الوجيز في تفسير القرآن العزيز - ج ٢

الشيخ علي بن الحسين بن أبي جامع العاملي

الوجيز في تفسير القرآن العزيز - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي بن الحسين بن أبي جامع العاملي


المحقق: الشيخ مالك المحمودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: نگين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٨

مصدر كالمتواترة ، وقع حالا (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) الرّسول يضاف الى المرسل والمرسل إليه لملابسته لكليهما (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) في الإهلاك (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) لم نبق منهم سوى اخبار يتحدّث بها ، وهو اسم جمع للحديث أو جمع احدوثة (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ).

[٤٥] ـ (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا) المعجزات (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) برهان ظاهر ، ويحتمل أن يراد به : العصا ، وأفردت لاشتمالها على معجزات شتّى وان يراد بكليهما المعجزات فإنّها آيات للنّبوّة وحجج بيّنة عليها ،

[٤٦] ـ (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا) عن قبول الحقّ (وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) قاهرين بالظّلم.

[٤٧] ـ (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما) أي بنو إسرائيل (لَنا عابِدُونَ) مطيعون خاضعون كالعباد.

[٤٨] ـ (فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) بالغرق.

[٤٩] ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) التوراة (لَعَلَّهُمْ) أي قومه بني إسرائيل لا قوم «فرعون» لأنّهم اغرقوا قبل نزولها (يَهْتَدُونَ) به الى الدّين.

[٥٠] ـ (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) بأن ولدته بغير فحل ، فهي آية واحدة فيهما. أو : ابن مريم آية بكلامه في المهد ، وامّه آية بولادتها بلا فحل ، فحذفت الاولى لقرينة الثّانية (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) ارض مرتفعة هي ارض بيت المقس أو الرّملة (١) أو دمشق أو مصر ، وفتح «عاصم» و «ابن عامر» : «الرّاء» وضمّها الباقون (٢) (ذاتِ قَرارٍ) استواء ، يستقرّ عليها ، أو ثمار لأجلها يستقرّ فيها (وَمَعِينٍ) ماء جار ظاهر للعيون ، مفعول من عنته أعينه : أدركته ، أو : فعيل من معن الماء : جرى.

__________________

(١) الرملة مدينة بفلسطين ... وكانت رباطا للمسلمين (مراصد الاطلاع : ١٩٣).

(٢) حجة القراآت : ٤٨٨.

٣٦١

[٥١] ـ (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) المستلذّات المباحات وهو إعلام بأنّ كلّ رسول في زمانه نودي بذلك ، وحثّ للسامع على العمل به.

وقيل خطاب ل «عيسى» بلفظ الجمع لشرفه أو لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي الطّاعات (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) فأجازيكم به.

[٥٢] ـ (وَإِنَ) أي ولأنّ ، علّل به «فاتّقون» أو «واعلموا» أو : عطف على «ما» وخفّفها «ابن عامر» وكسرها «الكوفيّون» استئنافا (٢) (هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي ملّة الإسلام ملّتكم حال كونها ملّة مجتمعة ، أو ملل الأنبياء ملّتكم ملّة متّحدة في اصول الشرائع ، أو هذه جماعتكم جماعة متّفقة على التّوحيد (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) في التّفرق في الدين.

[٥٣] ـ (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) جعلوا أمر دينهم أديانا مختلفة (زُبُراً) كتبا ، يدينون بها جمع «زبور» أو قطعا وهو مفعول ثان ل «تقطّعوا» أو حال من «أمرهم» أو من الواو. وهذا على تفسير الأمّة بالجماعة ، أي : تفرّقوا أحزابا متخالفين (كُلُّ حِزْبٍ) فريق (بِما لَدَيْهِمْ) من الدّين (فَرِحُونَ) مسرورون ، يرونه الحق.

[٥٤] ـ (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ) ضلالتهم ، شبّهت بغمرة الماء الّتي تغمر القامة لانغمارهم فيها (حَتَّى حِينٍ) الى وقت موتهم.

[٥٥] ـ (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ) نعطيهم (مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) بيان ل «ما».

[٥٦] ـ (نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) خبرها. والرّابط محذوف ، أي : «به» أي :

ليس الأمر كما يظنّون ، وانّما ذلك استدراج لهم (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) انّه استدراج.

[٥٧] ـ (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ) من خوفه (مُشْفِقُونَ) لازمون لطاعته.

[٥٨] ـ (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ) القرآن وغيره (يُؤْمِنُونَ) يصدّقون.

[٥٩] ـ (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) غيره في عبادته.

__________________

(١) تفسير التبيان ٧ : ٣٧٤.

(٢) حجة القراآت : ٤٨٨.

٣٦٢

[٦٠] ـ (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) يعطون ما اعطوا من الصّدقة أو اعمال البرّ كلّها (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) خائفة ، أن لا يقبل منهم (أَنَّهُمْ) أي لأنّهم (إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) وهو علام السّرائر.

[٦١] ـ (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) يبادرون الطّاعات ، رغبة فيها أو يتعجّلون خيرات الدّنيا بمبادرتهم الطّاعات الموجبة لها ليقابل إثباته لهم نفيه عن اضدادهم (وَهُمْ لَها) لأجلها (سابِقُونَ) النّاس إلى الجنّة أو فاعلون السّبق.

[٦٢] ـ (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) دون طاقتها ، وفيه حثّ على ما وصف به الصّالحون بتسهيله (وَلَدَيْنا كِتابٌ) اللّوح أو صحيفة الأعمال (يَنْطِقُ بِالْحَقِ) بالصّدق فيما كتب فيه من أعمالها (وَهُمْ) أي النّفوس (لا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب أو زيادة عقاب.

[٦٣] ـ (بَلْ قُلُوبُهُمْ) أي الكفّار (فِي غَمْرَةٍ) غفلة (مِنْ هذا) ممّا وصف به هؤلاء ، أو من كتاب الأعمال (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) سيّئة (مِنْ دُونِ ذلِكَ) سوى ما هم عليه من الكفر ، أو متجاوزة لما ذكر للصّالحين (هُمْ لَها عامِلُونَ) لا يتركونها.

[٦٤] ـ (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ) منعميهم (بِالْعَذابِ) في الآخرة أو القتل ببدر أو الجوع حين دعا عليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به ، فقحطوا حتّى أكلوا الجيف والكلاب (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) يصرخون بالإستغاثة.

[٦٥] ـ (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ) مقدّر بالقول (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) لا تمنعون منّا أو لا يأتيكم نصر من جهتنا.

[٦٦] ـ (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) أي القرآن (فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) تدبرون عن سماعها وقبولها كمن رجع القهقرى.

[٦٧] ـ (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) الهاء للبيت (١) وسوّغ إضماره شهرة استكبارهم

__________________

(١) اي بيت الله الحرام.

٣٦٣

وافتخارهم بولايته ولنكوصهم ، (١) أو : للقرآن بتضمين الاستكبار معنى التّكذيب أو : لأنّ استكبارهم بسبب سماعه. أو : لتعلّق الباء بقوله (سامِراً) أي تسمرون بالطّعن فيه ، ونصبه على انّه مصدر على فاعل ، أو على الحال لأنّه اسم جمع ، أو جمع كالحاضر (٢) (تَهْجُرُونَ) تتركون القرآن أو تهذون في شأنه من الهجرة بمعنى : القطيعة أو الهذيان ، وقرا «نافع» «تهجرون» من الإهجار ، وهو : الإفحاش (٣).

[١٨] ـ (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) أي القرآن فيستدلّوا بإعجاز نظمه ووضوح حججه على صدق رسولنا (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) من الرّسل ، تقرير انّه أتى آباءهم رسل ك ـ «نوح» ومن بعده وقد عرفوا مجيئهم ونجاة مصدّقيهم وهلاك مكذّبيهم أفما دعاهم ذلك الى تصديق هذا الرّسول؟!

[٦٩] ـ (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) بالصّدق والأمانة ومكارم الأخلاق وكمال العلم وشرف النّسب (فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) بل رفوا كلّ ذلكم ف وجه لإنكارهم له.

[٧٠] ـ (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) وكانوا يعلمون انّه أكملهم عقلا (بَلْ) للانتقال (جاءَهُمْ بِالْحَقِ) الدّين القيّم (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) لمخالفته أهوائهم.

ولعلّ التّقييد بالأكثر لأنّ منهم من لم يكره الحقّ لكنّه لم يؤمن لقلّة فطنته أو حسدا له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٧١] ـ (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُ) الدّين (٤) (أَهْواءَهُمْ) بأن أتى بما يهوونه من الشّركاء (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) لما استقامت ، للتّمانع (٥) كما قرّر في

__________________

(١) نكص : تكأكأ واحجم ، ومنه : نكص على عقبيه (سورة الأنفال ٨ / ٤٨) رجع الى ورائه يمشي القهقرى.

(٢) في الإطلاق على الجمع لأنّ السامر اسم جمع كالحاضر.

(٣) حجة القراآت : ٤٨٩.

(٤) كلمة : «الدين» ليست في «ج».

(٥) كلمة : «للتمانع» ليست في «ج».

٣٦٤

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١) وقيل : لو اتّبع الله اهوائهم بأن انزل ما يشتهونه من الشّرك لما كان إلها ، فلا يقدر على إمساك السماوات والأرض (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) بالقرآن الّذي هو شرفهم أو وعظهم (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ).

[٧٢] ـ (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً) أجرا على تبليغ الرّسالة ، وقرأ «حمزة» و «الكسائي» :

«خراجا» (٢) (فَخَراجُ رَبِّكَ) رزقه في الدّنيا وثوابه في الآخرة (خَيْرٌ) منه لدوامه وكثرته ، وقرأ «ابن عامر» : «فخرج» (٣) (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أفضل من أعطى.

[٧٣] ـ (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو دين الإسلام فإنّه الطّريق السّويّ الى السّعادة الباقية.

[٧٤] ـ (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) بالبعث وما يتبعه (عَنِ الصِّراطِ) المستقيم (لَناكِبُونَ) لعادلون.

[٧٥] ـ (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ) جوع أصابهم ب «مكّة» سبع سنين (لَلَجُّوا) لتمادوا (فِي طُغْيانِهِمْ) كفرهم وعتوّهم (يَعْمَهُونَ) يتردّدون.

[٧٦] ـ (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) بالجوع (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ) ما خضعوا له (وَما يَتَضَرَّعُونَ) ما يرغبون إليه في الدّعاء أي : ما من عادتهم ذلك.

[٧٧] ـ (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) هو القتل ببدر أو الجوع ، ويراد بالعذاب السّابق : القتل (إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) متحيّرون ، آيسون من كلّ خير.

[٧٨] ـ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ) وحدّ لأنّه في الأصل مصدر أو بتقدير حواسّ السّمع (وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) القلوب ، لتدركوا الدّلائل المسموعة والمبصرة وتتفكّروا فيها ، وغير ذلك من منافع الدّارين (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) «ما» مزيدة ، أي :

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢٢.

(٢) تفسير التبيان ٧ : ٣٨٢ وحجة القراآت : ٤٨٩.

(٣) حجة القراآت : ٤٨٩.

٣٦٥

تشكرونها شكرا قليلا.

وشكرها : استعمالها فيما خلقت له والإخلاص لخالقها.

[٧٩] ـ (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ) خلقكم (فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) تجمعون بالبعث.

[٨٠] ـ (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) مختصّ به اختلافهما بالظّلمة والضّياء والطّول والقصر ، أو تعاقبهما أي ذهاب أحدهما ومجيء الآخر (أَفَلا تَعْقِلُونَ) تتفكّرون ، فتعلمون انّ من هذا صنعه لا يستحقّ الإلهيّة سواه وانّه قادر على البعث.

[٨١] ـ (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) المنكرون للبعث.

[٨٢] ـ (قالُوا) ـ استبعادا له ـ : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) ولم يتفكّروا في بدأ خلقهم.

[٨٣] ـ (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أكاذيبهم الّتي سطروها ، جمع اسطورة أو : أسطار جمع سطر.

[٨٤] ـ (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ذلك ، فأجيبوني.

[٨٥] ـ (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) يقرّون بأنّه خالقها لأنّ ذلك لا يجهله من له أدنى نظر (قُلْ) عند ذلك (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) تتذكّرون ، فتعلمون انّ من قدر على ابتداء الخلق ، قدر على إعادته.

[٨٦] ـ (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) زيادة في الحجّة.

[٨٧] ـ (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) باللّام فيه وفيما بعده على المعنى ، وقرأهما «أبو عمرو» و «يعقوب» بدونها على اللّفظ (١) (قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) عذابه على جحد وحدانيّته وقدرته على البعث.

__________________

(١) تفسير البيضاوي ٣ : ٢٢٣ وحجة القراآت : ٤٩٠ وليس فيه «يعقوب».

٣٦٦

[٨٨] ـ (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) ملكه ، والتّاء للمبالغة (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) يمنع من يشاء ولا يمنع منه أحد (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

[٨٩] ـ (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) فمن اين تخدعون ، ويخيّل إليكم الحقّ باطلا مع وضوحه.

[٩٠] ـ (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ) من نفي الولد والشّريك (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في إثباتهما.

[٩١] ـ (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ) لتنزّهه عن مجانسة خلقه (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً) جواب لمن حاجّه وجزاء شرط مقدّر ، علم ممّا قبله اي لو كان معه آلهة اذن (١) (لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ) منهم (بِما خَلَقَ) وانفرد به وامتاز ملكه عن ملك الآخرين.

(وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) بالتّغالب كفعل ملوك الدّنيا (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) من الولد والشّريك.

[٩٢] ـ (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ما غاب وما حضر ، صفة ، ورفعه «نافع» و «الكوفيّون» غير «حفص» (٢) خبر محذوف (فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) تعظّم عن اشراكهم أو ما يشركونه به.

[٩٣] ـ (قُلْ رَبِّ إِمَّا) «ان» الشّرطيّة أدغمت في «ما» الزّائدة (تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ) من النّقمة.

[٩٤] ـ (رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) معهم فيها وهو اظهار للعبوديّة والتضرّع ويؤكّده تكرير : «ربّ».

[٩٥] ـ (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) وانّما نمهلهم لمصلحة

__________________

(١) في «ج» إذا.

(٢) تفسير مجمع البيان ٤ : ١٢٦ وحجة القراآت : ٤٩١.

٣٦٧

وحكمة ، قيل : وقع ما وعدهم بعد موته ولم يره ، وقيل : أراه وهو قتل بدر (١).

[٩٦] ـ (ادْفَعْ بِالَّتِي) بالخلّة الّتي (هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) وهي الإغضاء عنها والصّفح ومقابلتها بإحسان ما لم يؤدّ إلى محذور.

وقيل «هي» كلمة التّوحيد ، و «السيئة» : الشّرك (٢) (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) يصفونك به أو بوصفهم ايّاك بغير صفتك فنجازيهم به (٣).

[٩٧] ـ (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) وساوسهم.

والهمز : النّخس ، شبّه حثّهم النّاس على المعاصي بهمز الرّائض الدّابّة ـ بمهمازه ـ على المشي.

[٩٨] ـ (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) فيقرّبوني في حال من الأحوال.

[٩٩] ـ (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) وعاين ما اعدّ له من النّكال وهو متعلّق ب «يصفون» وما بينهما اعتراض (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) الى الدّنيا ، والجمع للتّعظيم.

[١٠٠] ـ (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) من الإيمان أي : لعلّي آتي به واعمل صالحا فيه.

وقيل : في تركتي أو في الدّنيا ، وسكّن «الكوفيّون» الياء (٤) (كَلَّا) ردع أي لا يرجع (إِنَّها) أي : مسألة الرّجعة (كَلِمَةٌ) وهي الطّائفة من الكلام (هُوَ قائِلُها) وحده لا يجاب إليها (وَمِنْ وَرائِهِمْ) امامهم (بَرْزَخٌ) حاجز بينهم وبين الرّجوع وهو مدّة ما بين الموت (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) والضّمير امّا لجماعة مخصوصة أو للناس.

__________________

(١) تفسير البيضاوي ٣ : ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

(٢) تفسير البيضاوي ٣ : ٢٢٤.

(٣) في «ج» : فيجازيهم به.

(٤) الكشف عن وجوه القراآت ٢ : ١٣٢.

٣٦٨

ويخصّص بما نطق به القرآن من احياء «عزيز» والألوف (١) وغيرهم في الدّنيا وما صحّ عن أهل البيت عليه‌السلام من وقوع رجعتهم.

[١٠١] ـ (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) نفخة الصّعق أو نفخة البعث (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) يتعاطفون بها لدهشتم بحيث (يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) (٢) أو يفتخرون بها (وَلا يَتَساءَلُونَ) لا يسئل بعضهم بعضا لشغله بنفسه ولا ينافيه : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) (٣) لاختلاف الموطنين.

[١٠٢] ـ (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) بالطّاعات (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالمراد.

[١٠٣] ـ (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) بالمعاصي (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) ضيّعوها ولم ينتفعوا بها (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) بدل من «خسروا» أو خبر آخر ل «أولئك» أو لمحذوف.

[١٠٤] ـ (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) تضربها فتحرقها (وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) عابسون ، تقلّصت شفاههم عن أسنانهم.

[١٠٥] ـ (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) أي يقال لهم ذلك (فَكُنْتُمْ بِها) بالآيات وهي القرآن (تُكَذِّبُونَ).

[١٠٦] ـ (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) ملكنا سوء عاقبتنا الّذي استوجبناه بسوء عملنا ، وقرأ «الكسائي» : «شقاوتنا» كضلالتنا (٤) (وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) عن الحقّ.

__________________

(١) اشارة الى «الألوف» التي ذكرها الله تعالى في الآية (٢٤٣) من سورة البقرة.

(٢) سورة عبس : ٨٠ / ٣٧.

(٣) ذكر ذلك في الكتاب العزيز في مواضع منها سورة الصافات : ٣٧ / ٢٧ وسورة الطور : ٥٢ / ٢٥.

(٤) حجة القراآت : ٤٩١.

٣٦٩

[١٠٧] ـ (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) من النّار (فَإِنْ عُدْنا) الى الكفر (فَإِنَّا ظالِمُونَ) قيل : هذا آخر ما يتكلّمون به ثمّ لا يكون لهم إلّا زفير وشهيق وعواء (١).

[١٠٨] ـ (قالَ اخْسَؤُا فِيها) انزجروا صاغرين ، من خسأت الكلب : زجرته فخسأ (وَلا تُكَلِّمُونِ) رأسا أو في رفع العذاب.

[١٠٩] ـ (إِنَّهُ) أي الشّأن (كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) هم أهل الصّفّة أو من الصّحابة : «سلمان» و «عمّار» و «صهيب» و «بلال» (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ).

[١١١٠] ـ (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) هزوأ ، وضمّه «نافع» و «حمزة» و «الكسائي» (٢) وهما مصدرا «سخّر» الحقاياء النّسبة مبالغة ، وقيل : المكسور الهزء والمضموم التّسخير (٣) والاستعباد (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) لاشتغالكم بالاستهزاء بهم ، نسب الإنساء إليهم لأنّهم سببه (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ).

[١١١] ـ (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) على أذاكم (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) مفعول ثان أي جزيتهم فوزهم بمرادهم دون غيرهم ، وكسرها «حمزة» و «الكسائي» استئنافا (٤).

[١١٢] ـ (قالَ) أي الله بلسان الملك ، وقرأ «ابن كثير» و «حمزة» و «الكسائي» : «قل» امرا له (٥) (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ) في الدّنيا والقبور (عَدَدَ سِنِينَ) مميّزكم.

[١١٣] ـ (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) استقلّوا لبثهم فيها بالنّسبة الى خلودهم

__________________

(١) قاله الحسن ـ كما في تفسير مجمع البيان ٤ : ١١٨ ـ.

(٢) حجة القراآت : ٤٩١ و ٤٩٢.

(٣) قاله الكسائي والفراء ـ كما في تفسير الكشّاف ٣ : ٢٠٥.

(٤) حجة القراآت : ٤٩١ و ٤٩٢.

(٥) حجة القراآت : ٤٩٢.

٣٧٠

في النّار ، أو نسوه لعظم الهول فقالوا : لا ندري غير انّا نستقلّه (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) المتمكنين من العدّ ، فإنّه ليس من شأننا لما نحن فيه من العذاب. أو : الملائكة المحصين أعمار الخلق وأعمالهم.

[١١٤] ـ (قالَ) وقرأ «الكوفيون» «قل» (١) (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) نسبة لبثكم الى خلود النّار.

[١١٥] ـ (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) عابثين أو لأجل العبث والتّلهي بكم (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) وبناه «حمزة» و «الكسائي» للفاعل ؛ (٢) ليس الأمر كما حسبتم بل لنتعبّدكم وترجعوا إلينا ونجازيكم بعملكم.

[١١٦] ـ (فَتَعالَى اللهُ) عمّا لا يليق به (الْمَلِكُ الْحَقُ) الّذي يحقّ له الملك بالذّات (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) وصفه بالكرم لنزول الرّحمة والخير من جهته ، أو لأنّه عرش الكريم.

[١١٧] ـ (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) يعبده (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) صفة ثانية ل «إله» لازمة له ، إذ لا برهان للباطل ، وتفيد (٣) انّ ما لا دليل له لا يصحّ التّديّن به (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) فيجازيه بقدر ما يستحقّه (إِنَّهُ) أي الشأن (لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) لا يظفرون بخير ، بدأ السّورة بتقرير الفلاح للمؤمنين وختمها بنفيه عن الكافرين.

[١١٨] ـ (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ) للمؤمنين (وَارْحَمْ) وأنعم عليهم (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) المنعمين ، لأنّك المنعم الحقيقي.

__________________

(١) الكشف عن وجوه القراآت ٢ : ١٣٢.

(٢) حجة القراآت : ٤٩٤.

(٣) في «ج» : يفيد.

٣٧١
٣٧٢

سورة النّور

[٢٤]

اثنان أو اربع وستون آية مدنية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] ـ (سُورَةٌ) أي هذه سورة ، أو فيما أوحينا إليك سورة (أَنْزَلْناها) صفتها (وَفَرَضْناها) فرضنا أحكامها الّتي فيها ، وشدّده «ابن كثير» و «أبو عمرو» مبالغة أو لكثرة فرائضها (١) (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) ظاهرات الدّلالة (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) بإدغام التّاء الثّانية في الذّال ، تتعظون بها.

[٢] ـ (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) مبتدأ حذف خبره ، أي : فيما أنزلنا وفرضنا حكمهما ، أو الخبر (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) و «الفاء» لتضمّنها معنى الشّرط ، إذ اللّام موصول.

وقدّم «الزّانية» لأنّ المرأة هي الأصل في الزّنا ولأنّه منهنّ أشنع.

والجلد : ضرب الجلد ، هذا حكم الحرّ المكلّف ، وقد ثبت بالسّنة الرّجم له إذا كان محصنا ويضمّ الى الجلد امّا مطلقا وهو الأقوى. أو : في الشّيخ والشّيخة ،

__________________

(١) حجة القراآت : ٤٩٤.

٣٧٣

والتّغريب للحرّ غير المحصن امّا مطلقا أو فيمن املك ولم يدخل على الخلاف ، وهل يختصّ بالذّكر أو يعمهما ، قولان.

والإحصان بالحرّيّة والتكليف والإصابة لفرج مملوك بعقد دائم أو ملك يمين يغدو عليه ويروح ، والمملوك يجلّد خمسين مطلقا (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) رحمة ، وفتح الهمزة «ابن كثير» (١) (فِي دِينِ اللهِ) في حكمه ، فتعطّلوا حدّه أو تسامحوا فيه (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فيه تحريض على ما قبله الدّال على جواب الشّرط ، إذ الإيمان يقتضي الجدّ في أمر الدّين (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما) ليحضر جلدها للتّشهير (طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

عن «الباقر» عليه‌السلام : اقلّها واحد (٢) وقيل : اثنان وثلاثة وأربعة (٣).

[٣] ـ (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) أي : الّذي من شأنه الزّنا لا يرغب في نكاح الصّوالح غالبا ، والمسافحة لا يرغب فيها الصّلحاء غالبا ، وانّما يرغب الإنسان إلى شكله.

وقدّم «الزّاني» لأنّ الرّجل هو الأصل في الرّغبة والخطبة ، ولذلك لم يقل «والزّانية لا تنكح إلّا زانيا» للمقابلة (وَحُرِّمَ ذلِكَ) أي صرف الرّغبة في الزّواني (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي نزّهوا عنه لأنه تشبّه بالفسقة وتعرّض للتّهمة والطّعن في النّسب.

وعبّر بالتّحريم مبالغة في التّنزيه ، وقيل : النّفي بمعنى النّهي (٤) والحرمة على ظاهرها.

والحكم مخصوص بفقراء المهاجرين حين همّوا أن يتزوّجوا بغايا موسرات

__________________

(١) حجة القراآت : ٤٩٥.

(٢) تفسير مجمع البيان ٤ : ١٢٤.

(٣) تفسير مجمع البيان ٤ : ١٢٤ عن قتادة والزهري وعكرمة.

(٤) تفسير مجمع البيان ٤ : ١٢٥.

٣٧٤

لينفقن عليهم ، فاستأذنوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت ، (١) أو عامّ نسخه : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) (٢) وقيل : هو باق ، ويعضده بعض الأخبار الغير السّليمة سندا ومتنا (٣).

والأقوى : الكراهة جمعا بين عمومات الكتاب والأخبار الصحيحة الدّالة على الجواز.

[٤] ـ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) يقذفون العفائف بالزّنا وكذا الرّجال اجماعا ، وتخصيصهنّ لخصوص الواقعة ، وكسر «الكسائي» : «الصّاد» (٤) (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) بأنّهم رأوهنّ يزنين (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) ويستوي في ذلك الحرّ والملوك عند أكثر أصحابنا (٥) ومنهم من وافق العامّة في تنصيف الحدّ على المملوك وهو ضعيف (٦) (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً) في شيء قبل الجلد وبعده.

وقال «أبو حنيفة» : لا تردّ قبله نظرا الى ترتيب العطف وفيه منع افادة «الواو» له (أَبَداً) ما لم يتب ، وقال «أبو حنيفة» : الى موته (٧) (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) بفعل الكبيرة.

[٥] ـ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) عن القذف بأن يكذّبوا أنفسهم ، والاستثناء من الجملتين. وقيل : من الأخيرة ومحلّه النّصب بالاستثناء ، ويجوز الجرّ على البدل

__________________

(١) تفسير الكشّاف ٣ : ٢١١.

(٢) هي الآية : ٣٢ من هذه السورة.

(٣) يراجع وسائل الشيعة ١٤ : ٣٢ الباب (١٢).

(٤) النشر في القراآت العشر ٢ : ٢٤٩.

(٥) ينظر كتاب الخلاف ٣ : ١٥٧ باب الحدود.

(٦) كتاب المبسوط ٨ : ١٦ باب الحدود.

(٧) كتاب الخلاف ٣ : ٢٣٩ باب الشهادات المسألة (١١).

٣٧٥

[من هم في لهم] ـ (١) إن جعل للأولى (وَأَصْلَحُوا) عملهم (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لهم (رَحِيمٌ) بهم.

[٦] ـ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) بالزّنا (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ) عليه (إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) بدل من «شهداء» وقع ذلك ل «هلال بن اميّة» أو غيره ، فنزلت (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ) مبتدأ حذف خبره ، أي : تقوم مقام الشّهداء في درء حدّ القذف عنه ، أو خبر محذوف اي فالواجب شهادة أحدهم (أَرْبَعُ) (٢) (شَهاداتٍ) نصب مصدرا ورفعه «حمزة» و «الكسائي» و «حفص» خبر شهادة (٣) (بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) فيما رماها به من الزّنا.

[٧] ـ (وَالْخامِسَةُ) والشّهادة الخامسة : (أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) في ذلك ، فإذا فعل الرّجل ذلك سقط عنه الحدّ وحرّمت عليه مؤبدا ولا يفتقر الى حكم الحاكم بالفرقة خلافا لأبي حنيفة (٤).

وانتفى عنه الولد وثبت حدّ الزنا على المرأة لقوله :

[٨] ـ (وَيَدْرَؤُا) يدفع (عَنْهَا الْعَذابَ) أي الجلد (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) فيما رماها به.

[٩] ـ (وَالْخامِسَةَ) مبتدأ ، وما بعدها الخبر ، ونصبها «حفص» عطفا على «أربع» (٥) (أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في ذلك ، واختير «الغضب» هنا تغليظا عليها لأنّها أصل الفجور ، وخفّف «نافع» «نون» «انّ لعنة» و «انّ غضب»

__________________

(١) ما بين المعقوفتين من تفسير البيضاوي ٣ : ٢٢٧.

(٢) في المصحف الشريف بقراءة حفص : «اربع و ـ الضّم ـ» ـ كما سيشير اليه المؤلّف ـ.

(٣) حجة القراآت : ٤٩٥.

(٤) كتاب الخلاف ٣ : ٦٣ كتاب اللعان ، المسألة (٢٥).

(٥) حجة القراآت : ٤٩٥.

٣٧٦

ورفع «التّاء» وكسر «الضّاد» وفتح «الباء» (١) ورفع «هاء» الجلالة ، والباقون بتشديد «النّون» ونصب «التّاء» وفتح «الضّاد» وجرّ «الهاء» (٢).

[١٠] ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بالإمهال والسّتر (وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ) يقبل التّوب (حَكِيمٌ) فيما يحكم به ، وحذف جواب «لو لا» أي لعاجلكم بالعقوبة وفضحكم.

[١١] ـ (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ) (٣) (بِالْإِفْكِ) بالكذب العظيم ، وأصله القلب ، لأنّه قول قلب عن وجهه ، وهو ما افترى على عائشة وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استصحبها في غزاة وفي قفوله (٤).

اذن ليلة بالرّحيل فمشت لحاجة ثم عادت الى الرّحل فإذا عقدها قد انقطع فرجعت تلتمسه فحملوا هودجها يحسبونها فيه ، فعادت بعد ما ساروا ، فجلست كي يرجع إليها أحد.

وكان صفوان قد عرّس من وراء الجيش فأدلج فأصبح عندها فعرفها فأناخ راحلته فركبتها فقادها حتّى أتيا الجيش ، فرميت به (عُصْبَةٌ) جماعة (مِنْكُمْ) هم : «ابن ابيّ» و «حسّان» و «مسطح» و «زيد بن رفاعة» و «حمنة» بنت «جحش» ومن عضدهم (لا تَحْسَبُوهُ) أي الإفك (شَرًّا لَكُمْ) خطاب لجميع من ساءهم ذلك من المؤمنين (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لأنّ الله يثيبكم عليه ويبرئ «عائشة» و «صفوان» منه (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) جزاء ما اكتسب منه بقدر ما خاض فيه (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) تحمل معظمه (مِنْهُمْ) من الإفكين وهو «ابن ابي» بدأ به وأشاعه

__________________

(١) ليس في «ج» : وفتح الباء.

(٢) الكشف عن وجوه القراآت ٢ : ١٣٤.

(٣) يراجع تعليقنا على الآية (٦١) من سورة البقرة.

(٤) اي رجوعه.

٣٧٧

أو «حسّان» و «مسطح» (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الآخرة أو في الدنيا بجلدهم وطرد «ابن ابيّ» وعمي حسان ومسطح.

[١٢] ـ (لَوْ لا) هلّا (إِذْ) حين (سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ) ظنّ بعضهم ببعض (خَيْراً) وعدل عن الخطاب الى الغيبة مبالغة في التّوبيخ وإيذانا باقتضاء الإيمان ظنّ الخير بالمؤمنين.

وردّ الطّعن عنهم كردّهم له عن أنفسهم وفصل «لو لا» عن فعله بالظّرف اتّساعا تنزيلا له منزلته لأهمّيّته لوجوب ظنّ الخير اوّل ما سمعوا (وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) كذب بيّن.

[١٣] ـ (لَوْ لا) هلّا (جاؤُ) (١) أي العصبة (عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) شاهدوه (فَإِذْ) فحين (لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ) في حكمه (هُمُ الْكاذِبُونَ) انتهى المقول.

[١٤] ـ (وَلَوْ لا) هي الامتناعيّة (فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي فضله عليكم في الدّنيا بالنّعم الّتي منها امهالكم للتّوبة ورحمته لكم بالعفو في الآخرة (لَمَسَّكُمْ) عاجلا أو في الآخرة (فِيما أَفَضْتُمْ) خضتم (فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ).

[١٥] ـ (إِذْ) ظرف «لمسّكم» أو «أفضتم» (تَلَقَّوْنَهُ) بحذف احد التّائين (بِأَلْسِنَتِكُمْ) أي يأخذه بعضكم من بعض بالسّؤال عنه (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي قولا لا وجود له إلّا بالعبارة ولا حقيقة لمؤدّاه في الواقع (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) لا اثم فيه (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) في الإثم.

[١٦] ـ (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ) ما يحلّ (لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) تعجّب ممّن يقوله أو تنزيه له تعالى عن أن تكون زوجة نبيّه فاجرة إذ فجورها منفّر عنه بخلاف كفرها.

__________________

(١) ينظر الهامش (٤) في الصفحة السابقة.

٣٧٨

[١٧] ـ (يَعِظُكُمُ اللهُ) ينهاكم أو يحرّم عليكم (أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) ما حييتم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تقبلون الوعظ (١).

[١٨] ـ (وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) الدّالّة على حكمته فيما شرع لعباده (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوالهم (حَكِيمٌ) في تدبيره لهم.

[١٩] ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) تفشوا (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) بأن ينسبوها إليهم (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا) بالحدّ للقذف (وَالْآخِرَةِ) بالنّار (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما في القلوب فيعاقب على حبّ الإشاعة (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فعاقبوا على ما يظهر لكم.

[٢٠] ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) تكرير للمنّة بترك المعاجلة بالعقاب مع المبالغة فيها بقوله : (وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) وحذف الجواب اكتفاء بذكره سابقا.

[٢١] ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) اثره وتسويله ، اشاعة الفاحشة ، وسكّن طاءها «نافع» و «أبو بكر» و «حمزة» (٢) (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ) أي المتّبع أو الشيطان بتقدير عائد (يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) أقبح القبيح (وَالْمُنْكَرِ) شرعا وعقلا (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بتوفيقكم لما تصيرون به أزكياء (ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) ما طهر من دنس الذّنوب (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي) يطهّر بلطفه (مَنْ يَشاءُ) ممّن يعلمه أهلا للطفه (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بأحوالكم ومن يصلح للطفه.

[٢٢] ـ (وَلا يَأْتَلِ) : ولا يحلف ـ من الألية ـ أو : لا يقصر ـ من الإلو ـ (أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) أهل الغنى (وَالسَّعَةِ) في المال (أَنْ يُؤْتُوا) أن لا يؤتوا ، أو في أن يؤتوا (أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ).

__________________

(١) في «ج» تقبلوا الوعظ.

(٢) النشر في القراآت العشر ٢ : ٢١٦.

٣٧٩

قيل : نزلت في أبي بكر ، كان ينفق على مسطح ـ وهو ابن خالته ، مسكين مهاجر بدريّ ـ فلمّا خاض في الإفك حلف أن لا ينفق عليه (١).

أو : ناس من الصّحابة حلفوا أن لا يتصدّقوا على من خاض فيه (وَلْيَعْفُوا) إساءتهم (وَلْيَصْفَحُوا) عنهم (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) على عفوكم وصفحكم عمن أساء إليكم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) للمؤمنين.

[٢٣] ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) العفائف (الْغافِلاتِ) عن الفواحش (الْمُؤْمِناتِ) بالله ورسوله (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وعيد عامّ لكلّ قاذف ما لم يتب.

[٢٤] ـ (يَوْمَ) ظرف لمتعلّق «لهم» أي استقرّ (تَشْهَدُ) وقرأ «حمزة» و «الكسائي» بالياء لتقدّمه (٢) وفصل : (عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) بها وبغيرها بإنطاق الله ايّاها.

[٢٥] ـ (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَ) جزائهم المستحقّ (وَيَعْلَمُونَ) ضرورة (أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) الثابت البيّن الإلهيّة ، أو العادل الظّاهر العدل.

[٢٦] ـ (الْخَبِيثاتُ) من الكلمات (لِلْخَبِيثِينَ) من النّاس من الرّجال والنّساء (وَالْخَبِيثُونَ) من النّاس (لِلْخَبِيثاتِ) من الكلمات (وَالطَّيِّباتُ) منها (لِلطَّيِّبِينَ) منهم (وَالطَّيِّبُونَ) منهم (لِلطَّيِّباتِ) منها (أُولئِكَ) أي الطّيّبون (مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي أهل الإفك ، أو «الخبيثون» أي مبرّءون من أن يقولوا كقولهم (لَهُمْ) أي للطّيّبين (مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) في الجنّة.

وقيل : الخبيثات من النّساء للخبيثين من الرّجال ، وكذا الطّيبات

__________________

(١) قاله ابن عباس وعائشة وابن زيد ـ كما في تفسير مجمع البيان ٤ : ١٣٣.

(٢) يعني لتقدم الفعل على الفاعل المؤنث المجازي واسناده الى الظاهر مع الفصل ب «عليهم» بينها ـ حجة القراآت : ٤٩٦.

٣٨٠