الوجيز في تفسير القرآن العزيز - ج ١

الشيخ علي بن الحسين بن أبي جامع العاملي

الوجيز في تفسير القرآن العزيز - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي بن الحسين بن أبي جامع العاملي


المحقق: الشيخ مالك المحمودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القرآن الكريم
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

كالأخبار (١) (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب (ذُو انْتِقامٍ) ممن عصاه.

[٩٦] ـ (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) ما صيد منه مما يفرخ فيه ، ولا يحل منه عندنا إلّا ما له فلس من السمك لا كلّ صيد كالشافعي ولا كلّ سمك كأبي حنيفة (وَطَعامُهُ) طاعم البحر أي القديد وصيده الطري ، أو طعام الصيد أي أكله (مَتاعاً) مفعول له ، أي تمتيعا (لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) مسافريكم تتزودونه (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) ما صيد فيه مما يفرخ فيه (ما دُمْتُمْ حُرُماً) محرمين وإن صاده محلّ عندنا ، واختلف فيها العامة (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) للجزاء.

[٩٧] ـ (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ) سميت كعبة لنبوّها (٢) (الْبَيْتَ الْحَرامَ) عطف بيان للمدح (قِياماً لِلنَّاسِ) مفعول ثان ، أي ما يقوم به أمر دينهم بحجه ، ودنياهم بأمن داخله ، وربح التجار عنده. وقرأ «ابن عامر» : «قيما» (٣) مصدر «قام» (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) لامه للجنس ، أي الأشهر الحرام الأربعة (وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) فسرا في أوّلها (٤) (ذلِكَ) الجعل (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) إذ جعله ذلك لدفع المضار ، وجلب المنافع قبل كونها دليل كمال علمه.

[٩٨] ـ (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن عصاه (وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمن تاب (رَحِيمٌ) به.

[٩٩] ـ (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) وقد فعل ، وقامت عليكم الحجة فلا عذر لكم في التفريط (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) من الأعمال فاحذروه.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٩ : ٢٤٤ الباب ٤٧ ـ ٤٨ من أبواب كفارات الصيد.

(٢) في بعض كتب اللغة : الكعبة البيت الحرام بمكة قيل سميت به لنتوئها وقيل لتربيعها.

(٣) حجة القراءات : ٢٣٧.

(٤) عند تفسير الآية (٢) من هذه السورة.

٤٠١

[١٠٠] ـ (قُلْ لا يَسْتَوِي) عند الله (الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) حرام المال وحلاله ، وطالح العمل وصالحه (وَلَوْ أَعْجَبَكَ) أيها السامع (كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) فإنّ قليل الطيب خير من كثير الخبيث (فَاتَّقُوا اللهَ) وآثروا ما هو خير (يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لتفوزوا بالثواب.

[١٠١] ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) اسم جمع ، أصله شيئا ، فعلاء قدّمت لامه فصار لفعاء ، أي لا تسألوا الرسول عن أشياء مسكوت عنها (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) إن بينها لكم تغمكم ، والشرطية صفة أشياء وكذا (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) أي في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (تُبْدَ لَكُمْ) يظهرها لكم وإذا ظهرت غمتكم فلا تسألوا عنها (عَفَا اللهُ عَنْها) عن مسألتكم التي سلفت فلا تعودوا. وهو استئناف ، أو صفة أشياء ، أي عن أشياء لم يكلف الله بها (وَاللهُ غَفُورٌ) للذنوب (حَلِيمٌ) لا يعجل العقوبة.

[١٠٢] ـ (قَدْ سَأَلَها) أي الأشياء ، بحذف «عن» أو المسألة بقرينة «تسألوا» (قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) فأجيبوا ببيانها (ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) أي بسببها إذ لم يقبلوها.

[١٠٣] ـ (ما جَعَلَ اللهُ) رد لبدع الجاهلية ، أي ما شرع (مِنْ بَحِيرَةٍ) «من» مزيدة (وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) كانوا إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن ، آخرها ذكر ، بحروا أذنها ، أي شقوها ، وحرّموا ركوبها وحلبها. وكان الرجل يقول : إن قدمت فناقتي سائبة ويحرم منافعها كالبحيرة وإذا ولدت الشاة أنثى كانت لهم ، وان ولدت ذكرا كان لآلهتهم ، وان ولدتهما لم يذبحوا الذكر لها ، إذ وصلته أخته ، وإذا انتج من الفحل عشرة أبطن حرموا ظهره ، وقالوا : «حمى ظهره» ولم يمنع ماء ولا مرعى (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بنسبة ذلك اليه (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أنّ ذلك افتراء لأنهم قلدوا فيه كبارهم.

[١٠٤] ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا

٤٠٢

عَلَيْهِ آباءَنا) من الدين ، وتمسكهم بالتقليد دليل نقص عقولهم (أَ) همزة إنكار دخلت على واو الحال ، أي أحسبهم ذلك (وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً) من الحق (وَلا يَهْتَدُونَ) اليه.

[١٠٥] ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) الزموا صلاحها ونصب «أنفسكم» ب «عليكم» لأنه اسم لألزموا (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَ) أي الضلال (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ولم يرد ترك الحسبة ، (١) الراء للضاد ضما (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيجازي كلا بعمله.

[١٠٦] ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) أي الاشهاد الذي شرع بينكم ، وأضيفت الى الظرف اتساعا (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي أسبابه ظرف للشهادة (حِينَ الْوَصِيَّةِ) بدل منه (اثْنانِ) خبر «شهادة» بحذف مضاف ، أو فاعلها أي عليكم أن يشهد اثنان (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) من المسلمين وهما صفتان ل «اثنان» (أَوْ آخَرانِ) عطف على «اثنان» وظاهره اعتبار عدالتهما في دينهما (مِنْ غَيْرِكُمْ) من أهل الذمة ولا تسمع شهادتهم إلّا في هذه القضيّة عندنا ونسخه ممنوع ؛ وارادة الأقارب والأجانب ب «منكم» و «غيركم» لا تطابق سبب النزول (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ) سافرتم (فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) أي قاربتكم والجزاء محذوف دل عليه «أو آخران» (تَحْبِسُونَهُما) تقفونهما صفة «آخران» والشرط اعتراض يفيد أنه لا يعدل عن المسلمين إلّا إذا تعذرا مطلقا ، أو في السفر فقط (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) صلاة العصر لاجتماع الناس حينئذ ، أو أي صلاة (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) إن ارتاب الوارث. وهو اعتراض يخصص القسم بحال الريبة (لا نَشْتَرِي بِهِ) لا نستبدل بالقسم أو بالله (ثَمَناً) عوضا من الدنيا ، بأن نخلف به كذبا لأجله (وَلَوْ

__________________

(١) الحسبة : نظارة ضبط الموازين والأسعار ونحو ذلك من طرف الوالي.

٤٠٣

كانَ) المقسم له (ذا قُرْبى) قريبا منّا (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) التي أمرنا بأدائها (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) أي إن كتمناها.

[١٠٧] ـ (فَإِنْ عُثِرَ) اطّلع (عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) بخيانة وتحريف (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) في الحلف (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) جني عليهم ، وهم الورثة (الْأَوْلَيانِ) الأحقّان بالشهادة خبر محذوف ، أي «هما الاوليان» (١) أو بدل من فاعل «يقومان» أو من «آخران» وعلى قراءة «حفص» «استحقّ» (٢) مبنيا للفاعل وهو فاعله. وقرأ «حمزة» و «أبو بكر» «الأوّلين» (٣) جمع «أول» صفة «الذين» أو بدل منه (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُ) أصدق (مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا) وما تجاوزنا الحق فيها (إِنَّا إِذاً) إن اعتدينا (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أنفسهم ، أو بجعل الباطل حقا.

والمعنى ليشهد المحتضر عدلين من أهل دينه فإن فقدا لسفر ونحوه فآخران من غيرهم ، فإن ارتاب الورثة فيهما حلفا على صدقهما بتغليظ في الوقت. وجاز تحليف الشاهد هنا للنص ، فإن اطلع على ما يكذبهما حلف آخران من الورثة على خيانتهما المعثور عليها :

قيل : خرج مسلم مع نصرانيين تجارا فمرض وكتب وصية ودسها في متاعه وقال : «أبلغاه أهلي» ومات ، ففتشاه وأخذا منه إناء فضة نقش بذهب ، فوجد أهله الوصية وطالبوهما به ، فجحدا فترافعوا الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت الأولى ، فأحلفهما بعد العصر ، ثم وجد الإناء عندهما ، فقالا : ابتعناه منه ولا بينة لنا فلم نقربه ، فرفعوهما الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت الثانية فحلف رجلان من أوليائه. (٤)

[١٠٨] ـ (ذلِكَ) الحكم المذكور (أَدْنى) أقرب الى (أَنْ يَأْتُوا) أي الشهود

__________________

(١) في الأصل : هما الوليان ، وفي «ب» و «ج» : هما أوليان.

(٢ ـ ٣) حجة القراءات : ٢٣٨.

(٤) قاله اسامة بن زيد عن أبيه كما في تفسير التبيان ٤ : ٤٢ و ٤٧.

٤٠٤

عموما (بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) الذي تحملوها عليه بلا تحريف لخوف الحلف (أَوْ) أدنى إلى أن (يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) على الورثة المدعين فيحلفوا على كذبهم فيفتضحوا (وَاتَّقُوا اللهَ) أن تكذبوا وتخونوا (وَاسْمَعُوا) وصيته سماع قبول (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الخارجين عن طاعته الى حجة أو الجنة.

[١٠٩] ـ (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) ظرف «لا يهدى» أو نصب ب «اذكر» مضمرا (فَيَقُولُ) ـ لهم توبيخا لقومهم ـ : (ما ذا) «ماذا» في موضع المصدر ، أي أيّ إجابة (أُجِبْتُمْ قالُوا أُجِبْتُمْ قالُوا) تشكيا وردا للأمر الى علمه بما كابدوا منهم (لا عِلْمَ لَنا) بما أنت تعلمه أي لا حاجة الى شهادتنا (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) فتعلم ما أجابونا وما أسرّوا في أنفسهم ، أو معناه لا علم لنا مع علمك لأنك علام الغيوب فكيف الظواهر. وكسر «حمزة» و «أبو بكر» «غين» الغيوب حيث وقع. (١)

[١١٠] ـ (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) أي اذكر «إذ يقول» أو بدل من «يوم يجمع» أي يوبّخ الكفرة (٢) يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم ، وذكر ما منحهم من آياته فكذبهم قوم ودعوهم سحرة ، وغلا قوم ودعوهم آلهة (إِذْ أَيَّدْتُكَ) قويتك ظرف «نعمتي» (بِرُوحِ الْقُدُسِ) جبرئيل عليه‌السلام ، أو روحك المطهرة من الأدناس (تُكَلِّمُ النَّاسَ) حال من كاف «أيدتك» (فِي الْمَهْدِ) طفلا (وَكَهْلاً) بلا تفاوت في كمال العقل. ويفيد نزوله قبل الساعة لأنه رفع ولما يكتهل (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) فسّر في «آل عمران» (٣) وقرأ «نافع» «طائرا» (٤) (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي

__________________

(١) تفسير البيضاوي ٢ : ١٧٤.

(٢) كذا ظاهر الأصل ، وفي «ب» : نوبخ الكفرة وفي «ج» توبيخا لكفرة وفي «ط» توبيخ الكفرة.

(٣) عند تفسير الآية : ٤٩ من سورة آل عمران.

(٤) حجة القراءات : ١٦٤.

٤٠٥

إِسْرائِيلَ) اليهود (عَنْكَ) عن قتلك (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) المعجزات (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ) ما (هذا) الذي جئت به (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) وقرأ «حمزة» و «الكسائي» : «ساحر» (١) أي عيسى.

[١١١] ـ (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) أمرتهم على السنة رسلي (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) «أن» مصدرية أو مفسرة (قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) مخلصون.

[١١٢] ـ (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) معمول «اذكر» أو ظرف ل «قالوا» فيؤذن بشكهم حين ادعوا الإخلاص إذ العارف لا يقول (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) وقيل : هل يطيع أي يجيبك و «استطاع» بمعنى «أطاع» وقرأ «الكسائي» : «تستطيع ربك» (٢) أي سؤال ربك.

والمائدة : خوان عليه طعام من «ماد» أي : تحرك أو «مادة» أي أعطاه (قالَ اتَّقُوا اللهَ) أن تقترحوا عليه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) كما ادعيتم.

[١١٣] ـ (قالُوا نُرِيدُ) سؤالها من أجل (أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) تسكن بزيادة اليقين (وَنَعْلَمَ أَنْ) مخففة [من] الثقيلة (٣) (قَدْ صَدَقْتَنا) في ادّعاء الرسالة (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) لله بالوحدانية ولك بالرسالة عاكفين عليها.

[١١٤] ـ (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا) نداء ثان (أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ) أي يكون يوم نزولها. قيل : هو يوم الأحد (٤) ولهذا اتخذه النصارى عيدا (لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا) أهل زماننا بدل من «لنا» بإعادة الجار (وَآخِرِنا) من يأتي بعدنا (وَآيَةً) كائنة (مِنْكَ) على قدرتك وبنوتي (وَارْزُقْنا) إياها أو شكرها(وَأَنْتَ

__________________

(١) حجة القراءات : ٢٣٩.

(٢) حجة القراءات : ٢٤٠.

(٣) في «ط» : مخففة من الثقيلة.

(٤) قاله كعب ـ كما في تفسير مجمع البيان ٢ : ٢٦٦ ـ.

٤٠٦

خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

[١١٥] ـ (قالَ اللهُ) ـ مجيبا له ـ : (إِنِّي مُنَزِّلُها) وشدده «نافع» و «ابن عامر» و «عاصم» (١) (عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي) وفتح «نافع» الياء (٢) (أُعَذِّبُهُ عَذاباً) تعذيبا (لا أُعَذِّبُهُ) الهاء للمصدر (أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) فنزلت الملائكة بها عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات ، فأكلوا منها.

وروى أنها كانت تنزل فيأكلون منها ، ثم ترفع ، فمنع مترفوهم سفلتهم منها ، فرفعت ببغيهم ومسخوا قردة وخنازير. (٣)

وقيل : نزلت خبزا ولحما ، وأمروا أن لا يخونوا ولا يخبئوا ، فخانوا وخبأؤا فمسخوا. (٤) وفيها أقوال أخر. (٥)

[١١٦] ـ (وَإِذْ قالَ اللهُ) يقول لعيسى توبيخا لقومه (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي) وفتح ياءها «نافع» و «ابن عامر» و «أبو عمرو» و «حفص» (٦) (إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) الظرف صلة «اتخذوني» أو صفة «إلهين» (قالَ سُبْحانَكَ) تنزيها لك من أن يكون لك شريك (ما يَكُونُ) ما ينبغي (لِي) وفتح «الياء» «الحرميان» و «أبو عمرو» (٧) (أَنْ أَقُولَ ما) أي قولا (لَيْسَ لِي بِحَقٍ) لا يحق لي

__________________

(١) حجة القراءات : ٢٤٢ وفي المصحف الشريف بقراءة حفص عن عاصم «منزّلها» بالتشديد. كما ذكره المؤلّف ـ قدس سرّه ـ.

(٢) انظر كتاب السبعة في القراءات : ٢٥٠.

(٣) تفسير مجمع البيان ٢ : ٢٦٧.

(٤) رواه عمار بن ياسر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما في تفسير مجمع البيان ٢ : ٢٦٦.

(٥) المتداول اليوم أن يقال في جمع «نقل» نقول غير أنّ أنقال أيضا جمع له آخر صحيح وان لم يكن متداولا.

(٦) كتاب السبعة في القراءات : ٢٥٠.

(٧) انظر كتاب السبعة في القراءات : ٢٥٠.

٤٠٧

أن أقول (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما) أسرّه (فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي معلوماتك. وذكر «في نفسك» للمشاكلة (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) يقرر الجملتين منطوقا ومفهوما.

[١١٧] ـ (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) فيه اقرار بأنه عبد مأمور (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) خبر مضمر ، أو مفعوله ، أي هو ، أو أغني أو عطف بيان للهاء في «به» (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) رقيبا ، أمنعهم أن يقولوا ذلك (ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) بالرّفع إليك.

والتوفي أخذ الشيء ، وافيا فيعم الموت وغيره (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) تمنعهم من القول به بما أقمت لهم من الحجج أو تحفظ أعمالهم (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) مطلع ، عالم به.

[١١٨] ـ (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) الأحقاء بالعذاب ، إذ عبدوا غيرك (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) المنيع القادر على الثواب والعقاب الذي انما يثيب ويعاقب للحكمة. وامتناع غفران الشرك للوعيد لا لذاته ، فلا يمنع تعليقه بأن.

[١١٩] ـ (قالَ اللهُ هذا يَوْمُ) ونصبه «نافع» (١) ظرفا ل «قال» أو مستقرا خبرا ل «هذا» أي هذا الكلام خبر من عيسى واقع يوم (يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) حال التكليف لأنه النافع في القيامة (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بعملهم (وَرَضُوا عَنْهُ) بثوابه (ذلِكَ) أي ما عدد من النفع هو (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) إذ فيه سعادة الأبد.

[١٢٠] ـ (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَ) من الأجناس ومنها عيسى وأمّه ، فكذب من زعمهما إلهين. وغلب غير العقلاء لفرط بعدهم (٢) عن رتبة الألوهية (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من المقدورات (قَدِيرٌ).

__________________

(١) حجة القراءات : ٢٤٢.

(٢) في «د» : لفرط جهلهم وبعدهم.

٤٠٨

سورة الأنعام

[٦]

مائة وخمس وستون آية مكية

وقيل : إلّا «وما قدروا» الآيات الثلاث و «قل تعالوا» الثلاث. (١)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) اخترعهما بما اشتملا عليه من عجائب الصنع ، وبدائع الحكم وأنواع النّعم ، فهو المستحق للحمد. وقدم السماوات لشرفها (وَجَعَلَ) أحدث. والجعل المتعدي الى واحد فيه معنى التضمين كإحداث شيء من شيء أو تصييره شيئا ، والخلق فيه معنى التقدير فافترقا (الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) جمعت دونه لكثرة أسبابها إذ لكلّ جرم ظلّ ، وقدّمت لتقدم العدم على الملكة (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) عطف على «الحمد لله» أي هو حقيق بالحمد على ما خلق للعباد ، ثم الذين كفروا به يعدلون عنه. فالباء يتعلق ب «كفروا» أو على «خلق» أي أنه خلق ما يعجز عنه غيره ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه. فتتعلق ب «يعدلون» ومعناه يسوون به الأصنام. و «ثم» لاستبعاد عدولهم مع قيام هذه الحجة.

__________________

(١) قاله ابن عباس ـ كما في تفسير مجمع البيان ٢ : ٢٧١.

٤٠٩

[٢] ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) ابتدأ خلقكم (مِنْ طِينٍ) إذ خلق منه أصلكم آدم عليه‌السلام (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أجل الموت ، أو ما بين الخلق والموت (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) أجل القيامة أو ما بين الموت والبعث. و «أجل» مبتدأ خصّ بمسمّى أي معيّن وخبره «عنده» أي لا يعلمه ولا يقدر عليه غيره تعالى (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) تشكّون. استبعاد لشكّهم في البعث بعد ثبوت أنه ابتدأ خلقهم ، فإنّ من قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر.

[٣] ـ (وَهُوَ) أي : الله ، وخبره (اللهُ) ويتعلّق بمعناه (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) أي : المعبود فيهما ، أو : ب «يعلم» والجملة خبر ثان ، أو : ظرف «مستقر» خبر ثان ، بمعنى : أنه لعلمه بما فيهما كأنه فيهما (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) تقرير له (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) من خير وشرّ ، فيجازيكم به.

[٤] ـ (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) ما تظهر لهم حجّة من حججه المعجزات كآيات القرآن وغيرها. و «من» الاولى مزيدة والثانية للتبعيض (إِلَّا كانُوا عَنْها) أي عن النظر فيها (مُعْرِضِينَ) لم يلتفتوا اليه.

[٥] ـ (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) بالقرآن (لَمَّا جاءَهُمْ) كأنه قيل : إن أعرضوا عن الآيات فقد كذبوا بما هو أعظمها (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما) أخبار الشيء الذي (كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي سيعلمون بأي شيء استهزءوا عند حلول العذاب بهم في الدنيا والآخرة.

[٦] ـ (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ) خبرية (أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) من أهل عصر.

والقرن كل طبقة مقترنين في وقت (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) أعطيناهم مكانا فيها بالسّعة والقوة وطول المقام (ما لَمْ نُمَكِّنْ) نعط (لَكُمْ) يا أهل مكة. التفات عن الغيبة (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ) المظلة ، إذ الماء منها ، أو السحاب ، أو المطر (عَلَيْهِمْ مِدْراراً) مغزارا (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) تحت مساكنهم (فَأَهْلَكْناهُمْ

٤١٠

بِذُنُوبِهِمْ) ولم يغن ذلك عنهم شيئا (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) مكانهم فالقادر على فعل ذلك بهم قادر أن يفعله بكم.

[٧] ـ (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) مكتوبا في ورق كما اقترحوه (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) أبلغ في نفي الرّيب من «عاينوه». وذكر الأيدي للتأكيد (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) تعنّتا وعنادا (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).

[٨] ـ (وَقالُوا لَوْ لا) هلا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) نعاينه فيصدّقه (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) كما اقترحوا فلم يؤمنوا (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) لحقّ إهلاكهم بمقتضى الحكمة (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) لا يمهلون لحظة.

[٩] ـ (وَلَوْ جَعَلْناهُ) أي الذي طلبوه جواب ثان أو الرسول فهو جواب اقتراح آخر كقولهم : لو شاء ربنا لأنزل ملائكة (مَلَكاً) يعاينوه (لَجَعَلْناهُ) لمثّلنا الملك (رَجُلاً) كما مثل جبرائيل في صورة «دحية» غالبا إذ لم يقووا أن يروا الملك بصورته. وقد يراه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها لقوّة نفسه (وَلَلَبَسْنا) أي ولو جعلناه رجلا لخلطنا (عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) ما يخلطون على ضعفتهم فيقولون «ما هذا إلّا بشر مثلكم». (١) [١٠] ـ (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) فأحاط بهم الذي استهزءوا به من الحق فاهلكوا ، أو فحلّ بهم وبال استهزائهم.

[١١] ـ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) كيف اهلكوا لتعتبروا بالنظر في آثارهم.

[١٢] ـ (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا وخلقا ـ تبكيتا ـ (قُلْ لِلَّهِ) إذ لا جواب غيره بالاتفاق (كَتَبَ) أوجب (عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) التي منها اللطف بكم بنصب الأدلة على التوحيد في الدنيا ، وإثابة مطيعكم في الآخرة (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) قسم

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٢٤ و ٣٣.

٤١١

للوعيد على اشراكهم وترك النظر (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي فيه ، أو مبعوثين اليه فيجازيكم بعملكم (لا رَيْبَ فِيهِ) في اليوم (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أهلكوها بتعريضها للعقاب لاختيارهم الكفر. نصب ذما أو رفع خبرا ، أي أنتم الذين ، أو مبتدأ خبره (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) رتب على خسرانهم ، لأن اختيارهم الكفر أدّاهم إلى الإصرار على ترك الإيمان.

[١٣] ـ (وَلَهُ) عطف على الله (ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) من السكنى أي ما حلّ فيهما ، أو من السكون أي ما سكن وتحرك فيهما ، واكتفى بأحدهما عن الآخر (وَهُوَ السَّمِيعُ) لكلّ صوت (الْعَلِيمُ) بكل شيء.

[١٤] ـ (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) معبودا. قدّم «غير» وأوّلي «الهمزة» لأن الإنكار لاتخاذ غير الله وليا ، لا لاتخاذ الولي (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مبدعهما صفة لله (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) يرزق ولا يرزق. وخص الطّعام لشدة الحاجة اليه (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) لله من أهل عصري. وفتح «نافع» الياء (١) (وَلا تَكُونَنَ) وقيل لي لا تكونن (مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

[١٥] ـ (قُلْ إِنِّي) وفتح «الياء» «الحرميان» و «أبو عمرو» (٢) (أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) كما عصيتموه بعبادة غيره (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) مفعول «أخاف» والشرط اعتراض ، والجملة تنوب جزاءه.

[١٦] ـ (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) العذاب (يَوْمَئِذٍ) وبناه «حمزة» و «الكسائي» و «أبو بكر» للفاعل (٣) والضمير لله ، والمفعول محذوف ، أو يومئذ ، أي هو له (فَقَدْ رَحِمَهُ) نجاه وأثابه (وَذلِكَ) الرحم (الْفَوْزُ الْمُبِينُ).

__________________

(١) كتاب السبعة في القراءات : ٢٥٠.

(٢) حجة القراءات : ٢٤٣.

(٣) في المصحف الشريف «تكن».

٤١٢

[١٧] ـ (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) ببلاء كفقر ومرض (فَلا كاشِفَ لَهُ) فلا مالك لكشفه (إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) كغنى وصحة (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومنه ادامته ، فلا يقدر أحد على رفعه.

[١٨] ـ (وَهُوَ الْقاهِرُ) القادر الغالب مستعليا (فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ) في تدبيرهم (الْخَبِيرُ) بهم.

[١٩] ـ (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) تمييز ، نزلت حين قالوا له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن أهل الكتاب انكروك فارنا من يشهد برسالتك (قُلِ اللهُ) أي الله اكبر شهادة (شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) خبر محذوف ، أو الله ، ويلزمه أنه أكبر شهادة (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) يا أهل مكة (وَمَنْ بَلَغَ) أي وأنذر به من بلغه من الثقلين الى يوم القيامة. ويفيد تكليف من سيوجد بأحكامه (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) إنكار (قُلْ لا أَشْهَدُ) بذلك (قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) لا إله معه (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) به من الأصنام.

[٢٠] ـ (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) أي محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنعته في كتابهم (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) بلا شك (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) منهم ومن المشركين (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أدّاهم كفرهم إلى الإصرار على ترك الإيمان.

[٢١] ـ (وَمَنْ) أي لا أحد (أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بنسبة الباطل اليه ، كالشريك وغيره (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) بالقرآن ومعجزات محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِنَّهُ) أي الشأن (لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) بالكذب والتكذيب.

[٢٢] ـ (وَيَوْمَ) واذكر يوم (نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) وقرأه «يعقوب» بالياء ، وكذا «نقول» (١) في قوله : (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) توبيخا (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) تزعمونهم شركاء.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ٢ : ٢٨٣.

٤١٣

[٢٣] ـ (ثُمَّ لَمْ) «يكن» (١) (فِتْنَتُهُمْ) معذرتهم أو شركهم أي عاقبته. وقرأ «ابن كثير» و «ابن عامر» و «حفص» «تكن» بالتاء ورفع «فتنتهم» ، و «نافع» و «أبو عمر» و «أبو بكر» بالتاء ونصبها خبرا (٢) والتأنيث له ، والاسم المصدر في (إِلَّا أَنْ قالُوا) والباقون بالياء ونصبها (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) يحلفون على كذب لا ينفع دهشا وحيرة ، ونصب «حمزة» و «الكسائي» : «ربّنا» نداء. (٣)

[٢٤] ـ (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) بنفي اشراكهم (وَضَلَ) غاب (عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الشركاء.

[٢٥] ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) حين تقرأ القرآن. استمع له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفر من قريش منهم «النضر» فقالوا له : ما يقول محمّد؟ فقال : أساطير الأولين (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أغطية ، جمع «كنان» وهو الغطاء (أَنْ يَفْقَهُوهُ) كراهة أن يفهموه (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) صمما ، فلا يسمعون. مثل في نبو (٤) قلوبهم ومسامعهم عن قبوله ، وأسند اليه تعالى دلالة على تمكنه منهم كالجبلة (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) لعنادهم (حَتَّى) هي الدّاخلة على الجمل بلا عمل ، والجملة (إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) حال (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) جواب «إذا» أو «حتى» الجارة أي : حتى وقت مجيئهم. و «يجادلونك» حال ، و «يقول» بيان له (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أكاذيبهم ، جمع اسطورة أو أسطار جمع سطر. والمعنى أن تكذيبهم الآيات بلغ إلى أنهم يجادلونك ، فيجعلون أصدق الحديث خرافات الأولين.

[٢٦] ـ (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) عن القرآن أو الرسول وإتّباعه (وَيَنْأَوْنَ) يتباعدون

__________________

(١) في المصحف الشريف «تكن».

(٢) حجة القراءات : ٢٤٣.

(٣) حجة القراءات : ٢٤٤.

(٤) النبو : العلو والترفّع.

٤١٤

(عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ) بالنهي والنأي (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) لا يتعداهم ضرره الى غيرهم (وَما يَشْعُرُونَ) بذلك.

وجعلها في «أبي طالب» أي ينهى عن أذاه ولا يؤمن به ، يبطله أن الضمير للكفرة المجادلين المكذبين ، أبو طالب ما كذّبه قطّ بالاتفاق ؛ بل كان مصدقا له مؤمنا به ، بشهادة أشعاره ، وخطبه ، ووصاياه لأهله.

وقد أجمع أهل البيت عليهم‌السلام على إيمانه ، فنسبة الكفر اليه محض عناد ، يدعو اليه فرط النصب لابنه أمير المؤمنين عليه‌السلام.

[٢٧] ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) اروها ، او أطلعوا عليها ، أو أدخلوها فعرفوا عذابها. وجوابه محذوف أي لرأيت أمرا هائلا (فَقالُوا) تمنّيا (يا لَيْتَنا نُرَدُّ) الى الدنيا (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) استئناف ك «دعني ولا أعود» أي وأنا لا أعود ، تركتني أو لا ، أو عطف على «نردّ» أو حال من فاعله فيدخل في المتمنى والتكذيب الآتي لما تضمن من الوعد. ونصبهما «حمزة» و «حفص» جوابا للتمنّي ، ورفع «ابن عامر» «نكذب» ، ونصب «نكون». (١)

[٢٨] ـ (بَلْ) للإضراب عن ارادة الإيمان المتمنى (بَدا) ظهر (لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) من الكفر أو القبائح بشهادة جوارحهم ، فتمنوا ذلك (وَلَوْ رُدُّوا) إلى الدنيا بعد ذلك (لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) من الكفر (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في وعدهم بالإيمان.

[٢٩] ـ (وَقالُوا) استئناف أو عطف على «لعادوا» (إِنْ هِيَ) أي الحياة (إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ).

[٣٠] ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) على جزائه أو عرفوه حق التعريف ، أو مجاز عن حبسهم للسؤال. وجوابه كما مرّ (قالَ) توبيخا لهم (أَلَيْسَ هذا) البعث

__________________

(١) حجة القراءات : ٢٤٥.

٤١٥

والجزاء (بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا) اكّدوا إقرارهم بالقسم لوضوح الأمر (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بكفركم.

[٣١] ـ (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) بالبعث وما يتبعه (حَتَّى) غاية ل «كذّبوا» (إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) فجأة ، حال ، أو مصدر (قالُوا يا حَسْرَتَنا) احضري فهذا وقتك (عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) قصرنا في الدنيا. أضمرت للعلم بها ، أو في الساعة أي في شأنها (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) إذ اعتيد حمل الإثقال على الظهور (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) بئس شيئا يحملونه حملهم.

[٣٢] ـ (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي أعمالها (إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) اشتغال بما لا يعقب نفعا ، كما تعقبه أعمال الآخرة (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) المعاصي لدوامها. وقرأ «ابن عامر» : «ولدار الآخرة» (١) (أَفَلا) «يعقلون» (٢) ذلك ، فيؤمنون. وقرأ «نافع» و «ابن عامر» و «حفص» بالتاء (٣) تغليبا للحاضرين.

[٣٣] ـ (قَدْ) للتحقيق (نَعْلَمُ إِنَّهُ) أي الشأن (لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) كقولهم : «ساحر كذّاب» (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) بقلوبهم ، أو في الحقيقة. وقرأ «نافع» و «الكسائي» : «لا يكذبونك» (٤) من أكذبه أي وجده كاذبا ، أو نسبه الى الكذب. وفّراه علىّ والصادق عليهما‌السلام (٥) (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) وضع موضع «ولكنهم» إيذانا بأنهم ظلموا بجحدهم القرآن. والباء لتضمن الجحود معنى التكذيب.

__________________

(١) حجة القراءات : ٢٤٦.

(٢) في المصحف الشريف بقراءة حفص. تعقلون ـ كما سيشير اليه المؤلف.

(٣) حجة القراءات : ٢٤٦.

(٤) حجة القراءات : ٢٤٧.

(٥) تفسير التبيان ٤ : ١٩ : وتفسير مجمع البيان ٢ : ٢٩٣.

٤١٦

قيل : قال أبو جهل : ما نكذّبك ، وإنما نكذّب ما جئت به ، فنزلت. (١)

[٣٤] ـ (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا) «ما» مصدرية (حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) فتأسّ واصبر حتى يأتيك نصرنا (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) لمواعيده بنصر رسله (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) من بعض قصصهم.

[٣٥] ـ (وَإِنْ كانَ كَبُرَ) عظم (عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) عن دينك (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً) سربا (فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً) مصعدا (فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) فافعل ، أي انك لا تستطيع ذلك ولو استطعت لفعلت حرصا على إسلامهم (وَلَوْ شاءَ اللهُ) جبرهم (لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) بالإلجاء ، ولكن لم يفعل لمنافاته الحكمة (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) بذلك.

[٣٦] ـ (إِنَّما يَسْتَجِيبُ) يجب الى الإيمان (الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) وهؤلاء كالموتى ، لا يسمعون (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) من قبورهم (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) للجزاء وحينئذ يسمعون ولا ينفعهم ذلك.

[٣٧] ـ (وَقالُوا لَوْ لا) هلا (نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) غير ما انزل من الآيات عنادا (قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ) وخفّفه «ابن كثير» (٢) (آيَةٌ) تلجئهم الى الإيمان أو يهلكون بجحودها (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ان انزالها بلاء عليهم وان فيما انزل غنى.

[٣٨] ـ (وَما مِنْ) «من» مزيدة (دَابَّةٍ) تدبّ (فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ

__________________

(١) رواه سفيان الثوري عن علي عليه‌السلام كما في تفسير المراغي.

(٢) تفسير التبيان ٤ : ١٢٦.

٤١٧

بِجَناحَيْهِ) في الجوّ ، صفة لدفع مجاز السرعة (١) (إِلَّا أُمَمٌ) جمعت حملا على المعنى (أَمْثالُكُمْ) في كتب أرزاقها وآجالها وأحوالها. والقادر المدبر لذلك قادر على إنزال الآية (ما فَرَّطْنا) تركنا (فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) أي اللوح ، ففيه ما يجري في العالم من جليل ودقيق.

أو القرآن ، ففيه ما يحتاج اليه من أمر الدين مجملا أو مفصّلا. و «من» مزيدة (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) فيقتص لبعض من بعض فيأخذ للجمّاء من القرناء.

[٣٩] ـ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) القرآن (صُمٌ) عن سماعها بتدبير شهادتها بربوبيّته (وَبُكْمٌ) عن النطق بالحق (فِي الظُّلُماتِ) أي الكفر أو الجهل (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) يخذله بسوء اختياره (وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يلطف به لأنّه أهل اللطف.

[٤٠] ـ (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) «الكاف» حرف خطاب لحقه ما يبين الضمير لا مفعول ، وإلّا لقيل : أرأيتموكم ومتعلق الاستخبار محذوف أي أخبروني (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) في الدنيا (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) وهولها من تدعون (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) تبكيت (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ان الأصنام آلهة فادعوها.

[٤١] ـ (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) لا غير (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ) الذي تدعونه الى كشفه (إِنْ شاءَ) كشفه (وَتَنْسَوْنَ) وتتركون (ما تُشْرِكُونَ) به من آلهتكم فلا تدعونها إذ لا نفع لغيره.

[٤٢] ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) رسلا (إِلى أُمَمٍ مِنْ) «من» مزيدة (قَبْلِكَ) فكذبوهم (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) بالفقر والمرض (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) يتذللون لنا ، فيؤمنون.

__________________

(١) حيث يستعمل الطيران مجازا للسرعة في المشي والحركة فلدفع هذا قال تعالى : (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) ، وانظر تفسير التبيان ٤ : ١٢٨.

٤١٨

[٤٣] ـ (فَلَوْ لا) فهلا (إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) عذابنا (تَضَرَّعُوا) أي لم يتضرعوا مع وجود الداعي (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فذلك الذي منعهم عن التضرع.

[٤٤] ـ (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا) وعظوا (بِهِ) من البأساء والضراء فلم يتعظوا (فَتَحْنا) وشدده «ابن عامر» حيث وقع (١) (عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) من صنوف النعم ، امتحانا لهم بالشدة والرخاء لتلزمهم الحجة أو استدراجا لهم (حَتَّى إِذا فَرِحُوا) أعجبوا (بِما أُوتُوا) من النعم وبطروا ولم يشكروا (أَخَذْناهُمْ) بالعذاب (بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) آيسون متحسرون.

[٤٥] ـ (فَقُطِعَ دابِرُ) آخر (الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي استؤصلوا (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على إهلاكهم ويفيد أن إهلاك الظلمة نعمة يجب الحمد عليها.

[٤٦] ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) اخبروني (إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ) أصمّكم وأعماكم (وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) اذهب عقلها بالتغطية عليها (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) أي بما أخذ وختم عليه (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) نبيّنها أن نوجهها حججا عقلية وترغيبا وترهيبا وتذكيرا بمن مضى (ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) يعرضون عنها بعد ظهورها.

[٤٧] ـ (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً) بلا أمارة قبله (أَوْ جَهْرَةً) تسبقه أمارته ، أو ليلا ونهارا (هَلْ يُهْلَكُ) أي ما يهلك به هلاك سخط (إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) الكافرون.

[٤٨] ـ (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ) من آمن بالجنة (وَمُنْذِرِينَ) من كفر بالنار (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ) عمله (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من النار (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بفوت الجنة.

__________________

(١) حجة القراءات : ٢٥٠.

٤١٩

[٤٩] ـ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) بخروجهم عن الطاعة.

[٥٠] ـ (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) مقدوراته أو ارزاقه (وَلا) أنّى (أَعْلَمُ الْغَيْبَ) ما لم يوح إليّ (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) من الملائكة ، أقدر على مقدورهم (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) أي لم أدّع ما يستبعد من الهية أو ملكية ، بل أدّعي النبوّة وهي من كمالات البشر (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) الجاهل والعالم ، أو : الكافر والمؤمن (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) فتعلموا الحق ، أو فتؤمنوا.

[٥١] ـ (وَأَنْذِرْ بِهِ) ل «ما يوحى» (الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) هم عصاة المؤمنين ، أو كلّ مقرّ بالبعث من مسلم وكتابي ، أو مجوّز له ولو مترددا (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) حال من «يحشروا» (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) كي يخافوا فيتوبوا.

[٥٢] ـ (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) يعبدونه (بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) بالدوام أو في صلاة الصبح والعصر. وقرأ «ابن عامر» : بالغدوة (١) (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) حال أي يدعونه مخلصين فيه. وهم فقراء المسلمين ، وكان المشركون طعنوا فيهم وطلبوا أن يطردهم ليجلسوا اليه فأبى. قالوا : فنحهم عنا إذا جئنا قال : نعم ، فنزلت (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي ليس لك إلّا اعتبار ظاهرهم وان كان باطنهم غير مرضي كما زعمه المشركون فحسابهم لا يتعدّاهم إليك (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) وقيل : الضمير للمشركين أي لا تؤاخذ بحسابهم ولا هم بحسابك (٢) (فَتَطْرُدَهُمْ) جواب النفي (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) جواب النهي.

[٥٣] ـ (وَكَذلِكَ) الفتن (فَتَنَّا) ابتلينا (بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) الغني والشريف بالفقير والوضيع بأن وفقناه للسبق بالإيمان (لِيَقُولُوا) أي الأغنياء إنكارا. واللام

__________________

(١) اي بالواو وضم الغين ـ كما في حجة القراءات : ٢٥١ ـ.

(٢) رواه ابن عباس ـ كما في تفسير مجمع البيان ٢ : ٣٠٦ ـ.

٤٢٠