أشهد أنّ عليّاً وليّ الله بين الشرعيّة والابتداع

السيد علي الشهرستاني

أشهد أنّ عليّاً وليّ الله بين الشرعيّة والابتداع

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة المؤمل الثقافية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

نقض البيت وإعادة بنائه موجود ، لكن لم يؤسس النبي عليه حكماً ، لوجود مانع ، وهو حداثة عهد الصحابة بالجاهلية ، وكذا الحال بالنسبة إلى تأخير العشاء ؛ فقد تركه لأنّه إحراج للأمّة .

وعلى هذا الأساس يمكننا القـول بأنّ الاحتمال السابق يقوّي استدلال القائلين برجحان ذكر الشهادة بالولاية في الأذان ، وذلك لارتفاع المانع اليوم من ذكرها ، ولا خوف اليوم على الشيعة منها ، بل صارت شعاراً ورمزاً للتشيّع ، فلا يُستبعد ضرورة التمّسك بها ، كما هو مذهب السّيّدين الحكيم والخوئي ومذهب غيرهما من الفقهاء قدّس الله أرواحهم .

وفي الجملة : فإنّ الشـارع المقدّس وإن كان يدور تشريعه مدار الملاكات والمصالح والمفاسد إلّا أنّ الموانعَ مأخوذةٌ أيضاً في عملية التشريع ، ومن ذلك ما روته الأمّة عن النبيّ أنّ ملاك تشريع وجوب صلاة الليل في ليالي شهر رمضان موجود لكنّ النبيّ مع ذلك لم يشرّع ذلك لمانع وهو خوفه على الأمة من عدم الامتثال ثمّ الوقوع في المعصية ، ومن هذا القبيل الشهادة الثالثة ، فيمكن القول أنّ النبي لم يشرّعها مع وجود ملاكها خوفاً على الأمة من التخبط والتقهقر .

ومهما يكن ، فقد ورد عن أئمّة أهل بيت العصمة في ذلك روايات ظاهرة في أنّ الملاك لا يؤسّس حكماً شرعياً لو كان اقتضائياً ما لم يرتفع المانع ، وهو هنا الخوف على دماء الشيعة .

وإليك الآن بعض الروايات الدالّة على أنّ الأئمّة هم الّذين يوقعون الاختلاف بين الشيعة كي لا تعرف السلطات رأيهم ونظرهم في بعض الأحكام كما أشرنا .

فمن ذلك ما رواه في الكافي (١) في الموثّق عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن مسألة فأجابني ، ثمّ جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ،

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٥ / ح ٥ ، باب اختلاف الحديث .

٣٢١
 &

ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي ، فلمّا خرج الرجلان قلت : يا ابن رسول الله رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان ، فأجبت كلّ واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه ! !

فقال : يا زرارة ، إنّ هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم . ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدَّقكم الناس علينا ، ولكان أقلَّ لبقائنا وبقائكم .

قال : ثمّ قلت لأبي عبد الله [ الصادق عليه‌السلام ] : شيعتكم لو حملتموهم على الأسنّة أو على النار لمضوا ، وهم يخرجون من عندكم مختلفين ، قال : فأجابني بمثل جواب أبيه .

قال الشيخ يوسف البحراني في الحدائق : فانظر إلى صراحة هذا الخبر في اختلاف أجوبته عليه‌السلام في مسألة واحدة في مجلس واحد ، وتَعَجُّب زرارة ، ولو كان الاختلاف إنّما وقع لموافقة العامّة لكفى جواب واحد بما هم عليه ، ولما تعجّب زرارة من ذلك ، لعلمه بفتواهم عليهم‌السلام أحياناً بمّا يوافق العامة تقيّة .

ولعلّ السرّ في ذلك أنّ الشيعة إذا خرجوا عنهم مختلفين ، كلٌّ ينقل عن إمامه خلاف ما ينقله الآخر ، هان مذهبهم على العامّة ، وكذّبوهم في نقلهم ، ونسبوهم إلى الجهل وعدم الدين ، وقَلُّوا وتشتَّتوا في نظرهم ، بخلاف ما إذا اتّفقت كلمتهم وتعاضدت مقالتهم ، فانّهم يصدّقونهم ويعلمون أنّهم طائفة كبيرة ذات خطر فيشتدّ بغضهم لهم ولإمامهم ومذهبهم ، ويصير ذلك سبباً لثوران العداوة ، ويكون دافعاً لاستئصالهم ومحو شوكتهم وإلى ذلك ، يشير قوله عليه‌السلام : « ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم الناس علينا وكان أقلّ لبقائنا وبقائكم » (١) .

ومن ذلك أيضاً ما رواه الشيخ في التهذيب (٢) في الصحيح ـ على الظاهر ـ عن سالم أبي خديجة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « سأله إنسان وأنا حاضر فقال : ربّما

__________________

(١) أنظر الحدائق الناضرة ١ : ٦٠ من المقدمة الاولى بتصرف .

(٢) تهذيب الأحكام ٢ : ٢٥٢ / ح ٣٧ باب المواقيت .

٣٢٢
 &

دخلت المسجد وبعض أصحابنا يصلّي العصر ، وبعضهم يصلّي الظهر ؟ فقال : أنا أمرتهم بهذا ، لو صلّوا على وقت واحد لعُرِفُوا فأُخذوا برقابهم » ، وهو أيضاً صريح في المطلوب ، إذ لا يخفى أنّه لا تطرُّقَ للحمل هنا على موافقة العامّة ، لاتّفاقهم على التفريق بين وقتي الظهر والعصر ومواظبتهم على ذلك (١) .

ومن ذلك أيضاً ما رواه الشيخ في كتاب العدّة (٢) مرسلا عن الصادق عليه‌السلام : أنه « سئل عن اختلاف أصحابنا في المواقيت ؟ فقال : أنا خالفت بينهم » .

وما رواه الصدوق رحمه‌الله في علل الشرائع (٣) بسنده عن [ محمّد بن بشير و ] حريز ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ( قلت له : إنّه ليس شيء أشدّ عليّ من اختلاف اصحابنا ، قال : ذلك من قِبَلِي » .

وما رواه أيضاً عن الخزاز ، عمّن حدثه ، عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : « اختلاف أصحابي لكم رحمة ، وقال عليه‌السلام : إذا كان ذلك جمعتكم على أمر واحد » .

وسئل عن اختلاف أصحابنا فقال عليه‌السلام : « أنا فعلت ذلك بكم ، ولو اجتمعتم على أمر واحد لأُخِذَ برقابكم » (٤) .

كان هذا عن المسائل المتباينة في الأحكام ، أمّا ما نحن فيه فلا تباين في أخبار الأذان ، بل بينهما إجمال وتفصيل ، ممّا يمكن الجمع بينها ، وخصوصاً بعد أن عرفنا أنّ الاختلاف في الرواية هو خير للأئمّة وأبقى لشيعتهم ، لانه عليه‌السلام قال : « ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدَّقَكم الناس علينا » . ثم يكيدون بنا ، وهذا ما لا يريده الأئمّة قطعاً .

__________________

(١) كما لا يخفى أنّ ملاك تشريع الجمع أرجح لكنّ المانع هو جملة الإمام عليه‌السلام « لاخذوا برقابهم » .

(٢) عدة الأصول ١ : ١٣٠ / الفصل ٤ ، في مذهب الشيخ في جواز العمل بالخبر الواحد .

(٣) علل الشرائع ٢ : ٣٩٥ / الباب ١٣١ / ح ١٤ ، وعنه في بحار الأنوار ٢ : ٢٣٦ / الباب ٢٩ / ح ٢٢ .

(٤) علل الشرائع ٢ : ٣٩٥ / ح ١٥ / وعنه في بحار الأنوار ٢ : ٢٣٦ / الباب ٢٩ / ح ٢٣ .

٣٢٣
 &

وعلى هذا الأساس يمكن القول أيضاً بناء على ذلك الاحتمال : أنّ روايات الشهادة الثالثة ـ التي وصفها الشيخ الطوسي بالشاذّة ـ قد صدرت عن الأئمّة فعلاً ، لكنّها صدرت لا على نحو التشريع ؛ إذ لا تمتلك ملاكاً تامّاً للتشريع والفتوى بالاستحباب والقول بالجزئية ، بل صدرت عنهم عليهم‌السلام باعتبار أنّ الملاك هنا اقتضائي لا غير .

وهنا لا بدّ من التاكيد إلى أنّ الشيخ قد يحتجّ ـ كما مّر ـ بالشاذّ ، فيحمل مضمونه تارة على الجواز ، وتارة على ضرب من الاستحباب ، ولكنّه هنا لم يفعل ، كما هو مقتضى الجمع بين الشاذّ وغيره سوى أنّه أفتى بالجواز بقوله : « لم يأثم » ، ومعلوم أنّ الجواز لا يتقاطع مع مفهوم التقيّة ، ولقد بَيَّنَّا سابقاً أنّ ما أسماها أخباراً شاذة لها حجيّة فعليّة في الجواز ، اقتضائية فيما عداه من الاستحباب . ونحتمل أنَّ الشيخَ لم يفت بالاستحباب طبق ما أسماه بشواذّ الأخبار لِما قلناه من أنّ الملاك عنده اقتضائيّ ولم يرتق لأن يكون علّة تامّة للحكم ، وعليه فلا يمكن القول بالجزئية .

الأمر الخامس : كما قُلنا بأنّ الشيخ الطوسي لا يرى تعارضاً مستقرّاً بين الروايات التي فيها الشهادة بالولاية مع التي ليس فيها ذلك ـ وأنّ إفتاءه بعدم الإثم في العمل بها يؤكّد بأنّه رحمه‌الله يرى لها نحوَ اعتبار على ما بينّاه سابقاً ـ كذلك يمكننا القول بأنّ الشيخ الطوسي لَحَظَ أدلّة المحبوبية المطلقة الأخرى التي تدعوه للقول بالجواز ، وأنّه يراها مشابهةً لما ورد من الأخبار في اختلاف فصول الأذان والإقامة ٣٥ ، ٣٧ ، ٣٨ ، ٤٢ فصلاً .

وقد أراد البعض أن يستفيد من عدم وجود نصوص دالة من المعصومين على الشهادة الثالثة أو عدم فعل المعصومين له الحرمة ، فقالوا أنّ المعصوم لو أراد الجزئية لكان عليه بيان ذلك ، ولمّا لم يذكرها عرفنا أنّها غير مطلوبة للشارع .

في حين أنّ المستدل على الجزئيّة يجيبه بأنّ من الثابت علميّاً أنّ إحدى مقدّمات

٣٢٤
 &

الحكمة ، هي امكان البيان ، بمعنى أنّه يصحّ استدلالهم على نفيها فيما لو كان الإمام يمكنه أن يقولها لكنّه لم يَقُلْها .

لكنّ الواقع خلاف ذلك ، لأنّ المطّلع على مجريات الأحداث بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يعلم بأنّ الإمام كان لا يمكنه قولها ، لأنّ شيعته سيفهمون من كلامه الجزئية ـ لأنّ كلامه عليه‌السلام نصٌّ شرعيٌّ يجب التعبد به ـ ولصارت سبباً لإهدار دماء كثيرة ، وهذا ما لا يريده الإمام عليه‌السلام أيضاً فكلامه على غرار قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لولا أن أشقّ على اُمتي لأخّرت العشاء إلى ثلثي الليل » ولكون الاتيان بالشهادة الثالثة في الأذان أمر جائز وليس بواجب حتى يلزم للإمام ان يبينه مثل « حي على حي العمل » .

لأنّ الشهادة بالولاية في الأذان لم تكن كغيرها من الأمور المعرفيّة التي يمكن الإسرار بها والاحتفاظ بها عند الخواص من أصحابه ، بل انّه أمرٌ إعلاميّ يجب الجهر به ، والجهر بالولاية في مثل تلك الظروف يساوق قتل المعصوم وقتل شيعته ، ولأجل ذلك لم يلزم الشارع المقدس المسلمين للقول بها ، فكان تركها وعدم إيجابها رحمة للمؤمنين ، وسعة لشيعة أمير المؤمنين .

وعليه فلا تحقُّقَ للإطلاق المقاميّ هنا ، لعدم قدرة الإمام على بيانه ، لما في هذا البيان من عواقب تستوجب هدر الدماء ، كلُّ ذلك مع توفّر الملاكات في ذلك لكنّ الجعل غير ميسور ، وبمعنى آخر : المقتضي موجود ، والمانع موجود كذلك .

ويمكن أن يجاب كلامهم بنحو آخر وهو : إنّ عدم الذكر أعمّ من عدم الجعل ، فقد يكون الأمر مجعولا شرعيّاً لكنّ الشارع أخّر بيانه لأمور خاصة ، وهذا يتّفق مع مرحليّة التشريع وأنّ الأحكام لم يؤمر بها المكلّف دفعةً واحدة في بدء التشريع ، بل نزلت تدريجاً ، بل قد يكون الحكم مُودَعاً عند الأئمة موكولاً إلى وقت رفع المانع عنه ، وهذا ما رأيناه في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة ، فكم حكم اتّضح حاله بعد رفع المانع ، وهناك أحكام أُخرى مخفيّة ستظهر بعد ظهور الإمام الحجة عجل الله تعالى

٣٢٥
 &

فرجه الشريف ، وهو معنى لما قيل بأنّه سيأتي بأمر جديد (١) .

الأمر السادس : ان الشيخ الطوسي كثيراً ما يتعرّض في التهذيب والاستبصار (٢) والمبسوط والعدّة لآراء مَن قَبْلَهُ ، وخصوصاً لآراء امثال الشيخ الصدوق ؛ قال في العدة : إنّا وجدنا الطائفة ميزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار ، فوثّقت الثقات منهم وضعّفت الضعفاء ، وفرّقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته ومن لا يعتمد . . . إلى أن قال : وصنّفوا في ذلك الكتب واستثنوا الرجال من جملة ما رووهُ من التصانيف في فهارسهم ، حتّى أنّ واحداً منهم إذا انكر حديثاً نظر في إسناده وضعّفه بروايته ، هذه عادتهم على قديمِ الوقت وحديثِهِ لا تنخرم (٣) .

وقول الشيخ : « واستثنوا الرجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارسهم » منصرف إلى الشيخ الصدوق وشيخه ابن الوليد اللذين استثنيا كثيراً من رواة نوادر الحكمة لمحمّد بن أحمد بن يحيى الأشعري ، قال النجاشي في ترجمة محمّد بن أحمد بن يحيى :

. . . وكان محمّد بن الحسن ابن الوليد يستثني من رواية محمّد بن أحمد بن يحيى ما رواه عن محمّد بن موسى الهمداني ، وما رواه عن رجل أو يقول : بعض أصحابنا . . .

وأخذ النجاشي يعدّد الأسماء حتى وصلت إلى ٢٥ اسماً ، ثم قال : قال أبو العباس ابن نوح : وقد أصاب شيخنا أبو جعفر محمّد بن الحسن بن الوليد في ذلك كلّه ـ وتبعه أبو جعفر بن بابويه رحمه‌الله على ذلك ـ إلّا في محمّد بن عيسى بن عيسى ، فلا

__________________

(١) انظر كتاب الغيبة للنعماني : ٢٠٠ وعنه في بحار الأنوار ٥٢ : ١٣٥ / الباب ٢٢ / ح ٤٠ .

(٢) انظر مثلا الاسـتبصار ١ : ٢٣٧ ، ٣٨٠ ، ٤٣٣ ، ج ٣ : ٧٠ ، ١٤٦ ، ٢١٤ ، ٢١٤ ، ٢٦١ ، ج ٤ : ١١٨ ، ١٣٠ ، ١٥٠ وغيرها .

(٣) العدة : ٣٦٦ .

٣٢٦
 &

أدري ما رابه فيه ، لأنّه كان على ظاهر العدالة والثقة (١) .

أمّا فيما نحن فيه فقد عنى الشّيخُ الطوسيُّ الشيخَ الصدوقَ كذلك ، لأنّه قال في النهاية : وأمّا ما روي في شواذّ الأخبار من قول « أشهد أنّ عليّاً وليّ الله ، وآل محمّد خير البرية » . . . ، وقال في المبسوط : فأمّا قول : أشهد أنّ عليّاً أمير المؤمنين ، وآل محمّد خير البرية على ما ورد في شواذّ الأخبار . . .

وكلامه رحمه‌الله ناظر إلى كلام الشيخ الصدوق ـ فيما احتمل قويّاً ـ ، لأنّ العبارات الثلاث التي أتى بها الشيخ هي نفس عبارات الصدوق .

١ ـ محمّد وآل محمّد خير البرية .

٢ ـ أشهد أن علياً ولي الله .

٣ ـ أشهد أن علياً أمير المؤمنين حقّاً .

فهذه الجمل الثلاث التي وردت في « النّهاية » و « المبسوط » هي نفس ما حكاه الصدوق في « الفقيه » ، لكن بفارق جوهريّ هو أنّ الشيخ الصدوق ادّعى وضعها من قبل المفوّضة ، والشيخ الطوسي رحمه‌الله كان يراها روايات شاذّة غير معمول بها لظروف التقية ، وكان كلاهما متّفقين على عدم لزوم الاخذ بها ، لكنّ الشيخ الطوسي أفتى بجواز فعلها لا على نحو الجزئية لقوله : « ولو فعله الإنسان لم يأثم به » .

فلو كان الشيخ الطوسي لا يعني الصدوق لأتى بالجملة التي كانت تقال في الموصل على عهد أُستاذه السيّد المرتضى : « محمّد وعلي خير البشر » مع الجمل الثلاث الأخرى ، دون اختصاصه بالجمل الثلاث التي اتى بها الصدوق :

إنّ الشيخ الطوسيّ بعد أن عدّ الأقوال في صيغ الأذان والإقامة وأنّها : خمسة وثلاثون فصلاً ، وروي سبعة وثلاثون فصلاً في بعض الروايات ، وفي بعضها ثمانية

__________________

(١) فهرست مصنفات اصحابنا المعروف برجال النجاشي : ٣٤٨ / الترجمة ٩٣٩ .

٣٢٧
 &

وثلاثون فصلاً ، وفي بعضها اثنان وأربعون ، قال :

فإن عمل عامل على إحدى هذه الروايات لم يكن مأثوماً ، وأمّا ما روي في شواذّ الأخبار منها قول « أشهد أنّ علياً ولي الله » و « آل محمّد خير البرية » فممّا لا يعمل عليه في الأذان والإقامة ، فمن عمل بها كان مخطئاً .

وقال في المبسوط : وفي أصحابنا من جعل فصول الإقامة مثل فصول الأذان وزاد فيها : « قد قامت الصلاة » مرتين ، ومنهم من جعل في آخرها التكبير أربع مرّات ، فأما قول : « أشهد أن علياً أمير المؤمنين » و « آل محمّد خير البرية » على ما ورد في شواذّ الأخبار فليس بمعمول عليه في الأذان ، ولو فعله الإنسان لم يأثم به ، غير أنّه ليس من فضيلة الأذان ولاكمال فصوله .

وهذان النصّان يوقفاننا على أنّ أخبار الشهادة بالولاية معتبرة عند الشيخ الطوسي إلى حدٍّ ما وهو حد الاقتضاء دون الفعلية ، وهو ما سوّغ له فيما احتملنا قويّاً إفتاؤه بالجواز وعدم الإثم بموجب اقتضائيّتها ، وهذا يقارب قوله : « لم يكن مأثوماً » في العمل طبق أخبار اختلاف عدد فصول الأذان .

هذا التقارب يجعلنا نحتمل قويّاً أنّ الشيخ جوّز ذكر الشهادة الثالثة في الأذان اعتماداً على الأخبار الشاذّة ، لكن في مرحلتها الاقتضائية دون الفعلية .

وقد يمكن أن يقال أنّ الشيخ كان يرى الحجية الكاملة لشواذّ الأخبار لقوله « فإن عمل عامل على احدى هذه الروايات لم يكن مأثوماً » لأنّه رحمه‌الله لم يقل « كان مصيباً » بل قال « لم يكن مأثوماً » فمعناه أن العامل بتلك الاخبار لم يكن مأثوماً وإن كان مخطئاً بنظر الشيخ الطوسي ؛ لأنّه عمل باخبار شاذة مع وجود الأذان المحفوظ عندهم وعملهم به فتأمل ! ! !

وقد يكون الشيخ اعتبر تلك الأخبار شاذة لتصوره أنّها قد وردت عن الأئمة على نحو الجزئية ، وأن عدم عمل الطائفة بتلك الأخبار جعلتها شاذة .

٣٢٨
 &

أمّا لو اعتبرنا ورود تلك الأخبار على نحو التفسيرية والبيانية من قبل المعصومين فلا معنى لاعتبارها اخباراً شاذة وذلك لعدم معارضتها مع الروايات البيانية الصادرة عن المعصومين في صيغ الأذان .

وبهذا فلا يجوز الاخذ بالأخبار الشاذة أن اخذت على نحو الجزئية ، أمّا إذا اعتبرت من قبيل التفسير والاتيان بالمستحب ضمن المستحب كما هو الحال في استحباب الصلاة على الرسول كلما ذكر اسمه في الأذان أو في غيره لا يجعلها جزءاً من الأذان والإقامة ولا يبقى مانع من الاخذ بتلك الاخبار والعمل بها .

وعليه فالشيخ الطوسي فيما يحتمل قويّاً كان قد عنى بكلاميه الانفين الشيخ الصدوقَ ، وذلك لاتّحاد النصّ الموجود في « الفقيه » مع ما قاله الشيخ في « النهاية » و « المبسوط » .

الأمر السابع : من المعلوم أن الشيخ الطوسي قد وقف على كتب لم يقف عليها غيره ، منها مكتبتين عظيمتين : أولاهما : مكتبة أبي نصر سابور وزير بهاء الدولة البويهي (١) ، والذي قال عنها ياقوت الحموي : « ولم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها ، كانت كلّها بخطوط الأئمة المعتبرة وأصولهم المحرّرة . . . » (٢) .

وثانيتهما مكتبة أستاذه السيّد المرتضى الثمانيني ـ والذي لقّب بهذا اللقب لأنّ مكتبته كانت تحتوي على أكثر من ثمانين ألف كتاباً سوى التي أهديت إليه من الرؤساء والأشراف والتجّار ، وله ثمانون قرية ، وتوفّي وعمره ثمانون عاماً ـ وقد كان السيّد المرتضى شيخ الشيعة في وقته وموضع اهتمام الجميع .

وقد استفاد الشيخ الطوسي من هاتين المكتبتين كثيراً قبل دخول السلاجقة بغداد

__________________

(١) الذي ولد في شيراز ٣٣٦ هـ وتوفي سنة ٤١٦ هـ .

(٢) معجم البلدان ١ : ٥٣٤ ، خطط الشام ٦ : ١٨٥ .

٣٢٩
 &

عام ٤٤٧ هـ وإسقاط الدولة البويهية وحرقهم لمكتبة أبي نصر سابور وغيرها من الدور الشيعية في الكرخ .

قال ابن الجوزي في حوادث سنة ٤٤٨ هـ : وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره (١) . ثم قال في حوادث سنة ٤٤٩ هـ :

وفي صفر من هذه السنة كبست دار أبي جعفر الطوسي متكلم الشيعة بالكرخ ، وأُخِذَ ما وجد من دفاتره ، وكرسيٌّ كان يجلس عليه للكلام ، وأُحرِقت مكتبته (٢) .

فيحتمل قويّاً أن يكون الشيخ الطوسيّ رحمه‌الله ـ قبل هجوم السلاجقة على بغداد ـ قد وقف على أخبار دالّة على الشهادة الثالثة في أُصول أصحابنا ، لكنّها كانت أخباراً آحاداً لا تقوى على معارضة غيرها ، ونظراً لاعتقاده بحجيّتها الاقتضائيّة دون الفعلية على ما فصّلنا سابقاً ، وأنّها حجّة عنده ، لفتواه بالجواز وعدم الإثم ـ خلافاً لأُستاذه المرتضى وتلميذه ابن إدريس في خبر الاحاد ـ كان عليه أن يأخذ بها ، ولمّا لم نره يأتِ بأسانيدها في كتبه فليس لنا إلّا أن نقول أنّه تركها لمخالفتها لما اشتهر عند الأصحاب من أنّ الشهادة بالولاية ليست جزءً في الأذان ، أو للتقيّة لأنّ الشيخ لم يأتِ بتلك الأخبار وأسانيدها للظروف التي كان يعيشها ؛ لأنّه مرّ بظروف قاسية جدّاً .

وممّا حُكي بهذا الصدد أنّه وُشي بالشيخ الطوسي إلى الخليفة العباسي بأنّه وأصحابه يسبّون الصحابة ، وكتابَهُ المصباح يشهد بذلك ؛ لما في دعاء زيارة عاشوراء : « اللّهمّ خصَّ أنتَ أوَّل ظالم باللعن مني . . . » .

فأجاب الشيخُ الخليفَة بأنّ المراد بالأول قابيل قاتل هابيل ، وهو أوّل من سنّ القتل والظلم . وبالثاني عاقر ناقة صالح . وبالثالث قاتل يحيى . وبالرابع عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب .

__________________

(١) المنتظم ٨ : ١٧٣ .

(٢) أنظر المنتظم ٨ : ١٧٩ .

٣٣٠
 &

فرفع الخليفة عنه العقوبة (١) .

فتلخّص ممّا سبق : أنّه ليس هناك تعارضٌ بين قولي الشيخ في النهاية والمبسوط ، لأنّه رحمه‌الله عنى بقوله الأوّل الذين يأتون بها على نحو الجزئية وهؤلاء مخطئون حسب قواعد الاستنباط ، وأمّا الذين يأتون بها لجوازها في نفسها فلا إثم عليهم .

ولا يخفى عليك أنّ الشيخ قال في النهاية : « كان مخطئاً » ولم يقل : « كان مبدعاً » كما قاله في الذين يأتون بجملة « الصلاة خير من النوم » ، والفرق بين الأمرين واضح .

وممّا يجب التنبيه عليه هنا هو أنّ الشيخ ألّف كتابه « النهاية » قبل « المبسوط » ، لأنّه رحمه‌الله ذكر النهاية والتهذيب في مقدّمة الاستبصار وفي مشيخته ولم يذكر غيرهما من كتبه ، وهو يؤكّد بأنّ النهاية والتهذيب قد أُلِّفا قبل الاستبصار .

وبمراجعة لكتاب الخلاف والمبسـوط والعدّة وغيرها من كتبه نرى الشيخ ذكر « الاستبصار » فيهما ، وهذا يعلمنا بأنّ المبسوط قد أُلِّف بعد الاستبصار ، ومنه نفهم بأنّ نص النّهاية هو الأوّل ثم يتلوه نصّ المبسوط الذي نفى فيه الإثم .

وهو الآخر يرشدنا إلى أنّ القول الأوّل للشـيخ في « النّهاية » كان قريباً إلى الصدوق حيث أنّهما كانا يعنيان بكلامهما الآتِينَ بالشهادة الثالثة بقصد الجزئية المسمَّين بالمفوَّضة ، ولكنّ الشيخ في « المبسوط » عنى الذين يأتون بها لمحبوبيّتها الذاتية ، ولذلك ليسوا هم بآثمين .

وفي هذين النصَّين إشارة إلى حدوث نقلة نوعية في كلامه رحمه‌الله ؛ لأنّه في نصّ « النهاية » كان يتصوّر ـ كالشيخ الصدوق ـ أنّ القائلين بالشهادة بالولاية غالبهم ممن يقولون بها على نحو الجزئية ، وأنّ تهمة التفويض المحرّم تدور مدارهم ،

__________________

(١) قاموس الرجال ٩ : ٢٠٨ ، عن مجالس المؤمنين ١ : ٤٨١ . ومن أراد المزيد مما كان يمرّ به الشيخ الطوسيّ من ظروف عصيبة فليطالع حياته السياسية والعلمية في مظانّها .

٣٣١
 &

ولأجله خَطَّأَهُم ولم يشر إلى الرأي الآخر ، لكنّه في « المبسوط » تحقق له أنّ عمل غالب الشيعة ـ الذين يأتون بها آنذاك ـ لم يكن على نحو الجزئيّة ، بل أنّهم كانوا يأتون بها لمبحوبيّتها الذاتيّة ولرجاء المطلوبية فأشار إلى الحكم الآخر في المسألة وقال بعدم الإثم في العمل بها .

ويؤيّد ذلك ما ورد عن السيّد المرتضى بعد أن سُئل عن قول القائل : « محمّد وعلي خير البشر » ، بعد : « حي على خير العمل » ، فقال :

إن قال : « محمّد وعلي خير البشر » على أن ذلك من قوله خارج من لفظ الأذان جاز ، وإن لم يكن فلا شيء عليه .

إذن فالسيّد المرتضى والشيخ الطوسي رحمهما الله تعالى هما أوّل من فكّكا بين الأمرين : الجزئية والمحبوبيّة الذاتية ، والشيخ لا يقول باستحباب الشـهادة بالولاية في الأذان ، علاوة على عدم القول بجزئيّتها تبعاً لما ورد في شواذّ الأخبار ، لأنّه لا يأخذ بالخبر الشاذّ إلّا إذا سلم من المعارِض ، كالعمومات ، والإجماع ، والأخبار المتواترة ، لأنّ أمثال هذه الأمور لا يجوز تخصيصها بمثل الشاذّ النادر .

وعليه : فالشيخ يرى في شواذّ الأخبار الحجيّة الاقتضائية لا الفعلية ، وهذا هو الذي دعاه أن لا يقول باستحبابها ، لقوله : « غير انه ليس من فضيلة الأذان ولا كمال فصوله » لعدم عمل الطائفة بها ، لكنّه في الوقت نفسه ـ حسب ما احتملناه سابقاً ـ يرى حجيّتها الفعلية في مرحلة الجواز ، ولذلك أفتى بعدم الإثم بفعلها لو قيلت على غير الجزئية كالمحبوبية الذاتية أو بقصد القربة المطلقة ، وهو يؤكّد وجود عمومات أخرى يمكن الاستدلال بها على الجواز .

٣٣٢
 &

٥ ـ ابن البراج الطرابلسي ٤٠٠ هـ ـ ٤٨١ هـ

القاضي عبد العزيز بن البراج الطرابلسي ، هو من كبار تلامذة الشيخ المفيد والسيّد المرتضى رحمهما الله تعالى ، ويعدّ في مرتبة الشيخ الطوسي ، وعلى أثر تتبّعي لكتابات أعلامنا حول الشهادة الثالثة لم أقف في كتب ابن البراج المطبوعة ـ بصرف النظر عن المفقودة ـ على شيء يدل على الشـهادة بالولاية لآل البيت في الأذان غير ما جاء في كتابه « المهـذب » .

فإنّه رحمه‌الله لم يُسأل في ( جواهر الفقه ) عن فصول الأذان والإقامة حتّى يجيب ، لكنّه في ( شرح جمل العلم والعمل ) (١) شرَحَ كلام أستاذه المرتضى في فصل الأذان ، ولم يتعرّض إلى موضوع الشهادة الثالثة لا من قريب ولا من بعيد .

وهكذا كان حال معاصريه : أبي الصلاح الحلبي (٢) ( ٣٧٤ هـ ـ ٤٤٧ هـ ) ، وأبي يعلى حمزة بن عبد العزيز الديلمي (٣) المتوفى ٤٤٨ هـ ، وسلمان بن الحسن بن سليمان الصهرشتي ( من أعلام القرن السادس ) (٤) ، فهم وإن تعرّضو إلى الأذان والإقامة وأنّهما خمسة وثلاثون فصلاً ، لكنّهم لم يتعرّضوا إلى الشهادة الثالثة لا من باب التفسيرية ولا من باب المحبوبية الذاتية ، مع أنّ أبا الصلاح قد أشار في ( الكافي ) إلى ما يفتتح به الصـلاة من التكبير والدعاء وذكر فيه أسماء الأئمّة الاثني عشر واحداً بعد واحد .

__________________

(١) شرح جمل العلم والعمل ، لابن البراج : ٧٨ .

(٢) الكافي ، لأبي الصلاح الحلبي : ١٢٠ ـ ١٢١ .

(٣) المراسم العلوية في الأحكام النبوية : ٦٧ .

(٤) اصباح الشيعة بمصباح الشريعة ، المطبوع ضمن سلسلة الينابيع الفقهية / ج ٤ : ٦١٦ .

٣٣٣
 &

والآن مع ما قاله ابن البراج في المهذب :

ويسـتحبّ لمن أذّن أو أقام أن يقول في نفسـه عند « حي على خير العمل » : « آل محمّد خير البرية » ، مرّتين ، ويقول في نفسه إذا فرغ من قوله « حيَّ على الصلاة » : « لا حول ولا قوّة إلّا بالله » ، وكذلك يقول عند قوله « حيَّ على الفلاح » ، وإذا قال : « قد قامت الصلاة » قال : « اللّهمّ أقمها وأدمها واجعلني من خير صالحي أهلها عملاً » ، وإذا فرغ من قوله « قد قامت الصلاة » قال : « اللهم ربَّ هذه الدعوة التامّة ، والصلاة الدائمة ، أَعْطِ محمّداً سؤله يوم القيامة ، وبلّغه الدرجة والوسيلة من الجنّة وتقبّل شفاعته في أُمّته » (١) .

إنّ هذا النصّ يوقفنا على أمرين :

أحدهما : صحّة ما قاله الشيخ الطوسي في مقدّمة المبسوط من أنَّ الأصحاب كانوا يستوحشون من الفتوى بغير ألفاظ الروايات ، وأنّ غالب كتب القدماء هي متون روايات وبمنزلة الأُصول المتلقّاة عن المعصومين ، لأنّ الفتوى بالاستحباب من قبل ابن البرّاج متفرِّع على وجود رواية في الباب وخصوصاً حينما يقيّدها بعدد كمرتين .

ويؤيّد ذلك أنّ الأذكار الموجودة في كلام ابن البراج إنّما هي مروية في روايات أهل البيت وجاءت في كلمات الفقهاء ، ولعل ترتـيب ذكر الأذكار من تقديم الحيعلة الثالثة على الحيعلتين « حيَّ على الصلاة » و « حيَّ على الفلاح » كان كذلك في أصل الرواية ولذلك قدمها بالذكر .

__________________

(١) المهذب لابن البراج ١ : ٩٠ .

٣٣٤
 &

الثانية : وقوف ابن البرّاج على تلك الروايات ووصولها لديه ؛ فقد يقال بأن قوله رحمه‌الله باستحباب قول « محمّد وآل محمّد خير البرية » في النفس هو لفك الحيعلة الثالثة ، وذلك كاستحباب حكاية ما يقول المؤذن عند سماع الأذان .

فقد روى الشيخ في « المبسوط » والعلّامة في « التذكرة » مرسلاً بقولهما :

وروي أنّه إذا سمع المؤذن يقول « أشهد أن لا إله إلّا الله » أن يقول : وأنا أشهد أن لا إله إلّا الله ، وحده لا شريك له ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، رضيت بالله ربا وبالإسلام ديناً ، وبمحمّد رسولاً وبالأئمة الطاهرين ائمة ، ويصلي على النبي وآله (١) .

فقد يكون ابن البراج من جهة يرى شرعيّة القول بـ « آل محمّد خير البرية مرتين » ، لتلك الروايات الدالة على فك معنى الحيعلة ، فيكون كلامه رحمه‌الله معنى آخر لحسنة ابن أبي عمير الآنفة عن الإمام الكاظم عليه‌السلام الصريحة في الولاية .

ومن جهة أخرى كان يخاف من الجهر بها لظروف التقيّة التي كان يعيش فيها ولذلك ذهب إلى قولها سراً ، ومعناه : إنّ المقتضي موجودٌ للقول بها وكذا المانع وهو الخوف على النفس ، فسعى للجمع بين الأمرين فأفتى باستحباب أن يقولها المؤذّن سرّاً في نفسه عند « حيَّ على خير العمل » ، خلافاً للصدوق الذي نفاها تقيّةً ، أو لاعتقاده أنّها من وضع المفوّضة يقيناً ، أو لعدم ارتضاء مشايخه لها ، وكذا خلافاً للشيخ الطوسي الذي لم يذهب إلى استحباب القول بها ، لكونها وردت في شواذّ الأخبار ، المخالفة للمعمول عليه عند الطائفة ، فالشيخ أفتى بجواز العمل بها لكنّه لم يقل باستحبابها لعدم اعتبار الأخبار الشاذّة عنده إن عارضت ما هو أقوى منها .

وأمّا ابن البرّاج فقد قال باستحباب قولها سرّاً للروايات التي وقف عليها ،

__________________

(١) المبسوط ١ : ٩٧ ، تذكرة الفقهاء ٣ : ٨٤ .

٣٣٥
 &

وبهذا ترى في فتوى ابن البراج نقلة نوعيّة وفقهيّة أُخرى في تطوّر سير هذه المسألة الفقهية بعد السيّد المرتضى والشيخ الطوسي رحمهما الله تعالى .

وإنّ تقييد ابن البرّاج الحكم بمرّتين صريح في أنّه أخذه من روايات كانت موجودة عنده تجزم بالمرتين ، وإلّا لما ساغ له أن يجزم في فتواه بهذا القيد الشرعي الذي لا يمكن التفوّه به لفقيه من دون أصل من الأخبار .

وقد يظهر جلياً في ان ابن البرّاج قد وقف على خبر أو اخبار غير التي وقف عليها الشيخ الصدوق ، وذلك لتقييد الذكر هنا بالاخفات في النفس ، وهذا ما لم نجده عند الصدوق ، مع ان محكي الشيخ الصدوق تدل على الجزئية ، وهذه الرواية ظاهرة في أنّها مجرد ذِكْر وليست جزءاً ، وعليه تكون هذه الرواية غير مراسيل الصدوق رحمه‌الله المحكية في « الفقيه » .

قال الشهيد في الذكرى ـ : المسألة الرابعة عشر من باب فيما يؤذّن له وأحكام الأذان ـ : قال ابن البرّاج رحمه‌الله : يستحبّ لمن أذّن أو أقام أن يقول في نفسه عند « حي على خير العمل » : « آل محمّد خير البرية » مرّتين .

وهذا النص من الشهيد الأوّل يفهم بأنّه يقرّ بما أفتى به ابن البرّاج رحمه‌الله ، وقد يكون فهم من فتوى ابن البرّاج أنّ الشهادة بالولاية لآل محمّد هي من أذكار الأذان المندوبة بالندب الخاصّ لا جزء فصوله ـ كما قدمنا ـ لأنّه رحمه‌الله قال بعدها : ويقول أيضاً في نفسه إذا فرغ من قوله « حي على الصلاة » : لا حول ولا قوة إلّا بالله ، وكذلك يقول عند قوله : « حي على الفلاح » ، وإذ قال : « قد قامت الصلاة » قال : « اللهم أَقِمْها وأَدِمْها ، واجعلني من صالحي أهلها عملاً » ، وإذا فرغ من قوله : « قد قامت الصلاة » قال في نفسه : « اللّهمّ ربّ الدعوة التامّة والصلاة القائمة ، أَعط محمّداً صلواتك عليه وآله سؤله يوم القيامة ، وبلّغه الدرجة والوسيلة

٣٣٦
 &

من الجنة ، وتقبّل شـفاعته في أمّـته » (١) . وهذه هي نفس العبائر التي جاءت في المهذب (٢) لابن البراج . وكلها تشير إلى أنّها ذِكْر وليست جزءاً .

وعلاوةً على ما تقدّم يمكننا القول بأنّ ابن البرّاج قال بذلك لعلمه بأن « حي على خير العمل » معناها الولاية ، ويجوز تفسيرها بجمل دالّة عليها تدعو لها وتحث عليها حسبما اتّضح في الدليل الكنائي ، كمحمّد وآل محمّد خير البرية ، لأنّه قيّد الاستحباب للمؤذّن والمقيم لا للسامع ، لأنّ النداء وظيفة المؤذّن ويتلوه المقيم .

إنّ الصيغة التي أفتى بها ابن البرّاج : « آل محمّد خير البرية » هي إحدى الصـيغ الثلاث التي قالها الشـيخ الطوسي وغيره من الأعلام بعد الصدوق .

فابن البراج قال بشرعية « آل محمّد خير البرية ، مرتين » حين الحيعلة وفي نفسه ومن باب الذكر .

والسيّد المرتضى ذهب إلى شرعية « محمّد وعلي خير البشر » .

والشيخ الطوسي أشار إلى الصيغ الثلاث التي جاء بها الصدوق في الفقيه .

ففي « النهاية » أشار إلى صيغتين منها : ١ ـ أشهد أنّ علياً وليّ الله ، ٢ ـ آل محمّد خير البرية .

وفي « المبسوط » أكّد على وجود أشهد أنّ علياً أمير المؤمنين وآل محمّد خير البرية في شواذّ الأخبار .

فالسيّد المرتضى وضّح جواز الشهادة بالولاية لأهل الموصل في العراق ، وقد يكون الشيخ الطوسي أشار في كلامه إلى تأذين أهل بغداد وحواليها بالشهادات الثلاث ، وفي كلام ابن البرّاج إشارة إلى تأذين أهل حلب وضواحيها بصيغة « محمّد وآل محمّد خير البرية » وقد يمكن أن نقول ان شيعة حلب اذنوا بذلك تبعاً

__________________

(١) ذكرى الشيعة ٣ : ٢٤١ .

(٢) المهذب لابن البراج ١ : ٩٠ / من باب الأذان والإقامة واحكامها .

٣٣٧
 &

لمن يقلدونهم من الفقهاء كابن البرّاج والسيّد المرتضى والشيخ الطوسيّ رحمهم الله تعالى ، وهو الصحيح الذي لا خلاف فيه .

إذن فصيغة « محمّد وعلي خير البشر » و « أشهد أنّ علياً ولي الله » أو « أشهد أنّ علياً أمير المؤمنين » أو « آل محمّد خير البرية » كانت صيغاً تقال في الموصل وبغداد وحلب وحمص ، وجميعها تدلّ على أنّها كانت تقال بعد الحيعلة الثالثة ، أو قبلها ، وهذا هو الذي كان عمر بن الخطاب لا يريد فتحها والإتيان بتفسيرها معها ، وحسب تعبير الإمام الكاظم « أراد أن لا يكون حثٌّ عليها ودعاءٌ إليها » .

ولقد أكثرنا القول بأنّ حذف عمر بن الخطاب لـ « حيّ على خير العمل » كان بسبب تفسيرها ، وأنّ الحكومات الموالية لعمر والتي جاءت بعده كانت حساسة تسعى لرفع هذا الشعار الشرعي النبوي ومحوه من المآذن ، وتسعى جاهدة لإخماده خوفاً من إعلاءِ ذكر عليّ عليه‌السلام من بعده ؛ ولأنّه يدل على بطلان حكومة من يخالف الإمام علي ، لأن المؤذن حينما يقول « حي على خير العمل » يعني بكلامه ـ تبعاً لتفسير الأئمة ـ أن الإمام علي هو خير البرية ، وخير البشر ، وبما ان انصار النهج الحاكم كانوا يعتقدون بأن هذا الفصل فيه تعريض بخلفائهم وتخطئة لمنهجهم فجدّوا لحذف الحيعلة خوفاً من تواليه ، ولذلك ترى الصراع قائماً ودائماً بين العلويين وبين الامويين والعباسيين في شعارية هذه المفردة الفقهية العقائدية السياسية ، كما هو ظاهر في تخالف النهجين في مفردات فقهية اخرى ، وهذا ما أكّدناه بالأرقام في الباب الأول من هذه الدراسة : ( حي على خير العمل والشعارية ) (١) .

__________________

(١) طبع هذا الكتاب قبل اعوام ، وجدد طبعه لمرات عديدة في لبنان ، واليمن ، والعراق ، ومصر ، وهو في طريقه إلى الترجمة إلى اللغات الانكليزية ، والاردو ، والفارسية .

٣٣٨
 &

٦ ـ يحيى بن سعيد الحلي ( ت ٦٨٩ هـ )

٧ ـ العلّامة الحلي ( ت ٧٢٦ هـ )

اتّضح ممّا سبق أنّ قوّة الظنّ حاصلة برجحان القول بالشهادة بالولاية في كل شيء ومنها الأذان بغير قصد الجزئية ، إن لم نقل الشهرة متحقّقة في ذلك قبل الشيخ الطوسي رحمه‌الله ، لأنّك قد وقفت في القسم الأوّل من هذا الفصل على محبوبيّة ذكر الولاية في الأذان من خلال تفسير الإمام الكاظم عليه‌السلام لـ « حيَّ على خير العمل » ، ولِما روي عن الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام بأنّ الحيعلة الثالثة هي معنى كنائي للشهادة الثالثة ، ولِما روى الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا أنّه أشار إلى وجود معنى الولاية في الأذان .

وهذه الروايات عن الأئمة لتؤكّد على وجود معنى الولاية في الأذان وجواز التعبير عنها بأي لفظ شاء ، وكما جاء في حسنة ابن أبي عمير من قوله عليه‌السلام : « وإنّ الّذي أمر بحذفها أراد أن لا يكون حثٌّ عليها ودعاءٌ إليها » . المفهمة بمحبوبيّة ذكر معناها معها عند مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام .

وكذا وقفت على تأذين الشيعة بها في بلدان مختلفة قبل ولادة الشيخ الصدوق ، وفي عصره ، ثم من بعده ، وهو مؤشّر آخر على محبوبية الإتيان بهذا الأمر عند الشيعة آنذاك واستمراره إلى عهد الصادقين عليهما‌السلام أو قل إلى عصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما حكي عن كتاب السلافة .

وإن ما حكاه الشيخ الطوسي من وجود روايات شاذّة ، وإفتاء ابن البرّاج باستحباب قولها سرّاً بقيد المرّتين الدالّ على وجود رواية بذلك ، كلّها تؤكّد ما نريد قوله من أنّ هناك مستنداً روائيّاً في أصول أصحابنا سوّغ للشيخ الطوسي والسيّد المرتضى الإفتاء بالجواز وعدم الإثم ، كما سوّغ لابن البرّاج الإفتاء باستحباب « محمّد وآل محمّد خير البرية » مرتين .

٣٣٩
 &

ولمّا كان غالب فقهائنا اللّاحقين (١) ـ مضافاً إلى الأدلّة الشرعية ـ يستندون في أقوالهم على فتاوى مَن سبقهم ، والشهرة قبل الشيخ الطوسي هي المعتمدة في الاستنباط لا بعده ، قال الشيخ حسن بن زين الدين العاملي في « معالم الأصول » :

. . . وبأنّ الشّهرة الّتي تحصل معها قوّة الظّنّ ، هي الحاصلة قبل زمن الشّيخ رحمه‌الله لا الواقعة بعده ، وأكثر ما يوجد مشهوراً في كلامهم حدَثَ بعد زمان الشيخ ، كما نبّه عليه والدي رحمه‌الله في كتاب الرّعاية (٢) الّذي ألّفه في رواية الحديث ، مُبيِّناً لوجهه ، وهو أنّ أكثر الفقهاءِ الّذين نَشَؤُوا بعد الشيخ ، كانوا يتّبعونه في الفتوى تقليداً له ، لكثرة اعتقادهم فيه وحسن ظنّهم به ، فلمّا جاء المتأخّرون ، ووجدوا أحكاماً مشهورة ، قد عمل بها الشّيخ ومتابعوه ، فحسبوها شهرة بين العلماءِ ، وما دروا أنّ مرجعها إلى الشّيخ ، وأن الشّهرة إنّما حصلت بمتابعته .

قال الوالد رحمه‌الله : وممّن اطّلع على هذا الّذي تبيّنته وتحققّته ، من غير تقليد : الشيخ الفاضل المحقّق سديد الدّين محمود الحمصي ، والسيّد رضي الدّين بن طاوس وجماعة . وقال السيّد في كتابه المسمّى بـ ( البهجة لثمرة المهجة ) : أخبرني جدّي الصّالح ورّام بن أبي فراس ، أنّ الحمصي حدّثه أنّه لم يبق للإِماميّة مفت على التّحقيق ، بل كلّهم حاك ، وقال السيّد عقيب ذلك : والآن فقد ظهر أنّ الّذي يُفتَى به ويُجاب ، على سبيل ما حُفِظ من كلام العلماءِ المتقدّمين (٣) .

__________________

(١) والذي ستقف لاحقاً على أقوالهم في الفصل التالي : ٣٥٥ .

(٢) انظر الرعاية في علم الدراية ، للشهيد الثاني : ٩٢ ، الحقل الرابع في العمل بالخبر الضعيف .

(٣) معالم الأصول : ٢٠٤ ، تحقيق الدكتور مهدي محقق .

٣٤٠