بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٥

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي

بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٥

المؤلف:

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي


المحقق: عبدالعليم الطحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٤

والواجب يقال على أوجه : يقال فى مقابلة الممكن وهو الحاصل الّذى إذا قدّر كونه مرتفعا حصل منه محال ، نحو وجود الواحد مع وجود الاثنين ، فإنّه محال أن يرتفع الواحد مع حصول الاثنين.

الثانى : يقال فى الّذى إذا لم يفعل يستحقّ [به](١) اللّوم ، وذلك ضربان : واجب من جهة العقل كوجوب معرفة الوحدانية والنبوّة ، وواجب من جهة الشّرع كوجوب العبادات الموظّفة.

وقيل : الواجب يقال على وجهين : أحدهما يراد به اللازم الوجوب ، فإنّه لا يصحّ أن لا يكون موجودا ، كقولنا فى الله تعالى إنّه واجب وجوده. والثانى : الواجب بمعنى أنّ حقّه أن يوجد.

وقول الفقهاء : الواجب الذى يستحق تاركه العقاب وصف له بشيء عارض (٢) له ، ويجرى مجرى من يقول : الإنسان الذى إذا مشى مشى على رجلين.

وأوجب الرّجل : إذا عمل عملا يوجب الجنّة أو النّار. ويقال للحسنة والسّيّئة موجبة. وفى الدّعاء النّبوىّ : «اللهمّ إنّي أسألك موجبات رحمتك» (٣) وقيل / للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن صاحبا لنا قد أوجب فقال : مروه فليعتق رقبة» (٤) أى ارتكب كبيرة وجبت له النّار. وفى حديثه الآخر : «أوجب ذو الثلاثة والاثنين» (٥) أى الذى أفرط من ولده ثلاثة أو اثنين. والكلمة الموجبة (٦) لا إله إلّا الله.

__________________

(١) تكملة من المفردات.

(٢) أى لا بصفة لازمة له فمشى الإنسان الذى مثل به من صفاته العارضة لا اللازمة لحقيقته كإنسان.

(٣) الفائق : ٣ / ١٤٥.

(٤) الفائق : ٣ / ١٤٥ ، ويقال : أيضا : أوجب : إذا عمل حسنة تجب له بها الجنة من باب أقطف وأركب.

(٥) الفائق : ٣ / ١٤٥. والمراد وجبت له الجنة.

(٦) الموجبة : أى أوجبت لقائلها الجنة.

١٦١

٧ ـ بصيرة فى وجد

وجد مطلوبه يجده وجودا ، ويجده بالضمّ لغة عامريّة لا نظير لها فى باب المثال. ووجد بكسر الجيم لغة ، قال جرير :

لم أر مثلك يا أمام خليلا

أنأى بحاجتنا وأحسن قيلا (١)

لو شئت قد نقع الفؤاد بشربة

تدع الصّوادى لا يجدن غليلا

بالعذب من وصف القلات مقيلة

قضّ الأباطح لا يزال ظليلا

ووجد ضالّته وجدانا. ووجد عليه فى الغضب يجد ويجد موجدة ووجدانا أيضا ، حكاها بعضهم. ووجد فى الحزن وجدا. ووجد فى المال وجدا ووجدا ووجدا وجدة : استغنى.

وقرأ الأعرج ونافع ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير وطاوس وابن أبى عيلة وأبو حيوة وأبو البرهسم من وَجدكم (٢) بفتح الواو ، وقرأ أبو الحسن روح بن عبد المؤمن من وِجدكم بالكسر ، والباقون : (مِنْ وُجْدِكُمْ) بالضمّ.

ووجد فى الحبّ وجدا لا غير ، قالت شاعرة :

من يهد لى من ماء نقعاء شربة

فإنّ له من ماء لينة أربعا (٣)

__________________

(١) الديوان (ط. الصارى) ٤٥٣.

نقع : روى. الصوادى فى الديوان : الحوائم ، والصوادى : العطاش. والحوائم : اللاتى يدرن حول الماء طلبا له. الغليل : حر العطش. الرضف : الحجارة المرصوفة. القلات : جمع قلت : نقرة فى الجبل يستنقع فيها ماء السماء. والقض : الموضع الخصب وهو أعذب للماء وأصفى.

(٢) فى الآية ٦ سورة الطلاق. وأبو البرهسم : عمران بن عثمان الزبيدى الشامى ذو القراءات الشواذ.

(٣) الأبيات فى اللسان (وجد). ونقعاء بالنون : موضع خلف المدينة النبوية. لينة : ماء بطريق مكة. وهى فى البيت الثانى تكنى عن تشكيها لهذا الرجل عنن عنها كالمطية الظالعة لا تحمل صاحبها.

١٦٢

لقد زادنا وجدا بنقعاء أنّنا

وجدنا مطايانا بلينة ظلّعا

فمن مبلغ تربى بالرمل أنّنى

بكيت فلم أترك لعينىّ مدمعا

قال أبو القاسم (١) الأصبهانىّ : الوجود أضرب : وجود بإحدى الحواسّ الخمس نحو : وجدت زيدا ، ووجدت طعمه ورائحته وصوته وخشونته ، ووجود بقوّة الشهوة نحو : وجدت الشبع ، ووجود بقوّة الغضب ، كوجود الحزن والسّخط ، ووجود بالعقل أو بوساطة (٢) العقل ، كمعرفة الله تعالى ومعرفة النّبوة. وما نسب (٣) إلى الله تعالى من الوجود فبمعنى العلم المجرّد إذ كان الله تعالى منزّها عن الوصف بالجوارح والآلات نحو قوله تعالى : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ)(٤) وكذا المعدوم يقال على ضدّ (٥) هذه الأوجه.

ويعبّر عن التمكّن من الشىء بالوجود نحو : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)(٦) أى حيث رأيتموهم.

وقوله : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ)(٧) ، وقوله : (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ)(٨) ، وقوله : (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ)(٩) وجود بالبصيرة ، وكذا قوله : (وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا)(١٠).

__________________

(١) هو الراغب صاحب المفردات.

(٢) فى المفردات : بواسطة.

(٣) فى المفردات : وما ينسب.

(٤) الآية ١٠٢ سورة الأعراف.

(٥) فى المفردات يقال على هذه الأوجه.

(٦) الآية ٥ سورة التوبة.

(٧) الآية ٢٣ سورة النمل.

(٨) الآية ٢٤ سورة النمل.

وفى المفردات بعد هاتين الآيتين ، فوجود بالبصر والبصيرة فقد كان منه مشاهدة بالبصر واعتبار لحالها بالبصيرة ولو لا ذلك لم يكن له أن يحكم بقوله وجدتها وقومها الآية.

(٩) الآية ٣٩ سورة النور.

(١٠) الآية ٤٤ سورة الأعراف.

١٦٣

وقوله : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا)(١) أى إن لم تقدروا على الماء وقوله (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ)(٢) أى من تمكّنكم وقدر غناكم.

وقال : بعضهم : الموجودات ثلاثة أضرب : موجود لا مبدأ له ولا منتهى ، وليس ذلك إلّا البارى تعالى ؛ وموجود له مبدأ ومنتهى كالجواهر الدّنيويّة ؛ وموجود له مبدأ وليس له منتهى كالنّاس فى النّشأة الآخرة.

وأوجده الله : أغناه ، وأوجده مطلوبه : أظفره به. وأوجده على الأمر : أكرهه.

ووجد عن عدم فهو موجود ، كحمّ فهو محموم ، ولا يقال وجده الله ، وإنّما يقال : أوجده الله.

__________________

(١) الآيتان : ٤٣ سورة النساء ، ٦ سورة المائدة.

(٢) الآية ٦ سورة الطلاق.

١٦٤

٨ ـ بصيرة فى وجس ووجل

الوجس : الصّوت الخفىّ / ، والوجس : الهمّ. والوجس : الفزع يقع فى القلب من صوت وغيره. والوجسان : فزع القلب.

والأوجس : الدّهر ، يقال : لا أفعله سجيس الأوجس والأوجس ، بفتح الجيم وضمّها ، أى أبدا (١). وما ذقت عنده أوجس ، أى شيئا من الطّعام. وما [فى](٢) سقائه أوجس ، أى قطرة. قال تعالى : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً)(٣) أى أحسّ وأضمر فى نفسه خوفا ، وكذلك توجّس بمعناه. والتّوجّس أيضا : التّسمّع إلى الصّوت الخفىّ.

الوجل ـ محرّكة ـ : الخوف ورجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سطوته وعقوبته أو لرؤيته. وقيل : الخوف ، والخشية ، والرّهبة ، والوجل ألفاظ متقاربة المعنى. وجل كفرح ياجل (٤) وييجل (٥) وييجل بكسر (٦) أوّله ، ويوجل. ورجل أوجل ووجل ، والجمع : وجال ووجلون ، وهى وجلة. قال الله تعالى : (إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)(٧) وقال تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)(٨) أهو (٩) الذى يسرق ويزنى ويشرب الخمر؟ قال : لا يا ابنة الصّدّيق ، ولكنّه الرجل يصوم ويصلّى ويتصدّق ويخاف أن لا يتقبّل الله منه.

__________________

(١) قالوا : ولا يستعمل إلا فى النفى.

(٢) ما بين القوسين تكملة من التاج.

(٣) الآية ٦٧ سورة طه.

(٤) فى ا ، ب يأجل مهموزا وهو تصحيف فإن الواو جعلت ألفا لفتحة ما قبلها.

(٥) قال ابن برى : فأما ييجل بفتح الياء فإن قلب الواو فيه على غير قياس صحيح.

(٦) وكذلك فيما أشبهه من باب المثال إذا كان لازما وهى لغة بنى أسد.

(٧) الآيتان : ٢ سورة الأنفال ، ٣٥ سورة الحج.

(٨) الآية ٦٠ سورة المؤمنين.

(٩) هنا سقط فى ا ، ب ولم تتعرض المفردات له ويمكن أن تستقيم العبارة بإضافة ما جاء فى الكشاف للزمخشرى عند تفسير هذه الآية : «وفى قراءة عائشة (يأتون ما أتوا) أى يفعلون ما فعلوا. وعنها أنها قالت : قلت يا رسول الله أهو ... الخ.

١٦٥

٩ ـ بصيرة فى وجه

الوجه : مستقبل (١) كلّ شىء ، والجمع أوجه ووجوه. والوجه : نفس الشىء ، وقيل : أصله الجارحة قال الله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)(٢) ولمّا كان الوجه أوّل ما يستقبلك وأشرف ما فى ظاهر البدن استعمل فى مستقبل كلّ شىء وفى أشرفه ومبدئه.

ووجه الدّهر : أوّله (٣) ووجه النّجم : ما بدا لك منه. ووجه الكلام : السبيل المقصود منه. ووجه القوم : سيّدهم.

والوجه والوجه ، والوجه ، والوجهة ، والوجهة : الجاه والمنزلة.

وقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)(٤) قيل : إنّ الوجه زائد ، والمعنى : كلّ شىء هالك إلّا هو. وقوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ)(٥) قيل : المعنى ذاته ، وقيل : الوجه زائد ، وقيل : المعنى إلّا التوجّه إلى الله بالأعمال الصّالحة. ويروى أنّه قيل لأبى عبد الله الرّضا إنّ بعض العلماء يقول : الوجه زائد والمعنى كلّ شيء هالك إلّا هو. فقال : سبحان الله! لقد قالوا قولا عظيما ، إنّما عنى الوجه الذى يؤتى منه ، ومعناه : كلّ شىء من أعمال العباد هالك إلّا ما أريد به وجه الله. وعلى هذا الآيات الأخر. وقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ

__________________

(١) فى ا ، ب «فيه» والتصويب من المفردات.

(٢) الآية ٦ سورة المائدة.

(٣) ومنه جئتك بوجه نهار وعليه فسر قوله تعالى : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ).

(٤) الآية ٨٨ سورة القصص.

(٥) الآية ٢٧ سورة الرحمن.

١٦٦

كُلِّ مَسْجِدٍ)(١) قيل : أراد به الجارحة واستعارها كقولك : فعلت هذا بيدى. وقيل : أراد بالإقامة تحرّى الاستقامة ، وبالوجه التّوجّه ، والمعنى : أخلصوا العبادة لله فى الصّلاة. وقوله تعالى : (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ)(٢) وأخواته من نحو : (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ)(٣) ، الوجه فى كلّ ذلك كما تقدّم أو على الاستعارة للمذهب والطريق.

ويقال : واجهت فلانا ، أى جعلت وجهى تلقاء وجهه.

ووجهه : ضرب وجهه فهو موجوه.

ووجّهه توجيها : أرسله ، وشرّفه كأوجهه. والمطرة الأرض : صيرتها وجها واحدا.

وقمت وجاهه وتجاهه مثلّثين ، أى تلقاء وجهه وتواجها : تقابلا.

والموجّه كمعظّم : ذو الجاه.

وتوجّه : أقبل ؛ والشيخ : ولّى وأدبر ، وكبر ؛ والعمر : تولّى ؛ والجيش : انهزم.

والوجيه / : ذو الجاه ، والجمع : وجهاء ، قال تعالى : (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ)(٤) ، وقال تعالى : (وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً)(٥). وأوجهه : صادفه وجيها ، وجعله وجيها. ووجّهت : توجّهت (٦).

ووجهتك عند الناس أجهك : صرت أوجه منك.

والجهة والجهة ، بالكسر والضمّ (٧) ، [و] الوجه : الجانب والناحية ، والجمع جهات (٨).

__________________

(١) الآية ٢٩ سورة الأعراف.

(٢) الآية ٢٠ سورة آل عمران.

(٣) الآية ٧٩ سورة الأنعام.

(٤) الآية ٤٥ سورة آل عمران.

(٥) الآية ٦٩ سورة الأحزاب.

(٦) فى القاموس : وجهت إليك توجيها : توجهت وفى التاج : كلاهما يقال مثل قولك بين وتبين غير أن قولك وجهت إليك على معنى وليت وجهى إليك والتوجه الفعل اللازم.

(٧) كذلك الفتح أيضا فهى مثلثة.

(٨) هو جمع جهة ، أما الوجه فجمعه كما تقدم : وجوه.

١٦٧

١٠ ـ بصيرة فى وجف

وجف الشىء : اضطرب ، قال الله تعالى : (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ)(١) قال الزّجّاج : أى شديدة الاضطراب ، فهو يجف وجفا ووجيفا ووجوفا.

والوجف والوجيف : ضرب من سير الخيل والإبل ، قال العجّاج :

ناج طواه الأين ممّا وجفا (٢)

وأوجفها صاحبها. قال الله تعالى : (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ)(٣) ، أى ما أعملتم.

وقال الأزهرىّ : استوجف الحبّ فؤاده : إذا ذهب به ، وأنشد لأبى نخيلة :

ولكنّ هذا القلب قلب مضلّل

هفا هفوة فاستوجفته المقادر (٤)

ويروى بالخاء المعجمة ، والمعنى واحد.

__________________

(١) الآية ٨ سورة النازعات.

(٢) ديوان العجاج : ٨٤ (ق / ٣٥ : ٦٧). ناج : سريع ينجو بمن يركبه.

(٣) الآية ٦ سورة الحشر.

(٤) البيت فى اللسان (وجف).

١٦٨

١١ ـ بصيرة فى وحد

الوحدة : الانفراد. والواحد : أوّل العدد ، والجمع : وحدان وأحدان ، ويروى بالوجهين بيت قريط بن أنيف العنبرىّ :

قوم إذا الشرّ أبدى ناجذيه لهم

طاروا إليه زرافات ووحدانا (١)

مثل شابّ وشبّان ، وراع ورعيان. قال الفرّاء : أنتم حىّ واحدون (٢) ، يقال منه : وحد (٣) يحد وحودا ووحودة ووحدا ووحدة وحدة. وقوله تعالى : (إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ)(٤) أى بخصلة واحدة ، وهى هذه : (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى)(٥) ، وقيل : معناه أعظكم بوحدانيّة الله تعالى ، أى بأن توحّدوا الله. وقوله تعالى : (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ)(٦) ولم يقل كواحدة لأنّ أحدا نفى عامّ للمذكّر والمؤنّث ، والواحد والجمع.

ومن صفات الله تعالى الواحد الأحد. قال الأزهرىّ : الفرق بينهما أنّ الأحد بنى لنفى ما يذكر معه من العدد ؛ والواحد مفتتح العدد ، تقول : ما أتانى منهم [أحد (٧)] وجاءنى منهم واحد. والواحد بنى على انقطاع النّظير وعوز المثل.

__________________

(١) ديوان الحماسة لأبى تمام ج ١ / ٣.

الناجذ : ضرس الحلم. وللإنسان أربعة نواجذ ـ زرافات : جماعات. يريد أنهم لحرصهم على القتال لا ينتظر بعضهم بعضا ، بل يسرعون إلى الحرب مجتمعين ومتفرقين.

(٢) كما يقال : شرذمة قليلون.

(٣) فى القاموس : كعلم وكرم. وفى التاج : ولو وزنه بورث لكان أقرب للصناعة وأجرى على قواعده. وفى اللسان عن اللحيانى : «يقال : وحد فلان يوحد أى بقى وحده». فلعل تنظيره بعلم ينظر إلى هذا المضارع. وعبارة المصباح : وحد يحد حدة من باب وعد : انفرد بنفسه فهو وحد بفتحتين ، وكسر الحاء لغة. ووحد بالضم وحادة ووحدة فهو وحيد كذلك.

(٤ و ٥) الآية ٤٦ سورة سبأ.

(٦) الآية ٤٦ سورة سبأ.

(٧) تكملة من اللسان يقتضيها السياق. وعبارة اللسان : «وأحد يصلح فى الكلام فى موضع الجحود ، وواحد فى موضع الإثبات ، يقال : ما أتانى منهم أحد ، فمعناه : لا واحد أتانى ولا اثنان : وإذا قلت جاءنى منهم واحد فمعناه أنه لم يأتنى منهم اثنان فهذا حد الأحد ما لم يضف ، فإذا أضيف قرب من معنى الواحد ، وذلك أنك تقول : قال أحد الثلاثة كذا وكذا. وأنت تريد واحدا من الثلاثة» ومن هذا يتبين ما فى اختصار المصنف لعبارة الأزهرى.

١٦٩

وقولهم : رأيته وحده منصوب عند أهل الكوفة (١) على الظّرف ، وعند أهل البصرة على المصدر فى كلّ حال ، كأنك قلت أوحدته برؤيتى إيحادا ، أى لم أر غيره ، ثم وضعت وحده موضع (٢) هذا. وقال أبو العباس : يحتمل وجها آخر وهو أن يكون الرجل فى نفسه منفردا كأنّك قلت رأيت رجلا منفردا ثمّ وضعت وحده موضعه. وقال بعض البصريّين هو منصوب على الحال. قال ابن الأعرابىّ : يقال جلس على وحده (٣) وجلسا على وحدهما ، وجلسا على وحديهما (٤) كما يقال جلس وحده وجلسا وحدهما.

ورجل وحد ، ووحد ، ووحيد : منفرد.

والوحدانيّة : الفردانيّة.

ووحد الرّجل ـ بالكسر ـ ووحد ـ بالضمّ ـ ، أى بقى وحده. وأوحدته برؤيتى ، أى لم أر غيره.

وقال أبو القاسم الرّاغب : [الواحد (٥)] فى الحقيقة هو الشىء الّذى لا جزء له البتّة ، ثمّ يطلق على كلّ موجود ، حتّى إنّه ما من عدد إلّا ويصحّ وصفه به ، فيقال : عشرة واحدة (٦) ، ومائة واحدة. فالواحد لفظ مشترك يستعمل على ستّة أوجه :

__________________

(١) وهو مذهب يونس أيضا فليس بمختص بالكوفيين.

(٢) فى اللسان : هذا الموضع.

(٣) جعل وحده اسما ومكنه.

(٤) وجلسا على وحديهما : ليس فى ب ، وهى عبارة ابن الأعرابى الواردة فى اللسان.

(٥) ما بين القوسين تكملة من المفردات.

(٦) فى المفردات : وألف واحد.

١٧٠

الأوّل : ما كان واحدا فى الجنس أو فى النّوع كقولنا : الإنسان والفرس واحد فى الجنس ، وزيد / وعمرو واحد فى النّوع.

الثّانى : ما كان واحدا بالاتّصال إمّا من حيث الخلقة ، كقولك : شخص واحد ، وإمّا من حيث الصّناعة كقولك : حرفة واحدة.

الثالث : ما كان واحدا لعدم نظيره ، إمّا فى الخلقة كقولك : الشمس واحدة ، وإمّا فى دعوى الفضيلة ، كقولك : فلان واحد دهره ، وكقولك نسيج وحده (١).

الرابع : ما كان واحدا لامتناع التجزّى (٢) فيه إمّا لصغره كالهباء ، وإمّا لصلابته كالألماس.

الخامس : للمبدإ (٣) ، إمّا لمبدإ العدد كقولك واحد اثنان ، وإمّا لمبدإ الخطّ كقولك : النقطة الواحدة ، والوحدة فى كلّها عارضة (٤).

وإذا وصف الله عزوجل بالواحد فمعناه هو الذى لا يصحّ عليه التجزّى ولا التكثّر ، ولصعوبة هذه الوحدة قال الله تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ) الآية (٥).

والتّوحيد الحقيقىّ الّذى هو سبب النّجاة ومادّة السّعادة فى الدّار الآخرة ما بيّنه الله تعالى وهدانا إليه فى كتابه العزيز بقوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

__________________

(١) نسيج وحده : لا ثانى له ، وأصله الثوب لا يسدى على سداه لرقة غيره من الثياب وهو مدح ، وقيل : الرجل المصيب الرأى.

(٢) التجزى : يريد التجزؤ ، أى جعل الشىء أجزاء متميزة.

(٣) للمبدإ ، أى ما كان واحدا للمبدإ.

(٤) قد أسقط ذكر السادس فلعله سقط من الناسخ.

(٥) الآية ٤٥ سورة الزمر وتمام الآية (اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ).

١٧١

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ)(١) ، والقوم (٢) دائرون فى تفسيره (٣) بين حكم وقضى ، وأخبر وأعلم ، وبيّن وعرف.

والتّوحيد توحيدان : توحيد الرّبوبيّة ، وتوحيد الإلهيّة ، فصاحب توحيد الرّبوبيّة (٤) يشهد قيّوميّة الربّ فوق عرشه يدبّر أمر عباده وحده ، فلا خالق ولا رازق ولا معطى ولا مانع ولا مميت ولا محيى ولا مدبّر لأمر المملكة ظاهرا وباطنا غيره ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، ولا تتحرّك ذرّة إلّا بإذنه ، ولا يجرى حادث إلّا بمشيئته ، ولا تسقط (٥) ورقة إلّا بعلمه ، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة فى السّماوات ولا فى الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر (٦) إلّا وقد أحصاها علمه وأحاطت بها قدرته ، ونفذت فيها مشيئته ، واقتضتها حكمته.

وأمّا توحيد الإلهية فهو أن يجمع همّه وقلبه وعزمه وإرادته وحركاته على أداء حقّه والقيام بعبوديّته ، وأنشد صاحب المنازل أبياتا ثلاثة ختم بها كتابه ولا أدرى هل هى له أو لغيره :

ما وحّد الواحد من واحد

إذ كلّ من وحّده جاحد

توحيد من ينطق عن نعته (٧)

عاريّة أبطلها الواحد

توحيده إيّاه توحيده

ونعت من ينعته لاحد

وظاهر معناه أنّ ما وحّد الله عزوجل أحد سواه ، وكلّ من أحّده

__________________

(١) الآيتان ١٨ ، ١٩ سورة آل عمران.

(٢) القوم : يريد الصوفية واهل السلوك.

(٣) الضمير عائد على التوحيد.

(٤) فى التاج : الربانية.

(٥) اقتباس قرآنى ، وإشارة إلى قوله تعالى : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) الآية ٥٩ سورة الأنعام.

(٦) اقتباس من الآية ٣ سورة سبأ ..

(٧) نعته : فى التاج : نفسه (تصحيف).

١٧٢

فهو جاحد لحقيقة توحيده ، فإنّ توحيده يتضمّن شهود ذات الموحّد وفعله ، وما قام به من التوحيد وشهود ذات الواحد وانفراده ، وتلك بخلاف توحيده لنفسه ، فإنّه يكون هو الموحّد والموحّد ، والتّوحيد صفته وكلامه القائم ، فما ثمّ غيره فلا اثنينيّة ولا تعدّد. وأيضا فمن وحّده من خلقه فلا بدّ أن يصفه بصفة ، وذلك يتضمّن جحد حقّه الذى هو عدم انحصاره تحت الأوصاف ، فمن وصف فقد جحد إطلاقه من قيود الصّفات. وقوله :

توحيد من ينطق عن نعته (١)

عاريّة أبطلها الواحد

يعنى توحيد الناطقين عنه عاريّة مردودة ، كما تستردّ العوارى ، إشارة إلى أنّ توحيدهم ليس ملكا لهم ، بل الحقّ أعارهم إيّاه كما يعير المعير متاعه لغيره ينتفع به. وقوله : أبطلها الواحد ، أى الواحد / المطلق من كلّ الوجوه وحدته يبطل هذه العارة (٢). وقوله :

توحيده إيّاه توحيده

يعنى توحيده الحقيقىّ هو توحيد لنفسه بنفسه من غير أثر للسّوى بوجه ، بل لا سوى هناك. وقوله :

ونعت من ينعته لاحد

أى نعت الناعت له إلحاد ، أى عدول عمّا يستحقّه من كمال التوحيد ، فإنّه أسند إلى نزاهة الحقّ ما لا يليق إسناده.

وحاصل كلامه ، وأحسن ما يحمل عليه : أنّ الفناء فى شهود الأزليّة

__________________

(١) فى ا ، ب : نفسه ، والتصويب مما سبق.

(٢) العارة : العارية : اسم من الإعارة : يقال أعرته الشيء إعارة وعارة.

١٧٣

والحكم يمحو (١) شهود العبد لنفسه وصفاته فضلا عن شهود غيره ، فلا يشهد موجودا فاعلا على الحقيقة إلّا الله وحده ، وفى هذا الشهود تفنى الرّسوم كلّها ، فيمحق هذا الشهود من القلب كلّ ما سوى الحقّ ، إلّا أنّه يمحقه من الوجود ، وحينئذ (٢) يشهد أنّ التوحيد الحقيقىّ غير المستعار هو توحيد الربّ تعالى نفسه ، وتوحيد غيره له عاريّة محضة أعاره إياها مالك الملوك ، والعوارىّ مردودة إلى من تردّ إليه الأمور كلّها ، (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ)(٣). قال العارف عبد الله بن المعمار :

السرّ أن تنظر الأشياء أجمعها

ويعرف الواحد النّاشى به العدد

فذاك توحيده فى واحديّته

وفوق ذاك مقام اسمه الأحد

__________________

(١) فى ا : «يمحق» ، وما أثبت من ب ، وتاج العروس.

(٢) فى ا ، (ح) وهى علامة اختصار للقدماء.

(٣) الآية ٦٢ سورة الأنعام.

١٧٤

١٢ ـ بصيرة فى وحش

الوحش (١) والوحيش واحد ، قال أبو النّجم :

أمسى يبابا والنّعام نعمه

قفرا وآجال الوحيش غنمه (٢)

وقيل : وحش ووحيش كضأن وضئين ، ومعز ومعيز ، وكلب وكليب ، والجمع : الوحوش والوحشان. وقيل : واحد الوحش وحشىّ ، كزنج وزنجىّ ، وروم ورومىّ ، وهو حيوان البرّ ، قال النابغة الذّبيانىّ :

من وحش وجرة موشىّ أكارعه

طاوى المصير كسيف الصّيقل الفرد (٣)

وقال الله تعالى : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ)(٤).

والمكان الذى لا إنس فيه : وحش. [و] بلد وحش ، أى قفر.

ولقيته بوحش إصمت (٥) ، أى ببلد قفر. ورجل وحشان : مغتمّ ، والجمع : وحاشى كسكران وسكارى (٦) ، ومنه الحديث : «لا تحقرنّ شيئا ولو أن تؤنس الوحشان (٧)».

__________________

(١) الوحش : كل شىء من دواب البر مما لا يستأنس.

(٢) البيت فى اللسان وحش.

(٣) الديوان (ط. السعادة) : ٢٦. وجرة : مكان بين مكة والبصرة ليس فيها منزل مرب للوحوش. موشى أكارعه : أبيض فى قوائمه نقط سود ـ طاوى المصير : يريد ضامر البطن. الصيقل : الذى يجلو السيوف ويشحذها ـ الفرد : الوحيد لا مثيل له.

(٤) الآية ٥ سورة التكوير.

(٥) إصمت : قال ياقوت فى معجم البلدان : إصمت بالكسر لبرية بعينها ، وقال بعضهم : العلم هو وحش إصمت الكلمتان معا ، واختلف فى إصمت أمنقول هو أم مرتجل ، وعلل بعضهم تسمية هذه الصحراء بهذا الفعل للغلبة لكثرة ما يقول سالكها لصاحبه اصمت لئلا تسمع فتهلك لشدة الخوف بها.

(٦) تنظيره بسكارى يفيد أنه يجوز فيه الفتح والضم.

(٧) ورد هذا الحديث برواية : «لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» وأخرجه الإمام أحمد فى مسنده ومسلم ، والترمذى عن أبى ذر كما فى (الفتح الكبير) ، وما هنا رواية النهاية لابن الأثير.

١٧٥

وأوحشت الأرض وجدتها وحشة.

وأوحش : جاع أو نفد زاده.

ووحّش (١) توحيشا : رمى بثوبه وسلاحه مخافة أن يلحق ، مثل وحش وحشا. وكان بين الأوس والخزرج قتال فجاء النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما رآهم نادى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ)(٢) حتّى فرغ من الآيات ، «فوحّشوا بأسلحتهم واعتنق بعضهم بعضا» (٣).

__________________

(١) الذى فى القاموس : وحش به ، وعبارته : وحش بثوبه ، كوعد : رمى به مخافة أن يدرك كوحش به (مشددا).

(٢) الآية ١٠٢ سورة آل عمران.

(٣) الحديث ورد سياق قصته فى الكشاف عند تفسير قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) من سورة آل عمران وعلق عليه ابن حجر العسقلانى فى الكافى فقال : أخرجه الطبرى عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه ، وذكره الثعلبى والواحدى فى أسبابه عن زيد بن أسلم بغير إسناد.

١٧٦

١٣ ـ بصيرة فى وحى

الوحى : ما يقع به الإشارة القائمة مقام العبارة من غير عبارة ، فإنّ العبارة يجوز منها إلى المعنى المقصود بها ، ولذا سمّيت عبارة ، بخلاف الإشارة الّتى هى الوحى فإنها ذات المشار إليه ، والوحى هو المفهوم الأوّل ، والإفهام الأوّل ، ولا تعجب من أن يكون عين الفهم عين الإفهام عين المفهوم منه ، فإن لم تحصل لك هذه النكتة فلست بصاحب وحى ، ألا ترى أنّ الوحى هو السّرعة ، ولا سرعة أسرع ممّا ذكرنا. فهذا الضّرب من الكلام يسمّى وحيا ، ولما كان بهذه المثابة وأنّه تجلّ ذاتىّ ، لهذا ورد فى الحديث الذى رواه ابن حبّان فى صحيحه وغيره «أنّ الله إذا تكلّم بالوحى سمع أهل السّماء صلصلة كجرّ / السلسلة على الصّفاة فيصعقون ، فلا يزالون كذلك حتّى يأتيهم جبريل ، فإذا جاءهم فزّع (١) عن قلوبهم فيقولون : يا جبريل ما ذا قال ربّك فيقول : الحقّ ، فينادون الحقّ وهو العلىّ الكبير (٢)» [وما سألت الملائكة (٣)] عن هذه الحقيقة [وإنما عن] السبب من حيث هويّته.

فالوحى : ما يسرع أثره من كلام الحق فى نفس السّامع ، ولا يعرف هذا إلا العارفون بالشئون الإلهيّة فإنّها عين الوحى الإلهىّ فى العالم وهم لا يشعرون. فافهم.

__________________

(١) فزع عن قلوبهم : كشف عنهم الخوف.

(٢) ورد الحديث فى إرشاد السارى للقسطلانى ١ / ١٦٧ وقد أورده من طرق عدة وبألفاظ تزيد وتنقص وكلها متقاربة المعنى.

(٣) ما بين القوسين تكملة من اللسان (فزع) والعبارة هنا مضطربة فى كلتا النسختين ، واستوحينا تصويبها من اللسان وإرشاد السارى.

١٧٧

وقد يكون الوحى إسراع الروح الإلهىّ بالإيمان بما يقع به الإخبار والمفطور عليه كلّ شيء ممّا لا كسب فيه من الوحى أيضا ، كالمولود يلتقم ثدى أمّه ، ذلك من أثر الوحى الإلهىّ إليه كما قال : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ)(١) ، (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ)(٢). وقال تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)(٣) فلو لا أنّها (٤) فهمت من الله وحيه لما صدر منها ما صدر ، ولهذا لا تتصوّر معه المخالفة إذا كان الكلام وحيا ، فإن سلطانه أقوى من أن يقاوم ، (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ)(٥) ، ولذا فعلت ولم تخالف ، والحالة تؤذن بالهلاك ولم تخالف ولا تردّدت ، ولا حكمت عليها البشريّة بأن هذا من أخطر الأشياء ، فدلّ على أنّ الوحى أقوى سلطانا فى نفس الموحى إليه من طبعه الذى هو عين نفسه ، قال تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(٦) وحبل الوريد من ذاته. فإذا زعمت يا ولىّ بأنّ الله أوحى إليك فانظر نفسك فى التردّد والمخالفة ، فإن وجدت لذلك أثر تدبير أو تفضيل أو تفكّر فلست بصاحب وحى ، فإن حكم عليك وأعماك وأصمّك وحال بينك وبين فكرك وتدبيرك وأمضى حكمه فيك ، فذلك هو الوحى ، وأنت عند ذلك صاحب وحى ،

__________________

(١) الآية ٨٥ سورة الواقعة.

(٢) الآية ١٥٤ سورة البقرة.

(٣) الآية ٦٨ سورة النحل.

(٤) فى ا ، ب : ما وما أثبت أوضح.

(٥) الآية ٧ سورة القصص.

(٦) الآية ١٦ سورة ق.

ومن هذه الآية إلى ما قبل بصيرة (وزن) سقط من نسخة ب.

١٧٨

وعلمت عند ذلك أنّ رفعتك وعلوّ مرتبتك أن تلحق بمن يقول إنّه دونك من حيوان أو نبات أو جماد ، فإن كلّ شىء مفطور على العلم بالله إلّا مجموع الإنس والجانّ ، فإنّه من حيث تفصيله منطو على العلم بالله كسائر ما سواهما من المخلوقات من ملك وحيوان ونبات وجماد ، فما من شىء فيه من شعر وجلد ولحم وعصب ودم وروح ونفس وظفر وناب إلّا وهو عالم بالله ، حتّى ينظر ويفكّر ويرجع إلى نفسه فيعلم أنّ له صانعا صنعه وخالقا خلقه ، فلو أسمعه الله نطق جلده أو يده أو لسانه أو عينه لسمعه ناطقا بمعرفته بربّه ، مسبّحا لجلاله ، مقدّسا لجماله (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ)(١) الآية (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ)(٢) ، (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا)(٣). فالإنسان من حيث تفصيله عالم بالله ، ومن حيث جملته جاهل بالله حتّى يتعلّم ، أى يعلم بما فى تفصيله ، فهو العالم الجاهل (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)(٤).

قال أبو القاسم الأصفهانىّ : الوحى : الإشارة السّريعة ، ولتضمّن السّرعة قيل : أمر وحىّ (٥) ، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز (٦) أو التعريض (٧). وقد يكون بصوت مجرّد عن التركيب ، وبإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة ، وقد حمل على كل ذلك قوله / تعالى : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ

__________________

(١) الآية ٢٤ سورة النور.

(٢) الآية ٦٥ سورة يس.

(٣) الآية ٢١ سورة فصلت.

(٤) الآية ١٧ سورة السجدة.

(٥) وحى : سريع.

(٦) الرمز : الصوت الخفى أو الإشارة بالشفة.

(٧) التعريض : خلاف التصريح وهو تورية فى القول ولحن بالكلام.

١٧٩

أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)(١) فقد قيل : رمز وقيل : أشار (٢) ، وقيل : كتب. وحمل على هذه الوجوه أيضا قوله تعالى : (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً)(٣) ، وقوله : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ)(٤) فذلك بالوسواس المشار إليه بقوله : (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ)(٥) وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ للشّيطان لمّة» الحديث.

ويقال للكلمة الإلهيّة الّتى تلقى [إلى] أنبيائه وأوليائه وحى ، وذلك أضرب حسب ما دلّ عليه قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ)(٦) وذلك إمّا برسول مشاهد ترى ذاته ويسمع كلامه كتبليغ جبريل عليه‌السلام للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى صورة معيّنة ، وإمّا بسماع كلام من غير معاينة كسماع موسى عليه‌السلام كلام الله تعالى ، وإمّا بإلقاء فى الرّوع (٧) كما ذكر صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ روح القدس نفث فى روعى (٨)» وإمّا بإلهام نحو قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ)(٩) ، وإمّا بتسخير نحو قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ)(١٠) ، وإمّا بمنام كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم يبق من النبوّة إلّا المبشّرات (١١)». فالإلهام

__________________

(١) الآية ١١ سورة مريم.

(٢) فى ا والمفردات : اعتبار وهو تصحيف لما أثبتناه.

(٣) الآية ١١٢ سورة الأنعام.

(٤) الآية ١٢١ سورة الأنعام.

(٥) الآية ٤ سورة الناس.

(٦) الآية ٥١ سورة الشورى.

(٧) الروع (بالضم) : القلب أو النفس.

(٨) رواه أبو نعيم فى الحلية عن أبى أمامة (الفتح الكبير)

(٩) الآية ٧ سورة القصص.

(١٠) الآية ٦٨ سورة النحل.

(١١) فى المفردات : «انقطع الوحى وبقيت المبشرات رؤيا المؤمن». والحديث أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن ابن عباس كما فى الفتح الكبير وأول الحديث : «أيها الناس لم يبق من مبشرات النبوة ...».

١٨٠