بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٤

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي

بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٤

المؤلف:

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي


المحقق: محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٧

أهل اللغة معناه : أكبّوا بها ، فحذفوا الجارّ وأوصلوا الفعل. والمعنى : جعلوها مكبّة على قطع الطّريق والمضىّ فيه ؛ من قولك : أكبّ الرّجل على الشىء يعمله ، وأكبّ فلان على فلان يظلمه : إذا أقبل عليه غير عادل عنه ولا مشتغل بأمر دونه.

والكواكب : النجوم البادية ، ولا يقال لها : كوكب إلّا عند ظهوره.

الكبت : الصّرف والإذلال. كبت الله العدوّ : صرفه وأذلّه. وكبته لوجهه : صرعه ، قال تعالى : (كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)(١). قال الفرّاء : كبتوا أى غيظوا وأحزنوا يوم الخندق. وإنما قال ذلك لأنّ أصل الكبت الكبد ، فقلبت الدّال تاء ، أخذ ذلك من الكبد وهو موضع الغيظ والحقد. وكأنّ الغيظ لمّا بلغ منهم مبلغ المشقّة أصاب أكبادهم فأحرقها.

__________________

(١) الآية ٥ سورة المجادلة

٣٢١

٣ ـ بصيرة فى كبد

الكبد والكبد والكبد واحدة الأكباد. قال الفراء : يذكّروا ويؤنّث. وكبد السّماء وكبداؤها ، وكبيداؤها ، وكبيداتها ـ كأنهم صغّروها كبيدة ثم جمعوها ـ وهى ما استقبلك من وسطها.

والكبد : الشدّة والمشقّة ، قال تعالى : (خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ)(١) ، أى يكابد أمره فى الدنيا والآخرة. وقيل : خلق منتصبا غير منحن كسائر الحيوان. وقال ابن عرفة : (فِي كَبَدٍ) : فى ضيق ، ثم يكابد ما يكابده من أمور دنياه وآخرته ، ثم الموت إلى أن يستقرّ فى جنّة أو نار. وقال ابن دريد : الكبد : مصدر كبد يكبد كبدا : إذا اشتكى كبده.

وكبدهم البرد : شقّ عليهم وضيّق ، ومنه قول بلال : أذّنت فى ليلة باردة ، فلم يأت أحد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما لهم يا بلال؟ قلت : كبدهم البرد. قال بلال : فلقد رأيتهم يتروّحون فى الضحاء ، يريد أنه دعا لهم بانكسار البرد عنهم حتى احتاجوا إلى التروّح.

__________________

(١) الآية ٤ سورة البلد

٣٢٢

٤ ـ بصيرة فى كبر

الكبير والصّغير من الأسماء المتضايفة. ويستعملان فى الكمّيّة المتّصلة كالأجسام ، وذلك كالكثير والقليل فى الكمّيّة المنفصلة كالعدد ؛ وربّما يتعاقب الكثير والكبير على شىء واحد بنظرين مختلفين ، نحو قوله تعالى : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ)(١) و (كثير) وقرئ (٢) بهما. وأصل ذلك أن يستعمل فى الأعيان ثم استعير فى (٣) المعانى نحو قوله : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها)(٤).

وقوله : (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ)(٥) إنّما وصفه بالأكبر تنبيها أنّ العمرة هى الحجّة الصغرى ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «العمرة / هى الحجّ الأصغر» وقيل المراد بالحجّ الأكبر حجّة الوداع ؛ لأنّه لم يقع مثلها من حين خلق الله الكعبة إلى يوم القيامة ، فإنّه حضرها النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى نحو من تسعين ألف صحابىّ. وقيل : الحجّ الأكبر بالنسبة إلى كلّ أحد حجّة يجتمع فيها بأحد من أكابر الأولياء والأقطاب الواصلين ، ويشمله نظره وبركته ودعاؤه خصوصا ، فذلك الحجّ الأكبر بالنّسبة إليه ؛ وقيل : إذا كان الوقوف بعرفة يوم جمعة ، وقيل غير ذلك.

ومن ذلك ما اعتبر فيه الزمان ، فيقال : فلان كبير أى مسنّ ، نحو

__________________

(١) الآية ٢١٩ سورة البقرة

(٢) قرأ بالثاء حمزة والكسائى ووافقهما الأعمش. وقرأ الباقون بالباء الموحدة.

(٣) فى الأصول : من

(٤) الآية ٤٩ سورة الكهف

(٥) الآية ٣ سورة التوبة

٣٢٣

قوله : (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ)(١). ومنه (٢) ما اعتبر فيه المنزلة والرفعة ، نحو قوله : (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً)(٣) ، وقوله : (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ)(٤) فسمّاه كبيرا بحسب اعتقادهم فيه لا لقدر ورفعة حقيقيّة ، وقوله : (أَكابِرَ مُجْرِمِيها)(٥) أى رؤساءها ، (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ)(٦) أى رئيسكم. ومن هذا النّحو : ورثه كابرا عن كابر ، أى إنه عظيم القدر عن أب مثله.

والكبيرة متعارفة فى كل ذنب تعظم عقوبته ، والجمع : الكبائر. وقوله : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ)(٧) ، وقوله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ)(٨) ، قيل : أريد بهما الشّرك لقوله (٩) : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(١٠) ، وقيل : هى الشرك وسائر المعاصى الموبقة كالزنى وقتل النّفس المحرّمة. وقيل : هى السّبع (١١) المنصوص عليها فى الحديث. وقيل : هى المذكورات فى أوّل سورة النّساء إلى قوله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ) الآية. وقيل : الكبائر سبعون ، وقيل : سبعمائة. وقيل : كلّ ذنب ومعصية لله عزوجل كبيرة ، ولا صغائر فى الذنوب حقيقة ، وإنّما يقال لبعضها صغائر بالنّسبة إلى ما هى أعظم وأكثر منها.

__________________

(١) الآية ٤٠ سورة آل عمران

(٢) فى الأصلين : «معناه» وما أثبت من الراغب

(٣) الآية ١٩ سورة الأنعام

(٤) الآية ٥٨ سورة الأنبياء

(٥) الآية ١٢٣ سورة الأنعام

(٦) الآية ٤٩ سورة الشعراء

(٧) الآية ٣٢ سورة النجم

(٨) الآية ٣١ سورة النساء

(٩) فى الأصلين : «كقوله» ، وما أثبت من الراغب

(١٠) الآية ١٣ سورة لقمان

(١١) هى الواردة فى الحديث الذى رواه الشيخان وغيرهما كما فى الجامع الصغير ، وهو : «اجتنبوا السبع الموبقات : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولى يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات»

٣٢٤

ويستعمل الكبير فيما يصعب ويشقّ على النّفس ، نحو قوله تعالى : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ)(١). وقوله : (لَكَبِيرَةٌ) فيه تنبيه على عظم ذلك من بين الذنوب وعظم عقوبته ، ولهذا قال : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ)(٢). وقوله : (تَوَلَّى كِبْرَهُ)(٣) إشارة إلى من تولّى حديث الإفك ، وتنبيه بأنّ من سنّ سنّة قبيحة يصير مقتدى بها فذنبه أكبر.

والكبر والتكبّر والاستكبار متقاربة. فالكبر حالة يتخصّص بها الإنسان من إعجابه بنفسه ، وأن يرى نفسه أكبر من غيره. وأعظم الكبر التكبّر على الله بالامتناع عن قبول الحقّ.

والاستكبار على وجهين : أحدهما : أن يتحرّى الإنسان ويطلب أن يكون كبيرا ، وذلك متى كان على ما يجب ، وفى المكان الّذى يجب ، وفى الوقت الّذى يجب فمحمود. والثانى : أن يتشبّع فيظهر من نفسه ما ليس له ، فهذا هو المذموم ، وعليه ورد القرآن الكريم وهو قوله تعالى : (أَبى وَاسْتَكْبَرَ)(٤) ، وقوله : (فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا)(٥) ، وقوله : (فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ)(٦) ، ونبّه بقوله (مُجْرِمِينَ) أن حاملهم على ذلك ما تقدّم من جرمهم ، وأنّ ذلك دأبهم لا أنه شىء حادث منهم.

والتكبّر على وجهين :

أحدهما : أن تكون الأفعال الحسنة كبيرة فى الحقيقة وزائدة على محاسن غيره ، وعلى هذا قوله تعالى : (الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ)(٧).

__________________

(١) الآية ٤٥ سورة البقرة

(٢) الآية ٣ سورة الصف

(٣) الآية ١١ سورة النور

(٤) الآية ٣٤ سورة البقرة

(٥) الآية ٤٧ سورة غافر

(٦) الآية ١٣٣ سورة الأعراف

(٧) الآية ٢٣ سورة الحشر

٣٢٥

والثانى : أن يكون متكلّفا لذلك متشبّعا ، وذلك فى عامّة الناس ؛ نحو قوله تعالى : (يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)(١). وكل من وصف بالتكبّر على الوجه الأوّل فمحمود دون الثانى ، ويدلّ على صحّة وصف الإنسان به (٢) / قوله : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)(٣). والتّكبّر على المتكبّر صدقة.

والكبرياء : الترفّع عن الانقياد ، ولا يستحقه إلّا الله تعالى ، قال تعالى : «الكبرياء ردائى ، والعظمة إزارى ، فمن نازعنى فى شىء منهما قصمته (٤)».

وأكبرت الشىء : رأيته كبيرا ، قال تعالى : (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ)(٥) والتكبير يقال لذلك ، ولتعظيم الله بقول (٦) الله أكبر ، ولعبادته واستشعار بعظمته (٧). وقوله : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ)(٨) إشارة إلى ما فيهما من عجائب صنعه ، وغرائب حكمته التى لا يعلمها إلّا قليل ممّن وصفهم الله بقوله : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٩). وقوله : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى)(١٠) تنبيه أنّ جميع ما ينال الكافر من العذاب قبل ذلك فى الدّنيا وفى البرزخ صغير فى جنب عذاب ذلك اليوم.

__________________

(١) الآية ٣٥ سورة غافر

(٢) فى الراغب بعده : «ولا يكون مذموما»

(٣) الآية ١٤٦ سورة الأعراف

(٤) هذا حديث قدسى أخرجه مسلم وأبو داود كما فى تيسير الوصول. والرواية فيه : «عذبته» فى مكان «قصمته»

(٥) الآية ٣١ سورة يوسف

(٦) فى الراغب : «بقولهم» وهو أولى.

(٧) فى الراغب : «تعظيمه»

(٨) الآية ٥٧ سورة غافر

(٩) الآية ١٩١ سورة آل عمران

(١٠) الآية ١٦ سورة الدخان

٣٢٦

وقال بعض المفسّرين ورد الكبر والكبر على اثنى عشر وجها فى القرآن : ١ ـ بمعنى الثقيل : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ)(١) ، (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ)(٢) ، (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ)(٣) ، (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ)(٤) ، (أى ثقلت) (٥).

٢ ـ الكبر والصّغر بمعنى الكثرة والقلّة : (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً)(٦) ، (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً)(٧) ، أى كثيرا.

٣ ـ بمعنى كمال قبح الذّنب والذلّة : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ)(٨) ، (كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ)(٩).

٤ ـ بمعنى انتشار النور والشّعاع : (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ)(١٠) ، أى أنور.

٥ ـ بمعنى الفضل والعلم والفطنة : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ)(١١) ، أى أعلمكم ومعلّمكم.

٦ ـ بمعنى عظم الشخص والجثّة : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ)(١٢).

٧ ـ بمعنى زيادة السّنّ : (إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً)(١٣) ، (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ)(١٤) ، (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ)(١٥) ، (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ)(١٦).

__________________

(١) الآية ٤٥ سورة البقرة

(٢) الآية ١٤٣ سورة البقرة

(٣) الآية ٣٥ سورة الأنعام

(٤) الآية ٥ سورة الكهف

(٥) هذه الجملة فى الأصلين مقدمة على الآية ، وهذا موضعها المناسب

(٦) الآية ١٢١ سورة التوبة

(٧) الآية ٢٨٢ سورة البقرة

(٨) الآية ٣١ سورة النساء

(٩) الآية ٣٧ سورة الشورى ، والآية ٣٢ سورة النجم

(١٠) الآية ٧٨ سورة الأنعام

(١١) الآية ٧١ سورة طه ، والآية ٧٩ سورة الشعراء

(١٢) الآية ٦٣ سورة الأنبياء

(١٣) الآية ٧٨ سورة يوسف

(١٤) الآية ٢٣ سورة القصص

(١٥) الآية ٢٦٦ سورة البقرة

(١٦) الآية ٤٠ سورة آل عمران

٣٢٧

٨ ـ بمعنى البعد والتجاوز (١) من الحدّ : (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً)(٢)(وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً)(٣) ، (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ)(٤) ، (فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً)(٥).

٩ ـ بمعنى شدّة العذاب : (نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً)(٦).

١٠ ـ بمعنى الفوز بالجنّة : (وَمُلْكاً كَبِيراً)(٧) ، (ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)(٨)

١١ ـ بمعنى زيادة الثّواب والكرامة : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)(٩)

١٢ ـ بمعنى الجلال والعظمة : (الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ)(١٠).

__________________

(١) كذا فى الأصلين. وهو على تضمين التجاوز معنى التباعد ، والأولى : «عن»

(٢) الآية ٤ سورة الاسراء

(٣) الآية ٢١ سورة الفرقان

(٤) الآية ٩ سورة الملك

(٥) الآية ٦٠ سورة الاسراء

(٦) الآية ١٩ سورة الفرقان

(٧) الآية ٢٠ سورة الانسان

(٨) الآية ١١ سورة البروج

(٩) الآية ١١ سورة هود

(١٠) الآية ٩ سورة الرعد.

٣٢٨

٥ ـ بصيرة فى كتب

قوله تعالى : (الم ذلِكَ الْكِتابُ)(١) يعنى القرآن سمّى كتابا لما جمع فيه من القصص والأمر والنّهى والأمثال والشرائع والمواعظ ، أو لأنه جمع فيه مقاصد الكتب المنزلة على سائر الأنبياء. وكلّ شىء جمعت بعضه إلى بعض فقد كتبته. وقوله تعالى : (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ)(٢) أى أنزل الله فى كتابه أنكم لابثون إلى يوم القيامة. وقوله عزوجل : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ)(٣) أى حكم.

وقال القتبىّ فى قوله تعالى : (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ)(٤) أى يحكمون ، يقولون نحن نفعل بك كذا وكذا ، ونطردك ونقتلك ، وتكون العاقبة لنا عليك. وقوله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ)(٥) أى ثبّت. وقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ)(٦) أى فرض وأوجب.

وقوله تعالى : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ)(٧) مصدر أريد به الفعل ، أى كتب الله عليكم ، وهذا قول حذّاق النحويين. وقال الكوفيّون : هو منصوب على الإغراء بعليكم ، وهو بعيد ؛ لأنّ ما انتصب على الإغراء لا يتقدّم على ما قام مقام الفعل وهو (عَلَيْكُمْ) ، ولو كان النّص : عليكم كتاب الله لكان النّصب على الإغراء أحسن من المصدر.

__________________

(١) صدر سورة البقرة

(٢) الآية ٥٦ سورة الروم

(٣) الآية ٦٨ سورة الأنفال

(٤) الآية ٤١ سورة الطور

(٥) الآية ٢٢ سورة المجادلة

(٦) الآية ١٨٣ سورة البقرة

(٧) الآية ٢٤ سورة النساء

٣٢٩

واكتتبت الكتاب : كتبته ، ومنه قوله تعالى : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها)(١). ويقال : اكتتب فلان فلانا : إذا سأله أن يكتب له كتابا فى حاجة ، وعليه فسّر بعضهم : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها)(٢) أى استكتبها. ابن الأعرابىّ : سمعت أعرابيّا [يقول] : اكتتبت (٣) فم السقاء فلم يستكتب لى ، أى لم يستوك (٤) لجفائه وغلظه.

وكاتبت العبد (فهو يكاتب) (٥). والمكاتب : العبد يكاتب على نفسه بثمنه ، فإذا سعى فأدّاه عتق. وأصلها من الكتابة ، يراد بها الشرط الذى يكتب بينهما.

/ ابن الأعرابىّ : الكاتب عندهم : العالم ، وبه فسّر قوله تعالى : (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ)(٦). والكتاب : القدر ، قال النّابغة الجعدىّ :

يا ابنة عمّى كتاب الله أخرجنى

عنكم فهل أمنعنّ الله ما فعلا

قال بعض المفسّرين : ورد الكتاب فى القرآن لمعان : ـ

١ ـ بمعنى اللّوح المحفوظ : (كتاب سبق) (٧) ، (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٨) ، (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ)(٩) ، (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ)(١٠) ، (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً)(١١).

__________________

(١) الآية ٥ سورة الفرقان

(٢) المناسب للآية ما جاء فى التاج : «اكتتب فلان كتابا أى سأل أن يكتب له»

(٣) اكتتب السقاء : خرزه بسيرين. وفى اللسان : «اكتبت». والمراد هنا سد فم السقاء

(٤) هو من الوكاء ، وهو ما يشد به فم السقاء. وكأن المراد أنه حاول سده فلم ينسد.

(٥) فى الأصلين : «فيكاتب»

(٦) الآية ٤٧ سورة القلم

(٧) كذا فى ا. وفى ب : «كتاب سبقت» ولم يتبين لى وجه هذه العبارة.

(٨) الآية ٥٩ سورة الأنعام

(٩) الآية ٤ سورة ق

(١٠) الآية ٢٢ سورة الحديد

(١١) الآية ٢٩ سورة النبأ

٣٣٠

٢ ـ بمعنى التوراة : (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ)(١).

٣ ـ بمعنى الإنجيل : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ)(٢).

٤ ـ بمعنى كتاب سليمان إلى بلقيس : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ)(٣)

٥ ـ بمعنى القرآن المجيد : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا)(٤) ، (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ)(٥) ، (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ)(٦) ، وله نظائر.

٦ ـ كتاب الرّحمة والمغفرة : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ)(٧) ، (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)(٨).

٧ ـ بمعنى الكتابة المعروفة : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ)(٩).

٨ ـ بمعنى تاريخ أرباب السّعادة : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ)(١٠)

٩ ـ بمعنى تاريخ أرباب الشقاوة : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ)(١١).

١٠ ـ بمعنى الرّزق المعلوم فى العمر والمدّة : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ)(١٢).

١١ ـ بمعنى فريضة الطّاعة : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً)(١٣).

__________________

(١) الآية ٧٨ سورة آل عمران

(٢) الآية ٦٤ سورة آل عمران

(٣) الآية ٢٩ سورة النمل

(٤) الآية ٣٢ سورة فاطر

(٥) الآية ١٥٥ سورة الأنعام

(٦) صدر سورة البقرة

(٧) الآية ٦٨ سورة الأنفال

(٨) الآية ٥٤ سورة الأنعام

(٩) الآية ٤٨ سورة آل عمران

(١٠) الآية ١٨ سورة المطففين

(١١) الآية ٧ سورة المطففين

(١٢) الآية ٤ سورة الحجر

(١٣) الآية ١٠٣ سورة النساء

٣٣١

١٢ ـ ديوان الأعمال والأفعال المعروض على المطيع والعاصى ، يوم تشيب فيه النواصى : (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ)(١) ، (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ)(٢).

والكتاب فى الأصل : اسم للصّحيفة مع المكتوب فيها (٣). ويعبّر عمّا ذكرنا من الإثبات والتقدير والإيجاب والفرض بالكتابة ، ووجه ذلك أنّ الشىء يراد ، ثم يقال ، ثم يكتب. والإرادة مبدأ ، والكتابة منتهى ، ثم يعبّر عن المبدإ بالمنتهى إذا قصد تأكيده. قال تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي)(٤). وقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ)(٥) أى فى حكمه. وقوله : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها)(٦) ، أى أوحينا وفرضنا.

قال (٧) : ويعبّر بالكتابة عن القضاء الممضى وما يصير فى حكم الممضى ، وحمل على هذا قوله : (بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)(٨). وقوله : (فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ)(٩) إشارة إلى أن ذلك مثبت له ومجازى به. وقوله : (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ)(١٠) ، أى اجعلنا فى زمرتهم إشارة إلى قوله : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ)(١١). وقوله : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا)(١٢) أى قدّره وقضاه ؛ وذكر (لَنا) ولم يقل : علينا / تنبيها أنّ كل ما يصيبنا نعدّه نعمة لنا ، ولا نعدّه نقمة علينا. وقوله : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ

__________________

(١) الآية ٢٨ سورة الجاثية

(٢) الآيتان ١٣ ، ١٤ سورة الاسراء

(٣) فى الأصلين : «فيه»

(٤) الآية ٢١ سورة المجادلة

(٥) الآية ٧٥ سورة الأنفال

(٦) الآية ٤٥ سورة المائدة

(٧) أى الراغب فى المفردات

(٨) الآية ٨٠ سورة الزخرف

(٩) الآية ٩٤ سورة الأنبياء

(١٠) الأنبياء ٥٣ سورة آل عمران

(١١) الآية ٦٩ سورة النساء

(١٢) الآية ٥١ سورة التوبة

٣٣٢

الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ)(١) ، قيل معناه : وهبها الله لكم ، ثمّ حرّمها عليكم بامتناعكم من دخولها وقبولها ، وقيل : كتب لكم بشرط أن تدخلوها وقرئ : (عليكم) أى أوجبها عليكم. وإنما قال (لَكُمْ) تنبيها أنّ دخولهم إيّاها يعود عليهم بنفع عاجل وآجل ؛ فيكون ذلك لهم لا عليهم ، و (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ)(٢) أى فى علمه وحكمه ، وقوله : (اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ)(٣) ، أى فى حكمه.

ويعبّر بالكتاب عن الحجّة الثابتة من جهة الله ، نحو قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ)(٤) ، وقوله : (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ)(٥) إشارة إلى العلم والتحقيق والاعتقاد. وقوله : (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ)(٦) إشارة فى تحرّى النّكاح إلى لطيفة ، وهى أنّ الله تعالى جعل لنا شهوة النكاح ليتحرّى به طلب النّسل الذى يكون سببا لبقاء نوع الإنسان إلى غاية قدّرها ، فيجب للإنسان أن يتحرّى بالنكاح ما جعل الله على حسب مقتضى العقل والدّيانة ، ومن تحرّى بالنكاح حفظ النسل وحظّ النفس على الوجه المشروع فقد انتهى إلى ما كتب الله له ، وإلى هذا أشار من قال : عنى ب (ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) الولد.

ويعبّر بالكتابة عن الإيجاد ، وعن الإزالة والإفناء بالمحو ، قال تعالى : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ)(٧) نبّه أن لكلّ وقت إيجادا ، فهو يوجد ما تقتضى الحكمة إيجاده ، ويزيل ما تقتضى الحكمة إزالته. ودلّ قوله : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) على نحو ما دلّ عليه قوله : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)(٨).

__________________

(١) الآية ٢١ سورة المائدة

(٢) الآية ٥٦ سورة الروم

(٣) الآية ٣٦ سورة التوبة

(٤) الآية ٨ سورة الحج

(٥) الآية ٤٧ سورة القلم

(٦) الآية ١٨٧ سورة البقرة

(٧) الآيتان ٣٨ ، ٣٩ سورة الرعد

(٨) الآية ٢٩ سورة الرحمن

٣٣٣

وقوله : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ)(١) ، فالكتاب الأول كتبوه بأيديهم المذكور بقوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ)(٢) ، والثانى التوراة ، والثالث لجنس كتب الله تعالى كلّها ، أى ما هو من (٣) شىء من كتب الله تعالى وكلامه.

وقوله : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ)(٤) ، قيل : هما عبارتان عن التوراة سمّيت كتابا باعتبار ما ثبت فيها من الأحكام ، وفرقانا باعتبار ما فيها من الفرق بين الحقّ والباطل. وقوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ)(٥) تنبيه أنّهم يختلقونه ويفتعلونه. وقوله : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٦) أراد بالكتاب هاهنا ما تقدّم من كتب الله دون القرآن ؛ ألا ترى أنه جعل القرآن مصدّقا له. وقوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً)(٧) ، منهم من قال : هو القرآن ، ومنهم من قال : هو وغيره من الحجج والعلم والعقل. وقوله : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ)(٨) ، قيل : أريد علم بالكتاب ، [وقيل](٩) علم من العلوم الّتى آتاها الله سليمان فى كتابه المخصوص به ، وبه سخّر له كلّ شىء. وقوله : (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ)(١٠) أى بالكتب المنزلة ، فوضع المفرد موضع الجمع ، إمّا لكونه جنسا ، كقولك : كثر الدرهم بأيدى الناس ، وإمّا لكونه فى الأصل مصدرا. والله أعلم.

__________________

(١) الآية ٧٨ سورة آل عمران

(٢) الآية ٧٩ سورة البقرة

(٣) فى الأصلين : «فى» وما أثبت من الراغب

(٤) الآية ٥٣ سورة البقرة

(٥) الآية ٧٩ سورة البقرة

(٦) الآية ٣٧ سورة يونس

(٧) الآية ١١٤ سورة الأنعام

(٨) الآية ٤٠ سورة النمل

(٩) زيادة من الراغب

(١٠) الآية ١١٩ سورة آل عمران

٣٣٤

٦ ـ بصيرة فى كتم

كتم الشىء كتما وكتمانا ، وكتّمه تكتيما ، واكتتمه : أخفاه ، وقوله (١) : / (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)(٢) ، قال الشاعر (٣) :

فلا تكتمنّ الله ما فى نفوسكم

ليخفى ومهما يكتم الله يعلم

يؤخّر فيوضع فى كتاب فيدّخر

ليوم الحساب أو يعجّل فينقم

وقوله تعالى : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً)(٤) ، قال ابن عبّاس رضى الله عنهما : إن المشركين إذا رأوا يوم القيامة أنّه لا يدخل الجنّة إلّا من لم يكن مشركا ، قالوا : والله ربّنا ما كنّا مشركين ، فيشهد عليهم جوارحهم ، فحينئذ يودّون ألّا يكتمون الله حديثا. وقال الحسن : الآخرة مواقف ، فى بعضها يكتمون ، وفى بعضها لا يكتمون.

وقوله تعالى لليهود : (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٥) ، ومنه قوله تعالى : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(٦) ، يعنى نعوته وصفاته الثّابتة فى التوراة. وقال تعالى : (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)(٧) ، وقال : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ)(٨) ، وقال : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ)(٩) ، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ)(١٠).

__________________

(١) كذا. ولم يذكر له خبرا. وعبارة الراغب : «قال ...» وهى ظاهرة.

(٢) الآية ٣٧ سورة النساء

(٣) هو زهير فى معلقته

(٤) الآية ٤٢ سورة النساء

(٥) الآية ٧١ سورة آل عمران

(٦) الآية ١٤٦ سورة البقرة

(٧) الآية ٧٢ سورة البقرة

(٨) الآية ٢٩ سورة النور

(٩) الآية ٢٨٣ سورة البقرة

(١٠) الآية ١٤٠ سورة البقرة

٣٣٥

٧ ـ بصيرة فى كثب وكثر

كثب القوم : إذا اجتمعوا ، وكثبت الشىء : جمعته ، لازم (١) ومتعدّ ، أكثبه بالكسر (٢). وكثب عليه : حمل وكرّ. والكثيب من الرّمل : المجتمع منه المنتصب فى مكان ، والجمع : الكثبان ، قال تعالى : (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً)(٣). وأكثبك الشىء : إذا أمكنك من نفسه. وفى الحديث : «إذا أكثبوكم فارموهم واستبقوا نبلكم».

الكثرة والقلّة يستعملان فى الكميّة المنفصلة ؛ كالأعداد. وقوله تعالى : (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ)(٤) جعلت كثيرة اعتبارا بمطاعم الدّنيا. وليست الكثرة إشارة إلى العدد فقط بل إلى الفضل أيضا. ورجل كاثر : كثير المال ، قال (٥) :

ولست بالأكثر منهم حصى

وإنّما العزّة للكاثر

وأكثر : كثر ماله. وما له قلّ ولا كثر ، أى قليل ولا كثير. وأنشدوا (٦) لرجل من ربيعة :

فإن الكثر أعيانى قديما

ولم أقتر لدن أنّى غلام

وهو مكثور عليه ، أى نفد ما عنده.

والكوثر من الغبار : الكثير. وقوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ)(٧) قيل : هو نهر فى الجنّة تنشعب عنه الأنهار ، وقيل : هو الخير العظيم الكثير الّذى خصّ الله به نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وتكوثر : كثر كثرة متناهية.

__________________

(١) سقط هذا الحرف فى ب

(٢) فى القاموس واللسان أنه يأتى بالضم أيضا

(٣) الآية ١٤ سورة المزمل

(٤) الآية ٣٢ سورة الواقعة

(٥) أى الأعشى. وانظر الخزانة ٣ / ٤٨٩

(٦) فى اللسان (كثر): «قال ابن برى : الشعر لعمرو بن حسان من بنى الحارث بن همام» والاقتار : الاقلال من المال والافتقار

(٧) صدر سورة الكوثر

٣٣٦

٨ ـ بصيرة فى كدح وكدر وكدى

كدح فى العمل يكدح ـ كمنع يمنع ـ : سعى وعمل لنفسه ، خيرا كان أو شرّا. وكدح وجهه : خدش أو عمل به ما يشينه ؛ ككدّحه تكديحا. وكدح لعياله واكتدح : كسب ، قال تعالى : (إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ)(١) ، أى تسعى.

الكدر : ضدّ الصّفاء. والكدرة فى اللّون خاصّة ، والكدورة فى الماء وفى العيش. ماء كدر وكدر كفخذ وفخذ. وكدر الماء يكدر كدرا ـ كفرح يفرح ـ وكدر يكدر ـ ككرم يكرم ـ كدورة. وانكدر : أسرع وانقضّ ، والقوم على كذا أى قصدوا متناثرين عليه. قال تعالى : (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ)(٢).

الكدية والكداية والكداة : الصفاة العظيمة الشديدة ، والشىء الصّلب بين (٣) الحجارة والطين. وحفر فأكدى ، أى صادف كدية. وسأله فأكدى ، أى وجده شحيحا مثل الكدية. وأكدى الرّجل : بخل ، أو قلّ خيره ، قال تعالى : (وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى)(٤).

__________________

(١) الآية سورة الانشقاق

(٢) الآية ٢ سورة التكوير

(٣) فى الشرح أن فى المحكم : «من الحجارة»

(٤) الآية ٣٤ سورة النجم

٣٣٧

٩ ـ بصيرة فى كذب

كذب يكذب كذبا وكذبا وكذابا وأكذوبة وكاذبة ومكذوبا ومكذبة وكذبانا كغفران / وكذبى كبشرى ، فهو كاذب وكذّاب وكذوب وكيذبان وكيذبان ومكذوبان ، وكذبة كهمزة ، وكذبذب وكذبذبان وكذّبذب بالتشديد ، قال جريبة بن الأشيم :

فإذا سمعت بأنّنى قد بعته

بوصال غانية فقل كذّبذب (١)

وجمع الكاذب : كذّب ، كراكع وركّع. وجمع الكذوب : كذب ، كصبور وصبر. وقرأ معاذ بن جبل رضى الله عنه وسلمة بن محارب الزّيادى وابن أبى عبلة وأبو البرهسم : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ)(٢) فجعلوه نعتا للألسنة.

ويقال : كذب كذّابا بالضمّ والتشديد أى متناهيا. وقرأ عمر بن عبد العزيز : (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً)(٣) ، ويكون صفة على المبالغة كوضّاء (٤) وحسّان. ومن قرأ (كِذَّاباً) بالكسر فهو أحد مصادر المشدّد ؛ لأن مصدره قد يجىء على تفعيل مثل التكليم ، وعلى فعّال مثل كذّاب ، وعلى تفعلة مثل تكملة ، وعلى مفعّل مثل قوله تعالى : (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ)(٥) وقرأ علىّ رضى الله عنه والعطاردىّ والأعمش والسّلمىّ والكسائىّ :

__________________

(١) البيت فى نوادر أبى زيد ٧٢ (ط. بيروت) وانظر اللسان (ك ذ ب)

(٢) الآية ١١٦ سورة النحل

(٣) الآية ٢٨ سورة النبأ

(٤) هو الوضيء النظيف

(٥) الآية ١٩ سورة سبأ

٣٣٨

(ولا كِذابا) (١) ، قيل : هو مصدر كاذبته مكاذبة وكذابا ، وقيل : مصدر كذب كذابا مثل كتب كتابا. وأكذبته : وجدته كاذبا.

وقوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)(٢) كذّبهم فى اعتقادهم لا فى مقالهم ، فمقالهم كان صدقا. وقوله : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ)(٣) نسب الكذب إلى نفس الفعل ، كقولهم : فعلة صادقة ، وفعلة كاذبة.

وكذب قد يتعدّى إلى مفعولين ، تقول : كذبتك حديثا : (الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ)(٤). وكذّبته : نسبته إلى الكذب ، صادقا كان أو كاذبا. وما جاء فى القرآن ففى تكذيب الصّادق ، نحو قوله : (رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ)(٥) ، وقوله : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ)(٦) ، قرئ بالتخفيف (٧) والتشديد ، ومعناه : لا يجدونك (٨) كاذبا ، ولا يستطيعون (٩) أن يثبتوا كذبك.

وقوله : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ) كُذِّبوا (جاءَهُمْ نَصْرُنا)(١٠) أى علموا أنّهم تلقّوا من جهة الّذين أرسلوا إليهم بالكذب. فكذّبوا نحو فسّقوا وزنّوا وخطّئوا إذا نسبوا إلى شىء من ذلك. وقرئ : (كُذِبُوا) بالتخفيف من قولهم : كذبتك حديثا ، أى ظنّ المرسل إليهم أن الرّسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به : أنهم إن لم يؤمنوا بهم نزل بهم العذاب. وإنّما ظنّوا ذلك من إمهال

__________________

(١) الآية ٣٥ سورة النبأ

(٢) الآية ١ سورة المنافقين.

(٣) الآية ٢ سورة الواقعة

(٤) الآية ٩٠ سورة التوبة

(٥) الآيتان ٢٦ ، ٣٩ سورة المؤمنين.

(٦) الآية ٣٣ سورة الأنعام

(٧) قرأ بالتخفيف نافع والكسائى. وقرأ الباقون بالتشديد.

(٨) هذا معنى التخفيف.

(٩) هذا معنى التشديد.

(١٠) الآية ١١٠ سورة يوسف. قرأ بالتخفيف عاصم وحمزة والكسائى وأبو جعفر وخلف. وقرأ الباقون بالتشديد.

٣٣٩

الله تعالى إيّاهم وإملائه لهم. وقوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً)(١) الكذّاب : التكذيب ، والمعنى : لا يكذبون فيكذّب بعضهم بعضا. ونفى التكذيب عن الجنّة يقتضى نفى الكذب عنها. وقرئ (كذابا) كما تقدّم ، أى لا يتكاذبون تكاذب النّاس فى الدّنيا.

قال بعض المفسّرين : ورد الكذب فى القرآن :

١ ـ بمعنى النّفاق : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ)(٢) ، أى ينافقون ، (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)(٣) : منافقون.

٢ ـ وبمعنى الإشراك بالله ونسبة الولد : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ)(٤) ، (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ)(٥).

٣ ـ وبمعنى قذف المحصنات : (وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ)(٦) ، (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ)(٧).

٤ ـ وبمعنى الإنكار : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى)(٨). أى ما أنكر.

٥ ـ وبمعنى خلف الوعد : (لَيْسَ / لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ)(٩) ، أى ردّ وخلف.

٦ ـ وبمعنى الكذب اللغوى : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ)(١٠) ، (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا)(١١) ، (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)(١٢) ، (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ)(١٣) ، (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا)(١٤). والله أعلم.

__________________

(١) الآية ٣٥ سورة النبأ

(٢) الآية ١٠ سورة البقرة

(٣) أول سورة المنافقين

(٤) الآية ٣٢ سورة الزمر

(٥) الآية ٦٠ سورة الزمر

(٦) الآية ٧ سورة النور

(٧) الآية ١٣ سورة النور

(٨) الآية ١١ سورة النجم

(٩) الآية ٢ سورة الواقعة

(١٠) الآية ٥ سورة ق

(١١) الآية ٩ سورة القمر

(١٢) الآية ٤٥ سورة سبأ

(١٣) الآية ١٨٤ سورة آل عمران

(١٤) الآية ٣٤ سورة الأنعام

٣٤٠