تفسير مقاتل بن سليمان - ج ٤

تفسير مقاتل بن سليمان - ج ٤

المؤلف:


المحقق: عبدالله محمود شحاته
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٠٦٧

سورة ق

١٠١
١٠٢

(٥٠) سوةر ق مكية

وآياتها حسن وأربعون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ

١٠٣

وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣)

١٠٤

ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥))

١٠٥
١٠٦

[سورة ق (١)]

سورة ق مكية :

عددها خمس وأربعون آية كوفية (٢) :

__________________

(١) «مقصود السورة» :

إنبات النبوة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبيان حجة التوحيد ، والإخبار عن إهلاك القرون الماضية وعلم الحق ـ تعالى ـ بضمائر الخلق وسرائرهم ، وذكر الملائكة الموكلين على الخلق ، المشرفين على أقوالهم وذكر بعث القيامة ، وذلك العاصين يومئذ ، ومناظرة المنكرين بعضهم بعضا فى ذلك اليوم ، وتغيظ الحجيم على أهله ، وتشرف الجنة بأهلها والخبر عن خلق السماء والأرض وذكر نداء إسرافيل بنفخة الصور ووعظ الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الخلق بالقرآن المجيد فى قوله : (... فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) سورة ق : ٤٥.

(٢) فى المصحف : (٥٠) سورة ق مكية إلا آية ٣٨ فمدينة وآياتها ٤٥ نزلت بعد سورة المرسلات.

١٠٧
١٠٨

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) ـ ١ ـ وقاف جبل من زمردة خضراء محيط بالعالم ، فخضرة السماء منه ليس من الخلق شيء على خلقه «وتنبت» (١) الجبال منه ، وهو وراء الجبال وعروق الجبال كلها من قاف ، فإذا أراد الله ـ تعالى ـ زلزلة أرض أوحى إلى الملك الذي عنده أن يحرك عرقا من الجبل ، فتتحرك الأرض «التي» (٢) يريد وهو أول جبل خلق ، ثم أبو قبيس بعده وهو الجبل الذي الصفا تحته ودون قاف بمسيرة سنة ، جبل تغرب فيه الشمس يقال له الحجاب ، فذلك قوله ـ تعالى ـ (... حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) (٣) يعنى بالجبل ، وهو من وراء الحجاب وله وجه كوجه الإنسان وقلب كقلوب الملائكة فى الخشية لله ـ تعالى ـ وهو من وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه ، والحجاب دون قاف بمسيرة سنة وما بينهما ظلمة والشمس تغرب من وراء الحجاب فى أصل الجبل ، فذلك قوله (... حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) يعنى بالجبل ، وذلك قوله فى مريم (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً ...) (٤) يعنى جبلا. (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) يعنى والقرآن الكريم. فأقسم الله ـ تعالى ـ بهما (٥) ، ثم استأنف (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) يعنى محمدا

__________________

(١) «وتنبت» : من ف ، وهي غير واضحة في أ.

(٢) في الأصل «الذي».

(٣) سورة ص : ٤٢ وتمامها (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ).

(٤) سورة مريم : ١٧ وتمامها (... فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا).

(٥) أى أقسم ب (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ).

١٠٩

ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (فَقالَ الْكافِرُونَ) من أهل مكة (هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) ـ ٢ ـ يعنى هكذا الأمر عجيب أن يكون محمد رسولا ، وذلك أن كفار مكة كذبوا بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقالوا : «ليس من الله» (١). وقالوا أيضا (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ) إلى الحياة (بَعِيدٌ) ـ ٣ ـ بأن البعث غير كائن ، نزلت فى أبى بن خلف الجمحي ، وأبى الأشدين واسمه [١٦٨ أ] أسيد بن كلدة ، وهما من بنى جمح ونبيه ومنبه أخوين ابني الحجاج السهميين ، وكلهم من قريش ، وقالوا : إن الله لا يحيينا ، وكيف يقدر علينا إذا كنا ترابا وضللنا فى الأرض؟ يقول الله ـ تعالى ـ : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) يقول ما أكلت من الموتى من لحوم ، وعروق ، وعظام بنى آدم ـ ما خلا العصعص ـ : وتأكل لحوم الأنبياء «والعروق» ، (٢) «ما خلا» (٣) عظامهم مع علمي فيهم (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) (٤) ـ ٤ ـ يعنى محفوظ من الشياطين يعنى اللوح المحفوظ. «قل بل الله يبعثهم» (٥) ، ثم استأنف (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) يعنى بالقرآن (لَمَّا جاءَهُمْ) يعنى حين جاءهم به محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) ـ ٥ ـ يعنى مختلف ملتبس ، ثم وعظ كفار مكة ليعتبروا فقال : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها) بغير عمد (وَزَيَّنَّاها) بالكواكب (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) ـ ٦ ـ يعنى من خلل (وَالْأَرْضَ) أولم يروا إلى الأرض كيف (مَدَدْناها) يعنى بسطناها مسيرة خمسمائة سنة من

__________________

(١) كذا فى أ ، ف ، والمعنى «ليس رسولا من عند الله».

(٢) فى أ : «والقرون» ، وفى ف : «والعروق».

(٣) فى أ : «ما خلا» ، وفى ف : «وما خلا».

(٤) في أ : «(عندنا) فى (كِتابٌ حَفِيظٌ)» ، وفى حاشية أ : «الآية (وعندنا)».

(٥) فى أ : «قل بل يبعثهم الله ـ تعالى ـ» وفى ف : «قل به الله يبعهم».

١١٠

تحت الكعبة (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) يعنى الجبال وهي ستة أجبل ، والجبال كلها من هذه الستة الأجبل (وَأَنْبَتْنا فِيها) في الأرض (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) يعنى من كل صنف من النبت (بَهِيجٍ) ـ ٧ ـ يعنى حسن (تَبْصِرَةً وَذِكْرى) يعنى هذا الذي ذكر من خلقه جعله تبصرة وتفكرة (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) ـ ٨ ـ يعنى مخلص القلب بالتوحيد ، ثم قال : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) يعنى المطرفيه البركة حياة كل شيء (فَأَنْبَتْنا بِهِ) بالمطر (جَنَّاتٍ) يعنى بساتين (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) ـ ٩ ـ يعنى حين يخرج من سنبله (وَ) أنبتنا بالماء (النَّخْلَ باسِقاتٍ) يعنى النخل الطوال (لَها طَلْعٌ) يعنى الثمر (نَضِيدٌ) ـ ١٠ ـ يعنى منضود بعضه على بعض مثل قوله : (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ...) (١) وجعلنا هذا كله (رِزْقاً لِلْعِبادِ) ، ثم قال : (وَأَحْيَيْنا بِهِ) بالماء (بَلْدَةً مَيْتاً) لم يكن عليها نبت فنبتت الأرض ، ثم قال : (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) ـ ١١ ـ يقول وهكذا تخرجون من القبور بالماء ، كما أخرجت النبت من الأرض بالماء ، فهذا كله من صنيعه ليعرفوا توحيد الرب وقدرته على البعث (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) قبل أهل مكة (قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِ) (٢) يعنى أصحاب البئر اسمها قلج وهي البئر التي قتل فيها حبيب النجار صاحب ياسين (وَثَمُودُ) ـ ١٢ ـ (وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ) ـ ١٣ ـ (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) يعنى غيضة الشجر أكثرها الدوم المقل وهم قوم شعيب ـ عليه‌السلام ـ (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) بن أبى شراح ويقال شراحيل الحميري («كُلٌ) كل هؤلاء» (٣) (كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) ـ ١٤ ـ يعنى فوجب عليهم عذابي فعذبتهم فاحذروا يا أهل مكة مثل عذاب الأمم الخالية [١٦٨ ب] ، فلا

__________________

(١) سورة الواقعة : ٩.

(٢) الآية ناقصة وفيها أخطا. فى أ ، ف.

(٣) فى أ : (كل) هؤلاء.

١١١

تكذبوا محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، لما قال كفار مكة : (... ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (١) ، فأنزل الله ـ تعالى ـ (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) فى أول هذه السورة وذلك أن كفار مكة كذبوا بالبعث ، يقول الله ـ تعالى ـ أعجزت عن الخلق حين خلقتهم ولم يكونوا شيئا ، فكيف أعيى عن بعثهم ، فلم يصدقوا ، فقال الله ـ تعالى ـ بل يبعثهم الله ، ثم استأنف فقال : (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) ـ ١٥ ـ يقول فى شك من البعث بعد الموت. ثم قال : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) يعنى قلبه (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ـ ١٦ ـ وهو عرق خالط القلب فعلم الرب ـ تعالى ـ أقرب إلى القلب من ذلك العرق ، ثم قال : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) يعنى الملكين يتلقيان عمل ابن آدم ومنطقه (عَنِ الْيَمِينِ) ملك يكتب الحسنات (وَعَنِ الشِّمالِ) ملك (قَعِيدٌ) ـ ١٧ ـ يكتب السيئات فلا يكتب صاحب الشمال إلا بإذن صاحب اليمين ، فإن تكلم ابن آدم بأمر ليس له ولا عليه اختلفا فى الكتاب (٢) ، فإذا اختلفا نوديا من السماء ما لم يكتبه صاحب السيئات فليكتبه صاحب الحسنات ، فذلك قوله : (ما يَلْفِظُ) ابن آدم (مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ـ ١٨ ـ يقول إلا عنده حافظ قعيد يعنى ملكيه ، قوله : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ) يعنى غمرة (الْمَوْتِ بِالْحَقِ) يعنى أنه حق كائن (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) ـ ١٩ ـ يعنى من الموت تحيد ، يعنى يفر ابن آدم يعنى بالفرار كراهيته للموت ، قوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) يعنى النفخة الآخرة (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) ـ ٢٠ ـ يعنى بالوعيد العذاب فى الآخرة (وَجاءَتْ) فى الآخرة (كُلُّ نَفْسٍ) كافرة (مَعَها سائِقٌ)

__________________

(١) سورة ق : ٢.

(٢) كذا فى أ ، ف ، والمراد الكتابة ، أى أن كل واحد منهما يريد أن يكتب هذا الأمر.

١١٢

يعنى ملك يسوقها إلى محشرها (وَشَهِيدٌ) ـ ٢١ ـ يعنى ملكها هو شاهد عليها بعملها (لَقَدْ كُنْتَ) يا كافر (فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) اليوم (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) يعنى «عن غطاء الآخرة» (١) (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ـ ٢٢ ـ يعنى يشخص بصره ، ويديم النظر فلا يطرف حتى يعاين فى الآخرة ما كان يكذب به فى الدنيا (وَقالَ قَرِينُهُ) فى الآخرة يعنى صاحبه وملكه الذي كان يكتب عمله السيئ فى دار الدنيا (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) ـ ٢٣ ـ يقول لربه قد كنت وكلتنى به فى الدنيا ، فهذا عندي معد حاضر من عمله الخبيث قد أتيتك به وبعمله ، نزلت فى الوليد بن المغيرة المخزومي يقول الله ـ تعالى ـ : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) يعنى الخازن وهو فى كلام العرب ، «خذاه» (٢) يخاطب الواحد مخاطبة الاثنين «للواحد» (٣) (كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) ـ ٢٤ ـ يعنى المعرض عن توحيد الله ـ تعالى ـ وهو الوليد بن المغيرة ، ثم ذكر عمله فقال : (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) يعنى منع ابن أخيه وأهله عن الإسلام وكان لا [١٦٩ أ] يعطى فى حق الله ، «ويسرّ الغشم والظّلم» (٤) فهو (مُعْتَدٍ مُرِيبٍ) ـ ٢٥ ـ يعنى شاكا فى توحيد الله ـ تعالى ـ يعنى الوليد ، ثم نعته فقال : (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) فى الدنيا (فَأَلْقِياهُ) يعني الخازن (فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) ـ ٢٦ ـ يعنى عذاب جهنم (قالَ قَرِينُهُ) يعني صاحبه وهو شيطانه الذي كان يزين له الباطل والشر (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) فيما يعتذر به إلى ربه يقول لم يكن لي قوة أن أضله

__________________

(١) كذا فى أ ، ف ، ولعل أصله «عنك غطاء الآخرة».

(٢) في أ : «خذاه» ، وفى ف : «خذ له».

(٣) «للواحد» : من أوليست فى ف.

(٤) فى أ ، ف : «يسر الغشم والظلم» ، «وربما كان أصلها «بسبب الغشم والظلم».

تفسير مقاتل ج ٤ ـ م ٨

١١٣

بغير سلطانك (وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) ـ ٢٧ ـ يعنى شيطانه يعنى ولكن كان فى الدنيا الوليد بن المغيرة المخزومي فى ضلال بعيد فى خسران طويل (قالَ) الله ـ تعالى ـ لابن آدم وشيطانه الذي أغواه (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) يعنى عندي (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) ـ ٢٨ ـ يقول قد أخبرتكم فى الدنيا بعذابي فى الآخرة (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) يعنى عندي الذي قلت لكم فى الدنيا من الوعيد قد قضيت ما أنا قاض (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ـ ٢٩ ـ يقول لم أعذب على غير ذنب (يَوْمَ نَقُولُ) يقول الرب (١) (لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) ـ ٣٠ ـ «فينتقص» (٢). قال مقاتل : قال ابن عباس : وتقول «قط قط» ، وتقول «قد امتلأت» ، فليس فى مزيد ، تقول : ليس فى سعة ، وفى الجنة سعة». فيخلق الله لها خلقا فيسكنون فضاءها (٣) (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) يعنى قربت الجنة (لِلْمُتَّقِينَ) الشرك (غَيْرَ بَعِيدٍ) ـ ٣١ ـ فينظرون إليها قبل دخولها حين تنصب عن يمين العرش يقول (هذا) الخير (ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ) مطيع (حَفِيظٍ) ـ ٣٢ ـ لأمر الله ـ عزوجل ـ فقال : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) فأطاعه ولم يره (وَجاءَ) فى الآخرة (بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) ـ ٣٣ ـ يعنى بقلب مخلص (ادْخُلُوها) يعنى الجنة (بِسَلامٍ) يقول فسلم الله لهم أمرهم وتجاوز عن سيئاتهم وشكر لهم اليسير من أعمالهم الصالحة (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) ـ ٣٤ ـ

__________________

(١) فى أ : (يوم يقول) الرب.

(٢) فى أ : «فتنتفض» ، وفى ف : «فينتقص».

(٣) الضمير عائد على الجنة ، أى بخلق خلقا للجنة «فيسكنون فى قضائها» والكلمة في أ ، ف : فضاها.

١١٤

فى الجنة لا موت فيها يعنى في الجنة (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ) من الخير (فِيها) وذلك أن أهل الجنة يزورون ربهم على مقدار كل يوم جمعة فى رمال المسك فيقول : سلوني. فيسألونه : الرضا؟ فيقول : رضاي أحلكم دارى ، «وأنيلكم (١)» كرامتي ، ثم يقرب إليهم ما لم تره عين ، ولم تسمعه أذن ، ولم يخطر على قلب بشر. ثم يقول : سلوني ما شئتم. فيسألونه حتى تنتهي مسألتهم فيعطون ما سألوا وفوق ذلك. فذلك قوله : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها) ثم يزيدهم الله من عنده ما لم يسألوا ولم يتمنوا ولم يخطر على قلب بشر من جنة عدن ، فذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) ـ ٣٥ ـ يعنى وعندنا مزيد [١٦٩ ب] ، ثم خوف كفار مكة ، فقال : (وَكَمْ أَهْلَكْنا) بالعذاب (قَبْلَهُمْ) يعني قبل كفار مكة (مِنْ قَرْنٍ) يعنى أمة (هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ) من أهل مكة (بَطْشاً) يعنى قوة (فَنَقَّبُوا) يعنى هربوا (فِي الْبِلادِ) ويقال «حولوا» (٢) فى البلاد (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) ـ ٣٦ ـ يقول هل من فرار (إِنَّ فِي ذلِكَ) يعني فى هلاكهم فى الدنيا (لَذِكْرى) يعنى لتذكرة (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) «يعنى» (٣) حيا يعقل الخير (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) يقول أن ألقى بأذنيه السمع (وَهُوَ شَهِيدٌ) ـ ٣٧ ـ يعني وهو شاهد القلب غير غائب (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وذلك أن اليهود قالوا إن الله حين فرغ «من خلق» (٤) السموات والأرض وما بينهما فى ستة أيام ، استراح يوم السابع وهو يوم السبت ، فلذلك لا يعملون يوم السبت شيئا (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ

__________________

(١) فى أ : «وأنالكم» ، وفى حاشية أ : «وأنيلكم».

(٢) «حولوا» : كذا فى أ ، ف.

(٣) «يعنى» : ساقطة من أ.

(٤) «من خلق» زيادة اقتضاها السياق.

١١٥

وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ومقدار كل يوم ألف سنة من أيامكم هذه (وَما مَسَّنا) يعنى وما أصابنا (مِنْ لُغُوبٍ) ـ ٣٨ ـ يعنى من إعياء يقول الله ـ تعالى ـ لنبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) لقولهم إن الله استراح يوم السابع (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) يقول وصل بأمر ربك (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) ـ ٣٩ ـ يقول صل بالغداة والعشى يعنى صلاة الفجر والظهر والعصر (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) يقول فصل المغرب والعشاء (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) ـ ٤٠ ـ يعنى الركعتين بعد صلاة المغرب وقتهما ما لم يغب الشفق (وَاسْتَمِعْ) يا محمد (يَوْمَ «يُنادِ الْمُنادِ») (١) فهو إسرافيل وهي النفخة الآخرة (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) ـ ٤١ ـ يعنى من الأرض نظيرها فى سبأ (... وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) (٢) يعني من تحت أرجلهم ، وهو إسرافيل ـ عليه‌السلام ـ قائم على صخرة بيت المقدس وهي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا فيسمع الخلائق كلهم فيجتمعون ببيت المقدس ، «وهي» (٣) وسط الأرض وهو المكان القريب ، وهو ، (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِ) يعنى نفخة إسرافيل الثانية بالحق يعنى أنها كائنة ، فذلك قوله : (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) ـ ٤٢ ـ من القبور (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي) الموتى (وَنُمِيتُ) الأحياء (وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) ـ ٤٣ ـ يعني مصير الخلائق كلهم إلى الله فى الآخرة ، فقال : (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً) إلى الصوت نظيرها فى (سَأَلَ سائِلٌ) (٤)

__________________

(١) فى أ : «ينادى المنادى» ، وفى المصحف : (يُنادِ الْمُنادِ).

(٢) سورة سبأ : ٥١.

(٣) «وهي» : أى منطقة الاجتماع.

(٤) سورة المعارج : ١ ، ويقصد الآية ٤٣ وهي : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ).

١١٦

(ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) ـ ٤٤ ـ يعني جميع الخلائق علينا هين : وينادى فى القرن ، ويقول لأهل القبور : أيتها العظام البالية ، وأيتها اللحوم المتمزقة ، وأيتها العروق المتقطعة ، وأيتها الشعور المتفرقة ، اخرجوا لتنفخ فيكم أرواحكم ، وتجازون بأعمالكم ويديم الملك الصوت ، فذلك قوله : (يَوْمَ يَسْمَعُونَ) [١٧٠ أ] (الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) (١) من القبور (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) فى السر مما يكره النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يعني كفار مكة (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ) يا محمد (بِجَبَّارٍ) يعنى بمسلط فتقتلهم (فَذَكِّرْ) يعني فعظ أهل مكة (بِالْقُرْآنِ) يعنى بوعيد القرآن (مَنْ يَخافُ «وَعِيدِ») (٢) ـ ٤٥ ـ : وعيدي يعنى عذابي فى الآخرة فيحذر المعاصي.

__________________

(١) سورة ق : ٤٢.

(٢) فى أ : «وعيدي» ، والتلاوة : «وعيد».

١١٧
١١٨

سورة الذّاريات

١١٩
١٢٠