الوجيز في تفسير القرآن العزيز - ج ٢

الشيخ علي بن الحسين بن أبي جامع العاملي

الوجيز في تفسير القرآن العزيز - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي بن الحسين بن أبي جامع العاملي


المحقق: الشيخ مالك المحمودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: نگين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٨

آثروه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل الكتاب (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) مع وضوحها (إِلَّا الْكافِرُونَ) المصمّمون على الكفر.

[٤٨] ـ (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) ذكرت زيادة تصوير للمنفي (إِذاً) أي لو كنت تقرأ وتخط (لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) الذين شأنهم الإبطال ، أي كفرة «مكة» وقالوا لعلّه جمعه من كتب الأوّلين ، أو أهل الكتاب وقالوا الّذي في كتبنا أنه أمىّ.

[٤٩] ـ (بَلْ هُوَ) أي القرآن (آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) يحفظونه عن التحريف وهم النبيّ وآله صلوات الله عليهم (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) الواضحة (إِلَّا الظَّالِمُونَ) بالعناد والمكابرة.

[٥٠] ـ (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ) (١) (مِنْ رَبِّهِ) كناقة «صالح» وعصا «موسى» ومائدة «عيسى» وقرأ من عدا «ابن كثير» و «أبا بكر» و «حمزة» و «الكسائي» : آيات (٢) (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) ينزّلها كما يشاء (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) للإنذار بما أوتيت من الآيات.

[٥١] ـ (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) آية بالغة (أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) على الدوام ، فهو آية ثابتة لا تزول بخلاف سائر الآيات (إِنَّ فِي ذلِكَ) الكتاب المعجز المستمرّ (لَرَحْمَةً وَذِكْرى) نعمة وعظة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) به.

[٥٢] ـ (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) بصدقي ، إذ صدّقني بالمعجزات أو بتبليغي ومقابلتكم لي بالتكذيب (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيعلم حالي وحالكم (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) بإلهيّة غير الله (وَكَفَرُوا بِاللهِ) منكم (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) في صفقتهم حيث اشتروا الباطل بالحق.

__________________

(١) في المصحف الشريف بقراءة حفص : «آيات».

(٢) حجة القراآت : ٥٥٢.

٥٠١

[٥٣] ـ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) استهزاء (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى) لعذابهم (لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) عاجلا (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً) فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بإتيانه.

[٥٤] ـ (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) ستحيط بهم أو كالمحيطة بهم لإحاطه الكفر الموجب لها بهم ، واللام للجنس فيعمهم حكمه.

أو للعهد بوضع الظاهر موضع الضمير إشعارا بموجب الحكم.

[٥٥] ـ (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) ظرف «لمحيطة» (مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) تغطّيهم مبتدئا من الجهتين (وَيَقُولُ) (١) وقرأ «نافع» و «الكوفيون» بالياء (٢) والقائل الله أو ملك بأمره (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي جزائه.

[٥٦] ـ (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) وحذف الياء وصلا «أبو عمرو» و «حمزة» و «الكسائي» وفتحها الباقون وصلا وسكّنوها وقفا (٣) (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) فهاجروا من أرض لم يتيسّر لكم فيها العبادة الى أرض تتيسّر فيها. وفتح «ابن عامر» الياء (٤) (فَإِيَّايَ) نصب بما يفسّره (فَاعْبُدُونِ) والفاء جواب شرط مقدّر أي إن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فاخلصوها في غيرها.

[٥٧] ـ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) واجدة كربه (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) بعده للجزاء ، وقرأ «أبو بكر» بالياء (٥).

[٥٨] ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) لننزّلنّهم (مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) علالي ، وقرأ «حمزة» و «الكسائي» : «لنثويّنهم» من الثّواء : الإقامة ، فنصب «غرفا» بحذف «في» أو بتضمينه معنى ننزلنّهم ، أو تشبيه الظرف الموقت بالمبهم (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أجرهم.

__________________

(١) في المصحف الشريف بقراءة حفص : «يقول» ـ كما سيشير اليه المؤلّف ـ.

(٢) الكشف عن وجوه القراآت ٢ : ١٨٠.

(٣) الكشف عن وجوه القراآت ٢ : ١٨١.

(٤) الكشف عن وجوه القراآت ٢ : ١٨١.

(٥) الكشف عن وجوه القراآت ٢ : ١٨١.

٥٠٢

[٥٩] ـ (الَّذِينَ صَبَرُوا) على أذى الكفرة والبليّات ومشقّة الهجرة والطاعات (وَعَلى رَبِّهِمْ) لا غيره (يَتَوَكَّلُونَ) في المهمات.

[٦٠] ـ (وَكَأَيِّنْ) وكم (مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) لضعفها عن حمله أو لا تدخره (اللهُ يَرْزُقُها) مع ضعفها (وَإِيَّاكُمْ) مع قوتكم على الكسب والحمل ، أي لا يرزق الكل إلّا هو لأنّه المسبب لأسباب رزقهم.

قيل : لما أمروا بالهجرة ، فقال بعضهم : كيف نقدم بلدة لا معيشة لنا فيها؟ فنزلت (١) (وَهُوَ السَّمِيعُ) لقولكم (الْعَلِيمُ) بسرّكم.

[٦١] ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي أهل «مكة» (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) مقرّين بأنّه الفاعل لذلك (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) يصرفون عن توحيده مع إقرارهم بذلك.

[٦٢] ـ (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) يوسعه (لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) يضيق (لَهُ) بعد البسط ، فالأمران لواحد أو يقدر لمن يشاء على وضع الهاء موضعه مبهمة مثله فليسا لواحد (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم موضع البسط والتقتير.

[٦٣] ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ) فكيف يشركون به الجماد (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على ما وفقك لتوحيده ، أو على إلزامهم الحجّة (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) انّ ما أقرّوا به مبطل لشركهم.

[٦٤] ـ (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا) الحقيرة (إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) إلّا كما يلهو ويلعب الصّبيان ساعة ثمّ يتفرقون (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) لهي دار الحياة الحقيقية الأبدية ، أو جعلت حياة مبالغة وهو مصدر «حيي» وأصله حييان ، قلبت الثّانية واو واختير هنا على الحياة لأنّه أبلغ لتضمن بناءه معنى الحركة اللازمة للحياة (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ذلك ، ما آثروا الحياة الزائلة عليها.

__________________

(١) ينظر تفسير البيضاوي ٤ : ٢٠.

٥٠٣

[٦٥] ـ (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي الدعاء لا يدعون إلّا إيّاه ، إذ لا يكشف الشدة سواه (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) عادوا إلى الشرك.

[٦٦] ـ (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) من نعمة الإنجاء (وَلِيَتَمَتَّعُوا) بعكوفهم على أصنامهم ، واللام فيها لام كي (١) أو لام أمر تهديد ، ويعضده قراءة «قالون» و «ابن كثير» و «حمزة» و «الكسائي» : «وليتمتعوا» بسكونها (٢) (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) غبّ ذلك.

[٦٧] ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا) بلدهم «مكة» (حَرَماً آمِناً) أهله من القتل والأسر والنهب (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) بالتّغاور (٣) قتلا وأسرا ونهبا دونهم (أَفَبِالْباطِلِ) أبعد هذه النعمة وغيرها بالصنم (يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) بإشراكهم به.

[٦٨] ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ) أي لا أظلم (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بادعاء شريك له (أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِ) الرسول أو الكتاب (لَمَّا جاءَهُ) من غير تثبّت ولا تروّ (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) تقرير لثوائهم ، أي : ألا يثوون فيها وقد افتروا وكذبوا مثل هذا الافتراء والتكذيب.

[٦٩] ـ (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) في حقّنا ما يجب جهاده من النفس والشيطان وحزبه (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) سبل الجنة أو سبل الخير. بزيادة اللطف (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (٤). أو : والذين عملوا بما علموا لنهدينّهم الى ما لم يعلموا (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) بالنصر والعون.

__________________

(١) اي لام العلة.

(٢) حجة القراآت : ٥٥٥.

(٣) التغاور : إغارة بعضهم على بعض.

(٤) سورة محمّد : ٤٧ / ١٧.

٥٠٤

سورة الروم

[٣٠]

ستون أو تسع وخمسون آية مكية.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] ـ (الم) [٢] ـ (غُلِبَتِ الرُّومُ) هم «النصارى» غلبتهم فارس المجوس.

[٣] ـ (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) أرض العرب منهم وهي أطراف الشام ، أو أدنى ارضهم من عدوّهم وهي الجزيرة (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) مصدر مضاف الى المفعول أي بعد أن غلبتهم «فارس» (سَيَغْلِبُونَ) فارس.

[٤] ـ (فِي بِضْعِ سِنِينَ) وهو ما بين الثلاث والعشر.

قيل : لما غلبهم «فارس» فرح المشركون وقالوا للمسلمين : أنتم والنصارى أهل كتاب ونحن و «فارس» امّيّون ، وقد غلب إخواننا إخوانكم ولنغلبنكم ، فنزلت.

وهي من آيات النبوة لأنّها إنباء بالغيب ، فغلبت «الروم» «فارس» في السنة السابعة من غلبهم (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) قبل غلبهم لفارس وهو حين غلبوا وبعد غلب «فارس» ايّاهم وهو حين يغلبون أي كونهم مغلوبين أولا وغالبين آخرا ليس إلّا بأمر الله تعالى (وَيَوْمَئِذٍ) ويوم تغلب الروم (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ).

٥٠٥

[٥] ـ (بِنَصْرِ اللهِ) ايّاهم على «فارس» لاغتمام المشركين به ، أو بنصر الله المؤمنين بإظهار صدق نبيّهم فيما أخبر به ، أو بتولية بعض الظالمين بعضا.

ووافق ذلك يوم نصر المؤمنين ببدر فنزل به «جبرائيل» ففرحوا بالنصرين (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) بمقتضى الحكمة (وَهُوَ الْعَزِيزُ) بخذلانه لمن يشاء (الرَّحِيمُ) بنصره لمن يشاء.

[٦] ـ (وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد لنفسه ما سبق في معنى وعد (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) لقبح الكذب فيمتنع عليه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) صحة وعده لجهلهم به.

[٧] ـ (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي مكاسبها كالتجارة والزراعة والبناء ونحوها ، والجملة بدل من «لا يعلمون».

ويفيد أن علمهم بأمور الدنيا بمنزلة الجهل المطلق.

ونكّر «ظاهرا» إشعارا بأنّهم لا يعلمون إلّا بعض ظاهرها فضلا أن يعلموا باطنها من انّها مجاز إلى الآخرة (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ) التي هي الغرض منها (هُمْ غافِلُونَ) مبتدأ وخبر ، والجملة خبر «هم» الاولى ، أو الثانية تكرير للأولى ، وعلى الوجهين يفيد رسوخ غفلتهم عن الآخرة.

[٨] ـ (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) ظرف ، كقولك تفكّر في قلبه أو صلة ، أي ا ولم يتفكروا في أمرها ، فإنّها أقرب شيء إليهم ، وفيها ما في العالم من عجائب الصنع ليعلموا أن من قدر على ابدائها ، قادر على إعادتها ، فيقولوا أو فيعلموا (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) ينتهي بقاؤها إليه (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) بلقاء جزائه والبعث (لَكافِرُونَ) جاحدون لعدم تفكّرهم.

[٩] ـ (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) تقرير لسيرهم في البلاد ، ونظرهم الى آثار الهالكين بعتوّهم (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) ك «عاد»

٥٠٦

و «ثمود» (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) قلبوها للزرع واستحداث الأنهار والآبار وغيرها (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) من عمارة أهل «مكة» وهو تهكّم بهم إذ لا إثارة لهم ولا عمارة أصلا مع تباهيهم بالدنيا التي عمدة ما يتباهى به أهلها الإثارة والعمارة (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالحجج الواضحات (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) بتدميرهم بغير ذنب (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث عملوا ما أوجب تدميرهم.

[١٠] ـ (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا) وضع موضع عاقبتهم (السُّواى) العقوبة «السوأى» تأنيث أسوء ، أو مصدر وصف به (أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) علة أو بدل من «السوأى» أو خبر «كان» و «السوأى» مصدر «أساؤا».

أو مفعوله بمعنى : كان عاقبة الذين فعلوا الخطيئة أن منعوا اللطف حتى كذبوا واستهزءوا بالآيات ، ونصب «الكوفيون» و «ابن عامر» : «عاقبة» (١) خبرا ل «كان» واسمها «السوأى» و «أن كذبوا» كما مرّ (٢).

[١١] ـ (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) ينشئهم (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بالبعث (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) التفات الى الخطاب ، وقرأ «أبو بكر» و «أبو عمرو» بالياء (٣).

[١٢] ـ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) يسكتون حيرة ويأسا.

[١٣] ـ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ) ممّن اشركوهم بالله (شُفَعاءُ) يخلّصونهم كما زعموا (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) جاحدين لإلهيّتهم.

وعبّر بالماضي لتحققه أو كانوا في الدنيا كافرين بسببهم.

[١٤] ـ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ) تأكيد (يَتَفَرَّقُونَ) أي المؤمنون والكافرون.

[١٥] ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ) أرض ذات خضرة

__________________

(١) حجة القراآت : ٥٥٦ ـ تفسير البيضاوي ٤ : ٢٣.

(٢) مرّ عند قوله أعلاه : او بدل من السّواى وللتفصيل راجع تفسير البيضاوي ٤ : ٢٣.

(٣) حجة القراآت : ٥٥٦ ـ تفسير البيضاوي ٤ : ٢٣.

٥٠٧

وماء ، وهي الجنة (يُحْبَرُونَ) يسرون سرورا ، يتهلّلون له.

[١٦] ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) مخلصون (١) لا يفارقونه.

[١٧] ـ (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ).

[١٨] ـ (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) أمر بلفظ الخبر أي نزّهوه تعالى : وأثنوا عليه في هذه الأوقات لظهور قدرته وتجدد نعمته فيها.

وخصّ «التسبيح» بالمساء والصباح لأظهريّة آثار القدرة فيهما ، والحمد بالعشيّ وهو آخر النهار والظهيرة وهي وسطه لأكثرية تجدد النّعم فيهما ، والأظهر كون «عشيا» عطفا على «حين تمسون» و «له الحمد» اعتراض يخصّصه بنعوت الكمال والجلال والغنى عن تسبيح خلقه وحمدهم.

وعن «ابن عباس» : أن فيها الصّلوات الخمس ، «تمسون» صلاة المغرب والعشاء ، و «تصبحون» صلاة الصبح ، و «عشيا» صلاة العصر و «تظهرون» صلاة الظهر ، وفي الحديث حثّ على تلاوتها (٢).

[١٩] ـ (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالإنسان من النطفة والطائر من البيضة (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ) النطفة والبيضة (مِنَ الْحَيِ) وخفّف «الميّت» «ابن كثير» و «أبو عمرو» و «ابن عامر» و «أبو بكر» (٣) (وَيُحْيِ الْأَرْضَ) بالنبات (بَعْدَ مَوْتِها) يبسها (وَكَذلِكَ) الإخراج (تُخْرَجُونَ) من قبوركم أحياء ، وفتح «حمزة» و «الكسائي» «التاء» (٤).

__________________

(١) كذا في «أ» ، وفي «ب» ، و «ج» : «محصولون» ـ وقد فسره البيضاوي في تفسيره ٤ : ٢٣ بقوله :

مدخلون لا يغيبون عنه.

(٢) ينظر البيضاوي ٤ : ٢٣ ، ٢٤.

(٣) ينظر البيضاوي ٤ : ٢٣ ، ٢٤.

(٤) تفسير البيضاوي ٤ : ٢٤ وحجة القراآت : ٥٥٧.

٥٠٨

[٢٠] ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) خلق أصلكم منه (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) في الأرض.

[٢١] ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) خلق حوّاء من ضلع آدم أو من فضل طينته وسائر النساء من نطف الرّجال ، أو من جنسكم (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) لتألفوها (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ) بين الرّجال والنساء أو أشخاص النوع (مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) بالزواج لا لسابقة معرفة أو رحم أو بتوقف تعيّشكم على التعاون المحوج الى التعاطف (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور (لَآياتٍ) على قدرته وحكمته (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فيه.

[٢٢] ـ (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) لغاتكم بأن علّم كل ناس لغة وألهمهم وضعها ، أو كيفيّات نطقكم التي يمتاز بها كلّ شخص عن غيره (وَأَلْوانِكُمْ) من بياض وسواد وغيرهما ، فوقع بذلك التمايز والتعارف المترتّب عليهما حكم ومصالح (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) (١) الثقلين والملائكة ، وكسر «حفص» «اللام» أي اولى العلم (٢).

[٢٣] ـ (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) نومكم في الوقتين للاستراحة وطلب معاشكم فيهما ، أو نومكم باللّيل وطلبكم بالنهار ، فلف ، لكن فصل بين الفعلين بالوقتين إيذانا بصلاحية كل منهما للآخر عند الحاجة وان اختص بأحدهما ، ويوافقه الآيات المتضمنة له (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) سماع تدبّر.

[٢٤] ـ (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) منزل منزلة المصدر أو مقدر بأن (خَوْفاً) من الصاعقة للمسافر (وَطَمَعاً) في المطر للحاضر ، وهما علّتان لما يلزم إرائتهم وهو رؤيتهم أو حالان (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)

__________________

(١) في المصحف الشريف بقراءة حفص : «للعالمين» ـ كما سيشير اليه المؤلّف ـ.

(٢) تفسير البيضاوي ٤ : ٢٤ وحجة القراآت : ٥٥٧.

٥٠٩

يتفكرون فيه بعقولهم ، ليعلموا قدرة مدبرها وحكمته.

[٢٥] ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) بإرادته بغير عمد (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) عطف على «أن تقوم» بتأويل مفرد أي من آياته قيامهما ثمّ خروجكم من القبور إذا دعاكم دعوة واحدة يا أهل القبور أخرجوا.

والمراد سرعة وجود ذلك بلا توقف كإجابة الداعي المطاع مدعوّه.

و «ثمّ» لتراخيه أو لعظم ما فيه ، وتعلّق «من الأرض» ب «دعا» لا ب «تخرجون» لتوسط «إذا» الفجائية وهي تنوب فاء جزاء السابقة.

[٢٦] ـ (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) منقادون لفعله بهم.

[٢٧] ـ (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد إهلاكهم (وَهُوَ) أي الإعادة والتذكير على معنى أن يعيد (أَهْوَنُ عَلَيْهِ) من البدء بالقياس على أصولكم وإلّا فهما عليه سواء في السّهولة.

وقيل أهون بمعنى هين ، وقيل : الهاء للخلق (١) (وَلَهُ الْمَثَلُ) الوصف (الْأَعْلى) الذي ليس لغيره مثله من الوحدانية والقدرة والحكمة وقد وصف به (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) نطقا ودلالة (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في ملكه (الْحَكِيمُ) في صنعه.

[٢٨] ـ (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً) منتزعا (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) التي هي أقرب شيء منكم (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) من مماليككم أي بعضهم (مِنْ شُرَكاءَ) «من» زائدة تؤكد الاستفهام المراد به النفي (فِي ما رَزَقْناكُمْ) من الأموال (فَأَنْتُمْ) وهم (فِيهِ سَواءٌ) لا فضل بينكم وبينهم مع كونهم بشرا مثلكم (تَخافُونَهُمْ) أن تنفردوا بتصرف فيه (كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أمثالكم من الأحرار أي لا ترضون بذلك فكيف تشركون بالله مماليكه في الإلهية (كَذلِكَ) التفصيل (نُفَصِّلُ الْآياتِ) نبيّنها (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يتدبّرون بعقولهم.

__________________

(١) ينظر تفسير البيضاوي ٤ : ٢٥ وتفسير مجمع البيان ٤ : ٣٠٢.

٥١٠

[٢٩] ـ (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أشركوا (أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) جاهلين يهيمون كالبهائم (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) أي لا هادي لمن خذله (١) ولم يلطف به (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ما نعين ممّا استوجبوا من الخذلان.

[٣٠] ـ (فَأَقِمْ وَجْهَكَ) قوّمه (لِلدِّينِ حَنِيفاً) مائلا إليه ، ثابتا عليه أنت ومن تبعك وأفرد بالخطاب تعظيما له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فِطْرَتَ اللهِ) خلقته نصب بتقدير الزموا (الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) وهي قبولهم لدين الإسلام إذ لو خلّوا وما فطروا عليه ما اختاروا عليه دينا (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) أي ما ينبغي أن تبدّل (٢) تلك الفطرة (ذلِكَ) هو (الدِّينُ الْقَيِّمُ) المستقيم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك لعدم تفكّرهم.

[٣١] ـ (مُنِيبِينَ) راجعين (إِلَيْهِ) وهو حال من ضمير الزموا المقدر (وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

[٣٢] ـ (مِنَ الَّذِينَ) بدل بإعادة «من» (فَرَّقُوا دِينَهُمْ) باختلافهم فيما يعبدونه ، وقرأ «حمزة» و «الكسائي» : «فارقوا» (٣) أي تركوا دينهم الذي أمروا به (وَكانُوا شِيَعاً) فرقا ، كل فرقة تشيّع إماما (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) مسرورون ، يظنونه الحق.

[٣٣] ـ (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) شدّة (دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ) راجعين (إِلَيْهِ) عن غيره (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) خلاصا من الشدة (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) في مقابلة رحمته.

[٣٤] ـ (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) اللام للعاقبة أو للأمر على التهديد ، والتفت في : (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة تمتعكم.

[٣٥] ـ (أَمْ) بل أ(أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) حجة (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ) تكلّم دلالة

__________________

(١) في «ج» من خذله.

(٢) في «آ» : أن تبدله.

(٣) تفسير مجمع البيان ٤ : ٣٠٤ والنشر في القراآت العشر ٢ : ٢٦٦.

٥١١

(بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) باشراكهم وصحّته.

[٣٦] ـ (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) نعمة (فَرِحُوا بِها) بطرا (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) شدّة (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بسبب ذنوبهم (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) من الرحمة.

[٣٧] ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا) يعلموا (أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) يوسعه (لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) يضيقه لمن يشاء بحسب الحكمة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) على قدرته وحكمته (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بها.

[٣٨] ـ (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) اقربائك ، فرضهم من الخمس.

وعن «الصّادقين» عليهما‌السلام وغيرهما : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نزلت ، أعطى «فاطمة» عليها‌السلام فدكا (١).

وقيل : أمر له ولأمّته بصلة الرّحم (٢) (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) حقهما من الزكاة (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ) بمعروفهم (وَجْهَ اللهِ) جهة التقرب إليه ، لا جهة اخرى (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالنّعيم الباقي.

[٣٩] ـ (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً) زيادة محرّمة في المعاملة ، أو عطيّة يطلب بها اكثر منها ، وقصّره «ابن كثير» أي ما جئتم به من ربا (٣) (لِيَرْبُوَا) ليزيد (فِي أَمْوالِ النَّاسِ) أكلة الرّبوا ، وقرأ «نافع» بالتاء مضمومة وسكون الواو أي ليزيدوا (٤) (فَلا يَرْبُوا) فلا يزكو (عِنْدَ اللهِ) بل يمحقه ، أو لا يثيب المكافئ (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) لا غيره (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) ذووا الأضعاف من الثواب كالموسر لذوي اليسار أو الذين ضعّفوا أموالهم وثوابهم بالزكاة ، والتفت تعظيما لهم كأنه

__________________

(١) يراجع تفسير مجمع البيان ٤ : ٣٠٦ ، صحيح البخاري الجزء الخامس باب غزوة خيبر : ١٣٩ ـ صحيح مسلم الجزء الخامس كتاب الجهاد : ١٥٤.

(٢) قاله الحسن كما في تفسير مجمع البيان ٤ : ٣٠٦.

(٣) الكشف عن وجوه القراآت ٢ : ١٨٤ وتفسير مجمع البيان ٤ : ٣٠٥.

(٤) الكشف عن وجوه القراآت ٢ : ١٨٤ وتفسير مجمع البيان ٤ : ٢٦.

٥١٢

يصفهم لخواصّه ويقدر له رابط ب «ما» (١) أي المضعفون به.

[٤٠] ـ (اللهُ) مبتدأ والخبر (الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي هو فاعل لهذه الأفعال التي لا يقدر على شيء منها غيره (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) ممّن اشركتموهم به من الأصنام وغيرها (مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ) المذكور (مِنْ شَيْءٍ) حتى تجوز عبادتكم لهم ، و «من» الاولى تبعيضيّة ، والثانية ابتدائية ، والثالثة زائدة ، وكل منها تأكيد لتعجيز شركائهم.

ويجوز كون الموصول صفة والخبر «هل من شركائكم» والرابط «من ذلكم» إذ معناه من أفعاله (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) به.

[٤١] ـ (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) كالقحط والموتان (٢) وكثرة المضارّ ومحق البركات.

وقيل : أريد بالبحر قراه (٣) (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) بسبب ذنوبهم أو ظهر الشّر والظّلم بكسبهم إيّاه (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) بعض وباله عاجلا ، واللام للعلة أو العاقبة : وقرأ «قنبل» بالنون (٤) (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) يتوبون.

[٤٢] ـ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) من تدميرهم بسوء فعلهم (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) أي دمّر أكثرهم للشرك ، وقليل منهم لما دونه من المعاصي.

[٤٣] ـ (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) المستقيم (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ) لا يرده أحد (مِنَ اللهِ) متعلق ب «يأتى» أو ب «مردّ» أي لا يردّه الله بعد أن يجيء به

__________________

(١) اي ب «ما» الموصولة في قوله : «ما آتيتم».

(٢) الموتان بالتحريك بمعنى الموت ، اقرب الموارد.

(٣) اي التي هي في ساحل البحر ، قاله الحسن كما في تفسير مجمع البيان ٣ : ٤٨٢.

(٤) الكشف عن وجوه القراآت ٢ : ١٨٥.

٥١٣

(يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) يتصدعون أي يتفرقون الى الجنة والنّار.

[٤٤] ـ (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ) لا على غيره (كُفْرُهُ) أي وباله وهو النّار (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ) لا لغيرها (يَمْهَدُونَ) منزلا في الجنة.

[٤٥] ـ (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) علة ل «يمهدون» أو ل «يصّدعون» ولم يقل ليجزيهم بل صرح بوصفهم إيذانا بعلية الإيمان والصلاح لجزائهم (مِنْ فَضْلِهِ) زيادة على ثوابهم الواجب لهم أو من عطائه وهو ثوابهم (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أي يجازيهم بالعقوبة على كفرهم.

[٤٦] ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ) الجنوب والصّبا ، والشمال وهي للرحمة ، وأمّا الدّبور فللعذاب ، ووحّدها «ابن كثير» و «حمزة» و «الكسائي» إرادة للجنس (١) (مُبَشِّراتٍ) بالغيث (وَلِيُذِيقَكُمْ) عطف على معنى «مبشرات» أي لتبشّركم وليذيقكم (مِنْ رَحْمَتِهِ) وهي الغيث المسبّب عنها ، أو الخصب التابع له ، أو الرّوح الحاصل بهبوبها (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ) بإرادته (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بتجارة البحر (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هذه النعمة فتوحدونه.

[٤٧] ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) فكذبوهم (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) بالإهلاك (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) في جعلهم مستحقين عليه أن ينصرهم تعظيما لهم وإظهارا لكرامتهم.

[٤٨] ـ (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) بالقراءتين (٢) (فَتُثِيرُ سَحاباً) تهيّجه (فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ) في جهتها (كَيْفَ يَشاءُ) من قلة وكثرة وغيرهما (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) قطعا متفرقة ، وسكّنه «ابن عامر» (٣) (فَتَرَى الْوَدْقَ) المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) من مخارجه

__________________

(١) تفسير البيضاوي ٤ : ٢٧ وحجة القراآت : ١١٨.

(٢) المذكورتين في الآية (٤٦) من هذه السورة.

(٣) تفسير البيضاوي ٤ : ٢٧ وحجة القراآت : ٥٦٠.

٥١٤

(فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) يفرحون به.

[٤٩] ـ (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ) كرّر تأكيدا ، وقيل : الهاء للإرسال (لَمُبْلِسِينَ) لآيسين.

[٥٠] ـ (فَانْظُرْ إِلى آثارِ) (١) (رَحْمَتِ اللهِ) أثر المطر من النبات والخصب ، وجمعه «ابن عامر» و «حفص» و «حمزة» و «الكسائي» (٢) (كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ) المحيي للأرض برحمته (لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومنه إحياء الموتى.

[٥١] ـ (وَلَئِنْ) لام قسم (أَرْسَلْنا رِيحاً) ضارّة (فَرَأَوْهُ) أي الأثر وهو النبات (مُصْفَرًّا) وقيل : الهاء للسّحاب لأنه إذا اصفرّ لم يمطر (لَظَلُّوا) لصاروا ، جواب سدّ مسدّ الجزاء (مِنْ بَعْدِهِ) بعد أن رأوه مصفرّا (يَكْفُرُونَ) ذمّهم بأنّهم إذا حبس عنهم المطر قنطوا ولم يستغفروا ، وإذا امطروا فرحوا ولم يشكروا ، وإذا ضرب زرعهم بالصّفار كفروا نعمته ولم يصبروا.

[٥٢] ـ (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) شبّهوا بهم في عدم تدبّرهم وبالصمّ في : (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) فإنّهم حينئذ أبعد عن الإسماع ، وقرأ «ابن كثير» بالياء ورفع «الصّمّ» (٣).

[٥٣] ـ (وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) أي ما تبعدهم عنها بالهدى ، وقرأ «حمزة» تهدي (٤) (إِنْ) ما (تُسْمِعُ) سماع قبول (إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) من علمه الله أنّه يصدق بها (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) منقادون لأمره.

__________________

(١) في المصحف الشريف بقراءة حفص : «آثار» ـ كما سيشير اليه المؤلّف ـ.

(٢) تفسير البيضاوي ٤ : ٢٧ والكشف عن وجوه القراآت ٢ : ١٨٥.

(٣) تفسير البيضاوي ٤ : ٢٨ وحجة القراآت : ٥٦١.

(٤) تفسير البيضاوي ٤ : ٢٨ وحجة القراآت : ٥٦٢.

٥١٥

[٥٤] ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) أي ابتدأكم أطفالا ضعافا ، أو خلقكم من النّطفة (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) أي قوّة الشباب ، أو تعلق الرّوح (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) أي في حال الشيخوخة والهرم ، وفتح «عاصم» و «حمزة» ضاد الثّلاث (١) (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من ضعف وقوة وشيبة (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بكل شيء (الْقَدِيرُ) على ما يشاء.

[٥٥] ـ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) القيامة (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا) في القبور أو في الدنيا ، أو في ما بين فنائها والبعث وهو وقت انقطاع عذابهم (غَيْرَ ساعَةٍ) يستقصرون مدّة لبثهم بالنسبة الى مدة عذاب الآخرة أو ينسونها (كَذلِكَ) الصّرف عن الصّدق (كانُوا يُؤْفَكُونَ) يصرفون في الدنيا.

[٥٦] ـ (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ) من الملائكة وغيرهم (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ) في علمه أو اللّوح ، أو ما كتبه أي أوجبه أو القرآن من قوله (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ) ، (٢) (إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) ردّوا قولهم واطلعوهم على الحقيقة (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) الذي أنكرتموه (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وقوعه لترككم النّظر ، و «الفاء» جواب شرط مقدّر أي إن كنتم منكرين للبعث فهذا يومه ، وقد بطل انكاركم.

[٥٧] ـ (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ) (٣) (الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) وقرأ «الكوفيّون» بالياء (٤) لأن تأنيث «المعذرة» غير حقيقي وقد فصل بينهما (٥) (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) لا يطلب منهم

__________________

(١) في المصحف الشريف بقراءة حفص : «ضعف» بفتح الضاد ـ وكذا فيما يليه ـ كما سيشير اليه المؤلّف ـ.

(٢) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٠٠.

(٣) في المصحف الشريف بقراءة حفص : «لا ينفع».

(٤) الكشف عن وجوه القراآت ٢ : ١٨٦.

(٥) أي بين الفعل والفاعل بقوله : «الذين ظلموا».

٥١٦

العتبى أي الرجوع الى رضى الله.

[٥٨] ـ (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) منبّه على التوحيد والبعث وصدق «الرّسول» (وَلَئِنْ) لام قسم (جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ) من القرآن ، أو مما اقترحوه (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) عنادا (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) أصحاب أباطيل.

[٥٩] ـ (كَذلِكَ) الطّبع (يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الحق ، لتركهم النظر أي يمنعهم ألطافه لعلمه بأنّها لا تجدي فيهم.

[٦٠] ـ (فَاصْبِرْ) على آذاهم (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بنصرك وإعلاء دينك (حَقٌ) منجز لا محالة (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ) لا يحملنّك على الخفّة والضّجر (الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) بالبعث بأن يؤذوك ، فتترك الصّبر أي لا تتركه.

٥١٧
٥١٨

سورة لقمان

[٣١]

ثلاث أو أربع وثلاثون آية مكية وقيل : إلّا ثلاثا من (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ ...) (١)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] ـ [٢] ـ (الم تِلْكَ) الآيات (آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) المحكم أو ذي الحكمة.

[٣] ـ (هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) حالان عن «آيات» والعامل الإشارة ورفعهما «حمزة» خبر محذوف أو خبرا بعد خبر (٢).

[٤] ـ (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) بيان «للمحسنين» وكرّرهم تأكيدا.

[٥] ـ (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فسرّ كلّه في البقرة (٣).

[٦] ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) ما يلهي عن الخير ، كالغناء

__________________

(١) قاله ابن عباس ـ كما في تفسير مجمع البيان ٤ : ٣١٢ ـ.

(٢) حجة القراآت : ٥٦٣.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٥.

٥١٩

والأحاديث الكاذبة والمضاحيك وفضول القول ، والاضافة بيانيّة.

وقيل : نزلت في «النّضر بن الحارث» اشترى كتب الأعاجم ، فكان يحدث بها ويقول : انّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحدّثكم بحديث «عاد» و «ثمود» وأنا أحدثكم بحديث «رستم» و «الأكاسرة» (١) (لِيُضِلَ) النّاس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) دينه أو قراءة كتابه ، وفتح «ابن كثير» و «أبو عمرو» الياء (٢) أي ليثبت على ضلاله ويزيد فيه (بِغَيْرِ عِلْمٍ) بالتجارة حيث يشترى الباطل بالحق (وَيَتَّخِذَها) (٣) أي السبيل ، ونصبه «حفص» و «حمزة» و «الكسائي» (٤) عطفا على «ليضلّ» (هُزُواً) سخرية (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ذو إهانة.

[٧] ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً) متكبّرا (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) مشبها من لم يسمعها (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) مشبها الأصمّ ، والاولى حال من «مستكبرا» والثانية من «لم يسمعها» أو الأحوال الثلاث مترادفة من «ولّى» وجوّز كونهما استئنافين وسكّن «نافع» الذّال (٥) (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) اعلمه بأنّه مصيبه ، وذكر البشارة تهكّم.

[٨] ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ).

[٩] ـ (خالِدِينَ) مقدرا خلودهم (فِيها) إذا دخلوها (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) مصدران اوّلهما مؤكّد لنفسه وثانيهما لغيره ، لأنّ لهم جنّات وعد ، وما كلّ وعد حقا (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا مانع له عن إنجاز وعده ووعيده (الْحَكِيمُ) الذي لا يفعل إلّا بمقتضى حكمته.

__________________

(١) ينظر تفسير البيضاوي ٤ : ٢٩.

(٢) حجة القراآت : ٥٦٣ وتفسير البيضاوي ٤ : ٢٩.

(٣) في المصحف الشريف بقراءة حفص : «يتخذها» بالنصب ـ كما سيشير المؤلّف ـ.

(٤) حجة القراآت : ٥٦٣.

(٥) تفسير البيضاوي ٤ : ٢٩.

٥٢٠