الصلاة خير من النوم شرعة أم بدعة

السيد علي الشهرستاني

الصلاة خير من النوم شرعة أم بدعة

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة المؤمل الثقافية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

الصلاة خير من النوم شرعة أم بدعة ـ السيد علي الشهرستاني

١
 &

الصلاة خير من النوم شرعة أم بدعة ـ السيد علي الشهرستاني

٢
 &

الصلاة خير من النوم شرعة أم بدعة ـ السيد علي الشهرستاني

٣
 &

الصلاة خير من النوم شرعة أم بدعة ـ السيد علي الشهرستاني

٤
 &



بسم الله الرحمن الرحيم

بعد أن شرعت في الكتابة عن تاريخ الأذان وتشريعه بمنهجية جديدة وبيان الأصيل منه والمحرّف ، والذي صدر الكتاب الأوّل منه عام ١٤١٧ هـ تحت عنوان « حيَّ على خير العمل : الشرعية والشعارية » أقدم بعض كتّاب الوهابيّة في الكتابة على غرار ما كتبته ، فبدأ بكتابه الأوّل « الشهادة الثالثة حقيقةٌ أم افتراء » لكي يفنّد ما سعيت في تحقيقه في دراستي حول الأذان دون الإشارة إلى اسمي .

وكان قد قرأ كتابي في الحيعلة الثالثة « حيَّ على خير العمل » وأخذ ببعض أقوالي في ردّ بعض الشبهات ، وعرف بأنّي فتحتُ باباً جديداً لتوضيح حقيقة الشهادة الثالثة في الأذان مستدلّا على محبوبيته من خلال مشروعية الحيعلة الثالثة ، فأراد أن

٥
 &

يسبقنا بهدم ما نريد أن نستدلّ به في الشهادة الثالثة ، مدّعياً بأنْ ليس للشيعة حديثٌ واحد عن أئمّتهم ـ وإن كان ضعيفاً ـ في مشروعيته ، وأنّ السيرة جاءت فيه متأخّرة عندهم ، متجاهلاً تفريق علماء الشيعة بين المحبوبية والجزئية .

فالشيعة لم تذهب يوماً ما إلى جزئيتها ولم تنقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبنائه عليهم‌السلام أنّهم أذّنوا بها على نحو الجزئية أو أنّهم أمروا الشيعة بالأذان بها حتّى يُطالَبوا بالدليل ، وأنّ عدم تأذين المعصوم بالشهادة الثالثة لا يعني عدم محبوبيته عنده بل يؤكّد عدم جزئيتها ، لأنّ المعصوم لا يترك أمراً واجباً .

كما لا يمكن نسبة تأذين المفوّضة بالشهادة الثالثة على نحو الجزئية إلى الشيعة إذ أخرجهم الشيخ الصدوق رحمه الله من جملة المذهب ، بقوله : « كي لا يعرف المدلّسون أنفسهم في جملتها » .

وعليه ، فما قاله الكاتب لا ينهض بأي دليل ، فكما أنّ الإثبات يحتاج إلى دليل ، فالنهي يحتاج إلى دليل أيضاً . فلا يجوز نسبة شيءٍ إلى أحد بلا دليل ( قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ) (١) .

إنّ عمل الكاتب دعاني في الإسراع لإخراج كتابي الثالث « أشهد أنَّ عليّاً ولي الله بين الشرعية والابتداع » قبل الثاني « الصلاة خير من النوم شرعة أم بدعة » ، حتّى أجيب عن بعض الشبهات الواردة على هذه الشعيرة إلى ذلك الحين .

وبعد فترةٍ وقفتُ على كتابه الثاني « الصلاة خير من النوم حقيقة أم اتّهام » ورأيته كالأوّل كتاباً إعلاميّاً وليس علميّاً ، وأغلب ما قدّمه في الشهادة الثالثة كرّره في كتابه الثاني

______________________

(١) يونس : ٥٩ .

٦
 &

« الصلاة خير من النوم » مع تعرّضه لأمور خارجة عن البحث لا ترتبط به ، ففيه كلّ شيء إلّا ما يتعلّق بالمبحوث عنه ، فإنّه ينتقل من موضوع إلى إلّا أنّه لم يُشبع الموضوع بحثاً وتحقيقاً بحيث يجعل القارئ يمل من مطالعة كتابه ، ويحسّ بأنّ وقته قد ضاع سُدى .

فالكاتب قد ادّعى في كتابه الثاني بأنّه يريد إثبات كون « الصلاة خير من النوم » هي حقيقة نبوية ، وأنّ ما نسبه علماء الشيعة إلى عمر بن الخطّاب هو اتّهام وافتراء لكنّه لم يوفّق في دعواه ، إذ إنّ علماء ومحدِّثي أهل السنّة قد سبقوا الشيعة في نسبة هذا القول إلى عمر ، فانظر كلام مالك بن أنس (ت ١٧٩ هـ) في الموطّأ (١) ، وما رواه ابن أبي شيبة (ت ٢٣٥ هـ) في المصنّف (٢) ، والدارقطني (ت ٣٨٥ هـ) في السنن (٣) ، وكلام ابن رشد (ت ٥٩٥ هـ) في بداية المجتهد (٤) ، والسيوطي (ت ٩١١ هـ) في تنوير الحوالك (٥) ، والخطيب التبريزي (ت ٧٤١ هـ) في كتاب الإكمال في أسماء الرجال (٦) ، وقال الشوكاني (ت ١٢٥٥ هـ) نقلاً عن البحر الزخّار : أحدثه عمر فقال ابنه : هذه بدعة (٧) ، وغيرهم في غيرها .

______________________

(١) الموطّأ ١ : ٧٢ / ١٥٤ ـ باب ما جاء في النداء في الصلاة ، وفيه : بلغنا أنّ المؤذّن جاء إلى عمر يؤذنه لصلاة الصبح فوجده نائماً فقال : الصلاة خير من النوم ، فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح .

(٢) المصنّف ابن أبي شيبة ١ : ١٨٩ / ح ٢١٥٩ ، وفيه : جاء المؤذّن عمر بصلاة الصبح ، فقال : الصلاة خير من النوم ، فأُعجب به وقال للمؤذّن : أَقِرَّها في أذانك .

(٣) سنن الدارقطني ١ : ٢٤٣ / ح ٤٠ ، وفيه : عن عمر أنّه قال لمؤذّنه : إذا بلغت « حيّ على الفلاح » في الفجر فقل : الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم .

(٤) بداية المجتهد ١ : ٧٧ سيأتي نصّ كلامه .

(٥) انظر : تنوير الحوالك ١ : ٧٤ / ح ١٥٤ سيأتي نصّ كلامه .

(٦) الإكمال في أسماء الرجال : ١٢٣ سيأتي نصّ كلامه .

(٧) نيل الأوطار ٢ : ١٨ .

٧
 &

فكلّ هؤلاء أقرّوا بنسبة إبداع التثويب إلى عمر فضلاً عمّا هو موجود في كتب الشيعة الإماميّة والزيدية والإسماعيلية ، وإنّي في هذا الكتاب سأثبت خلاف كلام الكاتب بالنصوص بإذن الله تعالى .

وممّا يجب أن نذكره أيضاً أنّ الكاتب وعد قرّاءه بأنّه سيبحث موضوع الحيعلة الثالثة في كتابٍ ثالث وقد أسماه « حيّ على خير العمل حقيقة أو وهم » لكنّا لم نقف عليه رغم تتبّعنا وبحثنا عنه في المكتبات العربية ومواقع التواصل الاجتماعي ، وكان يعجبني أن أقف على كلامه لأرى انتقاداته لنا ، وهل هي تشبه انتقاداته للآخرين من أعلامنا ، أم لا ؟

بلى إنّ ذكر الأذان بمعنى الإعلام والنداء والمستهزئين به قد ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى : ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) (١) ، وقوله تعالى : ( وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ) (٢) ، وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ) (٣) ، وقوله تعالى : ( وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ ) (٤) .

والآية الأخيرة تثبت بأنّ تشريع الأذان كان بنصّ الكتاب العزيز لا بما قالوه من

______________________

(١) الحج : ٢٧ .

(٢) التوبة : ٣ .

(٣) الجمعة : ٩ .

(٤) المائدة : ٥٨ .

٨
 &

تشريعه في المدينة بمنام رآه عبد الله بن زيد الأنصاري (١) ، أو عمر بن الخطّاب (٢) ، أو أبو بكر (٣) ، أو أُبيّ بن كعب (٤) ، أو سبعة من الصحابة (٥) ، أو أربعة عشر منهم (٦) ، أو أكثر من هذا العدد أو أقل .

والمفسّرون ذكروا في شأن نزول هذه الآية عدّة أقوال :

منها ما رواه السدّي : أنّ رجلاً من النصارى كان بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول : « أشهد أنّ محمداً رسول الله » يقول : « أحرق الكاذب » ، فدخلت خادمته بنار ذات ليلة [ لتضيء له الطريق ] فتطايرت منها شرارة في البيت فاحترق البيت واحترق هو وأهله .

وقيل : كان منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ينادي للصلاة وقام المسلمون إليها ، فقالت اليهود : قاموا لا قاموا ، صلَّوا لا صلّوا ! على طريق الاستهزاء ، فنزلت الآية .

وقيل : كان المنافقون يتضاحكون عند القيام إلى الصلاة تنفيراً للناس عنها .

وقيل : قالوا : يا محمّد ، قد أبدعت شيئاً لم يُسمَع فيما مضى ، فإن كنت نبيّاً فقد خالفت فيما أحدثت جميع الأنبياء ، فمن أين لك صياح كصياح العَيْر ؟! فأنزل الله هذه الآية (٧) .

______________________

(١) وهذا هو المشهور عند أهل السنّة والجماعة ، وفيه أخبار كثيرة !

(٢) سنن أبي داود ١ : ١٣٤ / ح ٤٩٨ كتاب الصلاة باب بدء الأذان ، السنن الكبرى ١ : ٣٩٠ .

(٣) مجمع الزوائد ١ : ٣٢٩ كتاب الصلاة باب بدء الأذان ، جامع المسانيد ١ : ٢٩٩ ، تفسير القرطبي ٦ : ٢٢٥ ـ المائدة الآية ٥٨ ، شرح الزرقاني على الموطّأ ١ : ١٣٦ عن المعجم الأوسط للطبراني .

(٤) علل الشرائع : ٣١٢ / ح ١ ، وعنه في بحار الأنوار ٨١ : ٣٥٤ ـ في معرض الردّ عليه وتكذيبه .

(٥) المبسوط للسرخسي ١ : ١٢٨ كتاب الصلاة باب بدء الأذان .

(٦) السيرة الحلبية ٢ : ٣٠٠ باب بدء الأذان ومشروعيته ، وشرح الزرقاني على موطأ مالك ١ : ٣٦ ، وشرح المعين لشرح قرّة العين ـ المطبوع في هامش حاشية إغاثة الطالبين ١ : ٣٣٠ .

(٧) التفسير الكبير ٤ : ٣٨٨ ـ تفيسر سورة المائدة ، الآية ٥٨ .

٩
 &

والأهم من كلّ ذلك (١) هو ما رواه النسائي (ت ٣٠٣ هـ) (٢) وابن ماجة (ت ٢٧٥ هـ) (٣) بسندهما عن ابن جريج عن عثمان بن السائب عن أبيه ، عن أُم عبد الملك بن أبي محذورة ، عن أبي محذورة والنصّ للأوّل :

لّما خرج رسول الله من حنين خرجت عاشر عشرة من أهل مكة نطلبهم فسمعناهم يؤذّنون بالصلاة فقمنا نؤذّن نستهزئ بهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قد سمعت من هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت فأرسل إلينا ....

وقد جاء هذا الخبر في مسند أحمد (ت ٢٤١ هـ) : حدّثنا روح بن عبادة ، حدّثنا ابن جريج ، أخبرنا عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة :

أنّ عبد الله بن محيريز أخبره ـ وكان يتيماً في حجر أبي محذورة (٤) ـ قال : قلت لأبي محذورة : يا عم ، إنّي خارج إلى الشام وأخشى أن أسأل عن تأذينك ، فأخبرَني : أنّ أبا محذورة قال له : نعم ، خرجتُ في نفر وكنّا في بعض طريق حُنين ، فقفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من حنين ، فلقينا رسول الله ببعض الطريق ، فأذّن مؤذّن رسول الله بالصلاة عند رسول الله ، فسمعنا صوت المؤذّن ونحن متنكّبون ، فصرخنا نحكيه ونستهزئ به ، فسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه ، فقال رسول الله : أيّكم الذي سمعتُ صوته قد ارتفع ؟ فأشار القوم كلّهم إليَّ وصدقوا ، فأرسل كلّهم وحبسني رسول الله ، فألقى عليَّ رسول الله التأذين هو بنفسه ، قال : قل : اللهُ أكبر ، اللهُ

______________________

(١) لأنّه يرتبط ببحثنا .

(٢) سنن النسائي ٢ : ١٠ / ٦٢٩ ، كتاب الأذان ، باب الأذان في الفجر .

(٣) سنن ابن ماجة ١ : ٢٣٧ ، كتاب الأذان والسنّة فيها ، باب بدء الأذان .

(٤) واسم أبي محذورة هو : سَمُرة بن معير بن لوذان .

١٠
 &

أكبر ، أشهد أن لا إله إلّا الله ، أشهد أن لا إله إلّا الله ، أشهد أنّ محمّداً رسول الله ، أشهد أنّ محمّداً رسول الله ، حيّ على الصلاة ، حيّ على الصلاة ، حيّ على الفلاح ، حيّ على الفلاح ، اللهُ أكبر ، اللهُ أكبر ، لا إله إلّا الله .

ثمّ دعاني حين قضيتُ التأذين فأعطاني صرّة فيها شيء من فضّة ، ثمّ وضع يده على ناصية أبي محذورة ثمّ قال رسول الله : « باركَ الله فيك وبارك عليك » ، فقلت : يا رسول الله ، مرني بالتأذين بمكّة ، فقال : قد أمرتك به ... (١) .

نعم ، إنّ اليهود والنصارى ومشركي العرب كانوا من الذين يستهزئون بالرسول والرسالة ، وإنّ أبا محذورة كان من أولئك المستهزئين برسول الله ومن المؤلفة قلوبهم الذين احتضنهم رسول الله ، وقد عرف عن رسول الله أنّه قسّم غنائم حنين على أعدائه ومحاربيه وكان حصّة أبا محذورة من تلك الغنائم صرّة فضّة ، وأنّ هذه الأخلاق السامية لرسول الله شملت كلّ من اعتصم بالشهادتين من مؤمن أو منافق من الطلقاء وغيرهم .

وهذا الرجل هو الذي نُسبت إليه أخبار التثويب والترجيع في الأذان . وأنّه كان أحدَ الثلاثة الذين أخبرهم النبيّ بأنّ آخرهم موتاً هو في النار (٢) . وهو الذي قال فيه الكاشاني في « بدائع الصنائع » :

بأنّه كان حديث العهد بالإسلام ، فلمّا بلغ إلى الشهادتين خفض بهما صوته !! مخافة الكفّار ، وقال ثالث بأنّه كان جهوريّ الصوت وكان في الجاهلية يجهر بسبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا بلغ الشهادتين استحيى فخفض بهما صوته ، فدعاه رسول الله

______________________

(١) مسند أحمد ٣ : ٢٠٩ / ح ١٥٤١٧ ، تفسير القرآن العظيم لابن كثير ٢ : ٨٥ ـ سورة المائدة : الآية ٥٨ .

(٢) تهذيب الكمال ٣٤ : ٢٥٧ .

١١
 &

وعرك أذنه ، وقال : ارجع وقل : أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأشهدُ أنّ محمّداً رسول الله ، ومُدّ بهما صوتَك غيظاً للكفار ... (١) ، وهو ما يصطلح عليه اليوم في الأذان بالترجيع ، وقد نبحثه لاحقاً مع التثويب .

ويضاف إليه : أنّ الصحابة كانوا يفسّرون النصوص ويشرّعون الأحكام طبقاً لقناعاتهم وفهمهم للملاكات ، ومن هنا سرى التحريف في جسد الشريعة تحت مظلّة الرأي والاجتهاد والمصلحة ، وموافقات الوحي لفلانٍ وفلان ، لأنّه يعرف ملاكات الأحكام وروح التشريع !

ومن هذا المنطلق ذهبوا إلى أنّ تشريع الأذان كان بمنام ، ومثله قولهم إنّ بلالاً الحبشيَّ رأى النبي نائماً ، فقال : الصلاة خير من النوم ، والنبي أقرّ ذلك في الأذان ! وأمثال هذه الأُمور كثيرة في الفقه والحديث .

ونحن قد أشرنا سابقاً إلى جملة من تلك الاجتهادات الباطلة في دراستنا حول كيفية « وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله » ، وكيف يريد الناس بعقولهم الناقصة وآرائهم الباطلة ومقاييسهم الفاسدة أن يفهموا ملاكات الأحكام ويتعرّفوا على المصلحة مع وجود النصّ ، ومن هنا جاء تأكيد أئمّة أهل البيت على عدم جواز الإفتاء بالرأيِّ وبالقياس ، مع وجود النَّصّ .

فقال الإمام الباقر عليه‌السلام لجابر : يا جابر ، لو كنّا نُفتي الناس برأينا وهَوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نُفتيهم بآثارٍ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأُصول [ عِلمٍ عندنا ] ، نتوارثها كابراً عن كابر ، نَكْنِزُها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضّتهم (٢) .

______________________

(١) بدائع الصنائع ١ : ١٤٨ .

(٢) بصائر الدرجات للصفّار : ٣٢٠ .

١٢
 &

وسأل رجلٌ الصادقَ عن مسألةٍ فأجابه فيها ، فقال الرجل : أرأيت إن كان كذا وكذا ، ما يكون القول فيها ؟

فقال له : مَه ! ما أجبتك فيه شيء فهو عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لسنا مِن (أرأيت) في شيء (١) .

وعن سعيد الأعرج قال : قلت لأبي عبد الله (الصادق) عليه‌السلام : إنّ مَن عندنا ممّن يتفقّه يقولون : يَرِدُ علينا ما لا نعرفه في كتاب الله ولا في السنّة ، نقول فيها برأينا ؟

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : كذبوا ! ليس شيء إلّا قد جاء في الكتاب وجاءت فيه السنّة (٢) .

وفي خبر آخر عن الباقر عليه‌السلام : إنّ الله علّم نبيّه التنزيل والتأويل ، فعلّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاً عليه‌السلام ، وعلّمنا والله ... (٣) .

وروى ابن حزم الظاهريُّ (ت ٤٥٦ هـ) بسنده عن ابن شبرمة أنّ جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين الصادق عليهم‌السلام قال لأبي حنيفة : « اتقِ الله ولا تَقس ؛ فإنّا نقف غداً نحن ومَن خالَفَنا بين يدي الله ، فنقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال الله تبارك وتعالى ... ، وتقول أنت وأصحابك : سمعنا ورأينا ! فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء » (٤) .

______________________

(١) الكافي ١ : ٥٨ ـ باب البدع والرأي والمقاييس / ح ٢١ .

(٢) بصائر الدرجات : ٣٢١ ـ ٣٢٢ ، الباب ١٥ / ح ٢ ، الاختصاص للمفيد : ٢٨١ ، أوائل المقالات للمفيد : ٢٣٠ ، مستدرك وسائل الشيعة ١٧ : ٢٥٨ / ح ٢١٢٧٩ .

(٣) الكافي ٧ : ٤٤٢ ـ باب ما لا يلزم من الإيمان والنذور / ح ١٥ ، وسائل الشيعة ٢٣ : ٢٢٤ / ح ٢٩٤٢٦ .

(٤) الإحكام لابن حزم ٨ : ٥١٣ ـ الباب ٣٨ ، فصل في إبطال القياس .

١٣
 &

وجاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إيّاكم وأصحابَ الرأي ، فإنّهم أعيَتْهُم السنن أن يحفظوها فقالوا بالحلال والحرام برأيهم ، فأحلّوا ما حرّم الله وحرّموا ما أحلّه الله فَضَلّوا وأضلّوا ! (١)

وعن الإمام علي عليه‌السلام أنّه قال : يا معشرَ شيعتنا : المنتحلين مودّتنا ! إيّاكم وأصحابَ الرأي فإنّهم أعداء السنّة ، تفلّتَت منهم الأحاديث أن يحفظوها ، وأعيتهم السنّة أن يعوها ـ إلى أن يقول ـ فسُئلوا عمّا لا يعلمون ، فأَنِفوا أن يعترفوا بأنّهم لا يعلمون ، فعارضوا الدين بآرائهم ، فَضَلّوا وأضلّوا ! (٢)

وعن حبيب قال : قال لنا أبو عبد الله عليه‌السلام : ما أحد أحبّ إليَّ منكم ، إنّ الناس سلكوا سبلاً شتّى ، منهم من أخذ بِهواه ، ومنهم من أخذ برأيه ، وإنّكم أخذتم بأمرٍ له أصل (٣) .

وأنّك ستقف في هذه الدراسة على أنّ الأمر كان أبعد من ذلك وأشدّ ، إذ يخترعون أموراً من عند أنفسهم ويصوّرونها حيث قناعاتُهم وأهواؤهم في حين ليس لتلك الأُمور أصل في الشريعة .

وهو ممّا أوجد في الشريعة منهجين :

أحدهما يتعبّد بالنصوص النبوية .

والآخر يشرّع الرأي ويتعرّف على المصلحة .

______________________

(١) غوالي اللآلي ٤ : ٦٥ ، مستدرك وسائل الشيعة ١٧ : ٢٥٦ ـ ٢٥٧ / ح ٢١٢٧٢ .

(٢) مستدرك وسائل الشيعة ١٧ : ٣٠٩ / ح ٢١٤٢٩ .

(٣) المحاسن : ١٥٦ ، باب الأهواء / ح ٨٧ ، الكافي ٨ : ١٤٦ / ح ١٢١ .

١٤
 &

وإنّي في الفصل الأوّل من هذا الكتاب سأُثبت بأنّ « الصلاة خير من النوم » لم تكن روايةً نبوية حسبما يدّعونه ، بل هي رأي شُرِّع في الأذان متأخّراً ، وإن كنت لا أستبعد النداء به كجملة مفردة في عهد رسول الله لا على نحو التشريع قبل الفجر لإيقاظ النائمين وتنبيه الغافلين ، لكنّهم أدرجوها لاحقاً بعد رسول الله في أذان الفجر لاحقاً على أنّها من الشرع والدين ، وهذا من البدعة في الدين ، وقد أشار الشيخ ناصر الدين الألباني إلى أنّ التثويب يشرّع في الأذان الأوّل للصبح الذي يكون قبل دخول الوقت بنحو ربع ساعة تقريباً ... إلى أن يقول :

قلت : وإنّما أطلت الكلام في هذه المسألة لجريان العمل من أكثر المؤذّنين في البلاد الإسلامية على خلاف السنّة فيها أوّلاً ، ولقلّة من صرّح بها من المؤلّفين ثانياً ، فإنّ جمهورهم ـ ومن ورائهم السيّد سابق ـ يقتصرون على إجمال القول فيها ولا يبينون أنّه في الأذان الأوّل من الفجر كما جاء ذلك صراحة في الأحاديث الصحيحة خلافاً للبيان المتقدّم من ابن رسلان والصنعاني جزاهما الله خيراً .

وممّا سبق يتبيّن أنّ جعل التثويب في الأذان الثاني بدعة مخالفة للسنّة ، وتزداد المخالفة حين يعرضون عن الأذان الأوّل بالكلّية ويصرّون على التثويب في الثاني ، فما أحراهم بقوله تعالىٰ : ( أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ) (١) .

فمسألة التعبّد بكلام الله ورسوله ، وفي المقابل اجتهادهم قبال النَّصَّ كانا

______________________

(١) تمام المنّة في التعليق على فقه السنة ١ : ١٤٦ ـ ١٤٨ .

١٥
 &

جاريين عند بعض الصحابة والتابعين وفقهاء الجمهور على تفاوتٍ بينهم ، وكذا مجيؤُهم بالتأويلات البعيدة دعماً للخلفاء كانت جارية ولا زالت موجودة إلى اليوم .

وقد يكون في الآيات التي سبقت آية : ( وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ) إشارة إلى لزوم التعبّد بمن ولّاه الله علينا من رسول ووصي وعدم تحكيم الرأي في الشريعة ، وهو المصرَّح في حديث الثقلين بكتاب الله وعترتي أهل بيتي ، لأنّ تولّي هؤلاء يجعلهم في حزب الله الذين هُمُ الغالبون ، فقال سبحانه : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ ) (١) .

والولي في اللغة له معنيان مشهوران : أحدهما بمعنى المحبّ والناصر ، والآخر بمعنى المتصرّف والأَولى بالأنفس ، ولا يمكن فهم المراد وترجيح أحد المعنيين على الآخر إلّا بقرينة أو دليل .

وكلمة « إنّما » هي للحصر ومعناها : إنّما المتصرّف فيكم ـ أيّها المؤمنون ـ هو الله ورسول الله والمؤمنون الموصوفون بالصفة الفلانية ، وهذا ما لم نجده إلّا في حقّ الإمام علي بن أبي طالب ، فالآية مخصوصة به ودالّة عليه ، وأنّكم ما إن أخذتم بهما (أي الكتاب والعترة) لن تضلّوا بعده أبداً ـ .

______________________

(١) المائده : ٥٥ ـ ٥٨ .

١٦
 &

فقد رُوي عن أبي ذر رضي الله عنه أنّه قال : صلّيت مع رسول الله يوماً صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء ، فقال : اللّهمّ اشهد أنّي سألت في مسجد الرسول فما أعطاني أحد شيئاً ! وعلي كان راكعاً فأومأ إليه بخنصره اليمنى ، وكان فيها خاتم ، فأقبل السائل حتّى أخذ الخاتم بمرأى النبي ، فقال : اللّهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال : ( قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ... ) إلى قوله ( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (١) ، فأنزلتَ قرآناً ناطقاً : ( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا ) ، اللّهم وأنا محمّد نبيّك وصفيّك ، فاشرح لي صدري ، ويسّر لي أمري ، واجعل لي وزيراً من أهلي علياً اشدُدْ به ظهري .

قال أبو ذر : فواللهِ ما أتمّ رسول الله هذه الكلمة حتّى نزل جبرئيل فقال : يا محمّد إقرأ : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (٢) ، كما رُوي هذا المعنى عن عمّار وابن عبّاس وعلي و ... (٣) .

______________________

(١) طه : ٢٥ ـ ٣٢ .

(٢) التفسير الكبير للفخر الرازي ٢ : ٣٨٣ سورة المائدة : ٥٥ ، تفسير القرآن الكريم ، لمحيي الدين بن عربي ١ : ٣٣٤ ، المناقب ، للخوارزمي الحنفي : ١٨٦ ، أنساب الأشراف ، للبلاذري ٢ : ١٥٠ ، جامع البيان ، للطبري ٦ : ١٦٥ ، تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير ٢ : ٧١ ، أسباب النزول ، للواحدي : ١٤٨ ، الدرّ المنثور ، للسيوطي الشافعي ٢ : ٢٩٥ ، كنز العمّال ، للمتقي الهندي ٦ : ٤٠٥ ، فتح القدير ، للشوكاني ٢ : ٥٠ ، جامع الأُصول ، لابن الأثير ٩ : ٤٧٨ .

(٣) أتى الأستاذ أمين بن صالح هران الحدّاء في « فتح ذي الجلال في نُبذٍ من فضائل الآل : ١١٤ » بأهمّ ما ورد من روايات في أنّ الآية نزلت في علي عليه‌السلام ، كالتالي :

حديث ابن عباس ، وقد جاء من طرق :

=

١٧
 &

وعن عبد الله بن سلام أنّه قال : لمّا نزلت هذه الآية قلت : يا رسول الله ، أنا رأيت عليّاً تصدّق بخاتمه على محتاج وهو راكع ، فنحن نتولّاه ، ( وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) ... (١) .

وفي تفسير الطبري عن غالب بن عبد الله قال : سمعت مجاهداً يقول في قوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ ... ) الآية ، قال : نزلت في علي بن أبي طالب تصدّق وهو راكع (٢) .

وقيل : أنّ النبي خرج إلى باب المسجد فإذا بمسكين قد خرج من المسجد وهو يحمد الله عزّ وجلّ ، فدعاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : هل أعطاك أحد شيئاً ؟

فقال : نعم يا نبيّ الله .

قال : مَن أعطاك ؟

قال : الرجل القائم أعطاني خاتمه ـ يعني عليّ بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليه ـ .

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : على أيّ حال أعطاكَه ؟

______________________

طريق مجاهد : رواه عبد الرزاق ـ كما ذكر ابن كثير ـ وابن المغازلي / الرقم (٣٥٤) .

طريق الضحّاك : رواه ابن مردويه كما ذكر ابن كثير والسيوطي في الدرّ .

طريق أبي صالح : رواه ابن مردويه ـ كما ذكر ابن كثير ـ وابن المغازلي : ٣٥٧ ، والواحدي : ٣٠٠ .

طريق أبي عيسى : رواه ابن المغازلي : ٣٥٦ .

حديث عمّار : رواه الطبراني في الأوسط ٦ : ٢١٨ / الرقم ٦٢٣٢ .

حديث أبي رافع : رواه الطبراني وابن مردويه كما في الدرّ المنثور ٣ : ١٠٥ .

حديث علي : رواه أبو الشيخ وابن مردويه كما في الدرّ المنثور ٣ : ١٠٦ ، ورواه ابن المغازلي في المناقب / الرقم ٣٥٥ .

حديث أبي ذر : وعزاه ابن حجر في الكافّ الشافّ المطبوع بهامش الكشّاف ١ : ٦٤٩ إلى الثعلبي ...

(١) مراح لبيد ١ : ٢٧٨ .

(٢) تفسير الطبري ٦ : ٢٨٩ .

١٨
 &

قال : أعطاني وهو راكع . فكبّر النبيّ وقال : الحمدُ لله الذي خصَّ عليّاً بهذه الكرامة ، فأنزل الله عزّ وجل : ( ... وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه ( فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) يعني شيعة الله ورسوله والذين آمنوا هم الغالبون ... (١) .

قال الزمخشري في قوله : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ ... وَهُمْ رَاكِعُونَ ) : وقيل : هو حال من يؤتون الزكاة بمعنى يؤتونها في حال ركوعهم في الصلاة ، وأنّها نزلت في علي كرّم الله وجهه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته فطرح له خاتمه كأنّه كان مرجأ في خنصره ، فلم يتكلّف لخلعه كثيرَ عمل تفسد بمِثله صلاتُه .

فإن قلت : كيف صحّ أن يكون لعلي رضي الله عنه واللفظ لفظ جماعة ؟

قلت : جيء به على لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلاً واحداً ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه ، ولينبّه على أنّ سجية المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان وتفقّد الفقراء ، حتّى إن لزم أمر لا يقبل التأخير وهم في الصلاة لم يؤخّروه إلى الفراغ منها (٢) .

ولما نزلت الآية أنشأ حسّان بن ثابت يقول :

أبا حسن تَفديك نفسي ومهجتي

وكلُّ بطيء في الهدى ومُسارِعِ

أيذهب مدحيك المحبَّرُ ضائعاً

وما المدح في جنب الإله بضائعِ

______________________

(١) تفسير مقاتل ١ : ٤٨٥ ـ ٤٨٧ .

(٢) الكشاف ١ : ٦٢٤ .

١٩
 &

فأنت الذي أعطيتَ إذ كنت راكعاً

زكاةً فدتك النفس يا خيرَ راكعِ

فأنزَلَ فيك اللهُ خيرَ ولايةٍ

وأثبتها أثنا كتاب الشرائعِ (١)

إذن هذه الآية لها دلالة على الإمامة الإلهيّة ، وأنّها لله ولرسوله وللرجل الأكمل من المؤمنين أعني عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام مع أنّها أُوّلت وفُسّرت بتفسيرات بعيدة كالقول بأنّ « الركوع » يعني الخشوع والتذلّل ، أو أنّ « الوليّ » تعني الناصر والمحبّ .

فالله حينما خاطب المؤمنين ـ وليس المنافقين والمنحرفين ـ بقوله : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ ... ) دخل في الخطاب النبيُّ وغيره ، ثمّ قال : ( وَرَسُولُهُ ) ، فأخرج نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله من ذلك العموم ، ثمّ خصَّ الإمام عليّاً عليه‌السلام بصيغة الجمع تعظيماً له في قوله : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، إذ لا يُعقَل أن يكون المقصود من الخطاب جميع المؤمنين الذين يعطون الزكاة .

كما لا يصحّ ما قالوه بأنّ الركوع بمعنى الخشوع والتذلّل وما شابه ذلك ، إذ لا معنى حين ذاك لجعل ولايته قسيماً لولاية الله وولاية رسوله ، إذ هي ستكون لجيمع المسلمين .

فالولاية جاءت في سياق واحد وهي ولايتان الأولى وهي بالأصالة والحقيقة ، والأُخْرَيان بالتبع ، فلا يمكن أخذ أحد المعنيين بمعنى التصرّف والأولوية وأخذ المعنى الآخر بمعنى المحبّة ، إذ يلزم منه استعمال اللفظ في أكثر من معنى .

بلى ، إنّ الخلفاء وأتباعهم قد استخفّوا بالأذان ـ وغيره من الأحكام الشرعيّة ـ واعتبروا تشريعه كان عن منامٍ رآه أحدهم ! في حين أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام قال عنه

______________________

(١) روح المعاني ٦ : ٤٥٨ ـ سورة المائدة تفسير الآية ٥٥ .

٢٠