الصلاة خير من النوم شرعة أم بدعة

السيد علي الشهرستاني

الصلاة خير من النوم شرعة أم بدعة

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة المؤمل الثقافية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

الجانب الفقهي والحديثي

٤١
 &

الصلاة خير من النوم شرعة أم بدعة ـ السيد علي الشهرستاني

٤٢
 &

ويقع الكلام فيه في أربعة فصول :

الفصل الأول : التعريف بالتثويب وبمفاهيم أخرى مرتبطة به

الفصل الثاني : في بيان جملة « الصلاة خير من النوم » هل هي رواية عن رسول الله ، أم هو رأي لبعض الصحابة ؟

وكيف يكون هناك أذانان ومؤذّنان وإمامان لصلاةٍ واحدة ؟

الفصل الثالث : بيان الخلفيات العقائدية عند النهجين و ارتباطها بمسالة الصلاة خير من النوم

الفصل الرابع : بيان السير الفقهي والتاريخي لاختلاق هذه المقولة وكيفية تعامل المذاهب الأربعة معها بين الأمس واليوم

٤٣
 &

الصلاة خير من النوم شرعة أم بدعة ـ السيد علي الشهرستاني

٤٤
 &

الصلاة خير من النوم شرعة أم بدعة ـ السيد علي الشهرستاني

٤٥
 &

الصلاة خير من النوم شرعة أم بدعة ـ السيد علي الشهرستاني

٤٦
 &



التعريف بالتثويب

ما هو التثويب لغة ؟ وعلى أي شي يطلق اصطلاحاً ؟

وهل هو قول المؤذّن في أذان الفجر « الصلاة خير من النوم » ، أم أنّه قوله : « حيَّ على خير العمل » في الفجر وغيره ؟

وهل يصح أن ندّعي أنّ قول المؤذن أو المقيم : « حيَّ على الصلاة » ، أو « قد قامت الصلاة » هو التثويب ، أم أن التثويب هو جملة « الصلاة خير من النوم » فقط ؟

وهل التثويب هو جزء الأذان داخلٌ فيه ، أم أنّه يأتي بعده قبل الاقامة ؟

وهل هو مختصّ بأذان الفجر ، أم يتجاوزه إلى العصر والعشاء كذلك ؟

بل متى شُرّع التثويب ؟

هل في عهد رسول الله ، أم من بعده ؟

وإذا كان من بعده ، فمن كان وراءه ؟

هل كان وراءه أبو بكر ، أم عمر بن الخطاب ، أم الأمويون ، أم بنو العباس ؟!

٤٧
 &

وهل تشريعه إلهي ورد نصه في الكتاب العزيز ، أم أنّه بيانٌ نبوي تواتر النقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ أم أنّه رأي قد شُرّع في عهد الشيخين ثمّ تبنّته جهات سياسيّة أخرى دعماً لتوجّهات الخلفاء ؟ أم أنّه غير هذا وذاك ؟

هذه تساؤلات ـ ومعها غيرها ـ طرحناها في هذه الدراسة ؛ لنرفع الستار عنها وعن مسائل أخرى تنطوي عليها هذه المسألة ، وإليك الكلام عنها في نقاط :

معنى التثويب لغة

هو العود إلى الإعلام بعد الإعلام ، وهو مأخوذ من ثاب إلى الأمر إذا رجع إليه ؛ كأنّ المؤذن أو المقيم لما يقول « الصلاة خير من النوم » أو « قد قامت الصلاة » مثلاً ، قد رجع إلى ما كان قد دعا إليه من جُملٍ في الأذان سابقاً بقوله : « حيَّ على الصلاة ، حي على الصلاة » ، والمثابة : هي الموضع الذي يثاب إليه مرة بعد أخرى ومنه سُمِّي المنزل (مَثاب) ، ومنه جاء قوله تعالى : ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ ) أي يترددون ويرجعون إليه (١) .

ومن هذا الباب سُمّي الثواب ثواباً ؛ لأنّ منفعة عمل المكلف تعود إليه . ويقال : ثاب إلى المريض نَفَسُه ، إذا برئ ، فهو عود إلى الإعلام بعد الإعلام الأول (٢) .

ومنه : ثاب إلى السكران عقله ، إذا صحا من سُكره ورجع إلى ما كان عليه (٣) .

______________________

(١) فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن رجب الحنبلي ٣ : ٤٢٥ ـ الباب ٤ ، فصل التأذين . والآية في سورة البقرة : ١٢٥ .

(٢) أُنظر : المبسوط للسرخسي ١ : ١٣٠ ـ باب الأذان .

(٣) أُنظر : معجم لغة الفقهاء : ١٢١ .

٤٨
 &

وفي (النهاية) لابن الاثير : ... والأصل في التثويب أن يجيءَ الرجل مستصرخاً فيلوّح بثوبه ليُرى ويشتهر ، فسُمّي الدعاء تثويباً لذلك ، وكلُّ داعٍ مُثوّبٌ .

وقيل : إنّما سُمّي تثويباً مِن ثاب يثوب إذا رجع ، فهو رجوع إلى الأمر بالمبادرة إلى الصلاة ، وأنّ المؤذّن إذا قال « حيَّ على الصلاة » فقد دعاهم إليها ، وإذا قال بعدها « الصلاة خير من النوم » فقد رجع إلى كلامٍ معناه المبادرة إليها (١) .

والراجح عند أغلب العلماء أنّ معنى التثويب هو الرجوع والعود للإعلام بعد الإعلام (٢) ، لا الاستغاثة ـ كما ادّعاه ابن الأثير بأنّه الأصل فيه ـ كما لا يصحّ قول الآخر : وأنّ الرجل يلوّح بثوبه عند الفزع لِيُعلِم أصحابَه ، لأنّه لو صحّ [ كونه بهذا المعنى ] لكان تسمية الأذان تثويباً أحقّ من الإقامة (٣) .

وقد قيل بأنّ التثويب هو الأذان والإقامة ؛ لأنّهما أوّل دعوة وصرخةٍ للصلاة ، وفيها تكرار التكبير والشهادتين والحيعلات ، ومعناه أنّها إعلام بعد إعلام .

التثويب اصطلاحاً

اختلف العلماء في المعنيّ بالتثويب اصطلاحاً على عدة أقوال :

الأول : هو قول المؤذن في أذان الفجر خاصة « الصلاة خير من النوم » ، وهو قول ابن المبارك وأحمد والخطّابي وغيرهم (٤) . وهذا القول أشهر الأقوال وهو المعتمد عندهم .

______________________

(١) النهاية ١ : ٢٢٦ ـ باب الثاء مع الواو ، وعون المعبود ٢ : ١٧٠ ـ عن : النهاية .

(٢) أُنظر على سبيل المثال : تحفة الأحوذي ١ : ٥٠٥ ـ الباب ٣٢ ، البحر الرائق ١ : ٢٧٤ ، ٣ : ١٢٥ ، الهداية شرح البداية ١ : ٤١ ، شرح فتح القدير ١ : ٣٤٦ .

(٣) أُنظر : فتح الباري لابن رجب الحنبلي ٣ : ٤٢٦ .

(٤) أُنظر : عون المعبود ٢ : ١٧٠ ـ باب في التثويب الرقم ٥٣٨ ، فتح الباري لابن حجر ٢ : ٨٦ .

٤٩
 &

قال ابن الأنباري : « الصلاة خير من النوم » سُمّي تثويباً ؛ لأنّه دعاءٌ ثانٍ إلى الصلاة ، وذلك أنّه لما قال : « حي على الصلاة » دعاهم إليها ، ثمّ لما قال « الصلاة خير من النوم » دعا إليها مرة أخرى (١) .

الثاني : هو قول المؤذن بين الأذان والإقامة : « قد قامت الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح » (٢) . من جهة التذكير وحثَّ الناس على المبادرة للصلاة .

وزعم بعض الكوفيين أنّ المراد بالتثويب هذا لا غير ، حكى ذلك ابن المنذر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة ، وزعم أنّه تفرّد به ، لكن في (سنن أبي داود) عن ابن عمر أنّه كره التثويب بين الأذان والإقامة ، وهذا يدلّ على أنّ له سلفاً في الجملة (٣) .

وهو الذي عرّفه بعض فقهاء الجمهور بالسلام على الأمراء بعد الأذان وقبل الإقامة ، « وهذا يسمّى نداء الأمراء ، وبعضهم يسمّيه التثويب ، ورخص فيه بعضهم ، وكرّهه أكثر العلماء » (٤) .

الثالث : قيل هو الإقامة ؛ لأنّ التثويب مِن ثاب إذا رجع ، ومقيم الصلاة راجع إلى الدعاء إليها ، فإنّ الأذان دعاء إلى الصلاة والإقامة دعاء إليها ، فهو رجوع إلى الصلاة بعد أن دعاهم إليها في الأذان بـ « حي على الصلاة » ، أي إنّه إعلام بإقامة الصلاة بقوله : « قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة » . ومنه ما رُوي عن أبي هريرة أنّ رسول الله قال : إذا نُودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع

______________________

(١) البخاري بشرح الكرماني ٥ : ٧ .

(٢) عون المعبود ٢ : ١٧٠ ـ باب في التثويب / الرقم ٥٣٨ .

(٣) فتح الباري لابن حجر ٢ : ٨٦ . وانظر : سنن أبي داود ١ : ١٤٨ ـ الباب ٤٥ في التثويب / ح ٥٣٨ .

(٤) أُنظر : منهاج السنة النبوية لابن تيمية ٦ : ٢٩٤ ، الإنصاف للمرداوي ١ : ٢١٤ ـ باب الأذان .

٥٠
 &

التأذين ، فإذا قُضيَ النداء أقبَل ، حتّى إذا ثُوّب بالصلاة أدْبَرَ ، حتّى إذا قُضيَ التثويب أقبل ... (١) .

وأخرج مالك بسنده أنّ أبا هريرة قال : إذا ثُوّب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تَسعَون وائتوها وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ، فإنّ أحدكم في صلاة ما كان يعمد إلى الصلاة (٢) .

وقال الجمهور : المراد بالتثويب في الحديثين الإقامة ، وبذلك جزم أبو عوانة في صحيحه ، والخطّابي والبيهقي ، وغيرهم (٣) .

الرابع : قيل : إنّه قول المؤذن « حيَّ على خير العمل » (٤) ، لأنّ الدعوة إلى الصلاة قد تمت بـ « حيَّ على الصلاة » ، ولما دُعِيَ بـ « حيَّ على خير العمل » فالمراد منها حيَّ إلى تلك الصلاة التي دُعيتَ إليها قبل قليل .

وقيل : إنّ تكرار التكبير والشهادتين والحيعلات هو مما يُسمّى تثويباً ، لأنّها إعلام بعد إعلام .

______________________

(١) البخاري بشرح الكرماني ٥ : ٧ ، وفتح الباري للعسقلاني ٢ : ٨٦ ، وتنوير الحوالك ١ : ٦٧ / ح ١٥٠ ، و ٦٩ / ح ١٥٢ ، شرح الزرقاني ١ : ٢٠٤ ، ٢٠٩ ، عون المعبود ٢ : ١٥٠ ، عمدة القارئ ٥ : ١١٢ ، التمهيد لابن عبد البر ١٨ : ٣٠٨ ، ٣١٠ ، و ٢٠ : ٢٣١ ، شرح النووي على مسلم ٤ : ٩٢ ـ باب فضل الأذان و ٥ : ١٠٠ ، الديباج على مسلم ٢ : ٢٥٨ / ح ٦٠٢ ، والكل فسّروا التثويب في هذا الحديث بالإقامة .

(٢) موطَّأ مالك ١ : ٦٨ / ح ١٥٠ . وانظر : التمهيد ٢٠ : ٢٣١ ، وفيه أنّ التثويب المذكور في الحديث هو الإقامة ، وأمّا قوله : فلا تأتوها وانتم تسعون ، فالسعي هاهنا في هذا الحديث المشي بسرعة والاشتداد فيه والهرولة .

(٣) عون المعبود ٢ : ١٥٠ .

(٤) مواهب الجليل ١ : ٤٣٢ ، وفيه : وقيل : إنّ التثويب هو قول المؤذن (حيّ على خير العمل) ؛ لأنّها كلمة زادها مَن خالف السنّة من الشيعة .

٥١
 &

ثم إنّ التثويب في كل بلدة تكون على ما يتعارفونه : إمّا بالتنحنح ، أو بقوله : « الصلاة ، الصلاة » ، أو : « قامت ، قامت » ، أو : « با يك نماز با يك » كما يفعل أهل بُخارى ؛ لأنه إعلام ، والإعلام إنما يحصل بما يتعارفونه (١) .

ولا تَنسَ أنّ البعض أطلق على الترجيع (٢) اسم التثويب (٣) ، لأنه مأخوذ من ثاب إذا رجع ، وهو تكرار الشهادتين دفعتين .

قال ابن إدريس ـ وهو من علماء الشيعة الإماميّة ـ في (السرائر) : اختلف أصحابنا في التثويب ، ما هو ؟ فقال قوم منهم : هو تكرار الشهادتين دفعتين ، وهذا هو الأظهر ، لأنّ التثويب مشتقّ من ثاب الشيء إذا رجع ، وأنشد المبرَّد لما سُئل عن التأكيد فقال :

لو رأينا التأكيدَ خطةَ عجزٍ

ما شفَعْنا الأذانَ بالتثويبِ (٤)

هذه هي أهم الأقوال في التثويب ، وهناك أقوال أخرى تركناها لكونها أقوالاً لا يُعتدّ بها ، ونحن في مطاوي بحوثنا سنشير إلى ما نختاره من هذه الأقوال .

______________________

(١) بدائع الصنائع ١ : ١٤٩ . وما نراه اليوم في بعض البلدان الإسلامية من قولهم بعد الأذان (عجِّلوا بالصلاة) ، هو التثويب أيضاً .

(٢) الترجيع في الأذان : تكرار الفصول زيادة على الموظَّف ، وقيل : هو تكرار التكبير والشهادتين في أول الأذان ، وهو مخرج تمسك به بعض الشافعية للجمع بين قولَي الشافعي في القديم والجديد مجمع البحرين ٤ : ٣٣٤ ، اعانة الطالبين ١ : ٢٣٦ ، السراج الوهّاج للغمراوي ١ : ٣٧ ، قال : الترجيع وهو أن يأتي بالشهادتين سرّاً قبل أن يأتي بهما جهراً .

(٣) قال الوحيد البهبهاني في (مصابيح الظلام ٦ : ٥٤٢) : وظاهر « النهاية » كون التثويب هو الترجيع المشهور ، أي تكرير التكبير والشهادتين . أُنظر : نهاية الإحكام للعلّامة ١ : ٤١٤ .

(٤) السرائر ، لابن إدريس ١ : ٢١٢ ، والشعر لأبي تمام كما في المنتظم لابن الجوزي ١١ : ١٣٣ / ت ١٣٠٥ .

٥٢
 &

وقته ومحله

اختلف الأعلام في محلّ التثويب ووقته ، فقال بعضهم : إنّه شُرّع في الصبح خاصة دون العصر والعشاء (١) ، وأكّد النووي في (المجموع) أنّ التثويب في الأخيرين بدعة (٢) .

وذهب آخرون إلى أنّه ليس بمستحب ، لكنهم لم يقولوا ببدعيتها (٣) .

وقال الحسن بن صالح بن حيّ : إنّه يستحب فيه [ أي في العشاء ] وفي الفجر على حدٍّ واحد (٤) .

ومثل ذلك اختلافهم في محل التثويب ، فقال بعضهم : إنّ مَحِلّه وسط الأذان .

وقال بعض آخر : بعده قبل الإقامة .

وفصّل ثالث التثويب إلى أوّلٍ وثان ، فعنى بالأول الذي يأتي به المؤذن في وسط أذان الفجر خاصة ، وبالثاني ما يقوله المؤذن بعد الأذان قبل الإقامة .

وقال رابع : إنّ التثويب الأوّل هو المشروع ، وكلّ ما أُحدث للعصر والعشاء وغيرهما فهو تثويب ثان بدعي لا يجوز العمل به .

______________________

(١) هذا هو القول المشهور بين فقهاء أهل السنة والجماعة .

(٢) المجموع للنووي ٣ : ١٠٥ ـ ١٠٦ ، قال : يُكرَه التثويب في غير الصبح ، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور ، دليلنا حديث عائشة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدّ .

(٣) الهداية ١ : ٤١ ، قال : والتثويب في الفجر (حيَّ على الصلاة ، حيَّ على الفلاح) مرّتين بين الاذان والإقامة حسن ... وكُره في سائر الصلوات ، شرح فتح القدير ١ : ٣٤٦ .

(٤) المجموع ٣ : ١٠٥ ، نيل الاوطار ٢ : ١٨ ، المحلى ٣ : ١٦١ .

٥٣
 &

أمّا وقته فقد اختلفوا في الوقت الذي يجوز فيه من الليل على خمسة أوجه :

الأوّل : من نصف الليل ، وهو قول أكثر الشافعية .

والثاني : قُبيل طلوع الفجر في السحر ، وهو المنقول عن بلال وابن أم مكتوم .

والثالث : يؤذن في الشتاء لسُبعٍ يبقى من الليل ، وفي الصيف لنصفِ سُبع .

والرابع : أن يؤذن بعد وقت العشاء ، وهو ثلث الليل في قولٍ ونصفُه في قول .

والخامس : جميع الليل وقت لأذان الصبح ، حكاه إمام الحرمين (١) .

التثويب القديم والمُحدَث

فصّل فقهاء اهل السنة التثويب إلى قديم ومحدث ؛ فقالوا عن « الصلاة خير من النوم » في الصبح خاصة أنّه التثويب القديم وهو شرعي عندهم (٢) ؛ لأنّه جاء ـ حسب ادعائهم ـ في الروايات المأثورة عن النبي ، وقد عمل جمهورهم به من العصر الأول إلى يومنا هذا .

أمّا التثويب المحدث فهو الذي أحدثه الناس بين الأذان والإقامة ، وهو « بدعة وضلال » (٣) هذا ما قالوه ، لكنّ الروايات والنصوص المنقولة عن أئمّة المذاهب الأربعة تشير إلى شيء آخر حسبما سنفصّله لاحقاً .

______________________

(١) أُنظر : المجموع ٣ : ٨٨ .

(٢) وكذا أُطلق على الاقامة تثويب قديم . أُنظر : تحفة الأحوذي ١ : ٥٠٥ ، عون المعبود ٢ : ١٧٠ .

(٣) عون المعبود ٢ : ١٨٢ .

٥٤
 &

الأذان الأوّل والأذان الثاني في الفجر

الأذان الأوّل عند المذاهب الأربعة هو الذي يُؤذَّن به قبل الفجر لإيقاظ النائم وإرجاع القائم ، أمّا الأذان الثاني فهو أذان الفجر .

واستدلّوا على شرعية الأذان الأوّل بما رووه عن النبي قوله : (لا يمنعنّ أحدَكم ـ أو واحداً منكم ـ أذانُ بلال من سحوره ، فإنه يؤذّن ـ أو ينادي بليل ـ ليرجع غائبكم ، ولينتبه نائمكم) .

وشرعية الأذان الثاني نصوصه معلومة ، أهمُّها خبر عبد الله بن زيد الأنصاري الذي أُري الأذان عندهم .

كما أنّ المذاهب الأربعة اتفقت على عدم جواز الأذان قبل الوقت إلّا في الصبح خاصة ؛ لأنّه وقت غفلة ونوم ، ولنا لاحقاً وقفة مع الأخبار التي قالت بوجود أذانين للصبح خاصّة ومع ما حُكي عن بلال على وجه التحديد ، وهل أنّه أذّن للمسلمين الأذان الأول ، أم أنّه كان يؤذّن الأذان الثاني ؟

فعلى مشهور رأي اهل السنة والجماعة أنّه رحمه ‏الله كان يؤذّن بليل ، وقد روى هذا البخاري ومسلم من رواية ابن عمر ، وهناك رواية لابن خزيمة والبيهقي وغيرهما من رواية عائشة وغيرها أنّ النبي قال : إنّ ابن أمّ مكتوم ينادي بليل ، فكلوا واشربوا حتّى ينادي بلال .

قال البيهقي وابن خزيمة : إن صحت هذه الرواية فيجوز أن يكون بين ابن أم مكتوم وبلال نوب ، فكان بلال في نوبة يؤذن بليل ، وكان ابن أم مكتوم في نوبة يؤذن بليل .

٥٥
 &

قال : وإن لم تصحَّ رواية من روى تقديم أذان ابن أم مكتوم فقد صحّ خبر ابن عمر وابن مسعود وسمرة وعائشة أنّ بلالاً كان يؤذن بليل ، والله أعلم (١) . وبذلك يكون معنى كلامهم هو عدم نطق بلال بـ « الصلاة خير من النوم » في الأذان الشرعي للفجر ، لكنّ مدرسة الخلافة سَعَت أن تجعله هو الذي شرّع ذلك برأيه ، في حين قد خالفه في ذلك أبو بكر وعمر . فهم يجدّون أن يجعلوا هذه الجملة تقال في أذان الفجر لا في أذان الليل ، ومعنى كلامنا أنّ ما رووه في الأذان لا يُثْبت مدعاهم .

______________________

(١) المجموع ٣ : ٨٣ .

٥٦
 &

المذاهب الإسلاميّة والتثويب

التثويب عند الشافعية

للشافعي قولان : كرهه في (الأم) ، واستحبه في (مختصر البويطي) (١) والقديم .

فقال في (الأم) : ... ولا أحبّ التثويب في الصبح ولا غيرها ؛ لأنّ أبا محذورة لم يحكِ (٢) عن النبي أنّه أمره بالتثويب ، فأكره الزيادة في الأذان وأكره التثويب بعده (٣) .

وقال المزني في (مختصره) : ... قد قال في القديم : يزيد في أذان الصبح التثويب وهو : « الصلاة خير من النوم » (٤) مرّتين ، ووراه عن بلال مؤذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن

______________________

(١) هذا ما حكاه عنه الشيخ الطوسي في (الخلاف ١ : ٢٨٦) ، والمجموع ٣ : ١٠١ .

(٢) إنّ جملة الشافعي (لأنّ أبا محذورة لم يحكِ عن النبي أنّه أمره بالتثويب) لَتشير إلى تشكيك الشافعي في نسبة التثويب إلى رسول الله‏ وإن كان أبو محذورة قد فعله ، فيكون معنى كلامه أنّ تشريع التثويب لم يكن شرعياً لعدم انتساب الفعل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن فعل أبو محذورة ذلك ، لأنّ فعله ليس بملزم للآخرين ، وبذلك يكون التثويب عند الشافعي سيرة شُرِّعت من قبل اللاحقين ، لم تَرِد من قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والشافعي لا يرى ضرورة اتّباع ما لم يأمر به رسول الله ، ولم تثبت حكاية أبي محذورة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

(٣) الأُم ، للشافعي ١ : ٨٥ .

(٤) أجمل الشافعي مقصوده من التثويب ، لكن المزني جاء ووضحه بأنّه هو : « الصلاة خير من النوم » !! كما أنّ جملة (يزيد في أذان الصبح التثويب) تُفهَم انّ التثويب هي زيادة لم تكن في الأذان ، فلو كانت في جزء الأذان لم يقل (يزيد في أذان الصبح) .

٥٧
 &

علي عليه‌السلام (١) ، وكرهه في الجديد (٢) ، لأنّ أبا محذورة لم يحكه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال المزني : وقياس قوليه أنّ الزيادة أولى به في الأخبار (٣) ، كما أخذ في التشهد بالزيادة وفي دخول النبي البيت بزيادة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى فيه وترك من قال لم يفعل ... (٤)

______________________

(١) انفرد المزني بهذا القول ، فلم ينقل أحد من المحدّثين والعلماء عن الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام في تشريع التثويب رواية ، نعم ادعى ابن تيمية في (شرح العمدة ٤ : ١٠٩) بأنّ الشافعي رواه عن الإمام علي في القديم ، وكأن مستند كلامه قول المزني لا غير ، فافهم .

بلى توجد روايات عن بلال عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‏ في كتب السنن تشير إلى التثويب ، لكن طرقها ضعيفة حسبما ستقف عليه لاحقاً في الفصل الثاني من هذا الكتاب تحت عنوان : « الصلاة خير من النوم ، روايةٌ أم رأي » .

(٢) من الثابت عند جميع العقلاء فضلاً عن المسلمين هو الأخذ بالرأي الأخير للشخص حينما يُنقَل عنه قولان ، والشافعي نُقل عنه قولان في هذه المسألة ، في حين نرى الشافعية يخالفون هذه القاعدة العقلية والشرعية في عدة مسائل أخذوها من الإمام الشافعي ـ منها مسألة التثويب ـ فيرجّحون رأيه القديم على الجديد ، لماذا ؟ إنها مسألة تحتاج إلى بحث ودراسة !! أُنظر : فتاوى ابن الصلاح ١ : ٢٢٥ ، إعلام الموقّعين ٤ : ٢٣٩ .

(٣) هذا الكلام غير صحيح من المزني أيضاً ، لأنّ الشافعي صرح بكراهته للزيادة في الأذان والتثويب بعده ؛ لقوله « فأكره الزيادة في الأذان وأكره التثويب بعده » ، ومعنى كلامه هو ردّه على ثبوت هذه الزيادة عن رسول الله‏ أو عن أبي محذورة !! بل في كلامه ما يشير إلى وقوفه على خيوط خفيّة في هذا الأمر لا يريد البوح عنها ؛ لأن العدول عن رأي إلى رأي آخر لا يمكن تصوّره إلّا بعد تأنٍّ طويل واطمئنان راسخ .

وأما قوله « وقياس قوليه أن الزيادة أولى به في الأخبار ، كما أخذ في التشهد بالزيادة وفي دخول النبي البيت بزيادة ... » فهو غير صحيح أيضاً ، لأنّ الشافعي قال بالزيادة في تلك الموارد على أساس روايات كانت موجودة عنده دالة على ما ذهب إليه ، أما فيما نحن فيه فالأمر خلاف ذلك وحيث يختلف عنه اختلافاً جذريّاً .

(٤) مختصر المزني : ١٢ .

٥٨
 &

وقد فصّل الرافعي في (فتح العزيز) هذه المسألة وقال :

فيه قولان : ... القديم أنه يثوّب والجديد أنه لا يثوّب . والثاني : القطع بأنه يثوّب ، وبه قال مالك وأحمد لما روي عن بلال رضي الله عنه قال : قال رسول الله : لا تثوّبنّ في شيء من الصلاة إلّا في صلاة الفجر ... وإنما كرهه في الجديد معلّلاً بأن أبا محذورة لم يحكِه ، وقد ثبت عن أبي محذورة أنه قال : علّمني رسول الله الأذان وقال : إذا كنت في أذان الصبح فقلت « حي على الفلاح » فقل « الصلاة خير من النوم » مرتين . فيحتمل أنّه لم يبلغه عن أبي محذورة وبنى التثويب في القديم على رواية غيره (١) ، ويحتمل أنه بلغه في القديم ونسيه في الجديد ، وعلى كل حال فاعتماده في الجديد على خبر أبي محذوره وروايته فكأنه قال : مذهبي ما ثبت في حديثه (٢) .

وقال النووي في (المجموع) : وأمّا التثويب في الصبح ففيه طريقان : الصحيح الذي قطع به المصنف والجمهور أنه مسنون قطعاً لحديث أبي محذورة . والطريق الثاني فيه قولان :

أحدهما هذا (٣) وهو القديم ، ونقله أبو الطيب وصاحب الشامل عن نص

______________________

(١) سنثبت لاحقاً أنّ كلّ ما استدلوا به على شرعية « الصلاة خير من النوم » في أذان الصبح الشرعي ضعيف ، سواء في ذلك ما ورد عن بلال أو ما ورد عن أبي هريرة ، وحتى ما نُقل عن أبي محذورة ، فالذي يجوز قوله فيه هو : أنّ أولاد أبي محذورة وسعد القرظ هم الذين وضعوا هذه الأخبار ونسبوها إلى آبائهم ، أما ما انفرد به المزني عن الإمام علي فلم نعثر عليه في المعاجم الحديثية رغم تتبّعنا الكثير له .

(٢) فتح العزيز ٣ : ١٦٩ ـ ١٧١ .

(٣) أي ما حُكي عن الشافعي في القديم .

٥٩
 &

الشافعي في البويطي ، فيكون منصوصاً في القديم والجديد ، ونقله صاحب التتمة عن نص الشافعي في عامة كتبه .

والثاني وهو الجديد أنه يكره ، وممن قطع بطريقة القولين الدارمي ، وادّعى إمام الحرمين أنها أشهر ، والمذهب أنّه مشروع ، فعلى هذا هو سنة لو تركه صح الأذان وفاتته الفضيلة ، هكذا قطع به الأصحاب (١) .

وعليه فالسيرة جرت عند الشافعية على التأذين به في الفجر خاصة رغم رجوع الشافعي في الجديد عما كان يفتي به في القديم ، وهذا يدلّ على شيء ما ، يجب فتحه وبسط الكلام فيه .

التثويب عند الحنفية

قال محمّد بن الحسن الشيباني (ت ١٨٩ هـ) في كتاب (الآثار) : أخبرنا أبو حنيفة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، قال : سألته عن التثويب ، قال : هو مما أحدثه الناس ، وهو حسن مما أحدثوا . وذكر أنّ تثويبهم كان حين يفرغ المؤذن من أذانه : (الصلاة خير من النوم) ، قال محمد : وبه نأخذ وهو قول أبي حنيفة (٢) .

وقال في كتاب (الصلاة) ، قلت : أرأيت كيف التثويب في صلاة الفجر ؟ قال :

______________________

(١) المجموع للنووي ٣ : ١٠١ .

(٢) الآثار للشيباني ١ : ١٠١ / خ ٦٠ ، ولم يخرج هذا الخبر أبو يوسف في (آثاره) ، وقال الشيباني في (الجامع الصغير : ٨٣) : والتثويب في الفجر حيّ على الصلاة ، حيّ على الفلاح ، مرّتين بين الأذان والإقامة حسن ذِكرُه في سائر الصلوات ، فقال أبو يوسف : لا أرى بأساً أن يقول المؤذن : السلام عليك أيّها الأمير ورحمة الله وبركاته : حي ....

٦٠