الوجيز في تفسير القرآن العزيز - ج ٢

الشيخ علي بن الحسين بن أبي جامع العاملي

الوجيز في تفسير القرآن العزيز - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي بن الحسين بن أبي جامع العاملي


المحقق: الشيخ مالك المحمودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: نگين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٨

فلا يكوننّ سببا لإخراجكما أي لا تطيعاه (فَتَشْقى) تتعب بالكدّ في كسب المعاش.

وخصّ بإسناد الشّقاء إليه لأنّ الاكتساب وظيفة الرّجل ، ولرعاية الفاصلة.

ثمّ بيّن ذلك الشّقاء بذكر ماله في الجنّة من كفاية المؤمن لأصول المتاعب من الشّبع والرّيّ ولكنّ (١) بقوله :

[١١٨] ـ (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى).

[١١٩] ـ (وَأَنَّكَ) بالفتح ، عطف على اسم «انّ» وجاز مع امتناع «انّ» انّك قائم ، للفصل بالخبر ولأنّه يجوز في المعطوف ما لا يجوز في المعطوف عليه ، وكسرها «أبو بكر» و «نافع» (٢) عطفا على الجملة (لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) لا تعطش ولا يصيبك حرّ الشّمس ، إذ لا شمس في الجنّة.

[١٢٠] ـ (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ) أنهى إليه وسوسته. وبيانها : (قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) أي الّتي من أكل منها ، خلد ولم يمت (وَمُلْكٍ لا يَبْلى) لا ينقطع.

[١٢١] ـ (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) فسّر في «الأعراف» (٣) (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) خالف أمره النّدبيّ ، فإنّ تارك النّفل يسمّى عاصيا (فَغَوى) خاب من ثوابه أو ممّا رجاه من الخلد.

[١٢٢] ـ (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) اختاره للرّسالة (فَتابَ عَلَيْهِ) قبل توبته (وَهَدى) الى حفظ أسباب العصمة.

[١٢٣] ـ (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) خطاب لآدم وحوّاء بما اشتملا عليه من الذّرية (بَعْضُكُمْ) بعض الذّرية (لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) للتظالم في أمر المعاش (فَإِمَّا)

__________________

(١) الكنّ : السترة والبيت ـ قاموس اللغة ومجمع البحرين.

(٢) حجة القراآت : ٤٦٤.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ٢٢.

٣٠١

«ان» الشرطية ، أدغمت في «ما» الزّائدة (يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) شريعة وبيان (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُ) في الدّنيا (وَلا يَشْقى) في الآخرة.

[١٢٤] ـ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) أي : القرآن وسائر كتب الله (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) مصدر وصف به ، ولذا استوى فيه المذكّر والمؤنث أي ضيّقة لحرصه على جمع أعراض الدّنيا وازديادها ، وخوفه من انتقاصها ، فلم يزل نكد العيش (١).

وقيل : هو عذاب القبر ، (٢) وقيل : الضّريع والزّقّوم في جهنم (٣) (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) أعمى القلب أو البصر ، ويعضده :

[١٢٥] ـ (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) في الدّنيا وعند البعث ، قيل : يخرج من قبره بصيرا فيعمى في حشره ، (٤) وفتح «الحرميّان» الياء (٥).

[١٢٦] ـ (قالَ كَذلِكَ) مثل ذلك فعلت ، ثم بيّنه بقوله : (أَتَتْكَ آياتُنا) دلائلنا (فَنَسِيتَها) تركتها ، وأعرضت عنها (وَكَذلِكَ) وكما تركتها (الْيَوْمَ تُنْسى) تترك في العذاب أو العمى.

[١٢٧] ـ (وَكَذلِكَ) الجزاء (نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ) أشرك (وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ) من عذاب الدّنيا وعذاب القبر (وَأَبْقى) وأدوم.

[١٢٨] ـ (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) يبيّن لقريش ، الله أو الرّسول أو ما دلّ عليه (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) أي إهلاكنا كثيرا من الأمم الماضية المكذّبة للرّسل ك «عاد» و «ثمود» (يَمْشُونَ) حال من ضمير «لهم» (فِي مَساكِنِهِمْ) ويرون آثار هلاكهم فيعتبروا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) لعبرا (لِأُولِي النُّهى) لذوي العقول.

[١٢٩] ـ (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بتأخير عذابهم الى الآخرة (لَكانَ) الأخذ

__________________

(١) في «ج» : للعيش.

(٢) قاله ابن مسعود وابو سعيد الخدري والسّدى والفراء ـ كما في تفسير مجمع البيان ٤ : ٣٤ ـ.

(٣) قاله ابن مسعود وابو سعيد الخدري والسّدى والفراء ـ كما في تفسير مجمع البيان ٤ : ٣٤ ـ.

(٤) قاله ابن مسعود وابو سعيد الخدري والسّدى والفراء ـ كما في تفسير مجمع البيان ٤ : ٣٤ ـ.

(٥) الكشف عن وجوه القراءات ٢ : ١٠٩.

٣٠٢

العاجل (لِزاماً) لازما لهم ، مصدر وصف به (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) عطف على «كلمة» أي : لو لا العدة بتأخير عذابهم وأجل مضروب له وهو الآخرة.

أو يوم بدر للزمهم الأخذ العاجل ، أو على مستكن «كان» اي : لكان الأخذ العاجل واجلّ مسمّى لازمين لهم.

[١٣٠] ـ (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) من تكذيبك (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) صلّ متلبّسا بحمده (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) صلاة الفجر (وَقَبْلَ غُرُوبِها) صلاة العصر أو الظّهرين (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) ساعاته (فَسَبِّحْ) صلّ العشاءين.

وقدّم الظرف عليه اهتماما بالصلاة فيه ، لأنّها أشقّ ، والبال (١) ، فيه أجمع (وَأَطْرافَ النَّهارِ) صلاة الظّهر لأنّ أوّل وقتها نهاية النّصف الأول وبداية النّصف الثاني.

وجمع لأمن اللّبس ، أو تكريرا لصلاتي الصّبح والعصر اعتناء بهما نحو (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) (٢) ويمكن حمل الأمر على الرّجحان المطلق ، فيعمّ الفرائض والنّوافل النّهاريّة واللّيليّة.

وقيل : التسبيح : التّنزيه (٣) والمراد الحثّ على ملازمته في كلّ الأوقات (لَعَلَّكَ تَرْضى) بما يعطيك ربّك في الدّارين وبناه «الكسائي» للمجهول (٤).

[١٣١] ـ (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) لا تنظرنّ (إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ) رغبة فيه (أَزْواجاً مِنْهُمْ) أصنافا من الكفّار (زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) زينتها وبهجتها ، ونصبت على الذّمّ أو البدل من محلّ «به» أو من «أزواجا» بتقدير : ذوي زهرة ، وفتح «يعقوب»

__________________

(١) البال : الخاطر.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٣٨.

(٣) تفسير مجمع البيان ٤ : ٣٥.

(٤) حجة القراآت : ٤٦٤.

٣٠٣

الهاء (١) لغة فيها (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنختبرهم أو لنعذّبهم به (وَرِزْقُ رَبِّكَ) ما وعدك به في الآخرة أو ما رزقك من العلم والنبوّة (خَيْرٌ) ممّا متّعهم به في الدّنيا (وَأَبْقى).

[١٣٢] ـ (وَأْمُرْ أَهْلَكَ) أهل بيتك (بِالصَّلاةِ) قال «الباقر» عليه‌السلام : امره الله تعالى أن يخصّ أهله دون الناس ، ليعلم الناس أنّ لأهله منزلة عند الله ليست للناس ، فأمرهم مع الناس عامّة ، ثمّ أمرهم خاصّة (٢).

وكان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزولها يأتي باب فاطمة وعليّ عليهما‌السلام تسعة أشهر ، عند كلّ صلاة فيقول : الصلاة رحمكم الله ، «انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا»

(٣) (وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) حافظ عليها (لا نَسْئَلُكَ) لا نكلّف (رِزْقاً) لنفسك ولا لأهلك (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) وايّاهم (وَالْعاقِبَةُ) المحمودة (لِلتَّقْوى) لأهلها.

[١٣٣] ـ (وَقالُوا لَوْ لا) هلّا (يَأْتِينا) «محمّد» (بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) مقترحة لم يعتدّوا بما أتى به من الآيات ، فردّ عليهم بقوله : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ) (٤) بالياء ل «نافع» و «ابي عمرو» و «حفص» وبالتّاء للباقين (٥) (بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) بيان ما في سائر الكتب المنزلة يعني القرآن ، لتضمّنه اصول ما فيها من العقائد والأحكام الكلية مع انّ الاتي به أميّ ، لم يقرأها ولم يسمعها من أحد ، فهو معجز يشهد بنبوّته وبصحّة تلك الكتب

__________________

(١) تفسير البيضاوي ٣ : ١٨٧.

(٢) تفسير مجمع البيان ٤ : ٣٧.

(٣) للحديث مصادر كثيرة يراجع كتاب العمدة لابن البطريق الفصل الثامن ويراجع ايضا مناقب الخوارزمي / ٦٠ ـ والآية من سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٣.

(٤) في المصحف الشريف بقراءة حفص : «تأتهم» ـ كما سيشير اليه المؤلّف ـ.

(٥) حجة القراآت : ٤٦٥.

٣٠٤

المحتاجة الى مصدّق لها ، لعدم اعجازها.

وقيل : أراد به بيان ما فيها من أنباء الأمم المكذّبة وإهلاكهم باقتراح الآيات (١).

[١٣٤] ـ (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) قبل «محمّد» أو القرآن المراد بالبيّنة (لَقالُوا) يوم القيامة (رَبَّنا لَوْ لا) هلّا (أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) المرسل بها (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَ) في المحشر أو في الدّنيا بالقتل والأسر (وَنَخْزى) في جهنّم.

[١٣٥] ـ (قُلْ كُلٌ) منّا ومنكم (مُتَرَبِّصٌ) منتظر عاقبة الأمر (فَتَرَبَّصُوا) تهديد (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ) وهو (٢) الدّين المستقيم (وَمَنِ اهْتَدى) لطريق الحقّ. أنحن أم أنتم.

وكلمتا «من» استفهاميّة معلّقة للفعل مرفوعة بالابتداء.

__________________

(١) نقله الطبرسي في تفسير مجمع البيان ٤ : ٣٧.

(٢) ليس في «ب» : وهو.

٣٠٥
٣٠٦

سورة الأنبياء

[٢١]

مائة واثنى عشرة آية مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] ـ (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ) الكفّار ، لوصفهم المتعقّب ، واللام صلة «اقترب» أو تأكيد الإضافة في (حِسابُهُمْ) أي : قرب وقته ، وهو يوم القيامة لأنّ كلّ ما هو آت قريب ، أو بالنسبة الى ما مضى لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بعثت أنا والسّاعة كهاتين»

(١) أو عند الله [لقوله تعالى :] ـ (٢) (وَنَراهُ قَرِيباً) (٣). (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) عنه (مُعْرِضُونَ) عن التّأهّب له.

[٢] ـ (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ) من قرآن و «من» زائدة أو تبعيضيّة (مِنْ رَبِّهِمْ) صفة «ذكر» أو صلة «يأتيهم» (مُحْدَثٍ) تنزيله شيئا فشيئا (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) يستهزءون به ، حال من الواو وكذا

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ٤ : ٣٩.

(٢) الزيادة اقتضاها السياق.

(٣) سورة المعارج : ٧٠ / ٧.

٣٠٧

[٣] ـ (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) غافلة عن تدبّره ، أو حال من واو «يلعبون» (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) بالغوا في اخفائها ، أو اخفوا التّناجي فلم يفطن له (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بدل من واو «اسرّوا» أو ذمّ مرفوع ، أو منصوب بتقدير «هم» أو «أعني» (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) بدل من «النّجوى» أو مفعول ل «قالوا» مضمرا أي : هو ليس بملك ، فليس برسول ، فما يأتي به سحر (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ) أفتحضرونه وتقبلونه (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) ترون انّه بشر. أو : تعلمون انه سحر.

[٤] ـ (قالَ) (١) وقرأ «حفص» و «حمزة» و «الكسائي» : «قال» (٢) بالإخبار عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ) كائنا (فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فيعلم ما اسرّوه (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم (الْعَلِيمُ) بأحوالهم.

[٥] ـ (بَلْ) للانتقال من حكاية تشاورهم في أمر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى حكاية ما قالوا في القرآن (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) تخاليط أباطيل ، رآها في النّوم ، ثم اضربوا عنه وقالوا : (بَلِ افْتَراهُ) اختلقه من نفسه ، ثمّ اضربوا عنه وقالوا : (بَلْ هُوَ شاعِرٌ) فما أتى به شعر.

وجعل الأوّل اضرابا لهم أيضا عن قولهم انّه سحر أي أنّه تخاليط ، فتكون الإضرابات كلّها لهم غير ظاهر (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) به كالنّاقة والعصا.

[٦] ـ (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي أهلها (أَهْلَكْناها) بتكذيب الآيات المقترحة عند مجيئها (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) أي : لا يؤمنون لو أتيتم بها ، وإذا لم يؤمنوا استحقّوا الإهلاك كمن قبلهم فلم نجبهم إبقاء عليهم.

[٧] ـ (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً) لا ملائكة ، جواب لقولهم :

__________________

(١) في المصحف الشريف بقراءة حفص : «قال» ـ كما سيشير اليه المؤلف.

(٢) حجة القراآت : ٤٦٥.

٣٠٨

(هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (١). (نُوحِي) (٢) (إِلَيْهِمْ) وقرأ «حفص» بالنّون وكسر الحاء (٣) (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) أهل الكتاب لوثوقكم بهم ، أو أهل العلم ، أو أهل القرآن.

وعن أهل البيت عليهم‌السلام : «نحن أهل الذّكر والذّكر ، الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك ، فإنّهم يعلمونه.

[٨] ـ (وَما جَعَلْناهُمْ) أي الرّسل (جَسَداً) أجسادا على ارادة الجنس (لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) بل جعلناهم أجسادا يأكلونه (وَما كانُوا خالِدِينَ) بل يموتون ، فهم بشر مثلك ، لخلوّهم من خاصّتي الملائكة : عدم الطعم والخلود ـ على اعتقادهم ـ.

[٩] ـ (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) بالإنجاء والنّصر (فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ) ممّن آمن بهم (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) المكذّبين لهم.

[١٠] ـ (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ) يا قريش (كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) شرفكم ، أو ما يوجب حسن الذّكر لكم ، ان تمسكتم به (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فتؤمنون به.

[١١] ـ (وَكَمْ قَصَمْنا) أهلكنا (مِنْ قَرْيَةٍ) أي أهلها (كانَتْ ظالِمَةً) كافرة (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) مكانهم.

[١٢] ـ (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) أدرك أهل القرية عذابنا بحواسهم (إِذا هُمْ مِنْها) من القرية (يَرْكُضُونَ) يهربون مسرعين.

والرّكض : ضرب الدّابّة بالرّجل ، ويقال للعدوّ بشدّة.

[١٣] ـ (لا تَرْكُضُوا) ـ أي قالت لهم الملائكة استهزاء ـ لا تهربوا (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ)

__________________

(١) الآية ٣ من هذه السورة.

(٢) في المصحف الشريف بقراءة حفص : «نوحي».

(٣) حجة القراآت : ٤٦٦.

(٤) للحديث مصادر كثيرة ـ ينظر كتاب العمدة لابن البطريق الفصل الخامس والثلاثون.

٣٠٩

نعّمتم (فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) عن أعمالكم ، أو يسئلكم النّاس شيئا من دنياكم.

[١٤] ـ (قالُوا) ـ ندما حين عاينوا العذاب ـ : (يا وَيْلَنا) هلاكنا (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) بتكذيب الرّسل.

[١٥] ـ (فَما زالَتْ تِلْكَ) الدّعوى أي قولهم : «يا ويلنا» (دَعْواهُمْ) يدعون بها ويردّونها (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً) كالزّرع المحصود (خامِدِينَ) موتى ، لا يتحرّكون كما تخمد النّار أي : أهلكناهم بالعذاب أو بقتل «بخت نصّر» لهم.

[١٦] ـ (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) عابثين ، بل خلقناها لغرض صحيح ومنافع للخلق دينيّة ودنيويّة.

[١٧] ـ (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) ما يلهى به ، قيل هو الولد ، وقيل الزّوجة (١) (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) من قدرتنا (٢) أي من الملائكة والحور ، لا من الإنس.

ردّ على اليهود والنصارى في نسبة الولد والزّوجة إليه تعالى ، أو من عندنا خفية ، فلا يعرفونه فيكون ردّا على كلّ من نسب إليه ولدا ولو من الملائكة (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) ذلك ، لكنّا لم نفعله ولم نرده ، وجوابه علم من جواب «لو» ، وقيل : «ان» نافية.

[١٨] ـ (بَلْ) إضراب عن اتخاذ اللهو الى وصفه تعالى بما يضادّه (نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ) الذي من جملته اللهو (فَيَدْمَغُهُ) فيعلموه ، واستعير لذلك القذف وهو الرّمي بنحو الحجر.

والدّمغ : وهو اصابة الدّماغ بالشّجّة تصويرا لإذهاب الباطل بالحقّ للمبالغة (فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) مضمحلّ.

__________________

(١) قاله الحسن وقتادة وابن عباس ـ كما تفسير مجمع البيان ٤ : ٤٢ ـ.

(٢) في «ج» : من عندنا.

٣١٠

والزّهوق : خروج الرّوح. وهو ترشيح (١) للاستعارة (وَلَكُمُ) ايّها الكفرة (الْوَيْلُ) الهلاك (مِمَّا تَصِفُونَ) الله به ممّا يستحيل عليه.

[١٩] ـ (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا وخلقا (وَمَنْ عِنْدَهُ) أي الملائكة المقربون منه بالشّرف لا بالمسافة ، وهو عطف على «من في السّماوات».

أفرد تعظيما ، أو مبتدأ ، خبره : (لا يَسْتَكْبِرُونَ) لا يترفعون (عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) لا يعيون منها.

[٢٠] ـ (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) ينزّهونه دائما (لا يَفْتُرُونَ) عن التّسبيح ، فهو لهم كالنّفس لنا ، لا يشغلهم عنه شاغل.

[٢١] ـ (أَمِ اتَّخَذُوا) بل اتّخذوا ، والهمزة للإنكار والتوبيخ (آلِهَةً) كائنة (مِنَ الْأَرْضِ) الحجر أو غيره ، أو «من» ابتدائيّة تتعلق ب «اتّخذوا» (هُمْ يُنْشِرُونَ) يحيون الموتى ، إذ من لوازم الإلهيّة القدرة على كلّ ممكن.

وأورد الضّمير المخصّص للإنشار بهم مبالغة في التّهكم ، يقال انشره ونشره.

[٢٢] ـ (لَوْ كانَ فِيهِما) أي السماوات والأرض (آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ) غير الله ، وصف ب «إلّا» حين تعذّر الاستثناء لعدم دخول ما بعدها فيما قبلها ، ولإفادته لزوم الفساد لوجود آلهة دونه ، ومفهومه عدم لزومه لوجودها معه وهو خلاف المراد (لَفَسَدَتا) لما استقامتا لوقوع التّمانع بينهم ؛ امّا عند تخالفهم في المراد فظاهر ، وامّا عند توافقهم فيه فلأنّ تأثير كلّ منهم فيه يمنع تأثير الآخر فيه مرة اخرى لاستحالته (٢) (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ)

__________________

(١) الترشيح : هو أن يذكر ما يلائم المستعار منه ، وهنا حيث استعار القذف والدمغ لإثبات الحقّ ذكر زهوق الروح الذي يلائم ويلازم القذف والدمغ.

(٢) والغرض انّ كلّ واحد منها علّة تامة ، لأنّ واجب الوجود لا يكون جزء مركب للزوم الافتقار المنافي له.

٣١١

الحاوي لأجرام العالم (عَمَّا يَصِفُونَ) الشريك والصّاحبة (١) والولد.

[٢٣] ـ (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) لأنّ كل ما يفعله حكمة وصواب ، ولا يقال للحكيم : لم فعلت الصّواب؟ (وَهُمْ) أي الآلهة أو العباد (٢) (يُسْئَلُونَ) عن أفعالهم.

[٢٤] ـ (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) كرّر استفظاعا لكفرهم وزيادة في توبيخهم ليرتب عليه (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على ذلك عقلا أو نقلا ، إذ لا صحّة لدعوى بلا حجّة مع انّ البرهان العقلي قد أبطله من استلزامه للفساد ، وكذا النّقليّ المدلول عليه بقوله : (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) عظة امّتي وهو القرآن ، وفتح «حفص» «الياء» (٣) (وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) من الأمم وهو سائر كتب الله ، ليس فيها انّ مع الله إلها ، وإنّما فيها ما ينفيه من الأمر بتوحيده والنّهي عن الإشراك.

وصحّ اثبات التّوحيد بالنقل لعدم توقّف البعثة عليه (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ) أي توحيد الله لتركهم النّظر (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن الحق لعدم تمييزهم بينه وبين الباطل.

[٢٥] ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ) (٤) وقرأ «حفص» و «حمزة» و «الكسائي» بالنون وكسر الحاء (٥) (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) فوحّدوني.

[٢٦] ـ (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) ردّ على القائلين [بأن] ـ : (٦) الملائكة بنات الله (سُبْحانَهُ) تنزيها له عن ذلك (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) لديه ، والعباد ليسوا بأولاد.

__________________

(١) في «ج» : الصاحب.

(٢) في «ج» : والعباد.

(٣) الكشف عن وجوه القراآت ٢ : ١١٥.

(٤) في المصحف الشريف بقراءة حفص : «نوحي» ـ كما سيشير اليه المؤلف ـ.

(٥) حجة القراآت : ٤٦٦.

(٦) الزيادة اقتضاها السياق.

٣١٢

[٢٧] ـ (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) لا يقولون إلّا ما يقوله (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) فهم التّابعون لأمره في أقوالهم وأفعالهم.

[٢٨] ـ (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي ما عملوا وما هم عاملون (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) أن يشفع له (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ) من مهابته (مُشْفِقُونَ) وجلون.

[٢٩] ـ (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ) من الملائكة ـ فرضا ـ ، وقيل : عنى به إبليس لأنّه دعا الى طاعته (١) (إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) من دون الله ، وفتح «نافع» و «أبو عمرو» : «الياء» (٢) (فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) والتّعذيب ينافي النبوّة (كَذلِكَ) الجزاء (نَجْزِي الظَّالِمِينَ) المشركين.

[٣٠] ـ (أَوَلَمْ) وترك «ابن كثير» «الواو» (٣) (يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعلموا (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي جماعتيهما ، ولذلك قال : (كانَتا) دون كنّ (رَتْقاً) ذواتي رتق ، أو مرتوقتين أي ملتصقتين (فَفَتَقْناهُما) ففصلنا بينهما بالهواء ، أو جعلنا كلّا منهما سبعا.

أو كانتا رتقا السّماوات لا تمطر ، والأرض لا تنبت ، ففتقناهما بالمطر والنّبات.

وتمكّن الكفرة من العلم بذلك بالنّظر أو الاستعلام بمنزلة علمهم به ، فذلك صحّ الاستفهام التقريري (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) خلقنا منه كلّ حيوان ، لفرط حاجته إليه وقلة صبره عنه ، أو صيّرنا كلّ شيء حيّ بسبب من الماء لا بدّ له منه.

وقيل : بشمول الحي للنّبات أيضا (٤) (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) وقد لزمتهم الحجّة.

__________________

(١) قاله ابن جريج وقتادة ـ كما في تفسير مجمع البيان ٤ : ٤٥.

(٢) الكشف عن وجوه القراآت ٢ : ١١٥.

(٣) حجة القراآت : ٤٦٧.

(٤) قاله ابو مسلم كما في تفسير مجمع البيان ٤ : ٤٥.

٣١٣

[٣١] ـ (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) جبالا ثوابت (أَنْ تَمِيدَ) كراهة أن تتحرّك (بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها) «في الأرض» أو «الرّواسي» (فِجاجاً) طرقا واسعة (سُبُلاً) بدل أو «فجاجا» وصف له قدّم ، فصار حالا تفيد انّه خلقها واسعة (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) إلى مقاصدهم في الأسفار. أو : الى وحدانيّة الله بالاعتبار.

[٣٢] ـ (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً) للأرض في النّظر (مَحْفُوظاً) عن السّقوط بقدرته ، أو الشياطين بالشهب (وَهُمْ عَنْ آياتِها) أوضاعها وأحوالها الدّالّة على وجود مبدعها ووحدته وقدرته وحكمته (مُعْرِضُونَ) لا يتفكرون فيها.

وبيّن بعض آياتها بقوله :

[٣٣] ـ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌ) التنوين عوض المضاف إليه ، أي كلّهم من الشمس والقمر وتابعهما وهو النّجوم (فِي فَلَكٍ) أي جنسه ، نحو كسانا الأمير حلّة (يَسْبَحُونَ) يسيرون كالسّابح في الماء ، وجمع جمع العقلاء تشبيها لها بهم في امتثال أمر خالقها ، أو لأنّها ذوات انفس عاقلة كما قيل.

[٣٤] ـ (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) أي : البقاء في الدّنيا ، نزلت حين قالوا : ان «محمّدا» سيموت (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) والفاء في الشّرط (١) لتعلقه بما قبله ، والهمزة لإنكار جملة الجزاء أي : فهم أيضا يموتون فلا يشمتوا بموته.

[٣٥] ـ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) تقرير للإنكار (وَنَبْلُوكُمْ) نختبركم (بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) بالمحن والمنح (٢) (فِتْنَةً) ابتلاء ، مصدر من غير لفظه (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) فنثبكم إن صبرتم وشكرتم ، ونعاقبكم إن جزعتم وكفرتم.

[٣٦] ـ (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ) ما (يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) مهزوّا به ، يقولون :

(أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) أي يعيبها (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) بتوحيد المولى للنّعم

__________________

(١) اي الفاء انما جيء به هنا لتعلق الشرط بما قبله.

(٢) المنحة ـ بكسر الميم ـ : الإعطاء.

٣١٤

كلّها ، أو بكتابه المنزل (هُمْ) كرّر تأكيدا أو لبعد الخبر بحيلولة صلته (كافِرُونَ) جاحدون ، فهم أحق بالهزء بهم.

[٣٧] ـ (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) نزل في استعجالهم العذاب أي لفرط عجله في أموره كأنّه خلق منه.

وقيل : هو «آدم» عليه‌السلام همّ بالقيام حين بلغ الرّوح صدره (١) (سَأُرِيكُمْ آياتِي) وهي القتل في الدّنيا والعذاب في الآخرة (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) فيها وقد أراهم القتل ببدر.

[٣٨] ـ (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) وعد القيامة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فيه.

قال تعالى :

[٣٩] ـ (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ومفعوله : (حِينَ لا يَكُفُّونَ) أي لو يعلمون الوقت الذي لا يدفعون فيه (عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ) لإحاطتها بهم من كلّ جانب (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يمنعون منها فيه ، وهو الوقت الذي استعجلوا به بقولهم «متى هذا الوعد» وجواب «لو» محذوف أي لما استعجلوا.

[٤٠] ـ (بَلْ تَأْتِيهِمْ) القيامة أو النّار (بَغْتَةً) فجأة ، مصدر أو حال (فَتَبْهَتُهُمْ) فتحيّرهم أو تغلبهم (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها) عنهم (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) لا يمهلون بعد إمهالهم في الدّنيا.

[٤١] ـ (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَحاقَ) حلّ (بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من العذاب أو جزاء استهزائهم ، فكذا يحيق بمن استهزأ بك.

[٤٢] ـ (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ) يحفظكم (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) من بأسه.

ونبّه بلفظ «الرّحمن» على انه لا كالئ إلّا رحمته الواسعة (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ)

__________________

(١) نقل نظيره عن ابن عباس والسدي في تفسير مجمع البيان ٤ : ٤٨.

٣١٥

أي القرآن أو المواعظ (مُعْرِضُونَ) لا يلتفتون إليه فضلا عن أن يخافوا بأسه ، فهم لا يصلحون للسّؤال عن الكالئ.

[٤٣] ـ (أَمْ) بمعنى بل ، وهمزة الإنكار ، أي بل أ(لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ) من العذاب (مِنْ دُونِنا) من غيرنا (لا يَسْتَطِيعُونَ) أي الآلهة ، استئناف لبيان عجزهم (نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) فكيف ينصرونهم (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) بالنّصر. أو من عذابنا يجارون فكيف يجيرون؟ وقيل : ضمير «هم» للكفرة.

[٤٤] ـ (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) اضراب عن ابطال ما زعموه ببيان ما أوهمهم ذلك ، وهو تمتيعه تعالى ايّاهم بنعم الدنيا وامهاله ايّاهم (حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) فاغترّوا بذلك وحسبوا انّه بسبب ما هم عليه (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) نقصد أرض الشّرك أو الأعمّ منها (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) بفتحها على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أو بتخريبها وموت أهلها أو بموت العلماء (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) أي ليسوا غالبين ، بل نحن الغالبون.

[٤٥] ـ (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) بما اوحي اليّ (وَلا يَسْمَعُ) وقرأ «ابن عامر» بتاء الخطاب (١) من الإسماء (الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ) أي هم لتصامّهم وعدم التفاتهم الى الإنذار كالصّمّ.

[٤٦] ـ (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ) أقلّ أثر (مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا) هلاكنا (٢) (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) بتكذيب «محمّد».

[٤٧] ـ (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) العدل ، وصف بالمصدر مبالغة ، أو ذوات العدل (لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) لأهله أو فيه (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) من حقّها أو من الظّلم

__________________

(١) حجة القراآت : ٤٦٧.

(٢) في «ب» : إهلاكنا.

٣١٦

(وَإِنْ كانَ) العمل (مِثْقالَ) ورفعه «نافع» على كان التّامّة أي زنة (١) (حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها) أحضرناها.

وأنث ضمير «مثقال» لإضافته الى الحبّة (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) عالمين أو محصين.

[٤٨] ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ) التّوراة الفارقة بين الحقّ والباطل (وَضِياءً) يستضاء بها (وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) عظة لهم بها ، أو ذكر ما يحتاجون إليه.

[٤٩] ـ (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) صفة أو مدح لهم (بِالْغَيْبِ) حال أي : غائبا عن حواسهم ، أو غائبين عن الناس ، أي : في خلواتهم (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ) من أهوالها (مُشْفِقُونَ) خائفون.

[٥٠] ـ (وَهذا) أي القرآن (ذِكْرٌ مُبارَكٌ) كثير الخير (أَنْزَلْناهُ) على محمّد (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) استفهام توبيخ.

[٥١] ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) هداه أو النبوّة. وإضافته تفيد انّ لهذا الرّشد شأنا (مِنْ قَبْلُ) قبل «موسى» و «هارون» أو قبل بلوغه (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) أي بأنّه أهل لما آتيناه.

[٥٢] ـ (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) ظرف ل «آتينا» أو مفعول اذكر مقدرا (ما هذِهِ التَّماثِيلُ) الصّور الممثّلة الّتي لا تضرّ ولا تنفع ، تحقير لها وتوبيخ لهم (الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) أي على عبادتها مقيمون ، وعدّى باللام لتضمينه معنى العبادة.

وقيل : اللام للاختصاص أي فاعلون العكوف لها.

[٥٣] ـ (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) فاقتدينا بهم ، لم يجدوا جوابا سوى التّقليد.

[٥٤] ـ (قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ظاهر ، لعدم استناد

__________________

(١) حجة القراآت ٤٦٨.

٣١٧

الجميع الى حجّة.

[٥٥] ـ (قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِ) بالجدّ فيما تقوله (أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) فيه ، قالوه استبعادا لتضليلهم فيما ألفوه (١).

[٥٦] ـ (قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ) خلقهنّ.

اضرب عمّا قالوا بإثبات دعواه بالحجّة و «هنّ» للسّماوات والأرض ، أو للتّماثيل وهو ادخل في تضليلهم وإلزامهم الحجّة (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ) الّذي ذكرته (مِنَ الشَّاهِدِينَ) المتحققين له.

[٥٧] ـ (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) لأدبّرنّ في كسرها ، و «التاء» بدل «الواو» المبدلة عن «الباء» وتفيد تعجّبا كأنّه تعجّب من كيده لها ، لصعوبته (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا) إلى عيدكم (مُدْبِرِينَ) عنها ، قاله سرّا ، فسمعه رجل فأفشاه.

[٥٨] ـ (فَجَعَلَهُمْ) بعد ذهابهم الى عيدهم (جُذاذاً) قطاعا ، وكسره «الكسائي» لغة فيه (٢) (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) لم يكسره وعلّق الفأس في عنقه (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) الى «ابراهيم». رجا ذلك لتفرده بسبّ آلهتهم فيبكّتهم بقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) (٣) أو الى الكبير فيسألونه عن الكاسر كما يرجع الى الرّبّ في المشكل فيعلمون جهلهم.

[٥٩] ـ (قالُوا) ـ بعد رجوعهم ـ : (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) بجرأته عليها أو بتعريض نفسه للقتل.

[٦٠] ـ (قالُوا) أي بعضهم : (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) يعيبهم ، صفة ل «فتى» تصحّح تعلّق السّمع به أو مفعول ثان ل «سمع» (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) رفع ب «يقال»

__________________

(١) يقال ألف فلان الشيء : إذا تعوّده واستأنس به.

(٢) حجة القراآت : ٤٦٨.

(٣) في الآية (٦٣) من هذه السورة.

٣١٨

أو خبر محذوف أو منادى.

[٦١] ـ (قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) أي مرئيّا مشهورا (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) بقوله أو فعله أو يحضرون عقابه.

[٦٢] ـ (قالُوا) ـ له بعد احضاره ـ : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ).

[٦٣] ـ (قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) أسند الفعل إليه لتسبّبه له ، لأنّ غيظه لزيادة تعظيمهم له أو لتقرير نفسه مع تبكيت (١) بطريق التّعريض كما لو عملت عملا وقال لك من لا يحسنه : أنت عملته؟ فتقول : بل عملته أنت أو حكاية لما يلزمهم كأنّه قال : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم ، فإنّ من حقّ الإله أن يقدر على ذلك؟ أو على تعليقه بالشّرط وتقديره : فعله كبيرهم إن نطقوا ، فاسألوهم.

[٦٤] ـ (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) الى عقولهم (فَقالُوا) أي بعضهم لبعض : (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) بعبادة ما لا ينطق ، أو بسؤال ابراهيم.

[٦٥] ـ (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) انقلبوا الى الجدال بعد استقامتهم بالتفكّر فقالوا : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) فكيف تأمرنا بسؤالهم ، وهو اعتراف بما هو حجّة عليهم. فأنكر عليهم عبادتهم لها.

[٦٦] ـ (قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي بدله (ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً) إن عبدتموه (وَلا يَضُرُّكُمْ) إن تركتموه.

[٦٧] ـ (أُفٍ) بالكسر مع تنوين وبدونه ، وبالفتح كما مرّ في «الإسراء» (٢) وهو صوت المتضجّر بمعنى نتنا وقبحا (لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) قبح فعلكم.

__________________

(١) التبكيت : التقريع والغلبة بالحجة (قاموس اللغة).

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ٢٣.

٣١٩

[٦٨] ـ (قالُوا) ـ حين ألزمهم الحجّة ـ : (حَرِّقُوهُ) إذ لا عقوبة أفظع (١) من النّار (وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ) بتحريقه (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) ناصريها.

قاله نمرود ، وقيل : رجل من أكراد فارس ، خسف به الأرض فجمعوا له الحطب الكثير وأضرموا فيه النّار ، وجعلوه في المنجنيق مغلولا ورموه فيها.

فقال له جبرئيل : ألك حاجة؟ فقال : أمّا إليك فلا.

قال : فاسأل ربّك ، فقال : حسبي من سؤالي علمه بحالي وكان ابن ستّ عشرة سنة (٢).

[٦٩] ـ (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) ذات برد وسلامة أي أبردي بردا لا يضرّه ، فلم تحرق إلّا وثاقه ، وزال حرّها وبقي نورها ، فجلس في روضة ومعه جبرائيل.

[٧٠] ـ (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) وهو تحريقه (فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) فيما أرادوا لانقلابه عليهم.

[٧١] ـ (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً) من قرية «كوثى» (٣) (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) بالخصب والسّعة والمنافع الدّينيّة وهي الشّام ، فإنّ أكثر الأنبياء بعثوا فيها ، فنزل «إبراهيم» ب «فلسطين» و «لوط» ب «المؤتفكة» وبينهما مسيرة يوم.

[٧٢] ـ (وَوَهَبْنا لَهُ) ل «ابراهيم» حين سأل ولدا (إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) عطيّة ، حال منهما أو زيادة على ما سأل ، وهي ولد الولد فتختصّ ب «يعقوب» (وَكُلًّا) من الثّلاثة (جَعَلْنا صالِحِينَ) للنّبوّة ، أو وفّقناهم للصّلاح أو حكمنا بصلاحهم.

__________________

(١) أفظع : اشنع وأشد ـ وفي «ج» : أفضح.

(٢) قاله ابن عمر ومجاهد ـ كما في تفسير مجمع البيان ٤ : ٥٤ وتفسير البيضاوي ٣ : ١٩٦ ـ.

(٣) في مراصد الاطلاع : ٣٤٦ : وكوثى بالعراق في موضعين : كوثى الطريق وكوثى ربا ، وبها مشهد ابراهيم الخليل عليه‌السلام ، وهما قريتان وبينهما تلول من رماد يقال انها رماد النار التي اوقدها نمرود لإحراقه ...».

٣٢٠