أشهد أنّ عليّاً وليّ الله بين الشرعيّة والابتداع

السيد علي الشهرستاني

أشهد أنّ عليّاً وليّ الله بين الشرعيّة والابتداع

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة المؤمل الثقافية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

٣ ـ الشريف المرتضى ( ٣٥٥ هـ ـ ٤٣٦ هـ )

قد اتّضح من عبارة الشيخ الصدوق الآنفة ، وممّا حكيناه من سيرة المتشرّعة في تلك الفترة وما بعدها : أنّ الشيعة في حمص (١) ، وبغداد (٢) ، ومصر (٣) ، وحلب (٤) ، واليمامة (٥) ، والشام (٦) ، كانوا يؤذّنون بالشهادة الثالثة بعد الحيعلة الثالثة أو بعد الشهادة الثانية ، بصيغ متفاوتة دالة على الولاية ، وكان جامعها المشترك أنّ محمّداً وعليّاً هما خير البشر ، لأنّ الخيريّة الملحوظة في خير العمل هي عنوان لإمام المتّقين ، وقائد الغرّ المحجّلين عليّ أمير المؤمنين ، والذي هو نفس رسول الله ، وأخوه ، ووصيّه ، وخليفته من بعده ، وهو خير البشر وخير البريّة حسب تعبير الروايات المتظافرة عن المعصومين وخصوصاً النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الموجودة في كتب الفريقين .

والآن لنواصل امتداد هذه السيرة في عهد السيّد المرتضى رحمه‌الله لنرى بعض ملامحها ظاهرةً في شمال العراق ، وبالتحديد في مدينة ميافارقين القريبة من مدينة الموصل العراقية .

فقد سأل جمعٌ من الشيعة هناك مرجعهم وعالمهم ذا الحسبين السيّد الشريف علي بن الحسين الشهير بالمرتضى بست وستين مسألة ، وكان السؤال الخامس عشر منه هو :

__________________

(١) بغية الطلب ٢ : ٩٤٤ .

(٢) نشوار المحاضرة ٢ : ١٣٣ .

(٣) المصدر نفسه . وانظر المواعظ والاعتبار ٢ : ٣٤٠ ، ووفيات الأعيان ١ : ٣٧٥ ، وأخبار بني عبيد : ٥٠ ، والمنتظم ١٤ : ١٩٧ .

(٤) اليواقيت والضرب ، لإسماعيل أبي الفداء : ١٣٤ تحقيق محمّد جمال وفالح بكور . بغية الطلب ٦ : ٢٠٧١ ، تاريخ الإسلام ٣٨ : ١٨ .

(٥) سفرنامه ناصر خسرو : ١٤٢ .

(٦) البداية والنهاية ١١ : ٢٨٤ .

٣٠١
 &

المسألة الخامسة عشر : هل يجب في الأذان ـ بعد قول حيّ على خير العمل ـ محمّد وعليّ خير البشر ؟

الجواب : إن قال : محمّد وعليّ خير البشر ، على أنّ ذلك من قوله خارج من لفظ الأذان ، جاز ، فإنّ الشهادة بذلك صحيحة ، وإن لم يكن فلا شيء عليه (١) .

قبل كلّ شيء ينبغي التذكير بأنّ هذا النص يدلّ دلالة ظاهرة واضحة على أنّ الشيعة لم يكونوا قائلين ومعتقدين بأنّ صيغ ذكر الولاية في الأذان داخلة في ماهيّته وأنّها جزء واجب فيه ، بل هم كانوا في شكّ من ذلك وإلّا لما سألوا ، وهذا معناه أنّ القول بالجزئية ليس ديدن الشيعة في ذلك العصر ، بل ديدنهم الذكر من منطلق المحبوبية العامة ، هذا شيء .

والشيء الآخر هو أنّ هذا بحدّ ذاته دليل على أنّ المتيقَّن عند عامّة الشيعة محبوبيّة هذا الذكر عندهم ، وأمّا وجوب ذكر الشهادة الثالثة فمشكوك عندهم وإلّا لما سألوا السيّد المرتضى عنه ، ويترتّب على ذلك أنّ غالب الشيعة في عهد الصدوق رحمه‌الله لم يكونوا يعتقدون بوجوب الذكر لعلي في الأذان وأنّه جزء واجب داخل في ماهيته ، وإلّا لو كانوا كذلك لما جاء من بعدهم وشكَّ في الوجوب في زمن السيّد المرتضى قدس‌سره ، فلاحظ هذا بدقّة .

والحاصل : هو أنّ هذا النص ينبئ عن عمل مجموعة من الشيعة آنذاك به ، وممارستهم له ، ووضوح مشروعيته العامة دون الخاصة لديهم ، لكنّ سؤالهم كان عن لزوم الإتيان به ؟

فالسيّد المرتضى رحمه‌الله أجاب وبصراحة : « إن قال : محمّد وعلي خير البشر ، على أنّ

__________________

(١) المسائل الميافارقيات المطبوع مع كتاب جواهر الفقه : ٢٥٧ المسأله ١٥ ، والمطبوع كذلك ضمن المجموعة الأولى من رسائل السيّد المرتضى ١ : ٢٧٩ المسألة ١٥ .

٣٠٢
 &

ذلك من قوله خارج لفظ الأذان جاز ، فإنّ الشهادة بذلك صحيحة » ، وهذا الكلام لا يحتاج إلى توضيح وتعليق وذلك لوضوحه .

نعم قوله « وإن لم يكن فلا شيء عليه » فهو غير واضح ، إذ قد يعني رحمه‌الله أحد معنيين :

أحدهما : أنّ القائل لو قالها على أنّها جزء ماهية الأذان ومن فصوله فلا شيء عليه .

فلو صحّ هذا الاحتمال فهو دليل على أنّ السيّد المرتضى كان يعتقد بصحّة الروايات الدالّة على الشهادة بالولاية ـ والتي حكى بعضها الصدوق بقوله : « ومنهم من روىٰ » ـ لأنّ الإفتاء متفرّع على اعتبار تلك الروايات عنده ، وهو بمثابة القرينة الموجِبة للوثوق بصدور ما حكاه الصدوق أو روايات أُخرى عن الأئمة .

ثانيها : قد يريد السيّد المرتضى بكلامه الآنف الإشارة إلى عدم لزوم الإتيان بها ، لعدم جزئيّتها عنده ، مع اعترافه بأنّ الشهادة بها صحيحة ، أي أنّ الإنسان لو لم يأتِ بها فلا شيء عليه ، وهو مثل كلام الشيخ الطوسي الآتي عن الشهادة بالولاية .

ولو تأمّلت في سؤال السائل لرأيته محدَّداً ـ وهو الإتيان بمحمّد وعلي خير البشر بعد حيّ على خير العمل ـ وهذا يفهم بأنّهم كانوا لا يأتون بها على نحو الجزئية ولا يعتبرونها من أصل الأذان ، وهي الأُخرى لم تكن ضمن الصيغ التي أتى بها الشيخ الصدوق ، كلّ ذلك يؤكّد بأنّ أهل الموصل لا يقولون بجزئيّتها بل يقولون بمحبوبيّتها الجائزة .

إنّ فتوى السيّد المرتضى بجواز القول بـ « محمّد وعلي خير البشر » في الأذان هي دعم حقيقي لسيرة الشيعة في بغداد ، وشمال العراق ، ومصر ، والشام ، وإيران ، وهي من ناحية أُخرى تصريح بأنّ ما يقوله الحمدانيون والفاطميون والبويهيون

٣٠٣
 &

ليس شعاراً فقط بل هو دين وشرع أجازه الدين والأئمة من آل البيت ، لأنّك قد عرفت بأنّ هذه الصيغ لا تقتصر على الزيدية والإسماعيلية بل هي شعار لدى الشيعة الإمامية كذلك .

وقد يمكننا من خلال هذا النص أن ندعم ما قلناه عن شيخنا الصدوق رحمه‌الله سابقاً وأنّه كان ينهى عن الإتيان بها على نحو الجزئية ، أمّا على نحو المحبوبيّة فلا يمانعه ، والسيّد المرتضى سار على منوال الصدوق ؛ إذ أنّ السيّد المرتضى حكم بأنّ من لم يأت بها فلا شيء عليه ، وهذه قرينة على أنّ الصدوق كان يقصد باللعن القائلين بوجوب الإتيان بها على أنّها جزء .

فالملاحظ أنّ كلّاً من المرتضى والصدوق رحمهما الله نفيا الجزئية والوجوب ؛ إذ القول بالوجوب ليس من دين الله ، وهذا هو الذي دفع الصدوق لأَنْ يلعن القائلين به ، وأمّا الجواز لا بعنوان الجزئية فالمرتضى قائل به وكذلك الصدوق على ما قدّمنا !

وهو يفهم أيضاً بأنّ هذه الصيغ موجودة في شواذّ الأخبار ـ وربّما في أخبار أخرى ـ وكذا أنّها موجودة في العمومات التي ذكرنا بعضها في هذا الكتاب لا المحكيّة عن روايات المفوّضة . وإنّما المفوّضة ، كانت قائلة بالوجوب بحسب أخبار موضوعة لا الجواز .

ولو كانت الصيغ الثلاث هي من موضوعات المفوّضة لَمَا أفتى السيّد المرتضى والشيخ الطوسي وابن البراج رحمهم الله تعالى بجواز الإتيان بها في الأذان من دون قصد الجزئية .

وهذا يؤكّد استمرار الشيعة من بداية الغيبة الكبرى إلى عهد السيّد المرتضى في التأذين بها استناداً للروايات التي كانت عندهم .

كخبر الفضل ابن شاذان عن ابن أبي عمير عن أبي الحسن الكاظم ـ والذي مر

٣٠٤
 &

عليك آنفاً ـ المجيزة لفتح دلالة حيّ على خير العمل في الأذان .

وما رواه عمر بن ادينه ومحمّد بن النعمان الاحول مؤمن الطاق وسدير الصيرفي عن الصادق والذي فيه بأن الملائكة سالوا رسول الله عن علي فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله اتعرفونه قالوا : كيف لا وقد اخذ الله الميثاق منا لك وله . وانا نتطلع كل يوم خمس مرات ـ اشارة إلى اوقات الصلاة (١) ـ إلى اخر الخبر وغيرها .

فالسيّد المرتضى لم يتعامل مع موضوع الشهادة بالولاية كما تعامل مع موضوع التثويب حيث اعتبر الأوّل جائزاً والثاني بدعة وحراماً ، فقد قال في جواب مسالة ١٦ :

المسألة السادسة عشر : من لفظ أذان المخالفين ، يقولون في أذان الفجر : « الصلاة خير من النوم » ، هل يجوز لنا أن نقول ذلك أم لا ؟

الجواب : مَن قال ذلك في أذان الفجر فقد أبدع وخالف السنّة ، وإجماعُ أهل البيت عليهم‌السلام على ذلك (٢) .

ففتواه ببدعية « الصلاة خير من النوم » رغم ورودها في بعض رواياتنا ، وفتوى بعض المتقدمين بجوازها عند التقية ، يؤكّد بأنّ موضوع الشهادة بالولاية عند السيّد المرتضى لم يكن كالتثويب ، بل أنّه رحمه‌الله بالنظر لفتواه بالجواز كان يأخذ بتلك الروايات ؛ روايات الاقتران التي تفيد المحبوبية أو التفسيرية ولا يراها بدعة ، وإلّا لما أفتى بالجواز من دون قصد الجزئية ، بل ربّما وصلت إليه روايات أخرى في هذا المضمار .

فلو كانت الشهادة بالولاية بدعة كالصلاة خير من النوم لما قال : « جاز ، فإنّ الشهادة بذلك صحيحة » .

__________________

(١) والذي مرّ في صفحة ١٨٩ .

(٢) مسائل ميافارقيات المطبوع مع كتاب جواهر الفقه : ٢٥٧ المسأله ١٦ ، والمطبوع كذلك ضمن المجموعة الاولى رسائل السيّد المرتضى ١ : ٢٧٩ المسألة ١٦ .

٣٠٥
 &

وقد قال رحمه‌الله في جواب المسائل الموصليّات أكثر من ذلك في جملة « حي على خير العمل » الدالّة على الإمامة والولاية ، فقال :

استعمال « حي على خير العمل » في الأذان ، وان تركه كترك شيء من ألفاظ الأذان .

والحجّة أيضاً اتّفاق الطائفة المحقّة عليه ، حتّى صار لها شعاراً لا يدفع ، وعلماً لا يجحد (١) .

كان هذا بعض الشيء عن الشهادة بالولاية في عهد السيّد الشريف المرتضى رحمه‌الله ، وقد رأيت عدم تخطئته للذين يأتون بها ، في حين خطّأَ السيّد علم الهدى الذين يأتون بالتثويب في أذان الصبح ، وهو دليل على رجحان الإتيان بها عنده ، وخصوصاً لو كان في ذلك ما يُنفَى به افتراءات المفترين على الشيعة ، أو يعلو به ذكر الإمام علي ، لكن لا على نحو الشطرية والجزئية ، بل لرجاء المطلوبيّة ، وهذا ثابت لمن تعقّب السيرة .

__________________

(١) رسائل السيّد المرتضى ١ : ٢١٩ ، المسألة الثالثة عشر في وجوب « حي على خير العمل » في الأذان ، وانظر جمل العلم والعمل : ٥٧ .

٣٠٦
 &

٤ ـ الشيخ الطوسي ( ٣٨٥ هـ ـ ٤٦٠ هـ )

قال الشيخ الطوسي في كتاب الصلاة من المبسوط :

. . . والأذان والإقامة خمسة وثلاثون فصلاً : ثمانية عشر فصلاً الأذان ، وسبعة عشر فصلاً الإقامة . . . ومن أصحابنا من جعل فصول الإقامة مثل فصول الأذان ، وزاد فيها : قد قامت الصلاة مرتين ، ومنهم من جعل في آخرها التكبير أربع مرات ، فأمّا قول : أشهد أن علياً أمير المؤمنين ، وآل محمّد خير البرية على ما ورد في شواذّ الأخبار فليس بمعمول عليه في الأذان ، ولو فعله الإنسان لم يأثم به ، غير أنّه ليس من فضيلة الأذان ولا كمال فصوله (١) .

وقال رحمه‌الله في كتاب النهاية ، بعد أن عدّ الأذان والإقامة خمسة وثلاثين فصلاً :

وهذا الذي ذكرناه من فصول الأذان هو المختار المعمول عليه ، وقد رُوي سبعة وثلاثون فصلاً في بعض الروايات ، وفي بعضها ثمانية وثلاثون فصلاً ، وفي بعضها اثنان وأربعون (٢) .

__________________

(١) المبسوط ١ : ١٤٨ طبعة جامعة المدرسين ـ قم المقدسة . وفي طبعة المكتبة المرتضوية ١ : ٩٩ توجد كلمة « يأثم به » بدل « لم ياثم به » وهو خطا بيّن ، لأنّ العلّامة الحلي المتوفى ٧٢٦ هـ حكى في منتهى المطلب ٤ : ٣٨١ وكذا الشهيد ( ت ٧٨٦ هـ ) في البيان : ٧٣ والدروس ١ : ١٦٢ عن الشيخ قوله ( فإن فعله لم يكن آثماً ) وكذا حكى غيرهم من متأخري المتأخرين كالمجلسي في البحار ٨١ : ١١١ ، والبحراني في الحدائق ٧ : ٤٠٣ ، والميرزا القمّي في الغنائم ٢ : ٤٢٣ ، وغيرهم ذلك عن الشيخ .

وانّ الاستثناء الموجود في ذيل كلام الشيخ « غير أنّه ليس . . . » يؤكد بأنّه لا يصلح إلّا بعد بيان الحكم ، ومعناه الاستدراك على شيء قد مضى ، فلو كان الشيخ يفتي بالحرمة لما صحّ الاستدراك ، وبذلك ثبت خطأ تحقيق السيّد محمّد تقي الكشفي لهذه الجملة ، ولا يستبعد أن يكون الخطأ من الطبّاع أو المطبعة .

(٢) النهاية في مجرد الفقه والفتاوى : ٦٨ . وأنظر « نكت النهاية » ١ : ٢٩٣ للمحقق الحلي كذلك .

٣٠٧
 &

ثم جاء رحمه‌الله يصور تلك الأقوال ، فقال :

فإن عمل عامل على إحدى هذه الروايات ، لم يكن مأثوماً .

وأمّا ما رُوي في شواذّ الأخبار من قول : « أشهد أنّ علياً ولي الله ، وآل محمّد خير البرية » فممّا لا يعمل عليه في الأذان والإقامة ، فمن عمل بها كان مخطئاً (١) .

وقد يتصوّر المطالع أنّ الشيخ قد عارض نفسه ، لأنّه قال في المبسوط : « ولو فعله الإنسان لم يأثم به » ، وفي النّهاية : « فمن عمل بها كان مخطئاً » .

لكنّ هذا التوهّم بعيد جداً حسب قواعد العلم ومعايير الاجتهاد ، لأنّ الشيخ رحمه‌الله عنى بقوله الأوّل : الإنسان لو فعلها بقصد القربة المطلقة ولمحبوبيتها الذاتية « لم يأثم به » ، وأمّا لو فعلها بقصد الجزئية « كان مخطئاً » بحسب أصول الاجتهاد ، لأنّ الشيخ الطوسي لا يأخذ بالأخبار الشاذّة إذا عارضت ما هو أقوى منها ، وسيأتي أنّ بعض العلماء ـ كالمجلسي وغيره ـ تمسّكوا بشهادة الشيخ ، فأفتوا بموجب ذلك باستحباب الشهادة الثالثة في الأذان ، باعتبار أنّ الشاذ هو الحديث الصحيح غير المشهور ، في حين ان الشاذ لم يكن كذلك بل هو ممّا يؤخذ فيه انواع الحديث الاربعة ، منه الصحيح ، ومنه الضعيف ، وما بينهما عند الكثير .

واحتمل الآخر جمعاً بين القولين : بأن الشيخ رحمه‌الله عنى بقوله في النهاية ، الذي يأتي بها على نحو الجزئية ، فإنه لا يأثم وإن كان مخطئاً بحسب الصناعة ، لأنّه بذل وسعه وتعرف على الحكم وإن كان مخطئاً في اجتهاده ، لأخذه بالمرجوح وترك الراجح . وهو كلام بعيد عن الصواب لا نلتزمه .

أمّا لو قلنا بأن معنى الشاذ عند الشيخ الطوسي هو الضعيف الذي لا يعمل به ، فالشيخ صرح بأن العامل به لا يأثم .

__________________

(١) النهاية في مجرد الفقه والفتاوى : ٦٩ وانظر نكت النهاية ١ : ٢٩٣ للمحقق الحلي كذلك .

٣٠٨
 &

وعلى كل التقادير والاحتمالات في معنى الشاذ عند الشيخ الطوسي يكون العامل بالشهادة الثالثة غير مأثوم .

ولكي نفهم كلام الشيخ أكثر لا بدّ من توضيح بعض الأمور :

الأمر الأول : تفسير معنى الشاذ عنده وعند غيره من علماء الدراية والفقه ، فنقول : اختلفت تعابير علمائنا وعلماء العامة في معنى الشاذّ مع اتّفاقهم على معناه اللّغويّ وهو الانفراد عن الجماعة .

فقال البعض : هو ما رواه الثقة ، مخالفاً للمشهور (١) ، أو للأكثر (٢) ، أو لجماعة الثقات ، والمعنى في جميعها متقارب .

وقال الآخر : هو ما يتفرّد به ثقة من الثقات ، وليس للحديث أصل متابع لذلك الثقة (٣) .

وقال الشافعي : ليس الشاذّ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يرويه غيره ، هذا ليس بشاذ ، إنّما الشاذ أن يروي الثقة حديثاً يخالف فيه الناس (٤) .

إذن الشاذّ في الأغلب عندنا وعند العامّة هو ما يقابل المشهور والمحفوظ ، وقد يطلق الشاذّ عندنا خاصّة على ما لم يعمل بمضمونه العلماء وإن صح إسناده ولم يعارضه غيره . وحكى عن الإمام البروجردي قوله : كلما ازداد [ الشاذ ] صحةً ازداداً ضعفأ (٥) وذلك لترك الطائفة العمل به .

__________________

(١) انظر شرح البداية في علم الدراية ، للشهيد الثاني : ٣٩ .

(٢) الرعاية في علم الدارية : ١١٥ ، وصول الأخبار : ١٠٨ ، الرواشح السماوية : ١٦٣ ، الراشحة السابعة والثلاثون .

(٣) معرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري : ١١٩ ، وصول الاخيار : ١٠٦ .

(٤) معرفه علوم الحديث للحاكم النيسابوري : ١١٩ .

(٥) راجع المنهج الرجالي للسيّد البروجردي للسيّد محمّد رضا الجلالي حفظه الله تعالى .

٣٠٩
 &

قال ابن فهد الحلّيّ في المهذّب البارع : ومنها المشهور . . . ويقابله الشاذّ والنادر ، وقد يطلق على مرويّ الثقة إذا خالف المشهور (١) .

والمراد من « المجمع عليه » الوارد في مقبولة عمر بن حنظلة ـ المرويّة في كتب المشايخ الثلاثة (٢) : ـ . . ليس ما اتّفق الكلّ على روايته ، بل المراد ما هو المشهور بين الأصحاب في مقابل ما ليس بمشهور ، ويوضح ذلك قول الإمام عليه‌السلام : « ويترك الشاذّ النادر الذي ليس بمشهور عند أصحابك » (٣) .

ومعنى كلام الإمام أنّ الشاذّ النادر قد يكون من أقسام الحديث الصحيح الذي لا يعمل به ، لوجود ما هو أقوى منه ، أو أنّه صدر لظروف التقية ونحوها .

إذن الشذوذ في الغالب هو وصف للمتن لا للسند ، فهو مقابل الضعف الذي يأتي غالباً للسند دون المتن ، ولو تأمّلت في منهج الشيخ رحمه‌الله في الاستبصار لرأيته يسعى للجمع بين الأخبار ورفع التعارض فيما بينها بعد أن ييأس من الأخذ بالراجح ، وإنّ جمعه بين الأخبار الشاذّة والمعمول بها في بعض الأَحيان يُفهِمُ بأنّه رحمه‌الله لا يحكم على الأخبار الشاذّة بأنّها دخيلة وموضوعة ، بل يرى لها نحو اعتبار عنده وهي داخله عنده ضمن انواع الحديث الاربعة ؛ أي أنّ حجيّتها عنده اقتضائية ، بمعنى أنّها حجّة عنده لولا المعارضة .

ولتوضيح المسألة إليك خمسة نماذج أخذناه من المجلّد الاول من كتابه ( الاستبصار فيما اختلف من الأخبار ) تيمناً بالخمسة من آل العبا :

__________________

(١) المهذب البارع ١ : ٦٦ .

(٢) منها قوله عليه‌السلام : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به ، المجمع عليه من أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه . الكافي ١ : ٦٨ / باب اختلاف الحديث / ح ١٠ .

(٣) المهذب للقاضي ابن براج ٢ : ٨ .

٣١٠
 &

١ ـ قال الشيخ في « باب البئر يقع فيها الكلب والخنزير وما أشبههما » ـ بعد أن أورد عدّة روايات كان آخرها ما رواه غياث بن كلوب ، عن إسحاق بن عمار ، عن جعفر ، عن أبيه : إنّ علياً رحمه‌الله كان يقول : الدجاجة ومثلها تموت في البـئر ينزح منها دلوان أو ثلاثة ، وإذا كانت شاة وما أشبهها فتسعة أو عشرة ـ :

فلا ينافي ما قدّمناه ، لأنّ هذا الخبر شاذّ وما قدّمناه مطابق للأخبار كلّها ، ولأنّا إذا عملنا على تلك الأخبار نكون قد عملنا على هذه الأخبار ، لأنّها داخلة فيها ، وإن عملنا على هذا الخبر احتجنا أن نسقط تلك جملةً ، ولأنّ العلم يحصل بزوال النجاسة مع العمل بتلك الأخبار ولا يحصل مع العلم بهذا لخبر (١) .

فالشيخ لا يمنع العمل بالخبر الشاذّ مطلقاً إلّا إذا امتنع الجمع ، وهذا يفهم بأنّ دلالة الشاذ عنده بنحو الاقتضاء والقابلية ؛ أي أنّه بنفسه حجّة لولا المعارضة ، لأنّ الترجيح فرع الحجّيّة الاقتضائيّة كما يقولون .

٢ ـ ونحوه قال الشيخ في ( باب المصلي يصلي وفي قبلته نار ) :

فأما ما رواه محمّد بن أحمد بن يحيى عن الحسن بن الحسين بن عمرو عن أبيه عمرو بن إبراهيم الهمداني رفع الحديث ، قال قال : أبو عبد الله عليه‌السلام ، لا بأس أن يصلي الرجل والنار والسراج والصورة بين يديه ، ان الذي يصلي له اقرب إليه من الذي بين يديه .

فهذه الرواية شاذة مقطوعة الاسناد وهي محمولة على ضرب من الرخصة وان كان الافضل ما قدمناه (٢) .

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٣٨ / ح ١٠٥ .

(٢) الاستبصار ١ : ٣٩٦ / ح ١٥١٢ .

٣١١
 &

٣ ـ وقال الشيخ في باب « من فاتته صلاة فريضة فدخل عليه وقت صلاة أُخرى فريضة » :

فأمّا ما رواه سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن الحسن بن علي بن فضال ، عن عمرو ابن سعيد المدائني ، عن مصدق بن صدقة ، عن عمار الساباطي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يفوته المغرب حتى تحضر العتمة ، فقال : إِن حضرت العتمة وذكر أنَّ عليه صلاة المغرب فإن أحبَّ أن يبدأ بالمغرب بدأ وإن أحبّ بدأ بالعتمة ثم صلّى المغرب بعدها .

فهذا خبر شاذّ مخالف للأخبار كلّها ، لأنّ العمل على ما قدمناه من أنّه إذا كان الوقت واسعاً ينبغي أن يبدأ بالفائتة ، وإن كان الوقت مضيّقاً بدأ بالحاضرة ، وليس هاهنا وقت يكون الإنسان فيه مخيّراً ، ويمكن أن يحمل الخبر على الجواز والأخبار الأوّلة على الفضل والاستحباب (١) .

انظر إلى الشيخ كيف يسعى للجمع بين الخبر الشاذّ وغيره ، فلو لم يكن للخبر الشاذ حجيّة اقتضائيّة عنده ـ أو قل صحيحاً عنده لدرجة مّا ـ لما سعى للجمع بينه وبين الأخبار الأخرى ؛ يشهد لذلك أنّه أفتى بمضمونه حيث قال : « يحمل الخبر على الجواز » ؛ أي جواز الابتداء بصلاة المغرب أو العتمة ، مع أنّ المشهور الروائي ينصّ على أن يبتدئ بالعتمة ويقضي المغرب ، وصلاة العتمة هي صلاة العشاء .

٤ ـ وقال الشيخ الطوسي في أبواب « ما ينقض الوضوء وما لا ينقضه » باب مس الحديد : وأمّا ما رواه محمّد بن أحمد بن يحيى ، عن أحمد بن الحسن بن علي بن فضال ، عن عمرو بن سعيد المدائني ، عن مصدق بن صدقة ، عن عمار بن موسى ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل إذا قصّ أظفاره بالحديد ، أو جزّ من شعره أو

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٢٨٨ / ح ١٠٥٥ .

٣١٢
 &

حلق قفاه : فإنّ عليه أن يمسحه بالماء قبل أن يصلي :

سُئل : فإن صلّى ولم يمسح من ذلك بالماء ؟ قال : يعيد الصلاة لأنّ الحديد نجس ، وقال : لأنّ الحديد لباس أهل النار والذهب لباس أهل الجنّة .

فالوجه في هذا الخبر أن نحمله على ضرب من الاستحباب دون الإيجاب ؛ لأنه خبر شاذّ مخالف للأخبار الكثيرة ، وما يجري هذا المجرى لا يعمل عليه على ما بيّنّاه (١) .

فالشيخ رحمه‌الله حمل الخبر الشاذ هنا على ضرب من الاستحباب ، وهو يؤكّد أخذه بمضمونه .

٥ ـ وقال الشيخ في « باب البئر يقع فيها الدم القليل والكثير » :

فأمّا ما رواه الحسين بن سعيد ، عن محمّد بن زياد ، عن كردويه ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن البئر يقع فيها قطرة دم أو نبيذ مسكر أو بول أو خمر ؟ قال : ينزح منها ثلاثون دلواً .

فهذا الخبر شاذّ نادر ، وقد تكلّمنا عليه فيما تقدّم ؛ لأنّه تضمّن ذكر الخمر والنبيذ المسكر الذي يوجب نزح جميع الماء ، مضافاً إلى ذكر الدم ، وقد بيّنّا الوجه فيه ، ويمكن أن يحمل فيما يتعلّق بقطرة دم أن نحمله على ضرب من الاستحباب ، وما قدّمناه من الأخبار على الوجوب لئلا تتناقض الأخبار (٢) .

وهذا أيضاً رقم آخر يؤكّد ما قلناه من أنّ الشيخ يفتي بمضمون الشاذ نظراً لدلالته الاقتضائية .

ونحوه ما رواه الشيخ في التهذيب عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع قال : سالت

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٩٦ / ح ٣١١ .

(٢) الاستبصار ١ : ٤٥ / ح ١٢٥ .

٣١٣
 &

الرضا عليه‌السلام عن المذي فأمرني بالوضوء منه ، ثم أعدت عليه في سنة أخرى فأمرني بالوضوء منه وقال : ان علي بن أبي طالب عليه‌السلام أمر المقداد بن الاسود أن يسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واستحيا أن يسأله فقال : فيه الوضوء .

فهذا خبر ضعيف شاذ والذي يكشف عن ذلك الخبر المتقدم الذي رواه إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام وذكر قصة أمير المؤمنين عليه‌السلام مع المقداد وانه لما سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك فقال : لا بأس به ، وقد روى هذا الراوي بعينه انه يجوز ترك الوضوء من المذي ، فعلم بذلك ان المراد بالخبر ضرب من الاستحباب (١) .

وقد ذكر الشيخ المفيد في المقنعة عدة انواع من الاستخارات وقال :

وهذه الرواية شاذة ليست كالذي تقدم ، لكنا اوردناها للرخصة دون تحقيق العمل بها (٢) .

وعلق المحقق في المعتبر على ما رواه الشيخ بسنده عن الحسن بن محبوب عن العلاء قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يصيب ثوبه الشيء فينجسه فنسى أن يغسله ويصلي فيه ثم تذكر أنه لم يكن غسله أيعيد الصلاة قال : « لا يعيد قد مضت صلاته وكتبت له » .

قال الشيخ هذا خبر شاذ لا يعارض به الأخبار التي ذكرناه ويجوز أن يكون مخصوصاً بنجاسة معفو عنها . وعندي إن هذه الرواية حسنة والأصول يطابقها لأنه صلى صلاة مشروعة مأمور بها فيسقط بها الفرض ويؤيد ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله عفي لأمتي

__________________

(١) تهذيب الاحكام ١ : ١٨ / ح ٤٢ .

(٢) المقنعة : ٢١٩ .

٣١٤
 &

عن الخطا والنسيان لكن القول الاول اكثر والرواية اشهر (١) .

وقال أيضاً في بعض اقوال زكاة الذهب والفضة :

والجواب عما احتج به بعض الأصحاب ، إنما ذكرناه أشهر في النقل ، وأظهر في العمل ، فكان المصير إليه أولى . وقال الشيخ رضي‌الله‌عنه في الخلاف : وقد تأولنا الرواية الشاذة ، وأشار إلى هذه الرواية ، وقال في التهذيب : « يحمله قوله « وليس فيما دون الاربعين ديناراً شيء » على أن المراد بالشيءِ دينار ، لان لفظ الشيء يصح أن يكنى به عن كل شيء » . وهذا التأويل عندي بعيد وليس الترجيح إلّا بما ذكرناه (٢) .

كان هذا بعض الشيء عن الخبر الشاذّ عند القدماء وطريقة تعامل الشيخ الطوسي رحمه الله معه .

الطوسي بين الفتوى بالجواز وشذوذ أخبار الشهادة

تبيّن من الأمثلة التي سقناها آنفاً أنّ الشيخ الطوسي لا يعمل بالشاذ إذا ما استحكمت المعارضة مع ما هو مشهور ، لكن إذا أمكنه الجمع فإنه لا يترك الشاذّ ويفتي بمضمونه ، فقد مرّ أنّ الشاذّ عند الشيخ ـ خلال الأمثلة الآنفة ـ يكون دليلاً على الجواز كما في خبر من فاتته صلاة المغرب حتى دخل وقت صلاة العتمة ، وهذا معناه أنّ الخبر الشاذ عند الشيخ قد يصل إلى مرحلة الحجّيّة الفعلية مع إمكانية الجمع ولا يقف على الحجية الاقتضائية فقط .

وبناءً على ذلك نقول : إنّ الشيخ وصف أخبار الشهادة الثالثة بأنّها شاذّة لكنّه

__________________

(١) المعتبر ١ : ٤٤١ .

(٢) المعتبر ٢ : ٥٢٤ ، وانظر كذلك كلام الفاضل الآبي في كشف الرموز ١ : ٣٦٣ و ٢ : ٢٥٧ .

٣١٥
 &

مع ذلك قال بجواز الإتيان بها حين جزم قائلاً : « لم يأثم به » ، وليس لهذا معنى إلّا أنّه أفتى بمضمونها . وهذا معناه أنّ أخبار الشهادة الثالثة لا تنهض لإثبات جزئيّة الشهادة الثالثة في الأذان لشذوذها ، ولأنّ روايات الأذان المشهورة المعوّل عليها عند فقهاء المذهب لم تذكر ذلك ، لكن مع ذلك يمكن الجمع والفتوى بالجواز ، وعلى هذا الأساس يمكن للفقيه الفتوى بالجواز بالنظر لذلك ، وهذا بغضّ النظر طبعاً عن الأدلّة الأخرى التي تؤدِّي إلى الاستحباب .

الأمر الثاني : من خلال المقارنة بين عبارتي الشيخ في « المبسوط » و « النهاية » نحتمل بأنه رحمه‌الله كان يفتي بجواز العمل بمضمون الروايات المتضمنة للشهادة الثالثة ، لأنّ قوله في المبسوط بعدم إثم من يقول بـ « أشهد أن علياً أمير المؤمنين » ، و « آل محمّد خير البرية » ، هو معنى آخر لما قاله عن اختلاف الروايات في فصول الأذان ، وأنّ العامل على إحدى هذه الروايات لم يكن مأثـوماً ، أمّا لو أراد القائل أن يقول بالجزئية فيها استناداً لبعض هذه الروايات فسيكون مأثوماً ومخطئاً ، لشذوذها وقد مر عليك ما احتمله البعض بأنّه ليس بمأثوم وإن كان مخطئاً ، لأنّه بذل وسعه للحصول على الحكم وإن كان مخطئاً فيما توصل إليه ، وبهذا لا يكون تلازم بين الاثم والخطا ، فتأمل .

توضيح ذلك : أنّ الشـيخ يجيز الإتيان بها لا على نحو الجزئية ، لأنّه لم يعتبر الشهادة بالولاية من فصول الأذان لقوله بأنّه ليس : « فضيلة الأذان ولا من كمال فصوله » ، وهو معنى آخر لما قاله في النّهاية من أنّ العامل بها كان مخطئاً ، وبذلك يكون نهيه من الاتيان بها إنّما هو الإتيان بها على نحو الجزئية ، لكونها ليست من أصل الأذان وأنّ العامل بها على نحو الجزئية يكون مخطئاً .

أمّا لو أتى بها لمحبوبيّتـها أو بقصد القربة المطلقة ، فالشيخ لا يمانع من الفتوى بالجواز ، كما جزم في قوله : « ولو فعله لم يأثم به » ، وكلام الشيخ هنا يجري مجرى

٣١٦
 &

كلام الشيخ الصدوق رحمه‌الله وما ذهب إليه السيّد المرتضى رحمه‌الله ، فكلّهم لا يرتضون الإتيان بها على نحو الجزئية لعدم مساعدة النصوص على القول بها ، وهذا يعني عند هؤلاء الأعلام الثلاثة أنّه لا توجد روايات ناهضة للقول بجزئيتها ، ولقد تقدّم في الأمثلة التي سردناها عن الشيخ الطوسي بأنّ الشيخ يرى حجيّة الشاذّ بنحو الاقتضاء ـ بل الفعلية فيما لو أمكن الجمع ـ ولذلك أفتى بمقتضى هذا المبنى بالاستحباب ، فقد قال في ردّ مضمون الخبر المصرّح بضرورة غسل موضع قصّ الأظافر بالحديد : « فالوجه في هذا الخبر ( الشاذ ) أن نحمله على ضرب من الاستحباب » .

ومن كلّ ذلك نقف على نتيجة مهمّة ، وهي أنّ الشيخ لم يكن يرى الحجيّة الفعلية في أخبار الشهادة الثالثة للقول بجزئيتها أو للفتوى بالاستحباب ، فالشيخ لم يقل بحملها على ضرب من الاستحباب هنا كما فعل بالخبر الشاذّ المصرِّح بوجوب غسل موضع قص الاظافر بالحديد ، وهذا معناه أنّ أخبار الشهادة الثالثة لا تمتلك حجيّة فعلية في خصوص ذلك ، لكن يبدو كما احتملنا قويّاً بأنّ الشيخ يرى أنّ لها حجيّة فعلية لتكون دليلاً للفتوى بالجواز ؛ يشهد لذلك أنّه قال : « لم يأثم به » فالتفِتْ لذلك فهذا التفضيل قد غاب في كلمات العلماء .

هذا مع الإشارة إلى أنّ القول برجحان أو عدم رجحان الشهادة الثالثة لا يقف عند هذا الحدّ ؛ إذ هناك أدلّة أخرى لم يتعرّض لها الشيخ الطوسي ، كالعمومات ، وموثقة سنان بن طريف وحسنة ابن أبي عمير ، وغير ذلك مما يثبت الرجحان المطلق كما اتضح وسيتّضح أكثر .

الأمر الثالث : قال الشيخ الطوسي في مقدمة كتابه المبسوط :

وكنت على قديم الوقت عملت كتاب النهاية ، وذكرت جميع ما رواه أصحابنا في مصنّفاتهم وأُصولها من المسائل ، وفرّقوه في كتبهم ، ورتّبته ترتيب الفقه ، وجمعت من النظائر ، ورتّبت فيه

٣١٧
 &

الكتب على ما رتّبت للعلّة التي بيّنتها هناك ، ولم أتعرّض للتفريع على المسائل ولا لتعقيد الأبواب وترتيب المسائل وتعليقها والجمع بين نظايرها ، بل أوردت جميع ذلك أو أكثره بالألفاظ المنقولة حتّى لا يستوحشوا من ذلك (١) .

هذا وقد عُرِفَ عن السيّد البروجردي رحمه‌الله ـ وغيره ـ أنّه كان يصرّح في دروسه بأنّ كتب المتقدّمين هي بمنزلة الأصول المتلقّاة عن المعصومين ، وأنّها متون روائية ، وأنّ جميع كتاب « النهاية » أو أكثره نصوص روايات منقولة عن المعصومين ، وفيها ما يرتبط بالأذان والإقامة ، والشهادة بالولاية ، ومعناه : أنّ ما فيها لم يكن من وضع المفوِّضة ، وخصوصاً مع تأكيد الشيخ في « النهاية » بأنّ أخبار الشهاده بالولاية جاءت ضمن روايات قد وقف عليها (٢) .

وهذا قد يؤكّد وجود روايات موجودة في أُصول أصحابنا لا أُصول المفوّضة لعنهم الله ، غاية ما في الأمر أنّ الشيخ لم يتوصّل إلى إمكانيّة حجيّتها الفعليّة للفتوى بالاستحباب وإن تَوَصَّلَ لإمكانيّة الحجّيّة الفعليّة للفتوى بالجواز حسبما بيّنّا .

ولا بد لي أن أشير هنا إلى أنّ البعض يطالبنا بلزوم تواتر الأخبار لإثبات الشهادة الثالثة ، وهذا طلب عجيب منهم ، مع أنّ هذا البعض يعلمُ بأنّ الشيعة قد مرّت بظروف قاسية أدّت إلى إزهاق أرواح الكثير من علمائها ، وأنّ وصول هذه الأخبار الشاذّة قد كلّفنا الكثير من التضحيات ، فكيف يطلبون منّا لإثبات أمر إعلاميّ كهذا بالتواتر لهم ؟ !

ألم يكن ذلك من التعسّف بحقّ علمائنا ورواتنا ؟ !

__________________

(١) المبسوط ١ : ٢ .

(٢) النهاية : ٦٩ ، والمبسوط ١ : ١٤٨ .

٣١٨
 &

نعم ، نحن بكلامنا هذا لا نريد القول بجزئيّتها ، لأن ليس بحوزتنا ما يدلّ على ذلك ، لكن في الوقت نفسه نريد التأكيد على عدم استبعاد وجود روايات على ذلك ، وهذا ما نعبّر عنه بالحجية الاقتضائية لأخبار الشهادة بالولاية .

فعلى سبيل المثال ، قال الشيخ محمّد باقر المجلسي ( ت ١١١٠ هـ ) في بحار الأنوار مذيِّلاً عبارة الصدوق : « لا يبعد كون الشهادة بالولاية من الأجزاء المستحبّة في الأذان والإقامة ، لشهادة الشيخ والعلّامة والشهيد وغيرهم بورود الاخبار بها » (١) . وهذا يعني عدم الشكّ في وجود روايات في أصول أصحابنا ؛ دالة على الشهادة الثالثة .

وهذا هو ما جزم به المجلسيّ الأول في روضة المتّقين ؛ حيث قال :

والظاهر أنّ الأخبار بزيادة هذه الكلمات أيضاً كانت في الأصول وكانت صحيحة أيضاً كما يظهر من الشيخ والعلّامة والشهيد رحمهم الله ، فإنّهم نسبوها إلى الشذوذ ، والشاذّ ما يكون صحيحاً غير مشهور . . . (٢) .

وقال الشيخ حسين العصفور البحراني في ( الفرحة الانسية ) : « واما الفصل المرويّ في بعض الأخبار المرسلة وهو : « أشهد أن علياً ولي الله » فممّا نفاه الأكثر ، وظاهر الشيخ في المبسوط ثبوته وجواز العمل به ، وهو الاقوى » (٣) .

الأمر الرابع : إنّ ما حكاه الشيخ من ورود أخبار شاذّة في الشهادة الثالثة لا يعارضه مع ما حكاه الصدوق عن المفوِّضة ، فقد تكون الأخبار الشاذّة وما عند المسمَّين بالمفوِّضة مقصودة من قبل الأئمّة حتى لا يقف الخصم على رأيهم عليهم‌السلام في

__________________

(١) بحار الأنوار ٨٤ : ١١١ .

(٢) روضة المتقين ٢ : ٢٤٥ . وفي النص بدل « الشيخ » « المحقّق » وهو خطأ على التحقيق بنظرنا ، فأبدلناه بالشيخ للقرائن التي سقناها سابقاً ، فلاحظ .

(٣) الفرحة الانسية ٢ : ١٦ .

٣١٩
 &

الشهادة الثالثة ، وهو أحد الوجوه التي يمكن قولها في مفهوم التقيّة ، وأنّها لا تقتصر على الخوف من الحكّام ، أو النظر إلى رأي العامّة ، أو ما شابه ذلك فقد تكون التقيّة من الشيعة ، لأنّا نعلم أنّ الإمام قد أجاب شيعته في بعض الموارد بأجوبة مختلفة في المسألة الواحدة ، ولم يكن هناك أحد يخاف منه ، أو أنّ ما رواه أو قاله ليس فيه ما يوافق رأي السلطة ، بل قالها لأجل عدم إيقاف الخصم على رأي الأئمّة في ذلك الموضوع .

بمعنى : أنّ ملاك تشريع الشهادة الثالثة موجودٌ لكن اقتضاءً وإن لم تُشرَّع فعلياً ، أي أنّ الإمام ذكرها على نحو الاقتضاء وما له إمكانية التشريع لا بنحو العلّة التامّة ، وأودعها عند بعض اصحابه ولم يرضَ بالبوح بها في ذلك الزمان (١) ، لإمكان تشريعهم لها (٢) ، أي أنّ المقتضى كان موجوداً وكذا المانع وهو الذي مرَّ في كلام بعض فقهائنا ، ولا ريب في أنّ المانع ، كفيل بعدم التشريع ، خصوصاً للحفاظ على دماء الشيعة ورقابهم ، وهو نظير قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لولا أن أشقّ على أمّتي لأخّرت العشاء إلى ثلثي الليل » (٣) ، أو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعائشة : « لولا أنّ قومَك حديثو عهد بجاهلية لنقضت البيت ولبنيته كما بناه إبراهيم » (٤) وهو ظاهر في أن ملاك

__________________

(١) انظر المحاسن ، للبرقي ١ : ٣٩٧ باب التقية ، وفيها ٢٧ حديثاً ، منها قول الصادق لسليمان بن خالد : يا سليمان إنّكم على دين من كتمه أعزّه الله ، ومن أذاعه أذلّه الله .

(٢) إذ جاء عن رسول الله أنّه ترك صلاة نافلة الليل في المسجد كي لا تفرض عليهم ، انظر صحيح البخاري ١ : ٢٥٥ / ح ٦٩٦ ، ، و ١ : ٣٨٠ / ح ١٠٧٧ ، و ٦ : ٢٦٨ / ح ٦٨٦٠ ، صحيح مسلم ١ : ٥٢٤ / ح ٧٦٩ ، ٧٦١ ، صحيح ابن حبان ٦ : ٢٨٤ ـ ٢٨٦ / ح ٢٥٤٣ ، ٢٥٤٤ ، ٢٥٤٥ ، سنن أبي داود ٢ : ٤٩ / ح ١٣٧٣ ، الجمع بين الصحيحين ٤ : ٦٦ / ٣١٧٨ ، باب المتّفق عليه من مسند عائشة .

(٣) الكافي ٣ : ٢٨١ / ح ١٣ / باب وقت المغرب والعشاء . وانظر من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٧٣ / ح ٩٨٦ .

(٤) العمدة لابن البطريق : ٣١٦ ، ٣١٧ ، الجمع بين الصحيحين للحميدي ٤ : ٤٣ / باب المتّفق عليه من مسند عائشة .

٣٢٠