومعاطاة السّبب على نيّة شغل النّفس ، ونفع الخلق وترك الدّعوى.

الثّانية : التوكّل مع إسقاط الطلب وغضّ العين عن السّبب اجتهادا فى تصحيح التوكّل وقمع تشرّف النفس ، وتفرّغا إلى حفظ الواجبات.

الثالثة : التوكّل النازع إلى الخلاص من علّة التوكّل ، وهو أن تعلم أنّ ملكيّة الحقّ عزوجل للأشياء ملكيّة عزّة لا يشاركه فيها مشارك ، فيكل شركته إليه ، فإنّ من ضرورة العبوديّة أن يعلم العبد أنّه تعالى هو مالك الأشياء كلّها وحده. قال بعض السالكين :

رؤية السّالك التّوكّل ضعف

وخلاص الفؤاد منه استقامه

هو باب للمبتدى ، وطريق

للمنتهى ، والوقوف عنه ندامه

٢٧٥

٤٨ ـ بصيرة فى وكأ وولج

رجل تكأة مثال تؤدة ، أى كثير الاتّكاء ، وأصلها وكأة. والتّكأة أيضا : ما يتّكأ عليه ، وهى المتّكأ ، قال الله تعالى : (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً)(١) ، قال الأخفش : هو فى معنى مجلس.

وطعنه حتّى أتكأه على أفعله ، أى ألقاه على هيئة المتّكإ. وأوكأت فلانا إيكاء : إذا نصبت له متّكأ.

وفى نوادر أبى عبيدة : أوكأت عليه ، وتوكّأت عليه ، بمعنى واحد ، قال الله تعالى : (هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها)(٢). وتوكّأت (٣) الناقة ، وهو تصلّقها عند مخاضها ، أى أنينها عند الولادة.

الولوج : الدّخول فى مضيق وغيره ، قال تعالى : (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ)(٤). وولج فى البيت وتولّج. وامرأة خرّاجة ولّاجة.

ودخلوا الولج والولجة ، وهو ما كان من كهف أو غار يلجأ إليه. والتجئوا إلى الولجات والأولاج.

وأولجه : أدخله ، قال الله تعالى : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ)(٥) أى يدخل الليل فى النّهار حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة ، ويولج النّهار فى اللّيل حتّى يكون اللّيل خمس عشرة ساعة ، والنّهار تسع

__________________

(١) الآية ٣١ سورة يوسف.

(٢) الآية ١٨ سورة طه ، ومما جاء أيضا فى القرآن الكريم من هذه المادة قوله تعالى : (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ) الآية ٢٤ سورة الزخرف. وقوله : (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ). الآية ٣١ سورة الكهف ، وقد ورد مُتَّكِئِينَ فى آيات أخرى.

(٣) توكأت الناقة : أخذها الطلق فصرخت.

(٤) الآية ٤٠ سورة الأعراف.

(٥) الآيات ٦١ سورة الحج ، ٢٩ سورة لقمان ، ١٣ سورة فاطر ، ٦ سورة الحديد.

٢٧٦

ساعات ، فما نقص من أحدهما زاد فى الآخر / ، وفيه تنبيه على ما ركّب الله عليه العالم من زيادة اللّيل فى النّهار وزيادة النّهار فى اللّيل ، وذلك بحسب مطالع الشمس (١) ومغاربها.

والوليجة : كلّ ما يتّخذه الإنسان معتمدا ، وليس من قولهم : فلان وليجة فى القوم : إذا دخل فيهم وليس منهم ، إنسانا كان أو غيره ، قال الله تعالى : (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً)(٢) ، وذلك مثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ)(٣).

ورجل خرجة ولجة ـ كهمزة ـ : كثير الخروج والولوج.

__________________

(١) فى ا ، ب : «مطالع الليل ومغاربه» وما أثبت من المفردات.

(٢) الآية ١٦ سورة التوبة.

(٣) الآية ٥١ سورة المائدة.

٢٧٧

٤٩ ـ بصيرة فى ولد

الولد يكون واحدا وجمعا ، وكذلك الولد بالضمّ كالعرب والعرب ، والعجم والعجم. ومن أمثال بنى أسد : «ولدك من دمّى عقبيك (١)». ويقال ما أدرى أىّ ولد الرّجل هو ، أى أىّ الناس هو.

وقوله تعالى : (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ)(٢) ، يعنى آدم صلوات الله عليه ، وما ولد من صدّيق ونبىّ وشهيد ومؤمن.

والوليد : الصّبىّ. وفى دعاء النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهمّ واقية كواقية الوليد» (٣) لأنه لا يعلم المعاطب وهو يتعرض لها ، ثم يحفظه الله تعالى ، أو لأنّ القلم مرفوع عنه فهو محفوظ من الآثام (٤). والوليد أيضا : العبد ، والجمع ولدان وولدة.

ويجمع الولد على أولاد وولدان ، قال الله تعالى : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)(٥) وقال تعالى : (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ)(٦) فجعل كلّهم فتنة وبعضهم عدوّا. وقال تعالى : (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ)(٧). ويقال للمتبنّى أيضا ولد ، قال تعالى : (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً)(٨).

ويطلق الولد على الابن والابنة.

والوالد : الأب ، وهى والدة (٩) وهما الوالدان (١٠). وقد ولد ولادا وولادة ولدة ومولدا.

__________________

(١) هذه رواية الصحاح ، وفى القاموس : بالتحريك وكسر الكاف فيهما على أنه خطاب للأنثى ، أى نفست به لا من اتخذته وتبنيته وهو من غيرك.

(٢) الآية ٣ سورة البلد.

(٣) أخرجه أبو يعلى فى مسنده عن ابن عمر (الفتح الكبير).

(٤) وقيل أراد بالوليد موسى عليه‌السلام.

(٥) الآية ١٥ سورة التغابن ، وبفتح همزة إنما الآية ٢٨ سورة الأنفال.

(٦) الآية ١٤ سورة التغابن.

(٧) الآية ٤٧ سورة آل عمران.

(٨) الآية ٢١ سورة يوسف.

(٩) فى القاموس وهى : والد ، ووالدة.

(١٠) قيل على تغليب الذكر ، وقيل تثنية والد الذى يطلق عليهما كما صرح به القاموس.

٢٧٨

والمولد أيضا والميلاد : وقت الولادة ، والمولد أيضا : الموضع الّذى فيه المولود ، قال تعالى : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ)(١).

وفعل ذلك فى ولوديّته وولوديّته ، أى فى صغره. ورجل فيه ولوديّة ، أى جفاء وقلّة رفق وعلم بالأمور.

والمولّدة : القابلة. وجاءنا ببيّنة مولّدة ، أى ليست بمحقّقة. وكتاب مولّد : مفتعل.

وممّا حرّفته النّصارى فى الإنجيل : يقول الله تعالى يا عيسى أنت نبيّى وأنا ولّدتك ، أى ربّيتك ، فقال النّصارى : أنت بنيّ وأنا ولدتك ، تعالى الله عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيرا.

وقال ابن الأعرابىّ فى قول الشاعر :

إذا ما ولّدوا شاة تنادوا

أجدى تحت شاتك أم غلام (٢)

رماهم بأنّهم يأتون البهائم.

وتوالدوا : كثروا (٣) وولد بعضهم بعضا.

والوليد يقال لمن قرب عهده بالولادة ، وإن صحّ فى الأصل (٤) لمن قرب عهده أو بعد : والوليدة مختصّة بالإماء فى عامّة كلامهم.

وتولّد الشىء من الشىء : حصوله منه بسبب من الأسباب.

__________________

(١) الآية ٣٣ سورة مريم.

(٢) البيت فى التاج (ولد).

(٣) فى ا ، ب : «أكثروا» والتصويب من التاج عن البصائر.

(٤) العبارة فى ا ، ب : «وأن يصح فى الأصل كمن» والتصويب من السياق.

٢٧٩

٥٠ ـ بصيرة فى ولق وولى

الولق : الإسراع ، يقال : جاءت الإبل تلق ، أى تسرع ، قال القلاخ ابن حزن (١) :

جاءت به عنس من الشام تلق (٢)

والولق أيضا : أخفّ الطعن ، وقد ولقه ولقا ، يقال : ولقته بالسّيف ولقات ، أى ضربات. والولق أيضا : الاستمرار فى السّير وفى الكذب ، ومنه قراءة عائشة رضى الله عنها ، ويحيى بن يعمر وعبيد بن عمير ، وزيد بن علىّ ، وأبى معمر : إذ تَلِقُونه بألسنتكم (٣) / وناقة ولقى : سريعة.

والأولق : شبه الجنون. قال :

لعمرك بى من حبّ أسماء أولق (٤)

وليه وليا : دنا منه ، وأوليته أنا : أدنيته. وكل ممّا يليك : ممّا يقربك.

وسقط الولىّ ، وهو المطر الذى يلى الوسمىّ. وقد وليت الأرض وهى موليّة.

وولى الأمر وتولّاه. وهو وليّه ومولاه ، وهو ولىّ اليتيم وأولياؤه.

وولى ولاية. وهو والى البلد ، وهم ولاته.

__________________

(١) القلاخ بن حزن هكذا فى التاج واللسان (زلق) وفى مادة (ولق) عزاه إلى الشماخ يهجو جليدا الكلابى ، والمشطور فى الأساس بدون عزو ، وهو فى اللسان (زلق) و (ولق) مع مشطورين آخرين ، والرواية فى ا ، ب والتاج : «جاءت به عيس» وفى الأساس واللسان فى مواضع ذكره «عنس» (بالنون) ـ والعنس : الناقة القوية أما العيس (بالياء) فهى الإبل تضرب إلى الصفرة.

(٢) الآية ١٥ سورة النور ، وقراءة الجمهور : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) بفتح اللام والقاف مشددة.

(٣) الشطر فى اللسان (ولق) بدون عزو.

٢٨٠