بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٤

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي

بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٤

المؤلف:

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي


المحقق: محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٧

إليك وحيا من الله تعالى ، ومنه قوله : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)(١).

والإلقاء : طرح الشىء حيث تلقاه ، ثم استعمل فى كل طرح ، قال تعالى : (أَلْقِها يا مُوسى)(٢) ، وقال : (أَلْقِ عَصاكَ)(٣). ويقال : ألقيت إليك مودّة (٤) وكلاما وسلاما ، قال تعالى (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ)(٥). وتلقّيته منه : تلقّنته. ونهى عن تلقّى الرّكبان ، أى استقبالهم. وقوله تعالى : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)(٦) عبارة عن الإصغاء إليه. وقوله : (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ)(٧) تنبيه على ما دهمهم من التعجّب والدهشة التى جعلتهم فى حكم المضطرّين غير المختارين.

__________________

(١) الآية ٥ سورة المزمل.

(٢) الآية ١٩ سورة طه.

(٣) الآية ١٠ سورة النمل.

(٤) فى التاج بعده : «وبالمودة» ، وكان الأنسب أن يزيدها لتناسب الآية.

(٥) الآية ١ سورة الممتحنة.

(٦) الآية ٣٧ سورة ق.

(٧) الآية ١٢٠ سورة الأعراف.

٤٤١

١٦ ـ بصيرة فى لم ولم ولما

لمّ الشىء يلمّه : جمعه. ولمّ الله شعثه : قارب بين شتيت أمره. (١) ورجل ملمّ : يجمع القوم ، أو يجمع بين عشيرته. قال الله تعالى : (أَكْلاً لَمًّا)(٢) الأكل يلمّ الثريد. وألمّ به : نزل. ويزورنى لماما ، أى غبّا.

واللمم : مقاربة المعصية. ويعبر به عن الصغيرة. وقوله تعالى : (إِلَّا اللَّمَمَ)(٣) من قولك : ألممت بكذا ، أى نزلت به وقاربته من غير مواقعة. وغلام ملمّ : مراهق. والملمّة : النازلة. وألمّ بالأمر : لم يتعمّق فيه. وألمّ : باشر صغار الذنوب. وألمّ النخل : قارب الإرطاب.

لم : حرف جازم / ينفى المضارع ويقلبه ماضيا ، قال تعالى : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ)(٤). وقد يرتفع الفعل بعدها ؛ كقول الشاعر :

لو لا فوارس من نعم وإخوتهم

يوم الصّليفاء لم يوفون بالجار (٥)

وقيل : ضرورة. وقيل : بل لغة صحيحة لبعض العرب. وقال اللّحيانىّ : وقد ينصب الفعل بعدها. وهى لغة لبعض العرب :

فى أىّ يومىّ من الموت أفرّ

أيوم لم يقدر أم يوم قدر (٦)

ومنه قراءة بعضهم : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)(٧) ، وقيل : كان الأصل :

__________________

(١) فى القاموس : «أموره».

(٢) الآية ١٩ سورة الفجر.

(٣) الآية ٣٢ سورة النجم.

(٤) الآية ٣ سورة الاخلاص.

(٥) جامع الشواهد / ٢٥٥ ولم يسم قائله ـ الصليفاء : مع كانت به حرب ، والذى فى معجم البلدان : الصلعباء بالعين المهملة.

(٦) أول مقطوعة الحارث بن المنذر الجرمى ، وكان على كرم الله وجهه يتمثل به ، ونسبته إليه سهو. وانظر جامع الشواهد / ٢٠٣.

(٧) أول سورة الشرح.

٤٤٢

نشرحن فحذفت النون ؛ وليس بجيّد. وقد تفصل (لم) من مجزومها بالظرف لضرورة الشعر ؛ كقوله :

فذاك ولم إذا نحن امترينا

تكن فى الناس يدركك المراء (١)

وقول الآخر :

فأضحت مغانيها قفارا رسومها

كأن لم سوى أهل من الوحش تؤهل (٢)

وقد يليها الاسم معمولا لفعل محذوف يفسّره ما بعده ؛ كقوله ،

ظننت فقيرا ذا غنى ثم نلته

فلم ذا رجاء ألقه غير ذاهب (٣)

وأمّا لمّا فعلى ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تختص بالمضارع فتجزمه ، وتنفيه ، وتقلبه ماضيا ، كلم إلّا أنها تفارقها فى خمسة أمور :

١ ـ أنها لا تقترن بأداة شرط ، لا يقال : إن لمّا يقم. وفى التنزيل : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ)(٤) ، (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا)(٥) ، (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ)(٦).

٢ ـ أن منفيّها مستمرّ النفى إلى الحال ؛ كقول عثمان (٧) :

فإن كنت مأكولا فكن خير آكل

وإلّا فأدركنى ولمّا أمزّق

ومنفىّ لم يحتمل الاتّصال ؛ نحو قوله تعالى : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا)(٨) ، والانقطاع نحو قوله تعالى : (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً)(٩) ، ولهذا

__________________

(١) جامع الشواهد / ١٧٦ ولم يسم قائله.

(٢) البيت لذى الرمة انظر (ديوانه : ٥٠٦) وجامع الشواهد / ١٦٥.

(٣) جامع الشواهد / ١٥٠ ولم يسم قائله.

(٤) الآية ٦٧ سورة المائدة.

(٥) الآية ١٨ سورة يس.

(٦) الآية ٣٢ سورة يوسف.

(٧) هو من شعر الممزق العبدى. وقد تمثل به عثمان رضى الله عنه.

(٨) الآية ٤ سورة مريم

(٩) الآية ١ سورة الانسان

٤٤٣

جاز لم يكن ثمّ كان ، ولم يجز لمّا يكن [ثمّ كان. بل يقال : لمّا يكن (١)] وقد يكون.

٣ ـ منفىّ لمّا لا يكون إلّا قريبا من الحال ، ولا يشترط ذلك فى منفىّ لم ، تقول : لم يكن زيد فى العام الماضى مقيما ، ولا يجوز لمّا يكن.

٤ ـ أن منفىّ لمّا متوقّع ثبوته ، بخلاف منفىّ لم ؛ ألا ترى أن معنى (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ)(٢) أنهم لم يذوقوه إلى الآن ، وأنّ ذوقهم له متوقّع. ومثله قوله تعالى : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ)(٣) ، وقد آمنوا فيما بعد.

٥ ـ أن منفىّ لمّا جائز الحذف لدليل ؛ كقوله :

فجئت قبورهم بدءا ولمّا

وناديت القبور فلم يجبنه (٤)

أى ولما أكن بدءا قبل ذلك ، أى سيدا. ولا يجوز وصلت إلى بغداد ولم ، تريد : ولم أدخلها.

الثانى من أوجه لمّا : أن تختص بالماضى ؛ ويقال : لمّا حرف وجود لوجود ، وقيل : حرف وجوب لوجوب. وقيل : ظرف بمعنى حين ، وقيل : بمعنى إذ ، ويكون جوابها فعلا ماضيا اتّفاقا ، وجملة اسميّة مقرونة بإذا الفجائية ، أو بالفاء عند بعضهم ، وفعلا مضارعا عند بعضهم.

دليل الأوّل قوله تعالى : (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ)(٥) ودليل الثانى : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ)(٦) ودليل الثالث : (فَلَمَّا

__________________

(١) زيادة من المغنى فى مبحث لما

(٢) الآية ٨ سورة ص.

(٣) الآية ١٤ سورة الحجرات.

(٤) من قصيدة للمثقف العبدى ويقال : لغيره انظر جامع الشواهد / ١٧٥

(٥) الآية ٦٧ سورة الاسراء.

(٦) الآية ٦٥ سورة العنكبوت.

٤٤٤

نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ)(١) ، ودليل الرابع : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا)(٢) ، وهو مؤوّل بجادلنا.

وقيل فى آية الفاء : إن الجواب محذوف ، أى انقسموا قسمين. فمنهم مقتصد ، وفى آية المضارع : إن الجواب (جاءَتْهُ الْبُشْرى) على زيادة الواو ، أو الجواب محذوف ، أى أقبل يجادلنا.

الثالث : يكون حرف استثناء ، فيدخل على الجملة الاسميّة ، نحو : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ)(٣) فيمن شدّد الميم ؛ وعلى الماضى لفظا لا معنى ، نحو / أنشدك الله لمّا فعلت ، أى ما أسألك إلّا فعلك ، ومنه قوله تعالى : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ)(٤) قال الفرّاء : لمّا وضعت فى معنى إلّا ، فكأنها لم ضمّت إليها ما وصارا جميعا حرفا واحدا ، وخرجا من حدّ الجحد. قال الأزهرى : ومما يدلّ على أنّ لمّا يكون بمعنى إلّا مع إن التى تكون جحدا قول الله عزوجل : (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ)(٥) وهى قراءة قرّاء الأنصار ، وقال الفرّاء : وهى فى قراءة عبد الله (إن كلّهم لمّا كذّب الرسل) ، والمعنى واحد.

وتكون لمّا مركّبة من كلمات ومن كلمتين.

فأمّا المركّبة من كلمات فكما فى : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ)(٦) فى قراءة ابن عامر وحمزة وحفص بتشديد نون (إن) وميم (لمّا) فيمن قال : الأصل : لمن ما ، فأبدلت النون ميما ، وأدغمت ، فلمّا كثرت الميمات حذفت الأولى. وهذا القول ضعيف ؛ لأن حذف هذه الميم استثقالا لم يثبت.

__________________

(١) الآية ٣٢ سورة لقمان.

(٢) الآية ٧٤ سورة هود.

(٣) الآية ٤ سورة الطارق.

(٤) الآية ٣٢ سورة يس.

(٥) الآية ١٤ سورة ص.

(٦) الآية ١١١ سورة هود.

٤٤٥

وأضعف منه قول آخر : إن الأصل : لمّا بالتنوين بمعنى جمعا ، ثم حذف التنوين إجراء للوصل مجرى الوقف ؛ لأن استعمال لمّا فى هذا المعنى بعيد ، وحذف التنوين من المنصرف أبعد. وأضعف من هذا قول من قال : إنه فعلى من اللمّ وهو بمعناه ، ولكنه منع الصرف لألف التأنيث. ولم يثبت استعمال هذه اللفظة.

واختار ابن الحاجب أنها لمّا الجازمة حذف فعلها ، والتقدير : لمّا يهملوا ، أو لمّا يتركوا لدلالة ما تقدم من قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)(١) ، ثم ذكر الأشقياء والسعداء. وقيل : الأحسن أن يقدّر : لمّا يوفّوا أعمالهم ، أى إنهم إلى الآن لم يوفّوها وسيوفّونها.

وأمّا قراءة أبى بكر بتخفيف (إن) وتشديد (لمّا) فيحتمل وجهين : أحدهما : أن تكون مخففة من الثقيلة. والثانى : أن تكون (إن) نافية و (كلّا) مفعولا بإضمار أرى ، ولمّا بمعنى إلّا.

وأمّا قراءة النحويّين (٢) بتشديد النون وتخفيف الميم فواضحة.

وأمّا قراءة الحرميّين (٣) بتخفيفهما فإنّ الأولى (٤) على أصلها من التشديد ووجوب الإعمال ، وفى الثانية مخففة من الثقيلة ، وأعملت على أحد الوجهين. واللام من (لما) فيهما لام الابتداء.

وأمّا المركّبة من كلمتين فكقوله :

لمّا رأيت أبا يزيد مقاتلا

أدع القتال وأشهد الهيجاء

الأصل فيه : لن ثم أدغمت النون فى الميم للتقارب ، ووصلا خطأ للإلغاز ، وإنما حقها أن يكتبا منفصلين. والله أعلم.

__________________

(١) الآية ١٠٥ سورة هود.

(٢) هما أبو عمرو والكسائى كما فى الكتابة على المغنى.

(٣) هما نافع المدنى وابن كثير المكى.

(٤) هى قراءة النحويين ، وقد أنهى الكلام عليها بقوله «فواضحة» ، فما كان له أن يعود إلى الحديث عنها ولكنه ينقل عبارة المغنى ، ويزيد فيها ما يضر بالسياق.

٤٤٦

١٧ ـ بصيرة فى لو

وهى حرف شرط للماضى. ويقلّ فى المستقبل. وقال سيبويه : حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. وقال غيره : حرف امتناع لامتناع. وقيل : لمجرّد الربط. وقيل : الصحيح أنه فى الماضى لامتناع ما يليه ، واستلزام تاليه ، ثم ينتفى الثانى إن ناسب ولم يخلف (١) المقدّم غيره ، نحو : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(٢) ؛ لا إن خلفه ؛ نحو : لو كان إنسانا لكان حيوانا. ويثبت إن لم يناف وناسب بالأولى ، كلو لم يخف لم يعص ، أو المساوى (٣) : كلو لم تكن (٤) ربيبته لما حلّت للرضاع ، أو الأدون ؛ كقولك : لو انتفت أخوّة النّسب لما حلّت للرضاع.

وترد للتمنّى والعرض ، والتقليل ، نحو : ولو بظلف محرق (٥).

وتكون مصدريّة بمنزلة أن ، إلّا أنها / لا تنصب ، نحو قوله تعالى : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ)(٦) ، وقوله تعالى : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ)(٧).

وقد ورد بمعنى إن ، نحو قوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ)(٨) ، وقوله تعالى (لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ

__________________

(١) أى لم يكن للتالى سبب غير المقدم.

(٢) الآية ٢٢ سورة الأنبياء.

(٣) فى الأصلين : «المساواة» والمناسب ما أثبت.

(٤) هذا من حديث قاله النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى زينب بنت أبى سلمة وكانت ربيبته فإنها بنت زوجه أم سلمة رضى الله عنها ، وكان النساء تكلمن أن الرسول عليه الصلاة والسّلام سيتزوجها. وانظر الكتابة على المغنى فى مبحث لو.

(٥) قبله : «تصدقوا» ، والظلف من الشاء والبقر كالظفر من الانسان.

(٦) الآية ٩ سورة القلم.

(٧) الآية ٩٦ سورة البقرة.

(٨) الآية ١٧ سورة يوسف.

٤٤٧

كَثْرَةُ الْخَبِيثِ)(١) ، (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ)(٢) ، ولو جاء (٣) على فرس. وقول الشاعر (٤) :

قوم إذا حاربوا شدّوا مآزرهم

دون النساء ولو باتت بأطهار

وقولنا : لو شرط للماضى معناه أن لو يفيد عقد السببيّة والمسبّبية بين الجملتين بعدها ، وبهذا يجامع إنّ الشرطية ؛ وبتقييد الشرط بالماضى يفارق إن ، فإنها للمستقبل. ومع تنصيص النحاة على قلة ورود لو للمستقبل فإنهم أوردوا لها أمثلة ، منها قوله :

ولو تلتقى أصداؤنا بعد موتنا

ومن دون رمسينا من الأرض سبسب (٥)

لظلّ صدى صوتى وإن كنت رمّة

لصوت صدى ليلى يهش ويطرب

وقول توبة ابن الحمير :

ولو أنّ ليلى الأخيليّة سلّمت

علىّ ودونى جندل وصفائح (٦)

لسلّمت تسليم البشاشة أوزقا

إليها صدى من جانب القبر صائح

وقول الآخر :

لا يلفك الراجوك إلّا مظهرا

خلق الكرام ولو تكون عديما (٧)

وقد أكثر الخائضون القول فى لو الامتناعية. وعبارة سيبويه مقتضية أن التالى فيها كان بتقدير وقوع المقدّم قريب الوقوع ؛ لإتيانه بالسين فى قوله : سيقع. وأمّا عبارة المعربين : أنها حرف امتناع لامتناع فقد ردّها

__________________

(١) الآية ١٠٠ سورة المائدة.

(٢) الآية ٥٢ سورة الأحزاب.

(٣) هو من حديث. وقبله : أعطوا السائل. وقد جاء فى الجامع الصغير مرويا عن ابن عدى بأسناد ضعيف.

(٤) أى الأخطل فى مدح بنى أمية.

(٥) البيتان لأبى صخر الهذلى : (شرح أشعار الهذليين / ٩٣٨)

(٦) اللئالي / ١٢٠ وانظر جامع الشواهد / ٣٢٨

(٧) جامع الشواهد / ٢٣٦ ولم يسم قائله.

٤٤٨

جماعة من مشايخنا المحقّقين ، قالوا : دعوى دلالتها على الامتناع مطلقا منقوضة بما لا قبل به. ثم نقضوا بمثل قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ)(١) ، قالوا : فلو كانت حرف امتناع لامتناع لزم نفاد الكلمات مع عدم كون كل ما فى الأرض من شجرة أقلاما تكتب الكلمات ، وكون البحر الأعظم بمنزلة الدواة ، وكون السبعة الأبحر مملوءات مدادا وهى تمد ذلك البحر ؛ وقول عمر رضى الله عنه : نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه. قالوا. فيلزم ثبوت المعصية مع ثبوت الخوف ، وهو عكس المراد.

ثم اضطربت عباراتهم. وكان أقربها إلى التحقيق كلام شيخنا أبى الحسن بن عبد الكافى ، فإنه قال : تتبّعت مواقع (لو) من الكتاب العزيز ، والكلام الفصيح ، فوجدت المستمرّ فيها انتفاء الأوّل وكون وجوده لو فرض مستلزما لوجود الثانى. وأمّا الثانى فإن كان الترتيب بينه وبين الأوّل مناسبا ولم يخلف الأوّل غيره فالثانى منتف فى هذه الصورة ؛ كقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(٢) ، وكقول القائل : لو جئتنى لأكرمتك. لكن المقصود الأعظم فى المثال الأوّل نفى الشرط ردّا على من ادّعاه ، وفى المثال الثانى أن الموجب لانتفاء الثانى هو انتفاء الأوّل لا غير. وإن لم يكن الترتيب بين الأول والثانى مناسبا لم يدلّ على انتفاء الثانى ، بل على وجوده من باب الأولى ، مثل : نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه ، فإن المعصية منفيّة عند عدم الخوف. فعند الخوف أولى

__________________

(١) الآية ٢٧ سورة لقمان.

(٢) الآية ٢٢ سورة الأنبياء.

٤٤٩

وإن كان الترتيب مناسبا ولكن الأول عند انتفائه شىء آخر يخلفه بما / يقتضى وجود الثانى [فالثانى غير منتف (١)] ، كقولنا : لو كان إنسانا لكان حيوانا ؛ فإنه عند انتفاء الإنسانية قد يخلفها غيرها ممّا يقتضى وجود الحيوانيّة. وهذا ميزان مستقيم مطّرد حيث وردت لو وفيها معنى الامتناع.

وقال بعض العصريّين ممن يودّ تصحيح عبارة سيبويه وترجيحها : مدلول لو الشرطيّة امتناع التالى لامتناع المقدّم مطلقا. وهذا هو المفهوم من قوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ)(٢) ، فالمعنى والله أعلم ـ ولكن حق القول فلم أشأ ، أو لم أشأ فحقّ القول : (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ)(٣) ، أى فلم يريكموهم (٤) لذلك. (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ)(٥) ، (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ)(٦) ، (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ)(٧) ، (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ)(٨) ، (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ)(٩) ، (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً

__________________

(١) زيادة يقتضيها المقام.

(٢) الآية ١٣ سورة السجدة.

(٣) الآية ٤٣ سورة الأنفال.

(٤) وردت العبارة هكذا فى المغنى (لو) ، والواجب فى النحو «يركموهم» ولها تخريج فى الحواشى.

(٥) الآية ١٧٦ سورة الأعراف.

(٦) لا مكان لهذه الآية هنا فإن الكلام فى (لو) لا فى لو لا.

(٧) الآية ٢٥٣ سورة البقرة.

(٨) الآية ٤٨ سورة المائدة.

(٩) الآية ٨١ سورة المائدة.

٤٥٠

ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ)(١) ، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٢) ، (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً)(٣) ، (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ)(٤) ، (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ)(٥) ، (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ)(٦) ، (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى)(٧) ، (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ)(٨)(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى)(٩) وغير ذلك من الآيات. وفى الحديث (١٠) : «لو كنت متّخذا [من أمّتى خليلا (١١)] لاتّخذت أبا بكر خليلا ، ولكن أخى وصاحبى». وفى رواية : ولكن أخوّة الإسلام ، «ولو يعطى الناس بدعواهم لادّعى رجال دماء قوم وأموالهم ، لكن البيّنة على المدّعى واليمين على من أنكر (١٢)». وقال امرؤ القيس :

__________________

(١) الآية ١١١ سورة الأنعام.

(٢) الآية ٩٦ سورة الأعراف.

(٣) الآية ٤٢ سورة الأنفال.

(٤) الآية ٦٣ سورة الأنفال.

(٥) الآية ٤٢ سورة التوبة.

(٦) الآية ٤٦ سورة التوبة.

(٧) الآية ٦١ سورة النحل.

(٨) الآية ٩٣ سورة النحل.

(٩) الآية ٤٥ سورة فاطر.

(١٠) ورد فى الجامع الصغير عن مسند الامام أحمد والبخارى.

(١١) زيادة من الجامع الصغير.

(١٢) ورد فى الجامع الصغير عن المسند للامام أحمد والصحيحين.

٤٥١

ولو أنّما أسعى لأدنى معيشة

كفانى ولم أطلب قليل من المال

ولكنّما أسعى لمجد مؤثّل

وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالى (١)

وقال طرفة بن العبد :

فلو كان مولاى امرأ هو غيره

لفرّج كربى أو لأنظرنى غدى (٢)

ولكنّ مولاى امرؤ هو خانقى

على الشكر والتسآل أو أنا مفتد

وقال قريط بن أنيف العنبرىّ :

لو كنت من مازن لم تستبح إبلى

بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

لكنّ قومى وإن كانوا ذوى عدد

ليسوا من الشرّ فى شىء وإن هانا

هكذا وقع فى جمهور نسخ الحماسة. والصواب : بنو الشقيقة. والنسخ / محرّفة. وقال آخر :

رأين فتى لا صيد وحش يهمّه

فلو صافحت إنسا لصافحنه معا

ولكنّ أرباب المخاض يشفّهم

إذا اقتفروه واحدا أو مشيّعا (٣)

وقال آخر :

ولو خفت أنى إن كففت تحيتى

تنكّبت عنى رمت أن تتنكبا

ولكن إذا ما حلّ كره فسامحت

به النفس يوما كان للكره أذهبا

وقال آخر (٤) :

فلو كان حمد يخلد الناس لم تمت

ولكنّ حمد الناس ليس بمخلد

__________________

(١) انظر ديوانه ٣٩.

(٢) المولى هنا ابن العم. وقوله : غيره ، أى غير ابن عمه مالك المذكور فى بيت سابق ، والبيتان من معلقته.

(٣) يشفهم : يحزنهم. واقتفروه : تتبعوه. ومشيعا : معه أعوان. وكأنه يصف نفسه أنه لص إبل. والمخاض : النوق الحوامل.

(٤) هو زهير من قصيدة فى مدح هرم بن سنان. وانظر الديوان ٢٣٦.

٤٥٢

فهذه الأماكن وأمثالها صريحة فى أنها للامتناع ، لأنها عقّبت بحرف الاستدراك داخلا على فعل الشرط منفيّا لفظا أو معنى ، فهى بمنزلة : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى)(١). فإذا كانت دالّة على الامتناع ويصحّ تعقيبها بحرف الاستدراك دلّ على أن ذلك عامّ فى جميع مواردها ، وإلّا يلزم الاشتراك ، وعدم صحّة تعقيبها بالاستدراك. وذلك ظاهر كلام سيبويه ، فلم يخرج عنه.

وأمّا قول من قال : إنه ينتقض كونه للامتناع بقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ)(٢) الآية ، وبالأثر العمرىّ (٣) : لو لم يخف ، وبقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لم تكن ربيبتى فى حجرى لما حلّت لى» فإنه يمكن ردّ جميع ذلك إلى الامتناع. وإيضاح ذلك بأن تقول : إذا قلنا : امتنع طلوع الشمس لوجود الليل فليس معناه انتفاء طلوع الشمس رأسا بل انتفاؤه لوجود الليل. وفرق بين انتفائه لذلك وانتفائه المطلق ، فإن الأوّل أخصّ من الثانى. ولا يلزم من ارتفاع الخاص ارتفاع العام. فاذا قلنا : لو حرف امتناع لامتناع كان المعنىّ به أن التالى يمتنع امتناعا مضافا إلى امتناع المقدّم. وليس المعنىّ به أنه يمتنع مطلقا. وإذا قلت فيمن قيل لك انتقض وضوءه لأنه مسّ ذكره : لم ينتقض لأنه مسّ ، فإنه لم يمسّ ، ولكن لناقض آخر غير المسّ ، صحّ ؛ ولذلك لك أن تقول : لم ينتقض لأنه لم يمسّ. كلّ هذا كلام صحيح ، وإن كان وضوءه منتقضا عندك بناقض آخر ؛ فإن حاصل كلامك أن الانتقاض

__________________

(١) الآية ١٧ سورة الأنفال.

(٢) الآية ٢٧ سورة لقمان.

(٣) أى المروى عن عمر رضى الله عنه.

٤٥٣

بالنسبة إلى المسّ لم يحصل ، ولا يلزم من ذلك انتفاء أصل الانتقاض ، فإنما يلزم مطلقا الامتناع فى لو الشرطية لو قلنا : إن مقتضاه الامتناع مطلقا ، ونحن لم نقل ذلك ، وإنما قلنا : يقتضى امتناعا منكّرا لامتناع منكّر ، فالمنفىّ خاصّ لا عامّ.

إذا عرفت هذا فنقول : قد يؤتى بلو مسلّطة على ما يحسب العقل كونه إذا وجد مقتضيا لوجود شىء آخر ، مرادا بها أن ذلك لا يلزم تحقيقا لاستحالة وجود ذلك الشىء الآخر الذى ظنّ أنه يوجد عند وجود ما يحسبه العقل مقتضيا ؛ كما تقول لعابد الشمس : لو عبدتها ألف سنة ما أغنت عنك من الله شيئا ، فإن مرادك أن عبادتها لا تغنى. وفى الحقيقة الازدياد من عبادتها ازدياد من عدم الإغناء ، ولكن لمّا كان الكلام خطابا لمن يعتقدها مغنية حسن إخراجه فى هذا القالب. وكذلك تقول للسائل إذا أحكمت أمر منعه : لو تضرعت إلىّ بألف شفيع ما قضيت لك سؤلا. ولذلك إذا [كان (١)] بصيغة إن الشرطيّة لم يكن له مفهوم عند المعترفين بمفهوم الشرط ؛ كما فى قوله تعالى : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ / مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ)(٢) ، لأن المراد قطع الإياس (٣). والإتيان بصيغة لو فيما ضربناه مثلا لتحقّق الامتناع لا لمقابله.

وأمّا ما أوردوه نقضا ، وأنه يلزم نفاد الكلمات عند انتفاء كون ما فى الأرض من شجرة أقلاما ، وهو الواقع ؛ فيلزم النفاد وهو مستحيل ؛ فالجواب أن النفاد إنما يلزم انتفاؤه (٤) لو كان المقدّم ممّا لا يتصور العقل أنه

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

(٢) الآية ٨٠ سورة التوبة.

(٣) كذا ، وكأن الأولى : قطع الأمل إلا أن يكون المراد : الاياس المقطوع به.

(٤) كذا. وكأن الصواب حذف هذه العبارة.

٤٥٤

مقتض للانتفاء. أما إذا كان ممّا قد يتصوّره العقل مقتضيا فألّا يلزم عند انتفائه أولى وأحرى. وهذا لأن الحكم إذا كان لا يوجد مع وجود المقتضى فألّا يوجد عند انتفائه أولى. فمعنى (لو) فى الآية أنه لو وجد الحكم المقتضى لما وجد الحكم ، لكن لم يوجد فكيف يوجد. وليس المعنى : لكن لم يوجد فوجد ؛ لامتناع وجود الحكم بلا مقتض.

فالحاصل أن ثمّ أمرين : أحدهما : امتناع الحكم لامتناع المقتضى. وهو مقرر فى بدائه العقول ؛ وثانيهما : وجوده عند وجوده ، وهو الذى أتت (لو) للتنبيه على انتفائه مبالغة فى الامتناع. فلو لا تمكّنها فى الدلالة على الامتناع مطلقا لما أتى بها. فمن زعم أنها والحالة هذه لا تدل عليه فقد عكس ما يقصده العرب بها ، فإنها إنما تأتى بلو هنا للمبالغة فى الدلالة على الانتفاء ؛ لما للو من التمكّن فى الامتناع.

فإذا تبين هذا أنقله إلى الأثر وغيره ، فنقول : لو لم يخف الله لم يعصه لما عنده من إجلال الله تعالى والخشية ، وإذا لم يخف يكون المانع واحدا وهو الإجلال. فالمعصية منتفية على التقديرين ، وجىء بلو تنبيها على الامتناع بالطريقة التى قدّمناها لا على مطلق الامتناع.

فإن قلت : قوله لو لم يخف لم يعص إذا جعلنا لو للامتناع صريح فى وجود المعصية ، مستندا إلى وجود الخوف ، وهذا لا يقبله العقل. قلنا : المعنى : لو انتفى خوفه انتفى عصيانه ، لكن لم ينتف خوفه فلم ينتف عصيانه مستندا إلى أمر وراء الخوف.

٤٥٥

وأما قوله : ترد للتمنّى فشاهده قوله تعالى : (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً)(١) ، أى فليت لنا كرّة ؛ ولهذا نصب (فيكون) فى جوابها ، كما انتصب (فَأَفُوزَ) فى جواب كنت فى قوله تعالى : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً)(٢).

وأما العرض فمثاله : لو تنزل عندنا فتصيب خيرا.

وأما التقليل فذكره بعض النحاة ؛ وكثر استعمال الفقهاء له ، وشاهده قوله تعالى : (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ)(٣) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أو لم ولو بشاة» ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتّقوا النار ولو بشق تمرة» ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «التمس ولو خاتما من حديد» ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تصدّقوا ولو بظلف محرق».

وقد يسأل عن قوله تعالى (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا)(٤) ، ويقال : إن الجملتين يتركّب منهما قياس وحينئذ ينتج : لو علم الله فيهم لتولّوا وهذا مستحيل.

الجواب أن التقدير : لأسمعهم إسماعا نافعا ، ولو أسمعهم إسماعا غير نافع لتولّوا.

جواب ثان : أن يقدّر ولو أسمعهم على تقدير عدم علم الخير فيهم.

جواب ثالث : أن التقدير : ولو علم الله فيهم خيرا وقتاما لتولّوا بعد ذلك.

__________________

(١) الآية ١٠٢ سورة الشعراء.

(٢) الآية ٧٣ سورة النساء.

(٣) الآية ١٣٥ سورة النساء.

(٤) الآية ٢٣ سورة الأنفال.

٤٥٦

قال الشيخ أثير الدين : (١) وقد ركّب أبو (٢) العبّاس بن مريسج ما دخلت عليه لو تركيبا غريبا غير عربىّ فقال :

ولو كلّما / كلب عوى ملت نحوه

أجاوبه إنّ الكلاب كثير

ولكن مبالاتى بمن صاح أو عوى

قليل فإنّى بالكلاب بصير (٣)

__________________

(١) هو أبو حيان محمد بن يوسف.

(٢) هو أحمد بن عمر من أئمة الشافعية. وانظر ترجمته فى طبقات الشافعية ٢ / ٨٧.

(٣) انظر فى هذين البيتين طبقات الشافعية ٢ / ٩٠.

٤٥٧

١٨ ـ بصيرة فى لو لا

وهى على أربعة أوجه :

أحدها : أن تدخل على اسمية (١) ففعليّة لربط امتناع الثانية بوجود الأولى ، نحو : لو لا زيد لأكرمتك ، أى لو لا زيد موجود. وأمّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا أن أشقّ على أمّتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة (٢)» ، فالتقدير : لو لا مخافة أن أشق لأمرتهم أمر إيجاب ، وإلّا لا نعكس معناها ؛ إذ الممتنع المشقّة والموجود الأمر. والمرفوع بعد لو لا مبتدأ ، والخبر يكون كونا مطلقا.

الثانى : يكون للتحضيض والعرض ، فيختص بالمضارع أو ما فى تأويله ؛ نحو : (لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ)(٣) ونحو : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ)(٤) والفرق بينهما أن التحضيض طلب بحثّ ، والعرض طلب برفق وتأدّب.

الثالث : أن تكون للتوبيخ والتنديم ، فتختصّ بالماضى ؛ نحو قوله تعالى : (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ)(٥) ، (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً)(٦) ، ومنه : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ)(٧) ، الّا أن الفعل أخّر ، وقوله :

__________________

(١) أى جملة اسمية.

(٢) أخرجه الشيخان وغيرهما ، كما فى تيسير الوصول فى سنن الوضوء من كتاب الطهارة.

(٣) الآية ٤٦ سورة النمل.

(٤) الآية ١٠ سورة المنافقين.

(٥) الآية ١٣ سورة النور.

(٦) الآية ٢٨ سورة الأحقاف.

(٧) الآية ١٦ سورة النور.

٤٥٨

تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم

بنى ضوطرى لو لا الكمىّ المقنّعا (١)

إلّا أن الفعل أضمر ، أى لو لا عددتم.

وقد فصلت من الفعل بإذ وإذا معمولين له ، وبجملة شرط معترضة. فالأول نحو : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ)(٢) ، (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا)(٣) ، والثانى والثالث : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها)(٤) ، المعنى : فهلّا ترجعون الروح إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مربوبين وحالتكم أنكم تشاهدون ذلك. ولو لا الثانية تكرار للأولى.

الرابع : الاستفهام ؛ نحو : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) ، (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ)(٥) هكذا مثّلوا. والظاهر أن الأولى للعرض ، والثانية مثل : (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ)(٦).

وذكر بعضهم قسما خامسا وهو : أنها تكون نافية بمعنى لم ، وجعل منه : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ)(٧) ، والظاهر أن المعنى على التوبيخ ، أى فهلّا كانت قرية واحدة من القرى المهلكة تابت عن الكفر قبل مجىء العذاب فنفعها ذلك ؛ وهو تفسير الأخفش والكسائىّ والفرّاء وعلى بن عيسى والنحاس. ويؤيده قراءة أبى وعبد الله (٨) ؛ (فهلّا) ، ويلزم من هذا المعنى النفى ؛ لأن التوبيخ يقتضى عدم الوقوع.

__________________

(١) من قصيدة لجرير فى هجاء الفرزدق. وكان غالب أبو الفرزدق نحر إبلا كثيرة فى مفاخرة بيته وبين سحيم بن وثيل الرياحى والضوطرى الحمقى. والكمى المقنع : الشجاع المغطى بسلاحه. وانظر الديوان ٢٦٥.

(٢) الآية ١٦ سورة النور.

(٣) الآية ٤٣ سورة الأنعام.

(٤) الآيات ٨٣ ـ ٨٧ سورة الواقعة.

(٥) الآية ٨ سورة الأنعام.

(٦) الآية ١٣ سورة النور

(٧) الآية ٩٨ سورة يونس.

(٨) هو ابن مسعود.

٤٥٩

وذكر الزمخشرى فى قوله تعالى : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) : لكنه جىء بلو لا ليفاد أنهم لم يكن لهم عذر فى ترك التضرع ، إلّا عنادهم وقسوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التى زيّنها الشيطان لهم. وقول القائل (١) :

ألا زعمت أسماء أن لا أحبّها

فقلت بلى لو لا ينازعنى شغلى

قيل : إنها الامتناعية ، والفعل بعدها على إضمار أن ، على حدّ قولهم : تسمع بالمعيدىّ خير من أن تراه. وقيل : ليس من أقسام لو لا ، قيل : هما كلمتان بمنزلة قولك : لو لم ، والجواب محذوف ، أى لو لم ينازعنى شغلى لزرتك.

و (لو ما) بمعنى لو لا تقول : لو ما زيد لأكرمتك ، ومنه قوله تعالى : (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ)(٢) : وزعم بعضهم أن لو ما لا يستعمل إلا للتحضيض. والله أعلم.

__________________

(١) هو أبو ذؤيب الهذلى. وانظر ديوان الهذليين ١ / ٣٤.

(٢) الآية ٧ سورة الحجر.

٤٦٠