الوجيز في تفسير القرآن العزيز - ج ٣

الشيخ علي بن الحسين بن أبي جامع العاملي

الوجيز في تفسير القرآن العزيز - ج ٣

المؤلف:

الشيخ علي بن الحسين بن أبي جامع العاملي


المحقق: الشيخ مالك المحمودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: نگين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٤

والتّورية عليهم الدّالّان على انّه ذنب كما اعترف به القائل مع تصريحه بأنّ الأمر بذلك للتمييز بين المخلص والمنافق ، فالحمد لله الّذي ميّز بينهما (١) (ذلِكَ) التّصدّق (خَيْرٌ لَكُمْ) لأنّ فيه أداء واجب ونيل أجر (وَأَطْهَرُ) لكم من دنس البخل بالمال (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن لم يجد إذا ناجى من غير صدقة ثم نسخ ذلك بقوله :

[١٣] ـ (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) أخفتم من تقديم الصدقة ما يعدكم الشيطان من الفقر أو نقص المال الّذي هو احبّ شيء إليكم؟

(فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) التّصدّق (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) لتفريطكم فيه ، ورخّص لكم أن لا تفعلوه (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) فلا تفرّطوا في هذه كما فرّطتم في ذاك (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فيجازيكم به.

[١٤] ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا) هم المنافقون ، وادّوا (قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) هم اليهود (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) لأنّهم مذبذبون بين ذلك (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) وهو ادعاء الإيمان أو انّهم لم يشتموه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) كذب ما حلفوا عليه.

[١٥] ـ (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ساء عملهم مدّة حياتهم.

[١٦] ـ (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) الكاذبة (جُنَّةً) سترا لأنفسهم وأموالهم (فَصَدُّوا) النّاس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن دينه بالتثبيط (٢) (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) تكرير بتغيير وصف العذاب.

__________________

(١) بهامش نسخة ب : بحث مع البيضاوي وأمثاله.

(٢) ثبطه عن الأمر : عوقه وبطّأ به عنه ـ قاموس اللغة.

٣٠١

وقيل : الأوّل في القبر وهذا في الآخرة (١).

[١٧] ـ (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

[١٨] ـ (يَوْمَ) ظرف «تغني» أو مقدّر باذكر (يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ) انّهم مؤمنون (كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) في الدنيا على ذلك (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) من النفع بحلفهم لله في الآخرة ، كحلفهم لكم في الدّنيا (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) المتوغّلون في الكذب حيث يحلفون عليه لعلام الغيوب.

[١٩] ـ (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) استولى ، ومجيئه على الأصل (فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ) اتباعه (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) باستبدالهم بالجنّة النّار.

[٢٠] ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) في جملتهم.

[٢١] ـ (كَتَبَ اللهُ) في اللوح أو قضى (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) بالحجّة ، وفتح «الياء» «نافع» و «ابن عامر» (٢) (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) على ما يريد (عَزِيزٌ) غالب عليه.

[٢٢] ـ (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) أي لا يجتمع الإيمان الخالص وموادة المحادّين ولو كانوا أقارب ، فمن وادّهم وادّعى الإيمان فهو كاذب منافق (أُولئِكَ) أي الّذين لم يوادّوهم (كَتَبَ) ثبّت (فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) بألطافه (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) من الله وهو نور الايمان أو القرآن أو النّصر. أو «الهاء» للإيمان فإنّه حياة للقلب (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بطاعته (وَرَضُوا عَنْهُ) بثوابه (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) جنده وأنصار دينه (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الظّافرون بالبغية.

__________________

(١) نقله البيضاوي في تفسيره ٤ : ١٩٤.

(٢) الكشف عن وجوه القراءات ٢ : ٣١٥.

٣٠٢

سورة الحشر

[٥٩]

اربع وعشرون آية مدنية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] ـ (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) كأوّل «الحديد».

قيل لمّا قدم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة صالح «النّضير» على أن لا يكونوا عليه ولا له ، فلمّا نصر ببدر ، قالوا هو النّبيّ الذي نعت في التوراة بالنصر ، فلمّا هزم المسلمون بأحد ، ارتابوا ونكثوا ، وركب «كعب بن الأشرف» في جمع الى مكة وحالف قريشا ورجع ، فأمر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «محمد بن مسلمة» أخا «كعب» من الرّضاعة ، فقتله غيلة ، ثمّ حاصرهم حتى صالحوه على الجلاء ، فجلوا الى الشام وغيرها ، فنزلت السّورة (١).

[٢] ـ (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) هم «النضير» (مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) في اوّل حشرهم أي إخراجهم من جزيرة العرب ، إذ هو أوّل ذلّ

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ٥ : ٢٥٧.

٣٠٣

أصابهم ، أو حشرهم الى «الشام» (ما ظَنَنْتُمْ) ايّها المؤمنون (أَنْ يَخْرُجُوا) لمنعتهم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ) وخبر «انّ» جملة : (مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ) مبتدأ ، قدّم خبره أو فاعل «مانعتهم».

وأسند الجملة الى ضمير «هم» اشعارا باعتقادهم انّهم في منعه بسببها (مِنَ اللهِ) من بأسه (فَأَتاهُمُ اللهُ) أي أمره أو عذابه من الرّعب والجلاء (مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) لم يخطر ببالهم (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) الخوف بقتل «كعب» وضمّه «ابن عامر» و «الكسائي» (١) (يُخْرِبُونَ) وشدّده «أبو عمرو» (٢) (بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) حسدا أن يسكنها المسلمون ، ولينقلوا ما استحسنوا منها (وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) وكانوا يخربونها من خارج ليتوصّلوا إليهم.

ومعنى تخريبهم بأيدي المؤمنين انّهم عرّضوهم له بنكثهم (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) اتعظوا بما أصابهم بغدرهم ووثوقهم بغير الله فلا تماثلوهم ، ولا يدلّ على حجيّة القياس في الدّين كما بيّناه في محله.

[٣] ـ (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ) قضى (عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) عن ديارهم (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بالقتل والأسر ، كما عذّب «قريظة» (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) بعد الجلاء (عَذابُ النَّارِ).

[٤] ـ (ذلِكَ) المذكور ممّا نزل بهم وما اوعدوه (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) خالفوهما (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) له.

[٥] ـ (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) نخلة ، من اللون ، أو اللين وجمعه ألوان أو اليان (أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ) فبأمره (وَلِيُخْزِيَ) أي واذن لكم في

__________________

(١) حجة القراءات : ١٧٦.

(٢) حجة القراءات : ٥٠٧.

٣٠٤

القطع ليخزى (الْفاسِقِينَ) اليهود بما يزيدهم غيظا.

قيل : لمّا أمر بقطع النّخل قالوا يا «محمّد» كنت تنهى عن الفساد ، فما بال قطع النّخل؟ (١) فنزلت.

[٦] ـ (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) ما ردّ عليه من النّضير أو الكفّار ، فإنّ الأرض وما فيها له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما تغلّبوا عليه ثمّ أخذه منهم فقد فاء إليه أي رجع (فَما أَوْجَفْتُمْ) فما سيّرتم من الإيجاف وهو سرعة السّير (عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ) «من» زائدة (وَلا رِكابٍ) ابل ، إذ كانت قراهم على ميلين من المدينة ، فأتوها مشاة سوى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه ركب جملا ولم يكن قتال يعتدّ به (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فأنتم لا تستحقون فيه شيئا.

[٧] ـ (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) قيل الاولى في أموال النّضير وانّها للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة ، وهذه في الفيء من غيرهم.

وقيل هي بيان للأولى ولذلك ترك العاطف (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) وهو الإمام عليه‌السلام (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) من بني هاشم وسبق في «الأنفال» (٢) نحو ذلك (كَيْ لا يَكُونَ) الفيء وهو علة لقسمته على هذا الوجه (دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) شيئا يتداولونه بينهم.

والخطاب للمؤمنين دون الرّسول وأهل بيته عليهم‌السلام وقرأ «هشام» تكون بالتّاء ورفع دولة على التّامّة (٣) أي كيلا يقع شيء متداول بينهم (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ) اعطاكم من الفيء والأمر (فَخُذُوهُ) وارضوا به وامتثلوه (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ) من أخذ الفيء وغيره (فَانْتَهُوا) عنه (وَاتَّقُوا اللهَ) في معصية رسوله (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)

__________________

(١) نقله البيضاوي في تفسيره ٤ : ١٩٥.

(٢) سورة الأنفال : ٨ / ٤١.

(٣) الكشف عن وجوه القراءات ٢ : ٣١٦.

٣٠٥

لمن عصى.

[٨] ـ (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) متعلّق بمحذوف أي اعجبوا لهم ، وقيل : بدل من «ولذي القربى» وما بعده ، أو ممّا بعده خاصّة ان قيل بإعطاء اغنياء ذوي القربى.

وهذا لا يصحّ عندنا إلا ان يخصّ بفقراء «بني هاشم» أو يراد إعطاء الرّسول لهم ممّا يختصّ به من الفيء تفضّلا منه عليهم (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) أخرجهم كفّار «مكة» (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) حال منهم ، وضمّ «أبو بكر» الرّاء (١) (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في إيمانهم.

[٩] ـ (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) (٢) «المدينة» (وَالْإِيمانَ) أي لزموهما كانّهم جعلوا الإيمان مستقرا كالمدينة.

أو «تبوّءوا الدّار» وأخلصوا الإيمان كعلفتها تبنا وماء ، وهم الأنصار (مِنْ قَبْلِهِمْ) قبل قدوم المهاجرين أو متّصل ب «تبوّءوا الدار» (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) فيواسونهم بأنفسهم (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً) ما يكون عنها كحسد وغيظ (مِمَّا أُوتُوا) ممّا اعطى المهاجرون من الفيء وغيره (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) ويخصّون المهاجرين دون أنفسهم بما يجدون وبإنعام الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) حاجة إليه ، من خصاص البيت أي فروجه (وَمَنْ يُوقَ) يمنع عنه (شُحَّ نَفْسِهِ) حرصها على المال (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالبغية عاجلا وآجلا.

[١٠] ـ (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) (٣) بعد المهاجرين والأنصار وهم التّابعون أو المؤمنون الى يوم القيامة (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا) في الإيمان (الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا) حقدا (لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ) بالمدّ والقصر (رَحِيمٌ).

__________________

(١) حجة القراءات : ١٥٧.

(٢) ينظر تعليقنا على كلمة «باءوا» في الآية ٦١ من سورة البقرة.

(٣) ينظر تعليقنا على كلمة «باءوا» في الآية ٦١ من سورة البقرة.

٣٠٦

[١١] ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) ك «ابن ابيّ» وأضرابه (يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ) ـ في الكفر (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) وهم «النضير» ـ : (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) من وطنكم (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ) في خذلانكم (أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ) مقدّر باللّام الموطّئة بدليل لام جواب القسم في : (لَنَنْصُرَنَّكُمْ) واستغنى بجوابه عن جواب الشرط في الخمسة (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما يقولون.

[١٢] ـ (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ) اخبر بذلك قبل وقوعه ، فوقع كما اخبر ، فكان معجزا له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) فرضا (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) لينهزمنّ (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) ضمير الفعلين للمنافقين أو اليهود.

[١٣] ـ (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً) مصدر رهب ، المبنيّ للمفعول أي اشدّ مرهوبيّة (فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) فإنّهم يظهرون خوفه نفاقا بسبب ما يبطنونه من رهبتكم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) لا يعلمون عظمة الله فلا يخشونه حقّ خشيته.

[١٤] ـ (لا يُقاتِلُونَكُمْ) أي المنافقون واليهود (جَمِيعاً) مجتمعين (إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) غاية التحصين (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) جمع جدار ، من سور وغيره ، وقرأ بالمفرد «ابن كثير» و «أبو عمرو» (١) (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) إذا حارب بعضهم بعضا ، لا إذ حاربوكم فإنّهم يجبنون بما قذف الله في قلوبهم من الرّعب (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً) مجتمعين (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) متفرّقة لاختلاف أهوائهم (ذلِكَ) التشتت (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) ما فيه الرشد ، ولو عقلوا لاجتمعوا على الحق.

[١٥] ـ (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي مثلهم في سوء العاقبة كمثل من قتلوا ببدر (قَرِيباً) بزمن قريب (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) عقوبة كفرهم في الدّنيا (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة.

[١٦] ـ (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) أي مثل المنافقين في غرّهم اليهود وخذلانهم

__________________

(١) حجة القراءات : ٧٠٥.

٣٠٧

كمثل الشيطان (إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) أريد به الجنس ، أو أهل بدر قال لهم : (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ ...) الآية (١) (فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي) وسكن «الياء» «الكوفيون» و «ابن عامر» (٢) (أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ).

[١٧] ـ (فَكانَ عاقِبَتَهُما) أي الغارّ والمغرور من المشبّه والمشبّه به (أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) بالكفر.

[١٨] ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ) نكّرت لقلّة الأنفس النّواظر (ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) ليوم القيامة ، سمّى «غدا» لقربه ونكّر تعظيما (وَاتَّقُوا اللهَ) كرّر تأكيدا (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فيجازيكم به.

[١٩] ـ (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) تركوا طاعته (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) حتى لم ينفعوها بل ضرّوها (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

[٢٠] ـ (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) بنعيمها.

[٢١] ـ (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً) متشققا (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) تمثيل وتخييل ، أريد به توبيخ الإنسان على عدم خشوعه لتلاوة القرآن بدليل : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) أي هذا وغيره (نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فيتعظون ، ويمكن حمله على حقيقته.

[٢٢] ـ (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ما غاب عن الحسّ وما ظهر (هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ).

[٢٣] ـ (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ) المستغني عن كل شيء ولا شيء مستغن عنه.

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٤٨.

(٢) الكشف عن وجوه القراءات ٢ : ٣١٧.

٣٠٨

أو المتصرف في الملكوت بالقهر (الْقُدُّوسُ) المتنزّه عمّا لا يليق به (السَّلامُ) السّالم من كلّ نقص ، مصدر نعت به مبالغة (الْمُؤْمِنُ) واهب الأمن (الْمُهَيْمِنُ) الرّقيب الحافظ لكلّ شيء (الْعَزِيزُ) الغالب الّذي لا يغلب (الْجَبَّارُ) الّذي جبر خلقه على ما لا اختيار لهم فيه ، أو جبر حالهم وأصلحها ، (الْمُتَكَبِّرُ) عمّا لا يليق به (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

[٢٤] ـ (هُوَ اللهُ الْخالِقُ) المقدّر للأشياء بحكمته (الْبارِئُ) الموجد لما قدر برييّا من التّفاوت (الْمُصَوِّرُ) المرتّب لصور الموجودات احسن ترتيب (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) لدلالتها على أحسن المعاني (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ينزّهه نطقا أو حالا (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في ملكه (الْحَكِيمُ) في صنعه.

٣٠٩
٣١٠

سورة الممتحنة

[٦٠]

ثلاث عشرة آية وهي مدنية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) قيل

لمّا همّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغزو أهل مكّة ، كتب حاطب بن ابي بلتعة إليهم ينذرهم ، فبعث صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «عليّا» عليه‌السلام في نفر وقال : انطلقوا الى روضة خاخ ، فإنّ بها ظعينة (١) معها كتاب حاطب الى أهل مكّة ، فأدركوها فجحدت ، فسلّ «عليّ» عليه‌السلام سيفه فأخرجته من عقيصتها.

فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحاطب : ما حملك عليه؟ فقال : ما كفرت منذ أسلمت ولكنّي كنت غريبا في قريش وليس لي فيهم من يحمي أهلي ، فأردت أن اتّخذ عندهم يدا ، وقد علمت انّ كتابي لا يغني عنهم شيئا ، فقبل عذره ، ونزلت (٢) (تُلْقُونَ) توصلون (إِلَيْهِمْ) اخبار الرّسول (بِالْمَوَدَّةِ) بسببها ، أو «الباء» زائدة

__________________

(١) الظعينة : الهودج او المرأة مادامت في الهودج ـ قاموس اللغة.

(٢) تفسير مجمع البيان ٥ : ٢٦٩.

٣١١

و «المودّة» المفعول ، والجملة حال من فاعل «تتخذوا» أو صفة ل «اولياء» جرت على غير من هي له ، واقتضاؤها لإبراز الضّمير انّما هو في الإسم لا الفعل (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) حال عاملها أحد الفعلين (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) من مكّة ، استئناف ، بيان ل «كفروا» أو حال منه (أَنْ) لأن : (تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) منها (جِهاداً) للجهاد (فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) وجواب «أن» دلّ عليه «لا تتّخذوا» (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) استئناف يفيد انّه لا فائدة في الأسرار (وَأَنَا أَعْلَمُ) أي منكم (بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ) أي الأسرار (مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) اخطأ وسطه.

[٢] ـ (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) يظفروا بكم (يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) وان واددتموهم (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) كالقتل والشّتم (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) وتمنّوا ارتدادكم ، وعطف على المضارع إيذانا بسبق ودادهم لذلك وان لم يثقفوكم.

[٣] ـ (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ) قراباتكم (وَلا أَوْلادُكُمْ) الّذين لأجلهم توادّون الكفرة (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ) (١) بصيغة المجهول مخفّفا أي يفرق (بَيْنَكُمْ) ويفرّ بعضكم من بعض لشدة الهول ، وشدّده «ابن عامر» مجهولا و «حمزة» و «الكسائي» معلوما ، وخفّفه «عاصم» معلوما (٢) (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

[٤] ـ (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ) ـ بكسر الهمزة وضمّها في الموضعين ـ (٣) قدوة (حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) ممّن آمن به (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا) جمع بريء كشريف وشرفاء (مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ) انكرناكم وآلهتكم (وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) لا تشركوا به شيئا

__________________

(١) في المصحف الشريف بقراءة حفص : «يفصل» بصيغة المعلوم ـ كما سيشير اليه المؤلّف ـ.

(٢) حجة القراءات : ٧٠٦ و ٧٠٧.

(٣) انظر النّشر في القراءات العشر ٢ : ٣٦٨.

٣١٢

(إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) مستثنى من «أسوة» كأنّه قيل : تأسّوا بأقواله إلّا استغفاره للكافر ، فإنّه كان قبل النّهي أو قبل تبيّن عداوته لله (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) ليس من المستثنى لأنّه قول حقّ.

وانّما ذكر إتماما لقصّتهما أو هو من تتمته بأن يراد به انّه لا يملك له غير الاستغفار (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أمر للمؤمنين بأن يقولوا ذلك أو هو من تتمّة قول «ابراهيم» ومن معه أي وقالوا ذلك

[٥] ـ (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي لا تظفرهم بنا فيفتنونا أي يعذّبون (وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) في ملكك (الْحَكِيمُ) في صنعك.

[٦] ـ (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) كرّر مصدّرا بالقسم تأكيدا لأمر التّأسّى ، ولذلك أبدل من «لكم» (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) فإنّه يؤذن بأنّ تاركه لا يرجوهما ويؤكّده : (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فإنّه نوع وعيد.

[٧] ـ (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) لمّا عادى المؤمنون أقاربهم الكفرة ، أطمعهم الله أن يبدل العداوة بالمودة بأن يوفقهم للإيمان ، وقد فعل بعد الفتح فوالوهم (وَاللهُ قَدِيرٌ) على ذلك (وَاللهُ غَفُورٌ) لما سلف منكم (رَحِيمٌ) بكم.

[٨] ـ (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) من أهل العهد ، أو من اتّصف بذلك ، ثمّ نسخ بآية السّيف ، أو من آمن بمكّة (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) بدل اشتمال من «الّذين» (وَتُقْسِطُوا) تقضوا (إِلَيْهِمْ) بالقسط أي العدل (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) العادلين.

[٩] ـ (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا) عاونوا (عَلى إِخْراجِكُمْ) كمشركي مكّة (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) بدل اشتمال من «الّذين» (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) بموالاتهم.

٣١٣

[١٠] ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ) المظهرات للإيمان (مُهاجِراتٍ) من الكفّار بعد أن صالحتموهم بالحديبية على ردّ من جاءكم منهم إليهم ، بيّن انّ ذلك انّما كان في الرّجال دون النّساء (فَامْتَحِنُوهُنَ) اختبروهنّ بالحلف انّهنّ لم يخرجن إلا للإسلام لا لبغض زوج ولا لعشق مسلم ، وبغيره ممّا يفيدكم الظّنّ بصدقهنّ (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) باطنا ولا سبيل لكم الى تيقّن ذلك (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) أريد بالعلم غلبة الظّنّ بالأمارات كالحلف وغيره (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) أي ازواجهنّ (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) كرّر مبالغة وزيادة تأكيد للمنع من الرّد ، ودلّ على وقوع الفرقة (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) عليهنّ من المهور.

قيل : جاءته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبيعة بنت الحارث مسلمة بعد الصّلح ، فجاء زوجها يطلبها ، فنزلت فاستحلفها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحلفت فاعطى زوجها ما أنفق وتزوّجها عمر (١) (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) لأنّ الإسلام أبانهنّ من ازواجهنّ (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) مهورهنّ ولا يكفي ما أعطيتم ازواجهنّ (وَلا تُمْسِكُوا) وشدّده «أبو عمرو» (٢) (بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) بما يعتصمن به من عقد وسبب أي لا تقيموا على نكاحهنّ لانقطاعه بإسلامكم (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) من مهور لنسائكم اللاحقات بالكفّار (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) من مهور نسائهم المهاجرات (ذلِكُمْ) المذكور في الآية (حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) حال من «حكم» بحذف العائد اي بحكمه ، أو استئناف (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فحكمه مصلحة وحكمة ، ولمّا أبى المشركون أن يؤدّوا مهور الكوافر ، نزل

[١١] ـ (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ) أحد (مِنْ أَزْواجِكُمْ) وعبّر بالشيء تحقيرا وتعميما

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ٥ : ٢٧٣.

(٢) حجة القراءات : ٧٠٧.

٣١٤

وتغليظا في الحكم ، أو شيء من مهورهنّ (إِلَى الْكُفَّارِ) مرتدّات (فَعاقَبْتُمْ) فجاءت عاقبتكم أي نوبتكم من إعطاء المهر.

شبّه أداء كلّ من الفريقين المهر للآخر بأمر يتعاقبون فيه (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) مثل مهرها من مهر المهاجرة ولا تؤتوه زوجها الكافر.

أو المعنى وان فاتكم فأصبتم منهم عقبى أي غنيمة فآتوا مهر الفائتة من الغنيمة (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) في أحكامه.

[١٢] ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) لمّا بايعه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرّجال يوم الفتح ، جاءته النّساء يبايعنه فنزلت (وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) يئدن البنات (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) وهو أن يلحق بأزواجهنّ غير اولادهنّ من اللقطاء ، ووصف بوصف ولدها الحقيقي من انّه إذا ولد سقط بين يديها ورجليها.

وقيل هو الكذب والنميمة وقذف المحصنة (١) (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) هو فعل الحسن وترك القبيح (فَبايِعْهُنَ) على ذلك (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) للمؤمنين والمؤمنات.

[١٣] ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) هم جميع الكفّار أو اليهود.

قيل كان بعض فقراء المسلمين يواصلونهم طمعا في ثمارهم (٢) فنزلت (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) من ثوابها لتكذيبهم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع علمهم بصدقه من كتابهم (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) أن يبعثوا أو ينفعوهم.

__________________

(١) تفسير التبيان ٩ : ٥٨٨.

(٢) نقله البيضاوي في تفسيره ٤ : ٢٠٠.

٣١٥
٣١٦

سورة الصفّ

[٦١]

اربع عشرة آية مدنية أو مكيّة.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] ـ (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فسّر (١).

[٢] ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) قيل لمّا اخبر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بثواب أهل بدر ، قالت الصّحابة : لإن لقينا قتالا لنفرغنّ فيه وسعنا ، ففرّوا بأحد فنزلت (٢).

أو في قوم قالوا : جاهدنا وفعلنا ولم يفعلوا وهو يعمّ كلّ أخلاف ، إذ السّبب لا يخصّص وكثر حذف ألف «ما» الاستفهاميّة مع حروف الجرّ لكثرة الاستعمال.

[٣] ـ (كَبُرَ) عظم (مَقْتاً) تمييز ، وهو أشدّ البغض (عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا) فاعل «كبر» (ما لا تَفْعَلُونَ) وفيه مبالغة في المنع منه.

[٤] ـ (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) صافّين ، مصدر بمعنى

__________________

(١) في سورتي الحديد : ٥٧ / ١ ـ الحشر : ٥٩ / ١.

(٢) قاله مقتال والكلبي ـ كما في تفسير مجمع البيان ٥ : ٢٧٨.

٣١٧

الحال (كَأَنَّهُمْ) في تراصتهم بلا خلل (بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) ملصق بعضه ببعض ، مستحكم ، حال متداخلة.

[٥] ـ (وَإِذْ) واذكر إذ (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) فسّر ايذاؤه في آخر سورة الأحزاب (١) (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) والرّسول يعظّم ولا يؤذى.

و «قد» للتّحقيق والجملة حال (فَلَمَّا زاغُوا) عدلوا عن الحق (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) خلاهم ، وسوء اختيارهم ، فبقيت قلوبهم على زيغها (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الى الجنّة ، أو لا يلطف بهم لاختيارهم الفسق.

[٦] ـ (وَإِذْ) واذكر إذ (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ) لما تقدّمنى (مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي) (٢) وسكّن «الياء» «ابن عامر» و «حفص» و «الكسائي» (٣) (اسْمُهُ أَحْمَدُ) و «مصدّقا» و «مبشّرا» حالان عاملهما معنى الإرسال في الرّسول.

وفيه ردّ على من يدّعى ألوهيّته بأنّه رسول الله ومؤمن بكتبه ورسله ، وذكر أشهر الكتب عندهم وأفضل الرّسل وخاتمهم وبشارته به أمر لهم باتّباعه إذا جاء (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا) المجيء به (سِحْرٌ مُبِينٌ) بيّن ، وقرأ «حمزة» و «الكسائي» : «ساحر» (٤) فالإشارة الى الجائي بها.

[٧] ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بتسمية معجزاته سحرا (وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) الّذي فيه سعادة الدّارين ، فجعل مكان الإجابة الافتراء (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لا يلطف بهم لاختيارهم الظّلم.

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٥٣ / ٥٧ / ٥٨.

(٢) في المصحف الشريف بقراءة حفص : «من بعدي» بسكون الياء ـ كما سيشير اليه المؤلّف ـ.

(٣) الكشف عن وجوه القراءات ٢ : ٣٢١.

(٤) حجة القراءات : ٧٠٧.

٣١٨

[٨] ـ (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا) نصب بأن مقدّرة واللام زائدة أو للعلّة ، أي : يريدون الافتراء ليطفئوا (نُورَ اللهِ) برهانه أو دينه أو القرآن (بِأَفْواهِهِمْ) بطعنهم فيه (وَاللهُ مُتِمُ) (١) مظهر (نُورِهِ) بإعلانه وتأييده ، واضافه «ابن كثير» و «حفص» و «حمزة» و «الكسائي» (٢) (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) إتمامه.

[٩] ـ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ) ليغلبه (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) على كلّ دين.

عن «الباقر» عليه‌السلام : انّ ذلك يكون عند خروج المهدي من آل «محمّد» صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ذلك (٣).

[١٠] ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ) وشدّده «ابن عامر» (٤) (مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) ثمّ استأنف لبيان التّجارة فقال :

[١١] ـ (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) وهو أمر أتى بلفظ الخبر اشعارا بتأكّده (ذلِكُمْ) المذكور (خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) انّه خير ، فافعلوه.

[١٢] ـ (يَغْفِرْ) جواب للأمر ، المراد بالخبر أو لشرط مقدّر أي ان تفعلوه يغفر (لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) اقامة (ذلِكَ) المذكور (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

[١٣] ـ (وَأُخْرى) أي ولكم الى هذه النّعمة الآجلة نعمة اخرى عاجلة أو يؤتكم نعمة اخرى (تُحِبُّونَها) صفة (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) خبر محذوف على الوجهين ، أو بدل

__________________

(١) في المصحف الشريف بقراءة حفص : «متم نوره» بالإضافة ـ كما سيشير اليه المؤلّف ـ.

(٢) الكشف عن وجوه القراءات ٢ / ٣٢٠.

(٣) تفسير نور الثقلين ٥ : ٣١٧ مع اختلاف يسير.

(٤) الكشف عن وجوه القراءات ٢ : ٣٢٠.

٣١٩

على الأوّل (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) عاجل وهو فتح «مكّة» أو الأعمّ منه (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بما وعدناهم عاجلا وآجلا.

[١٤] ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) لدينه ، واضافه «الكوفيّون» و «ابن عامر» (١) (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ) هم أصفياؤه.

واوّل من آمن به وكانوا اثنى عشر من الحور وهو البياض (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) أي من الأنصار الكائنون معي متوجّها الى نصرة الله ، وفتح «نافع» «الياء» (٢) (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) اضافة الفاعل الى المفعول والسّابقة اضافة احد المتشاركين الى الآخر.

والمعنى كونوا أنصار الله كما كان الحواريّون أنصار الله في جوابهم لعيسى (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) بعيسى عليه‌السلام (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) منهم به (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) الطائفة المؤمنة (عَلى عَدُوِّهِمْ) الطّائفة الكافرة (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) غالبين بالحجّة أو الحرب.

__________________

(١) الكشف عن وجوه القراءات ٢ : ٣٢٠.

(٢) الكشف عن وجوه القراءات ٢ : ٣٢١.

٣٢٠