بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٤

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي

بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٤

المؤلف:

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي


المحقق: محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٧

١٠ ـ بصيرة فى كر وكرب وكرس

الكرّة : المرّة ، والجمع : الكرّات ، قال تعالى : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ)(١) وأصل الكرّ العطف على الشىء بالذات أو بالفعل ، ويقال للحبل يصعد به على النخلة. والكرّ أيضا : حبل الشراع ، وهو فى الأصل مصدر ، وصار اسما ، وجمعه كرور.

كربه الأمر : إذا اشتد عليه ، كربا بالفتح ، وكربة بالضمّ ، وهما الغمّ الّذى يأخذ بالنفس. وأصل ذلك من كرب الأرض ، وهو قلبها بالحفر. فالغمّ يفعل بالنفس مثل ذلك الفعل. قيل : ويصحّ أن يكون من كربت الشمس : إذا دنت للغروب ، فإنّها تصفرّ وتضعف ، أو من كربت حياة النار ، أى قرب انطفاؤها ، قال عبد القيس بن خفاف.

أجبيل إن أباك كارب يومه

فإذا دعيت إلى العظائم فاعجل (٢)

أى قرب أجله. وكرب أن يفعل كذا ، أى كاد. وكربت القيد : ضيّقته على المقيّد. قال عبد الله بن عنمة.

فازجر حمارك لا يرتع بروضتنا

إذا يردّ وقيد العير مكروب (٣)

الكرس ـ بالكسر ـ أبيات مجتمعة من النّاس ، والجمع : أكراس ،

__________________

(١) الآية ٦ سورة الاسراء

(٢) من قصيدة فى المفضليات : ٢ / ١٨٤ وانظر اللسان (كرر) وفيه «أبنى» فى مكان «أجبيل»

(٣) من قطعة فى المفضليات : ٢ / ١٨٣ وانظر الخزانة ٣ / ٥٧٦

٣٤١

أو كارس (١) وأكاريس. ابن دريد : الأكارس : الجماعات من النّاس ، لا واحد لها من لفظها ، أبو عمرو : واحدها كرس (٢). والكرس أيضا : الأصل

والكرسىّ فى تعارف العامة : اسم لما يقعد عليه. وهو فى الأصل منسوب إلى الكرس (٣) أى الشىء المجتمع ، ومنه الكرّاسة للمتكرّس من الأوراق. وقوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ)(٤) روى عن ابن عبّاس رضى الله عنهما أنه قال : الكرسىّ العلم ، وبه سمّيت الكرّاسة لما يكتب فيها من العلم. وقيل : كرسيّه : أصل ملكه. وقيل : الكرسىّ اسم الفلك المحيط بالأفلاك كلّها ، ويشهد لذلك ما روى : ما السّماوات السّبع فى الكرسىّ إلّا كحلقة ملقاة فى فلاة. والكرسىّ ـ بالكسر ـ لغة صحيحة فى المضمومة (٥) ، وقرأ طاوس (وسع كِرسيه) بالكسر ، وهى لغة فى جميع هذا الوزن نحو سخرىّ ودرّىّ. ومن قال (وسع كرسيه) أى علمه قال : إنّه مأخوذ من قولهم : كرس الرجل ـ بالكسر ـ إذا ازدحم علمه على قلبه. والكراسىّ : العلماء. وقيل كرسيّه : أصل ملكه ، قال العجّاج.

قد علم القدّوس مولى القدس

أنّ أبا العبّاس أولى نفس (٦)

بمعدن الملك القديم الكرس

فروعه وأصله المرسّى (٧)

__________________

(١) الذى فى القاموس أن أكارس وأكاريس جمع أكراس فهو جمع الجمع. وفى اللسان أن جمع أكراس أكاريس ، وأما أكارس فجاء فى شعر

(٢) الذى فى التاج : «واحدها كرس وأكراس ثم أكاريس»

(٣) كأن الضم فى الكرسى على هذا من تغييرات النسب

(٤) الآية ٢٥٥ سورة البقرة

(٥) فى الأصلين : «المفتوحة»

(٦) اللسان (كرس) وانظر ديوانه : ٧٨ (ق / ٢٢ : ٢٩ ـ ٣٢)

(٧) المرسى : الثابت

٣٤٢

١١ ـ بصيرة فى كرم

الكرم ضدّ اللّؤم. كرم ـ بالضمّ ـ كرامة وكرما وكرمة ـ محرّكتين ـ فهو كريم وكريمة وكرمة ـ بالكسر ـ ومكرم ومكرمة وكرام وكرّام وكرّامة ، والجمع : كرماء وكرام وكرائم. وجمع الكرّام : كرّامون. ورجل كرم ـ محركة ـ أى كريم ، يستوى فيه الواحد والجمع. ويا مكرمان للكريم الواسع الخلق. وأكرمه وكرّمه : عظّمه ونزّهه. واختلفوا فى معنى الكريم على ثلاثين قولا ذكرناها فى غير هذا الموضوع.

والكرم إذا وصف الله به فهو اسم لإحسانه وإنعامه ، وإذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة / الّتى تظهر منه ، ولا يقال : هو كريم حتّى يظهر منه ذلك. قال بعض العلماء : الكرم كالحرّية إلّا أنّ الحرّية قد تقال فى المحاسن الصّغيرة والكبيرة ، والكرم لا يقال إلّا فى الكبيرة ؛ كإنفاق مال فى تجهيز جيش الغزاة ، وتحمّل حمالة (١) ترقأ (٢) بها دماء قوم.

وقوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)(٣) إنما كان كذلك لأنّ الكرم الأفعال المحمودة ، وأكرمها ما يقصد به أشرف الوجوه ، وأشرف الوجوه ما يقصد به وجه الله ، فمن قصد بها ذلك فهو التّقىّ. فإذا أكرم

__________________

(١) الحمالة : الدية يحملها قوم عن قوم.

(٢) أى تسكن ، ويكف أولياؤها عن الأخذ بالثأر. يقال : رقأ الدمع : سكن وجف

(٣) الآية ١٣ سورة الحجرات

٣٤٣

النّاس أتقاهم. وكل شىء يشرف فى بابه وصف بالكريم ، نحو قوله تعالى : (أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)(١) ، (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)(٢).

وأرض مكرمة وكرم وكريمة : طيّبة. والكريمان : الحجّ والجهاد. والإكرام والتكريم : أن يوصل إلى الإنسان نفع (٣) لا تلحقه فيه غضاضة ، أو يوصل إليه شىء شريف. وقوله تعالى : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ)(٤) ، أى جعلهم كراما. قال الشاعر :

إذا ما أهان امرؤ نفسه

فلا أكرم الله من أكرمه

وقيل ، وردت هذه المادّة فى القرآن على اثنى عشر وجها :

١ ـ بمعنى الأشرف والأفضل : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)(٥).

٢ ـ بمعنى العزيز العظيم : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(٦).

٣ ـ بمعنى المزيّن المحسّن : (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً)(٧) ، (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)(٨) ، أى حسن.

٤ ـ بمعنى العجيب الغريب : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ)(٩).

٥ ـ بمعنى المنظوم المعجز : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)(١٠) ، أى معجز فى النظم.

٦ ـ بمعنى الذليل المهين على سبيل التهكم : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)(١١) ، أى الذليل المهين.

٧ ـ بمعنى جبريل : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)(١٢).

__________________

(١) الآية ٧ سورة الشعراء

(٢) الآية ٧٧ سورة الواقعة

(٣) فى الأصلين : «بنفع» ، والمناسب ما أثبت

(٤) الآية ٢٦ سورة الأنبياء

(٥) الآية ١٣ سورة الحجرات

(٦) الآية ٧٤ سورة الأنفال

(٧) الآية ٣١ سورة النساء

(٨) الآية ١٠ سورة لقمان

(٩) الآية ٢٩ سورة النمل

(١٠) الآية ٧٧ سورة الواقعة

(١١) الآية ٤٩ سورة الدخان

(١٢) الآية ١٩ سورة التكوير

٣٤٤

٨ ـ بمعنى ملائكة الملكوت : (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ)(١).

٩ ـ بمعنى الملائكة الموكّلين ببنى آدم : (كِراماً كاتِبِينَ)(٢).

١٠ ـ بمعنى بنى آدم : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ)(٣).

١١ ـ بمعنى يوسف الصّديق : (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)(٤). وفى الحديث «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف

بن يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم».

١٢ ـ بمعنى العظيم الغفار التوّاب : (فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)(٥) ، (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)(٦).

__________________

(١) الآيتان ١٥ ، ١٦ سورة عبس

(٢) الآية ١١ سورة الانفطار

(٣) الآية ٧٠ سورة الاسراء

(٤) الآية ٣١ سورة يوسف

(٥) الآية ٤٠ سورة النمل

(٦) الآية ٦ سورة الانفطار

٣٤٥

١٢ ـ بصيرة فى كره

الكره والكره ـ بالفتح والضمّ ـ : الإباء ، والمشقّة. وقيل : الكره ـ بالضمّ ـ : ما أكرهت نفسك عليه ، والكره ـ بالفتح ـ : ما أكرهوك عليه. كرهه ـ بالكسر ـ كرها وكرها وكراهة وكراهية ـ بالتخفيف ـ ومكرهة ومكرها. وشىء كره وكريه أى مكروه. وكرّهه إليه : صيّره كريها.

وقيل : الكره على ضربين : أحدهما : ما يعافه (من حيث) (١) الطّبع ، والثانى : ما يعافه من حيث العقل والشرع. ولهذا يصحّ أن يقال فى الشىء الواحد : أريده وأكرهه (٢) ، قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ)(٣) أى تكرهونه طبعا ، ثم قال : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وبيّن به أنه لا يجب للإنسان أن يعتبر كراهيته للشىء أو محبّته له حتّى يعلم حاله. وقوله : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ)(٤) تنبيه أن أكل لحم الأخ شىء قد جبل الطّبع على كراهته له ، وإن تحرّاه الإنسان. وقوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ)(٥) نهى عن حملهن على ما فيه كره وكره (٦).

__________________

(١) زيادة من الراغب

(٢) «بمعنى أريده من حيث الطبع ، وأكرهه من حيث العقل والشرع» من التاج

(٣) الآية ٢١٦ سورة البقرة

(٤) الآية ١٢ سورة الحجرات

(٥) الآية ٣٢ سورة النور

(٦) الكره ـ بالضم ـ هو الاختيارى الذى يكون من نفس الانسان ، والكره ـ بالفتح ـ ما يكون من الخارج كما سبق.

٣٤٦

وقوله : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ)(١) ، قيل : منسوخ ، وإنه كان فى أوّل / الأمر كان يعرض الإسلام على المرء ، فإن أجاب وإلّا ترك. وقيل : إنّ ذلك فى أهل الكتاب ، (فإنهم إن أدّوا الجزية والتزموا الشرائط تركوا) (٢). وقيل : معناه لا حكم لمن أكره على دين باطل ، فاعترف به ودخل فيه ، كما قال : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)(٣). وقيل معناه : لا اعتداد فى الآخرة بما يفعله الإنسان من الطّاعة كرها ، فإنّ الله تعالى عليم بالسّرائر ، ولا يرضى إلّا الإخلاص. وقيل معناه : لا يحمل الإنسان على أمر مكروه فى الحقيقة ممّا يكلّفهم الله ، بل يحملون على نعم الأبد. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عجب ربّك من قوم يقادون إلى الجنّة بالسّلاسل (٤)». وقيل : الدّين هنا بمعنى الجزاء ، أى أنه ليس بمكره على الجزاء ، بل يفعل ما يشاء بمن يشاء كما يشاء.

وقوله : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً)(٥) قيل : من فى السّماوات طوعا ، ومن فى الأرض كرها ، أى الحجة أكرهتهم وألجأتهم ، وليس هذا من الكره المذموم. وقيل معناه : أسلم المؤمنون طوعا والكافرون كرها. وقال قتادة : أسلم المؤمنون له طوعا والكافرون كرها عند الموت حيث قال : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا)(٦) وقيل : عنى بالكره من قوتل وألجئ إلى أن يؤمن. قال أبو العالية ومجاهد :

__________________

(١) الآية ٢٥٦ سورة البقرة

(٢) فى ب : «الذين أدوا الجزية والتزموا الشرائط»

(٣) الآية ١٠٦ سورة النحل

(٤) ورد فى الجامع الصغير عن أحمد والبخارى وغيرهما. وفيه : «ربنا» فى مكان «ربك»

(٥) الآية ٨٣ سورة آل عمران

(٦) الآية ٨٥ سورة غافر

٣٤٧

إنّ كلّا أقرّ بخلقه إياهم وإن أشركوا معه ، كقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ)(١). وقال ابن عباس : أسلموا بأحوالهم المنبئة عنهم ، وإن كفر بعضهم بمقالتهم ، ذلك هو الإسلام فى الذّرء الأوّل (٢) حيث قال : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)(٣) ، وذلك هو دلائلهم الّتى فطروا عليها من العقل المقتضى لأن يسلموا ، وإلى هذا أشار بقوله : (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ)(٤).

وقال بعض المحقّقين : من أسلم طوعا هو الذى طالع المثيب والمعاقب ، لا الثواب والعقاب فأسلم له ، ومن أسلم كرها هو الذى طالع الثواب والعقاب ، فإنه أسلم رهبة ورغبة. ونحو هذه الآية : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) وقوله : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً)(٥) أى كلفة ومشقّة ، وقوله : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ)(٦) أى لم يرد. والله أعلم.

__________________

(١) الآية ٨٧ سورة الزخرف

(٢) الذرء : الخلق. والذرء الأول يراد به الاشارة إلى ما ورد أن الله سبحانه لما خلق آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة وجعل لهم عقولا كنملة سليمان ، وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأنه لا إله غيره. وقد فسرت به الآية الآتية. وفى الراغب : «الذر» وهو جمع ذرة أى النملة لأنهم كانوا كالذر ، وانظر تفسير القرطبى ٧ / ٣١٤

(٣) الآية ١٧٢ سورة الأعراف

(٤) الآية ١٥ سورة الرعد

(٥) الآية ١٥ سورة الأحقاف

(٦) الآية ٤٦ سورة التوبة

٣٤٨

١٣ ـ بصيرة فى كسب

الكسب : طلب الرزق. وكسبه : جمعه. والكسب ـ بالكسر ـ لغة فصيحة ، والفتح الفصحى ، تقول منه : كسبت شيئا. وفلان طيّب الكسب والمكسب والمكتسب والمكسبة ـ مثال المغفرة ـ والكسبة مثال الجلسة. وكسبت أهلى خيرا ، وكسبت الرجل مالا فكسبه. وهذا ممّا جاء على فعلته ففعل. وقال ثعلب : كلّ الناس يقولون : كسبك فلان خيرا ، إلّا ابن الأعرابىّ فإنه يقول : أكسبك فلان خيرا.

وفى الحديث الصحيح من قول خديجة : «إنّك لتصل الرّحم ، وتحمل الكلّ ، وتكسب المعدوم (١)». هكذا يروونه. والصّواب (٢) وتكسب المعدم أى تعطى العائل وترفده. وتكسب بفتح التاء أفصح من ضمها.

والكسب وإن كان فى الأصل ما يتحرّاه الإنسان ممّا فيه اجتلاب نفع وتحصيل حظّ ككسب المال فإنه قد يستعمل فيما يظنّ الإنسان أنّه يجلب منفعة ثمّ يستجلب به (٣) مضرّة. فالكسب يقال فيما أخذه لنفسه ولغيره ، والاكتساب / لا يقال إلّا فيما استفاده لنفسه. وكلّ اكتساب كسب ، وليس كلّ كسب اكتسابا. وقوله تعالى : (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ)(٤) أى جمعتم ، وفى الحديث (٥) : «إن أطيب ما يأكل الرّجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه».

__________________

(١) ورد فى أوائل البخارى

(٢) كيف هذا وقد صحت الرواية بالمعدوم. وفى بعض التفاسير أن المعدم الفقير الذى صار فى حكم المعدوم. وانظر النهاية

(٣) فى الراغب : «استجلب»

(٤) الآية ٢٦٧ سورة البقرة

(٥) أخرجه البخارى فى التاريخ والترمذى والنسائى وابن ماجه عن عائشة برواية «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم» ، (الفتح الكبير).

٣٤٩

وقد ورد (١) فى القرآن فى فعل الصّالحات والسيّئات. فمما استعمل فى الصّالحات قوله تعالى : (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً)(٢) ، وممّا استعمل فى العكس : (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ)(٣). وقوله تعالى : (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ)(٤) متناول لهما.

والاكتساب قد ورد فيهما أيضا ، ففى الصّالحات قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ)(٥). وقوله : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ)(٦) قيل : خصّ الكسب هاهنا بالصّالح ، والاكتساب بالسّيئ. وقيل : عنى بالكسب ما يتحرّاه من المكاسب الأخرويّة ، وبالاكتساب ما يتحرّاه من المكاسب الدّنيوية. وقيل : عنى بالكسب ما يفعله الإنسان من فعل خير ، وجلب منفعة إلى غيره من حيث ما يجوز ، والاكتساب ما يحصله لنفسه من نفع يجوز تناوله. فنبّه على أنّ ما يفعله الإنسان لغيره من نفع يوصّله إليه فله الثواب ، وأن ما يحصّله لنفسه وإن كان من حيث يجوز فقلّما ينفكّ من أن يكون عليه ؛ إشارة إلى ما قيل : ومن أراد الدّنيا فليوطّن نفسه على المصائب.

__________________

(١) أى الكسب

(٢) الآية ١٥٨ سورة الأنعام

(٣) الآية ٧٠ سورة الأنعام

(٤) الآية ٢٨١ سورة البقرة والآية ١٦١ سورة آل عمران

(٥) الآية ٣٢ سورة النساء. وقد تبع فى تخصيص الاكتساب فى الآية بالصالحات الراغب ، وكأنه نظر إلى اللام فى قوله : «للرجال» وفى القرطبى ٥ / ١٦٤ ما يفيد أن هذا فى الصالحات والسيئات

(٦) الآية ٢٨٦ سورة البقرة

٣٥٠

١٤ ـ بصيرة فى كسف وكسل وكسا

الكسفة ـ بالكسر ـ : القطعة ، يقال : أعطنى كسفة من ثوبك ، والجمع : كسف وكسف ، ومنه قوله تعالى : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً)(١) و (كِسْفا) ، قرأ هاهنا بفتح السّين أبو جعفر ونافع وأبو بكر وابن ذكوان ، وفى الرّوم (٢) بالإسكان أبو جعفر وابن ذكوان ، وقرأ بالفتح إلّا فى الطور (٣) حفص. فمن قرأ مثقّلا جعله جمع كسفة كفلقة وفلق ، وهى القطعة والجانب. ومن قرأ مخفّفا فهو على التوحيد ، وجمعه : أكساف وكسوف ، وكأنه قال : يسقطها طبقا علينا ، من كسفت الشىء إذا غطّيته. قال أبو زيد : كسفت الشىء أكسفه كسفا : إذا قطعته. وكسف عرقوبه : عرقبه قال :

* وتكسف عرقوب الجواد بمخذم (٤) *

وكسفت الشمس تكسف كسوفا ، وكسفها الله ، يتعدّى ولا يتعدى ، قال جرير يرثى عمر بن عبد العزيز :

فالشمس كاسفة ليست بطالعة

تبكى عليك نجوم اللّيل والقمرا (٥)

هكذا الرّواية أى أنّ الشّمس كاسفة تبكى عليك الدهر. والنحاة يروونه مغيّرا وهو.

* الشمس طالعة ليست بكاسفة*

__________________

(١) الآية ٩٢ سورة الاسراء

(٢) فى الآية ٤٨

(٣) فى الآية ٤٤

(٤) المخذم : السيف

(٥) اللسان (كسف) وانظر الديوان : ٣٠٤

٣٥١

أى ليست تكسف ضوء النجوم مع طلوعها لقلّة ضوئها وبكائها عليك. وكذلك كسف القمر ؛ إلّا أن الأجود أن يقال : خسف القمر. وقال الليث : بعض النّاس يقول : انكسفت الشمس وهو خطأ. قال الأزهرى : ليس ذلك بخطإ ؛ لما روى جابر رضى الله عنه : انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الكسل : التثاقل عمّا لا ينبغى ، والفتور فيه. كسل ـ كفرح : فهو كسل وكسلان. والجمع كسالى ـ مثلثه ـ وكسلى. وهى كسلة وكسلى وكسلانة وكسول ومكسال. والكسول والمكسال : المرأة التى لا تكاد تبرح من مجلسها ، مدح (١). وقد أكسله الأمر. ومن كلام بعضهم : / الكسالة (٢) مجلبة للفشل ، مبطلة للعمل ، مخيّبة للأمل ، ولهذا قيل فى المثل : من اختار الكسل ، ما اشتار العسل (٣). قال تعالى : (إِلَّا وَهُمْ كُسالى)(٤).

الكسوة والكسوة ـ بالضمّ والكسر ـ اللّباس ، والجمع : كسا وكساء. وكسى ـ كرضى ـ واكتسى : لبسها. وكساه : ألبسه. وكساه الثّوب : ألبسه إيّاه ، قال تعالى : (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً)(٥)

والكساء ـ بالفتح والمد ـ المجد والشرف والرّفعة. وهو أكسى منه : أكثر اكتساء ، أو أكثر إعطاء للكسوة. وكاساه : فاخره.

__________________

(١) يريد أنه صفة مدح للنساء دون الرجال ، لما يدل الكسل فى النساء على الترف والنعمة

(٢) لم أقف على هذا المصدر

(٣) اشتار العسل : جمعه واجتناه

(٤) الآية ٥٤ سورة التوبة

(٥) الآية ١٤ سورة المؤمنين

٣٥٢

١٥ ـ بصيرة فى كشط

الكشط : رفعك الشىء عن شىء قد غطّاه وغشّاه من فوقه ؛ كما يكشط الجلد عن الجزور. وسمّى الجلد كشاطا بعد ما يكشط ، ثم ربّما غطّى [به (١)] عليها فيقول القائل : ارفع عنها كشاطها لأنظر إلى لحمها. يقال هذا فى الجزور خاصّة.

وقوله تعالى : (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ)(٢) أى قلعت كما يقلع السقف. ويقال : كشطت الجلّ (٣) عن ظهر الفرس وكشطته (٤) : إذا كشفته. قال ابن عرفة : يكشط السّماء كما يكشط الغطاء عن الشىء.

__________________

(١) زيادة من القاموس

(٢) الآية ١١ سورة التكوير

(٣) الجل : ما تلبسه الدابة لتصان به

(٤) كذا فى الأصلين. ولم يتبين وجه هذا التكرار

٣٥٣

١٦ ـ بصيرة فى كشف

الكشف والكاشفة : الإظهار. والكاشفة من المصادر الّتى جاءت على فاعلة كالعافية والكاذبة ، قال الله تعالى : (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ)(١) أى كشف وإظهار. وقال اللّيث : الكشف : رفعك شيئا عمّا يواريه ويغطّيه. والتكشيف : مبالغة الكشف. وقال ابن دريد : كشفت فلانا عن كذا وكذا : إذا أكرهته على إظهاره. والتكشّف : الظّهور. وتكشّف البرق : إذا ملأ السّماء. وانكشف : مطاوع الكشف. واستكشف عن الشىء : سأل أن يكشف له عنه. وكاشفه بالعداوة : باداه بها ، ويقال : لو تكاشفتم ما تدافنتم ، أى لو انكشف عيب بعضكم لبعض (٢). واكتشفت المرأة لزوجها : بالغت فى التكشّف قاله ابن الاعرابىّ ، وأنشد :

واكتشفت لنا شىء دمكمك

عن وارم أكظاره عضنّك (٣)

والمكاشفة فى اصطلاح الصّوفية : مهاداة السرّ بين متباطنين ، أى المكاشفة اطلاع أحد المتحابين المتصافيين صاحبه على باطن سرّه وأمره. ويعنون بالمتباطنين باطن المكاشف والمكاشف ، فيحمل كل منهما سرّه إلى الآخر ، كما يحمل إليه هديّته ، فيسرى سرّ كل منهما إلى الآخر. وإذا بلغ العبد فى مقام المعرفة إلى حد كأنه يطّلع إلى ما اتصف به الرب سبحانه من

__________________

(١) الآية ٥٨ سورة النجم

(٢) وتتمة الشرح : «لاستثقل تشييع جنازته ودفنه» كما فى النهاية

(٣) الدمكمك : القوى الشديد. والناشئ : الشاب. والعضنك هنا : فرج المرأة الكثير اللحم. والأكظار جمع كظر ، وهو حرف الفرج

٣٥٤

صفات الكمال ، ونعوت الجلال ، وأحسّت روحه بالقرب الخاصّ الذى ليس كالقرب المحسوس ، حتى يشاهد رفع الحجاب بين روحه وقلبه ـ فإنّ حجابه هو نفسه ، وقد رفع الله عنه سبحانه ذلك الحجاب بحوله وقوته ـ أفضى القلب والروح حينئذ إلى الرّب ، فصار بعنده كأنّه يراه. فإذا تحقّق بذلك ، وارتفع عنه حجاب النفس ، وانقشع عنه ضياؤها ودخانها ، وكشطت عنه سحبها وغيومها ، فهنالك يقال له :

بدا لك سرّ طال عنك اكتتامه

ولاح صباح كنت أنت ظلامه

فأنت حجاب القلب عن سرّ غيبه

ولولاك لم يطبع عليك ختامه (١)

فإن غبت عنه حلّ فيه وطنّبت

على منكب الكشف المصون خيامه

وجاء حديث لا يملّ حديثه

وينهى إلينا نثره ونظامه

إذا ذكرته النفس زال عناؤها

وزال عن القلب الكئيب قتامه (٢)

والمكاشفة الصحيحة المستديمة عبارة عن علوم يحدثها الرب ـ تعالى ـ فى قلب العبد ، ويطلعه بها على أمور تخفى على غيره. وقد يواليها / سبحانه وتعالى ، وقد يمسكها عنه بالغفلة عنها ، ويواريها عنه بالغين الّذى يغشى على قلبه ، وهو أرقّ الحجب ، أو بالغيم وهو أغلظ منه ، أو بالران وهو أشدّها. فالأوّل يقع للأنبياء ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّه ليغان على قلبى ، وإنّى لأستغفر الله أكثر من سبعين مرّة (٣)». والثانى يكون للمؤمنين. والثالث لمن غلبت عليه الشهوة. قال الله تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ

__________________

(١) طنب : أقام

(٢) القتام : الغبار الأسود. والمراد الحزن والهم

(٣) أخرجه مسلم وأبو داود ، كما فى تيسير الوصول

٣٥٥

عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)(١) ، قال ابن عباس وغيره : هو الذنب بعد الذنب يغطّى القلب ، حتى يصير كالرّان عليه.

والكشف الصّحيح أن يعرف الحقّ الذى بعث الله به رسله وأنزل به كتبه معاينة لقلبه ، ويتجرد إرادة القلب له وجودا وعدما. هذا هو التحقيق الصحيح ، وما خالفه فغرور قبيح وكلّ يدّعى هذا.

وكلّ يدّعون وصال ليلى

ولكن لا تقرّ لهم بذاكا

__________________

(١) الآية ١٤ سورة المطففين

٣٥٦

١٧ ـ بصيرة فى كظم وكعب

كظم غيظه يكظمه كظما : ردّه وحبسه ، قال تعالى : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ)(١). وكظم الباب : أغلقه. وكظم النّهر : سدّه. ورجل كظيم ومكظوم : مكروب. والكظم ـ بالتحريك ـ الحلق ، والفم ، ومخرج النّفس. والكظوم السّكوت. وكظم فلان : حبس نفسه ، قال تعالى : (إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ)(٢) ، ومنه كظم البعير : ترك اجتراره. والكظامة : فم الوادى ، وبئر جنب بئر بينهما مجرى فى بطن الأرض ، كالكظيمة ، والحلقة الّتى تجمع فيها خيوط الميزان.

الكعبة : البيت الحرام ، شرّفها الله تعالى وأعادنى إلى جوارها عاجلا. والكعب : العظم النّاشز عند ملتقى الساق والقدم ، وأنكر الأصمعىّ قول الناس إنها فى ظهر القدم. وأعلى الله كعبه ، أى أعلى جدّه ، وقيل : أى أعلى الله شرفه الثابت ، وأصله من كعب القناة ، كما يقال رفع الله أعلام مجده. وقيل : هو من كعب السّاق ؛ فإن الإنسان متى كان قائما فكعبه عال ، فإذا خرّ أو انجدل أو انتكس زال علوّ كعبه.

وكعبت الجارية تكعب كعوبا وكعابة ، مثال ثقبت (٣) تثقب ثقوبا وثقابة : إذا بدا ثديها ، فهى كاعب ، وثدى كاعب أيضا.

والكعبة بالضمّ : عذرة الجارية. قال :

أركب تمّ وتمّت ربّته

قد كان مختوما ففضّت كعبته (٤)

__________________

(١) الآية ١٣٤ سورة آل عمران

(٢) الآية ٤٨ سورة القلم. والأولى إيراد هذه الآية بعد قوله : «مكروب»

(٣) يقال : ثقبت النار : اتقدت

(٤) الركب : فرج المرأة هنا

٣٥٧

١٨ ـ بصيرة فى كف

الكفّ : واحدة الأكف ، والكفوف والكفّ بالضمّ ، وهى ما يقبض بها ويبسط. ويقال : أكرم النّاس من فكّ كفّه (١) ، وكفّ (٢) فكّه. قال تعالى : (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ)(٣) إشارة إلى حال الندامة وما يتعاطاه فى حال ندمه.

وتقول : جاء الناس كافّة ، أى جاءوا كلّهم. ولا يدخل هذه اللفظة الألف واللام ، ولا تثنّى ولا تجمع ولا تضاف ، لا يقال : جاءت الكافّة ، ولا لقيت كافّة النّاس. وأمّا قول عبد الله بن رواحة الأنصارىّ رضى الله عنه.

فسرنا إليهم كافة فى رحالهم

جميعا علينا البيض لا نتخشّع

فإنما خفّفها ضرورة ، لأنه لا يصلح الجمع بين الساكنين (٤). وقوله تعالى : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً)(٥) ، قيل معناه : كافّين لهم يقاتلونكم كافّين لكم. وقيل معناه : جماعة ، وذلك أن الجماعة يقال لهم : الكافّة ، كما يقال لهم : الوزعة.

وكفّ الإناء : ملأه ملأ مفرطا ، والجرح : عصبه بخرقة.

__________________

(١) أى بسط يده بالعطاء

(٢) أى لم يطلق لسانه فى الناس

(٣) الآية ٤٢ سورة الكهف

(٤) أى فى حشو البيت ، كما فى التاج

(٥) الآية ٣٦ سورة التوبة

٣٥٨

وعيبة (١) مكفوفة ، أى مشرجة مشدودة. وفى كتاب / النبىّ فى صلح الحديبية لأهل مكّة : «لا إغلال (٢) ولا إسلال ، وإنّ بينهم عيبة مكفوفة» ، مثّل بها الذمة المحفوظة التى لا تنكث. وقال أبو سعيد : معناه : أن يكون الشرّ مكفوفا بينهم ، كما يكفّ العياب إذا أشرجت على ما فيها من المتاع ؛ كذلك التى كانت بينهم من الذحول (٣) قد اصطلحوا على ألّا ينشروها ، بل يتكافّون عنها ، كأنهم قد جعلوها فى وعاء وأشرجوا عليها.

__________________

(١) العيبة : وعاء من جلد ، وما يجعل فيه الثياب.

(٢) الاغلال : الخيانة والسرقة ، والاسلال : أن ينتزع البعير فى جوف الليل من بين الابل

(٣) الذحول : جمع ذحل ، وهو الثأر

٣٥٩

١٩ ـ بصيرة فى كفت

كفتّ الشىء أكفته ـ بالكسر ـ كفتا : إذا ضممته إلى نفسك ، يقال : اللهمّ اكفته إليك. وفى الحديث الصحيح : «يقول الله تعالى للكرام الكاتبين : إذا مرض عبدى فاكتبوا له مثل ما كان يعمل فى صحّته حتى أعافيه أو أكفته» ، وفى الحديث الآخر : «واكفتوا صبيانكم». وكفته عن وجهه صرفه. وكفت : أسرع. وكفت : ساق سوقا شديدا. ورجل كفت وكفت وكفيت سريع. ووقع فى النّاس كفت : موت وضمّ إلى القبر. والكفات : الطيران السريع ، والكفات : الموضع الذى يكفت فيه شىء أى يضمّ. وقوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً)(١) أى ذات كفت ، أى ضمّ وجمع ، بضمّهم أحياء على ظهورها وأمواتا فى بطونها. وكفتة ، خصّ بقيع الغرقد من المدينة النبوية على ساكنها السّلام بأن سمّى بها لأنه لا يبقى من الإنسان إذا دفن فيها شىء من شعر ولا بشر ولا ضرس ولا عظم إلا ذهب ، وذلك لأنها سبخة فلا تلبث (٢) أن (٣) تأكل ما يدفن فيها ، كأنه يضمّ إلى بطنها كلّ ذلك.

وفى الحديث : «حبّب إلىّ من دنياكم الطيب والنساء ، ورزقت الكفيت (٤)» ، أى ما أكفت به معيشتى أى أضمّها. وقيل : أى رزقت القوّة على الجماع ؛ وقيل : الكفيت : قدر أنزلت من السّماء فأكل منها وقوى على الجماع. ونزول القدر لم يصح عند أهل الحديث.

__________________

(١) الآية ٢٥ سورة المرسلات

(٢) أى بقيع الغرقد

(٣) فى الأصلين : «ألا»

(٤) الحديث فى النهاية عن الهروى

٣٦٠