الوجيز في تفسير القرآن العزيز - ج ١

الشيخ علي بن الحسين بن أبي جامع العاملي

الوجيز في تفسير القرآن العزيز - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي بن الحسين بن أبي جامع العاملي


المحقق: الشيخ مالك المحمودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القرآن الكريم
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

ابن مسعود» وقد قدم معتمرا ، فجعل له عشرا من الإبل إن ثبّط المسلمين ، فأتى فوجدهم يتجهّزون ، فقال لهم : أتوكم في دياركم فلم يفلت منكم إلّا شريد ، أفتريدون ان تخرجوا وقد جمعوا لكم ، ففتروا.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والّذي نفسي بيده لأخرجنّ ولو وحدي ، فخرج في سبعين وهم يقولون : حسبنا الله ، (١) و «النّاس» الاول : «نعيم» ؛ لأنّه من جنسهم. والثاني : أبو سفيان وأصحابه (فَزادَهُمْ) المقول أو القول أو القائل (إِيماناً) إذ لم يصغوا له ، بل قوى يقينهم والعزم على الجهاد. ويفيد ان الإيمان يزداد وينقص كما جاء في الأثر (٢) (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) محسبنا وكافينا من «أحسبه» أي كفاه (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ونعم الموكول إليه هو.

[١٧٤] ـ (فَانْقَلَبُوا) فرجعوا من بدر (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) بعافية وزيادة إيمان (وَفَضْلٍ) وربح في التجارة التي وافوا بها سوق بدر (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) من كيد عدوّ (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) بجرأتهم وخروجهم (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) قد تفضّل عليهم بالتوفيق لما فعلوا. وفيه تحسير لمن تخلف ؛ إذ حرم نفسه ما نالوا.

[١٧٥] ـ (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ) يعني المثبّط «نعيما» أو «أبا سفيان» ، و «الشيطان» خبر «ذلكم» وما بعده بيان لشيطنته ، أو صفة وما بعده الخبر. أو الإشارة الى القول على نيّة مضاف أي : إنما ذلكم قول الشيطان أي إبليس. (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) القاعدين عن الخروج مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو يخوفكم من أولياءه أبي سفيان واتباعه (فَلا تَخافُوهُمْ) يعني الناس على الأول ، و «أولياءه» على الثاني (وَخافُونِ) فأطيعوا رسولي وجاهدوا معه ، وأثبت «أبو عمرو» «الياء» وصلا (إِنْ كُنْتُمْ

__________________

(١) في «ط» : حسبنا الله ونعم الوكيل.

(٢) وفي تفسير البيضاوي ٢ : ٥٤

قلنا : يا رسول الله الايمان يزيد وينقص؟ قال : نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة ، وينقص حتى يدخل صاحبه النار.

٢٨١

مُؤْمِنِينَ) إذ المؤمن لا يخاف إلّا الله.

[١٧٦] ـ (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) يقعون فيه سريعا وهم المنافقون المتخلّفون ، أو قوم ارتدوا ، أي : لا يحزنوك خوف أن يضروك (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ) لن يضروا أولياء الله بكفرهم وانما يضرّون به أنفسهم (شَيْئاً) مفعول أو مصدر (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا) نصيبا من الثواب (فِي الْآخِرَةِ) وفي ذكر الإرادة ، اشعار ببلوغهم الغاية في الكفر حتى أراد أرحم الراحمين أن لا يرحمهم (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) بدل الثواب.

[١٧٧] ـ (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) تكرير للتأكيد ، أو عام والأول خاص بالمنافقين أو المرتدين.

[١٧٨] ـ «ولا تحسبن» خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو لكلّ أحد (الَّذِينَ كَفَرُوا) مفعول (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) بدل منه ، ناب مناب المفعولين ولكونه المعوّل عليه اقتصر على مفعول واحد أو المفعول الآخر على حذف مضاف أي : ولا تحسبن الذين كفروا أصحاب ان املاءنا خير لهم. (١) أو لا تحسبن حال الذين كفروا : ان املاءنا خير لهم. و «ما» مصدرية حقها الفصل خطا ، وانما وصلت تبعا للرسم وقرأ «ابن كثير» و «أبو عمرو» و «عاصم» و «الكسائي» بالياء ، (٢) ف «الذين» فاعل و «ان» وما في حيزها ناب مناب المفعولين.

__________________

(١) لمزيد من التوضيح للقارىء الكريم نقول :

انّ «انّما نملي ...» بدل اشتمال من «الذين» ناب مناب مفعولي «حسب» لكون البدل هو المعول عليه ، او بتقدير مفعول آخر مضافة وهو «اصحاب» بمعنى اهل ، فيكون للفعل «تحسب» في هذه الحالة مفعولان : الأول هو «الذين» والثاني هو كلمة «اصحاب» المضاف الي ما بعدها اي «انّما نملي» ـ للتصيل ينظر تفسير روح المعاني ٤ : ١٢٠.

(٢) كنز الدقائق ٢ : ٢٨١ وحجة القراءات : ١٨٢.

٢٨٢

وفتح سينه ـ أين جاء ـ «ابن عامر» و «عاصم» و «حمزة». (١)

والإملاء : الإمهال واطالة العمر (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) استئناف يعلّل ما قبله ، و «ما» كافّة ، واللام للعاقبة (وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ).

[١٧٩] ـ (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ) ليترك (الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أيّها الخلّص والمنافقون من اختلاطكم لا يعرف مخلصكم من منافقكم (حَتَّى يَمِيزَ) بالتّخفيف والتّشديد (الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) حتى يعزل المنافق عن المخلص بإخباره رسوله بأحوالكم أو بالتكاليف الصّعبة كبذل النّفس والمال لله ليظهر به ما تضمرون (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) وما كان ليؤتي أحدكم علم الغيب فيطّلع على ما في القلوب من إيمان وكفر (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ) يختار لرسالته (مَنْ يَشاءُ) فيعرّفه بعض المغيّبات بوحي أو نصب دليل (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) بأن تعلموه وحده مطلعا على الغيب وتعلموهم عبادا مصطفين ، لا يعلمون إلّا ما علّمهم الله.

قيل : قال الكفرة : ان كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صادقا فليخبرنا من يؤمن ومن يكفر ، فنزلت (٢) (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) بإخلاص (وَتَتَّقُوا) النفاق (فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) على ذلك.

[١٨٠] ـ «ولا تحسبن» (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) بالقراءتين. «التاء» على نية مضاف ، أي : ولا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيرا لهم ، وكذا «الياء» (٣) ان جعل الفاعل ضمير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو أحد ، وان جعل «الذين» فالمفعول الاول محذوف يدل عليه «يبخلون» أي ولا يحسبن البخلاء بخلهم هو خيرا لهم (بَلْ هُوَ) البخل (شَرٌّ لَهُمْ) ويفسّره (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ

__________________

(١) كنز الدقائق ٢ : ٢٨٢ وتفسير البيضاوي ٢ : ٥٥.

(٢) نقله البيضاوي في تفسيره ٢ : ٥٦.

(٣) حجة القراءات : ١٨٤.

٢٨٣

الْقِيامَةِ) سيلزمون وباله إلزام الطوق.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما من رجل لا يؤدّي زكاة ماله إلّا جعل في عنقه شجاع يوم القيامة ـ وتلاها ـ (١) (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وله ما فيهما مما يتوارث ، فما لهم يبخلون عليه بملكه ، أو انه يرث ما يمنعونه ويبقى عليهم وباله (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ) من إعطاء ومنع (خَبِيرٌ) فيجازيهم به. وقرأ «نافع» و «ابن عامر» و «حمزة» و «الكسائي» بالتاء (٢) ـ على الالتفات ـ.

[١٨١] ـ (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) قاله اليهود حين سمعوا (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) (٣) والمعنى انه لم يخف عليه وانه أعدّ لهم العقوبة عليه (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) في صحف الحفظة أو سنحفظه في علمنا ، وقرن بقوله : (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) إيذانا بأنهما في العظم سيان ، وان هذا ليس بأوّل عظيمة اجترحوها ، وانّ من قتل الأنبياء لم يستبعد منه هذا القول ، وقرأ «حمزة» «سيكتب» بالياء بصيغة المجهول ورفع «قتلهم» و «يقول» بالياء (٤) (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) وننتقم منهم بأن نقول لهم : ذوقوا العذاب المحرق.

واستعمل الذوق له اتساعا.

[١٨٢] ـ (ذلِكَ) العذاب (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) بما علمتم من المعاصي ، وذكر الأيدي لأنّ أكثر الأعمال بها (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) عطف على «بما قدمت» وسببيته انه يستلزم العدل الموجب معاقبة المسيء وإثابة المحسن.

[١٨٣] ـ (الَّذِينَ قالُوا) هم جماعة من اليهود : (إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) أمرنا في

__________________

(١) حجة القراءات : ١٨٣.

(٢) تفسير البيضاوي ٢ : ٥٧.

(٣) حجة القراءات : ١٨٤.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٢٤٥.

٢٨٤

التوراة وأوصانا (إِنَ) بأن (أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) بهذه الآية الخاصة التي كانت لأنبياء بني إسرائيل ، وهو أن يقرّب قربان فيدعو النبي فتنزل نار فتحرقه ، وهذا محض افتراء ؛ إذ أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلّا بكونه آية فهو وسائر الآيات سواء (قُلْ) في إلزامهم : (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي) ك «زكريا» و «يحيى» (بِالْبَيِّناتِ) الكثيرة الموجبة للتصديق (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) وبمقترحكم (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) انكم تؤمنون بذلك.

[١٨٤] ـ (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ) (١) (بِالْبَيِّناتِ) تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تكذيب قومه واليهود (وَالزُّبُرِ) جمع زبور وهو الكتاب المتضمن للحكم أو الزواجر. وقرأ «ابن عامر» : «وبالزبر» ، بإعادة «الباء» للتأكيد (٢) (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) التوراة والإنجيل والزبور.

[١٨٥] ـ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) تعطون جزاء أعمالكم من ثواب وعقاب وافيا (يَوْمَ الْقِيامَةِ) يوم قيامكم عن قبوركم. واما نعيم القبر وعذابه فبعض الأجور لا توفيها (فَمَنْ زُحْزِحَ) : نحّي (٣) (عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) فقد ظفر بالبغية (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي شهواتها وزينتها (إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) شبّهت بمتاع يغرّ به طالبه بالتدليس حتى يشتريه. والغرور مصدر أو جمع غار.

[١٨٦] ـ (لَتُبْلَوُنَ) أي : والله لتمتحنن (فِي أَمْوالِكُمْ) بتكليف الإنفاق وآفات تصيبها (وَأَنْفُسِكُمْ) بالقتل والأسر والجراح والمصائب (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) من هجاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والطعن في الدين والصدّ عن الإيمان ، أخبروا بذلك قبل كونه ليوطّنوا أنفسهم على

__________________

(١) يراجع تعليقنا على كلمة «باءو» في الآية ٦١ من سورة البقرة.

(٢) حجة القراءات : ١٨٥.

(٣) في «ج» و «ط» : نجا.

٢٨٥

الصبر حتى لا يرهقهم وقوعه (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على ذلك (وَتَتَّقُوا) المعاصي (فَإِنَّ ذلِكَ) أي الصبر والتقوى (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) من معزومات الأمور التي يجب العزم عليها ، أو ممّا عزم الله عليه ، أي : أوجبه.

[١٨٧] ـ (وَإِذْ) : واذكروا إذ (أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي العلماء به (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) حكاية مخاطبتهم. وقرأ «ابن كثير» و «أبو عمرو» و «عاصم» ـ في رواية ـ بالياء (١) لغيبتهم ، واللام جواب قسم نابه «أخذ ميثاقهم» ، والهاء للكتاب (فَنَبَذُوهُ) أي الميثاق (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) فلم يراعوه.

والنبذ وراء الظهر مثل في الطرح وترك الاعتناء (وَاشْتَرَوْا بِهِ) وأخذوا بدله (ثَمَناً قَلِيلاً) من عرض الدنيا (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ).

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كتم علما من أهله الجم بلجام من نار. (٢)

وعن عليّ عليه‌السلام : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا. (٣)

[١٨٨] ـ (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمفعول الاول الموصول (٤) والثاني : «بمفازة» ، وقوله «فلا تحسبنهم» تأكيد ، تقديره : لا تحسبن الذين يفرحون بما فعلوا من كتمان الحق ويحبّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الاخبار بالصدق بمفازة : بمنجاة من العذاب ، أي فائزين بنجاة منه ، وقرأ «ابن كثير» و «ابن عامر» بالياء وفتح باء الاول وضم باء الثاني ، (٥) ف «الذين» فاعل ، ومفعولا

__________________

(١) حجة القراءات : ١٨٥.

(٢) تفسير جوامع الجامع ١ : ٢٢٧.

(٣) تفسير جوامع الجامع ١ : ٢٢٧ وتفسير مجمع البيان ١ : ٥٥٢.

(٤) اي «الذين يفرحون».

(٥) حجة القراءات : ١٨٦.

٢٨٦

«يحسبن» محذوفان بقرينة مفعولي تأكيده ، والتقدير : «لا يحسبن الذين يفرحون فلا يحسبن أنفسهم بمفازة» (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بكفرهم وكذبهم.

نزلت في اليهود إذ سألهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن شيء في التوراة فأخبروه بخلاف ما فيها ، وأروه أنهم صدقوا وفرحوا بما فعلوا ، أو في المنافقين ؛ إذ يفرحون بمنافقتهم المسلمين ويستحمدون إليهم بالإيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة.

[١٨٩] ـ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيملك أمرهم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على عقابهم.

[١٩٠] ـ (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) كلّ يخلف الآخر (لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) لدلائل على وجود الصانع ووحدته وعلمه وقدرته وحكمته لذوي العقول السليمة.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ويل لمن قرأها ولم يتفكّر [فيها]». (١)

[١٩١] ـ (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) يذكرونه دائما على كل الحالات من قيام وقعود واضطجاع.

وقيل : معناه : يصلون لله على هذه الأحوال حسب قدرتهم (٢) (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) اعتبارا ، وهو أفضل العبادات.

عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا عبادة كالتفكر» (٣) (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) أي يتفكرون قائلين ذلك ، و «هذا» اشارة الى الخلق على ارادة المخلوق من السماوات والأرض ، أي ما خلقته عبثا (سُبْحانَكَ) تنزيها لك عن العبث. وهو اعتراض (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) لإخلالنا بالتفكر فيه. و «الفاء» تفيد أن علمهم بما لأجله خلقت

__________________

(١) تفسير البيضاوي ٢ : ٥٩ ـ ٦٠ والزيادة منه.

(٢) كما ورد في رواية أبي حمزة الثمالي عن الباقر عليه‌السلام ينظر تفسير البرهان ١ : ٣٣٣.

(٣) تفسير جوامع الجامع ١ : ٢٢٩.

٢٨٧

السماوات والأرض دعاهم الى الاستعاذة.

[١٩٢] ـ (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) فقد أبلغت في إخزائه ، ونظيره (فَقَدْ فازَ) (١) ويشعر بأن العذاب الروحاني أشد (وَما لِلظَّالِمِينَ) المدّخلين (مِنْ أَنْصارٍ) يدفعون عنهم العذاب قهرا ، فلا ينفي الشفاعة ؛ إذ لا قهر فيها.

وفيه أن ظلمهم سبب إدخالهم النار وفقدهم الأنصار.

[١٩٣] ـ (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) أوقع الفعل على المسمع ، وحذف المسموع لغناء صفته عنه.

وفي إطلاق «مناديا» ثم تقييده تفخيم لشأنه ، والمراد به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقيل : القرآن. (٢) والنداء ونحوه يعدى بإلى واللام لتضمّنه الانتهاء والإختصاص (أَنْ) بأن أو أي (آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) فأجبنا (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) كبائرنا (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) صغائرنا بتوفيقنا لاجتناب الكبائر (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) مصاحبين لهم ، معدودين من جملتهم. والأبرار : جمع برّ أو بارّ.

[١٩٤] ـ (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) على تصديقهم من الثواب ، أو على ألسنتهم ، أو يتعلق بمحذوف ، أي : ما وعدتنا منزلا على رسلك. سألوا انجاز ما وعد تعبدا أو تذللا ، أو طلبا للتوفيق في حفظ أسبابه (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) ولا تفضحنا ، أو : ولا تهلكنا (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) بإثابة المؤمن وإجابة الداعي ، وتكرير «ربّنا» للمبالغة في السؤال والإشعار باستقلال الطلبات.

وعن الصادق عليه‌السلام «من حزنه أمر فقال خمس مرات : «ربّنا» نجاه الله ممّا يخاف وأعطاه ما أراد (٣) ـ وتلاها ـ».

__________________

(١) في الآية ١٨٦ من هذه السورة.

(٢) قاله محمّد بن كعب القرضي وقتادة ـ كما في تفسير التبيان ٣ : ٨٤.

(٣) تفسير جوامع الجامع ١ : ٢٣٠.

٢٨٨

[١٩٥] ـ (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) ما طلبوا. ويعدى بنفسه وباللام (أَنِّي) بأني (لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) بيان ل «عامل» (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) يجمع ذكوركم واناثكم اصل واحد ، أو الإسلام. وهو اعتراض لبيان شركة النساء مع الرجال فيما وعد العمّال.

قيل : قالت «أم سلمة» : يا رسول الله ما بال الرجال يذكرون في الهجرة دون النساء؟ فنزلت. (١) (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) تفصيل لعمل العامل على جهة المدح ، أي هاجروا الشرك أو أوطانهم ، أو قومهم ، للدين (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) من أجل ديني وبسببه (وَقاتَلُوا) المشركين (وَقُتِلُوا) واستشهدوا. وعكس «حمزة» و «الكسائي». (٢) إذ «الواو» لا توجب ترتيبا.

أو المراد : لما قتل منهم قاتلوا ولم يهنوا. وشدد «ابن كثير» و «ابن عامر» «قتلوا» للتكثير (٣) (لَأُكَفِّرَنَ) لأمحون (عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً) أي اثيبهم بذلك إثابة (مِنْ عِنْدِ اللهِ) يستحقونه منه (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) على الأعمال ، لا يقدر عليه سواه.

[١٩٦] ـ (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أريد به الامّة ، أو لكل أحد ، والنهي للمخاطب ، وجعل للتقلب مبالغة بتنزيل السبب منزلة المسبب ، أي لا تنظروا الى ما هم عليه من السعة والحظ ، ولا تغتر بما ترى من تصرّفهم في البلدان ، يكتسبون ويتجرون.

قيل : كان بعض المؤمنين يرون المشركين في سعة ورخاء فيقولون : إن أعداء الله

__________________

(١) تفسير التبيان ٣ : ٨٩.

(٢) حجة القراءات : ١٨٧.

(٣) حجة القراءات : ١٨٨.

٢٨٩

في العيش الرخيّ وقد هلكنا جوعا. فنزلت. (١)

[١٩٧] ـ (مَتاعٌ) أي : تقلّبهم متاع (قَلِيلٌ) في جنب ما أعد للمؤمنين ، أو لزواله (ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي ما مهّدوا لأنفسهم.

[١٩٨] ـ (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) النزل ما يعد للنازل من الكرامة ، ونصب حالا من «جنات» والعامل «لهم» أو مصدرا مؤكدا ، أي : أنزلوها إنزالا (وَما عِنْدَ اللهِ) لدوامه (خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) مما يتقلّب فيه الفجّار لزواله.

[١٩٩] ـ (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) دخلت «اللام» في اسم «إنّ» لفصل الظرف بينهما.

نزلت في «ابن سلام» وأصحابه ، أو في ثمانين بين نجراني وحبشي ورومي ، كانوا على دين «عيسى» فأسلموا.

أو : في «أضخمة» (٢) النجاشي حين نعاه جبرئيل الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخرج فصلّى عليه ، فقال المنافقون : انظروا إليه يصلّي على علج نصراني لم يره قطّ (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من القرآن (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) من الكتابين. (خاشِعِينَ لِلَّهِ) حال من فاعل «يؤمن» وجمع نظرا الى المعنى (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) كما يفعل المحرّفون (٣) (أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الأجر المختص بهم الموعد في «أولئك يؤتون أجرهم مرتين» (٤) (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) لعلمه بالأعمال وجزائها ، فأجرهم

__________________

(١) ذكره البيضاوي في تفسيره ٢ : ٦٢.

(٢) «ب» و «ج» : اضخمة وفي «د» : ضخمة ، وفي تفسير الكشّاف وتفسير البيضاوي : اصحمة ، ومعنى اصحمة : عطيّة ـ بالعربيّة ـ كما في تفسير الكشّاف ١ : ٤٩١.

(٣) في «ط» : المجرمون.

(٤) في سورة القصص : ٦٨ / ٥٤.

٢٩٠

الموعود سريع الوصول.

[٢٠٠] ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) على مشاقّ التكاليف (وَصابِرُوا) وغالبوا عدوّكم بالصّبر على القتال ، أو على مخالفة الهوى. وذكر بعد الصبر مطلقا تخصيصا لشدّته (وَرابِطُوا) : وأقيموا في الثغور ، رابطين خيلكم ، مستعدّين للغزو (وَاتَّقُوا اللهَ) باجتناب المعاصي (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لكي تظفروا بالبغية.

٢٩١
٢٩٢

سورة النّساء

[٤]

مائة وخمس وسبعون آية مدنيّة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ) يا بني آدم (اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) آدم عليه‌السلام (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) عطف على محذوف ، أي : من نفس واحدة أنشأها ، وخلق من ضلعها ، أو من فضل طينتها امّكم «حواء» ـ بالمد ـ ، أو : على خلقكم ، أي : خلقكم من نفس واحدة وخلق منها امّكم (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) بيان لكيفية تولدهم منهما ، أي ونشر من النفس وزوجها ذكورا وإناثا كثيرة.

واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها لاقتضاء الحكمة كثرتهن.

ورتب الأمر بالتقوى على هذه القصة لدلالتها على كمال القدرة الموجبة خشية القادر ، وتمام النعمة الموجبة طاعة المنعم ، أو لأنّ المراد أن يتّقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم كما تعطيه الآيات الآتية (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) تتساءلون ، فأدغمت التاء الثانية في السين ، وحذفها «عاصم» و «حمزة» و «الكسائي» (١) أي يسأل

__________________

(١) حجة القراءات : ١٨٨.

٢٩٣

بعضكم بعضا بالله (وَالْأَرْحامَ) بالنصب عطف على محل «به» أو على «الله» أي واتقوا الأرحام فصلوها. وجرها «حمزة» (١) عطفا على الضمير المجرور. وقرنها باسمه تعالى ليؤذن بأن صلتها منه بمكان (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) : حافظا.

[٢] ـ (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) جمع يتيم ، وهو الذي مات أبوه ، من اليتم وهو الانفراد ، على أنه اجري مجرى الأسماء ، كصاحب. وجمع «يتايم» فقلب «يتامى» أو جمع «يتمى» ثم جمع يتمى على يتامى ، كأسرى وأسارى.

ومقتضى الاشتقاق وقوعه على الصغار والكبار ، ولكن خصّ عرفا بمن لم يبلغ. والمراد به ـ هنا ـ اما للبّلغ على القياس أو الاتساع ؛ لقرب عهدهم بالصغر حثا على دفع أموالهم إليهم أول بلوغهم إن أونس منهم رشد ؛ ولذا أمر بابتلائهم صغارا.

أو غير البلّغ ، والحكم مقيد ببلوغهم (وَلا تَتَبَدَّلُوا) ولا تستبدلوا (الْخَبِيثَ) الحرام من أموالهم (بِالطَّيِّبِ) بالحلال من أموالكم ، أو بما أعد في الجنة لمن عفّ عن مالهم (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) ولا تنفقوها مضمومة الى أموالكم حتى لا تفرقوا بينهما إلّا قدر اجرة المثل بسبيل القرض ، أو الاستحقاق ـ على الخلاف ـ ، «فليأكل (٢) بالمعروف» (إِنَّهُ) أي الأكل (كانَ حُوباً كَبِيراً). ذنبا عظيما. (٣) [٣] ـ (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا) ألّا تعدلوا (فِي الْيَتامى) يتامى النساء إذا تزوّجتم بهنّ (فَانْكِحُوا) فتزوّجوا (ما طابَ) ما حلّ (لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) من غيرهن.

إذ كان الرجل يجد يتيمة ذات مال وجمال فيتزوّجها فربما جمع عنده عشرا منهنّ

__________________

(١) حجة القراءات : ١٨٨.

(٢) في «الف» : وليأكل. والعبارة غير مرتبطة بما قبلها ـ كما ترى ـ وفي تفسير البيضاوي ٢ : ٦٥ جاءت العبارة هكذا : ولا تأكلوا أموالهم الى أموالكم : ولا تأكلوها مضمومة الى أموالكم اي لا تنفقوهما معا ولا تسوّوا بينهما وهذا حلال وذاك حرام ، وهو فيما زاد على قدر اجره لقوله تعالى : «فليأكل بالمعروف».

(٣) الآية ٦ من هذه السورة.

٢٩٤

فيقصّر فيما يجب لهنّ.

أو إن خفتم أن تجوروا في أمر اليتامى وتحرّجتم منه فخافوا أيضا الجور في أمر النساء ، فانكحوا مقدارا تفون بحقه ، فإنهم تحرّجوا (١) من ولاية اليتامى خوف الحرب ، (٢) ولا يتحرجون من تكثير النساء واضاعتهن.

أو تحرّجوا (٣) منهم ولا يتحرجون من الزنا ، فقيل لهم : ان خفتم الجور في أمرهم فخافوا الزنا ، فانكحوا ما أحل لكم. وعبر ب «ما» قصدا الى الوصف ، وإيذانا بقلّة عقولهن (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) حال من «ما طاب» معدولة عن أعداد مكررة هي :

ثنتان ثنتان (٤) وثلاث ثلاث ، وأربع أربع ، منع صرفها للعدل والوصف ، أو لتكرير العدل باعتبار الصيغة والتكرير.

ومعناه : الإذن لكل ناكح يريد الجمع أن ينكح ما شاء من العدد المذكور ، متّفقين فيه أو مختلفين ، نظيره : اقتسموا هذا المال درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة ، ولو أفردت وقيل اثنتين وثلاثا وأربعا لزم جواز الجمع بين الأعداد دون التوزيع ، ولو قيل «أو» لمنع الاختلاف في العدد (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) بين هذه الأعداد أيضا (فَواحِدَةً) فانكحوا واحدة وذروا الجمع (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) سوّى بين الحرة الواحدة والإمام لخفّة مؤونتهن (ذلِكَ) أي اختيار الواحدة أو التسرّي (أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) أقرب من أن لا تميلوا ، من عال الميزان : مال ، والحاكم جار.

وقيل : أن لا تكثر عيالكم ، من «عال الرجال عياله» مانهم ، فكنى عن كثرة

__________________

(١) كذا في النسخ ، والصحيح : كانوا يتحرّجون.

(٢) في «ط» : خوف الجور.

(٣) كذا في النسخ ، والصحيح : كانوا يتحرّجون ـ كما في تفسير البيضاوي ٢ : ٦٥ ـ.

(٤) في النسخ : ثنتين ثنتين ، وفي تفسير البيضاوي ٢ : ٦٥ وتفسير الكشّاف ١ : ٤٩٧ : ثنتين ثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا.

٢٩٥

العيال بكثرة المؤن ، ويعضده قراءة : «أن لا تعيلوا» من «عال» كثر عياله ، وقلة العيال بالتسري ؛ لأنه مظنّة قلّة الولد بالعزل.

[٤] ـ (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ) مهورهن (نِحْلَةً) عطيّة ، من «نحله كذا» أعطاه إياه عن طيب نفس نحلة ونحلا. ونصبت مصدرا ، إذ معناها الإيتاء ، أو حالا من «الواو» أو «الصدقات» أي آتوهن صدقاتهن ناحلين أو منحولة ، أو عطية من الله لهن ، أو فريضة منه ، فهي حال من الصدقات ، والخطاب للأزواج ، وقيل للأولياء ، لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ) من الصداق ، حملا على المعنى (نَفْساً) تمييز ، وتوحيدها لأنها لبيان الجنس ، أي فإن وهبن لكم شيئا من الصداق ، وتجاوزت عنه نفوسهن طيّبات (فَكُلُوهُ) خذوه وأنفقوه (هَنِيئاً مَرِيئاً) حلالا بلا تبعة ، (١) من «هنؤ الطعام ومرؤ» أي ساغ بلا غصّ.

وقيل : الهنيّ ما يلذّه الآكل ، والمريّ ما يحمد عاقبته. وهما وصف للمصدر ، (٢) أو حال من الواو ، (٣) أو صفتان (٤) نابتا مصدريهما. (٥) قيل : تأثم ناس أن يقبل أحدهم من زوجته شيئا مما نحلها ، فنزلت.

[٥] ـ (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) نهي للأولياء أن يعطوا من لا رشد لهم أموالهم ، فيضيّعوها. وأضيفت إلى الأولياء لأنها بأيديهم ، أو نهي لكل أحد عن إعطاء ماله كل سفيه ، أو زوجته وأولاده ؛ ثم ينظر الى أيديهم.

__________________

(١) في هامش «الف» : في نسخة : اي عقوبة.

(٢) في هامش «الف» : اي اكلا هنيئا مريئا فنصبهما على انهما مفعول مطلق. كذا.

(٣) في هامش «الف» : أي : حال كون المأكول هنيئا. بل حالان من الضمير ، وهو «الهاء».

(٤) في هامش «الف» : اي حال كونكم هنيئين. وتفسير البيضاوي على أنهما حال من الضمير فيحتمل الواو. (ع. ق).

(٥) في هامش «الف» : فيكون الأصل هنئتم هنيئا ـ على الدعاء ـ والوقف على ذكر الفعلان (كلمات لا تقرأ) فصار هنيئا مريئا فيكون (كلمة لا تقرأ) المصدرية بالنيابة عن (كلمة لا تقرأ).

٢٩٦

وسمّوا سفهاء استخفافا بعقلهم (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) أي تقومون بها ، وعلى الأول يراد به التي من جنس ما جعل لكم قياما. وقرأ «نافع» : «قيما» بمعناه. (١) (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) واجعلوها مكانا لرزقهم وكسوتهم ، بأن تتّجروا فيها وتموّنوهم من ربحها (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) حسنا شرعا ، أو عقلا من وعد جميل.

[٦] ـ (وَابْتَلُوا الْيَتامى) اختبروهم قبل البلوغ بتتبّع حالهم في صلاح الدين وإصلاح المال (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) كنى بذلك عن البلوغ وهو بأن يحتلم أو ينبت أو يبلغ الذكر خمس عشرة ، والأنثى تسعا (فَإِنْ آنَسْتُمْ) أبصرتم (مِنْهُمْ رُشْداً) تهديا الى حفظ المال (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) عند تحقّق البلوغ والرشد بلا تأخير (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) مسرفين ومبادرين كبرهم ، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) عن أكلها (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) بقدر أجرته أو كفايته ، أو أقلهما مع الرد إذا أيسر ، أو لا ـ على الخلاف ـ (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) بأنّهم تسلّموها ، دفعا للتهمة والتخاصم ولزوم الضمان (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) محاسبا ، فلا تتعدّوا حدوده.

[٧] ـ (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) هم المتوارثون بالقرابة (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) بدل من «ممّا» بتكرير العامل (نَصِيباً مَفْرُوضاً) نصب مصدرا ، بمعنى قسمة مفروضة ، أو على الإختصاص ، أي أعني نصيبا مقطوعا واجبا لهم.

نزلت ردّا للسنة الجاهلية من عدم توريث النّساء. (٢)

[٨] ـ (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) قسمة التركة (أُولُوا الْقُرْبى) ممن لا يرث (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) من المقسوم شيئا ، أمر ندب للورثة البلّغ ، وقيل أمر

__________________

(١) حجة القراءات : ١٩٠.

(٢) في «ب» : النساء والأطفال.

٢٩٧

وجوب ، واختلف في نسخه (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) هو الدعاء لهم والاعتذار إليهم.

[٩] ـ (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ) أمر للأوصياء بأن يخشوا الله في أمر اليتامى ليفعلوا بهم ما يحبّون ان يفعل بذرايهم الصغار بعدهم.

أو للحاضرين المريض عند الإيصاء بأن يخشوا الله في أولاده ، ويحبون لهم ما يحبّون لأولادهم فلا يتركوه أن يضرّبهم بصرف ما زاد على الثلث عنهم.

و «لو» بما في حيّزه صلة «الذين» ومعناه : وليخش الذين صفتهم أنهم لو شارفوا أن يخلّفوا ذرية ضعافا خافوا عليهم الضياع (فَلْيَتَّقُوا اللهَ) تأكيد للأمر بالخشية (وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) لليتامى بالشفقة والملاطفة كما يقولون لأولادهم ، أو للمريض بمنعه عن تجاوز الثلث ، وأمره بالتوبة وغيرها.

[١٠] ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) ظالمين ، أو على وجه الظّلم (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ) ملؤها (ناراً) ما يجر الى النار ، أو يأكلونها يوم القيامة.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يبعث ناس من قبورهم يوم القيامة تأجج من أفواههم نار» فقيل : من هم؟ فقرأ الآية (١) (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) وسيدخلون نارا ملتهبة فظيعة.

وضم «الياء» «ابن عامر» و «أبو بكر» (٢) يقال : «صلى النار» أي قاسى حرّها ، وأصليته : ألقيته فيها.

[١١] ـ (يُوصِيكُمُ اللهُ) يأمركم (فِي أَوْلادِكُمْ) في شأن ميراثهم وهو إجمال ، تفصيله : (لِلذَّكَرِ) أي منهم ، وحذف للعلم به (مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) حيث

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ٢ : ١٣.

(٢) حجة القراءات : ١٩١.

٢٩٨

اجتمع الصنفان.

وقدم «الذكر» لفضله كما ضوعف حظّه لذلك (فَإِنْ كُنَ) أي المولودات (نِساءً) خلّصا ليس معهنّ ذكر (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) خبر ثان ، أو صفة ل «نساء» (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) الميّت المعلوم من المقام (وَإِنْ كانَتْ) أي المولودة (واحِدَةً). ورفعها «نافع» (١) على التامة (فَلَهَا النِّصْفُ).

واختلف في الإثنين فقال ابن عباس : (٢) حكمهما حكم الواحدة : لأن الثلثين لما فوقهما ، وقال الباقون ـ وهو الحق ـ : حكمهما حكم ما فوقهما للإجماع بعد ابن عباس.

ويعضده أن للواحدة الثلث مع أخيها ، فاولى ان تستحقه مع اخت مثلها ، وأنّ للأختين الثلثين ، والبنتان أمسّ رحما (وَلِأَبَوَيْهِ) ولأبوي الميت (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا) بدل منه بإعادة العامل. وذكر تنصيصا على استحقاق كل واحد منهما السدس ، وتأكيدا بتفصيل بعد إجمال (السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ) للميت (وَلَدٌ) وان نزل ذكرا أو أنثى متعددا أو لا ، لكنهما يشاركان البنت في الباقي بعد السهام فيقسم أخماسا (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) مما ترك أجمع ولو مع أحد الزوجين عندنا ، وثلث ما بقي بعد نصيبه عند الجمهور ، ولم يذكر ما للأب لظهور أن له الباقي (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) لأب أو أبوين ، أقلهم ذكران ، وتنوب الأختان ذكرا ، وأريد بالجمع ما فوق الواحد اجماعا ما عدا ابن عباس إذ اعتبر الثلاثة فما زاد (فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) يحجبها الإخوة عن الثلث الى السدس ، ولا يرثون.

وعن ابن عباس : أن لهم ما حجبوا عنه الام ، (٣) وكسر «حمزة» و «الكسائي» همزة

__________________

(١) حجة القراءات : ١٩٢.

(٢) تفسير مجمع البيان ٢ : ١٤ وتفسير البيضاوي ٢ : ٧١.

(٣) تفسير البيضاوي ٢ : ٧١.

٢٩٩

«فلامة» (١) اتباعا لما قبلها. (مِنْ بَعْدِ) متعلق بجميع ما تقدم من قسمة المواريث.

أي : هذه الحصص للورثة من بعد (وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) «أو» للإباحة وتفيد تساويهما في وجوب التقديم على القسمة انفردا أم اجتمعا.

وقدمت الوصية على الدين مع تقدمه شرعا اهتماما بشأنها ، لأنها شاقة على الورثة لشبهها بالإرث فهي مظنة التفريط بخلاف الدين لاطمئنانهم الى أداءه.

وبنى «ابن كثير» و «ابن عامر» و «أبو بكر» «يوصى» للمفعول (٢) (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) اعتراض مؤكد لأمر القسمة ، أو تنفيذ الوصية ، أي : لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم ، فاقسموا على ما بيّنه الله ولا تفضلوا بعضا وتحرموا بعضا ، أو ممن ترثونه منهم : أمن أوصى فعرّضكم للأجر بتنفيذ وصيته ، أم من لم يوص فوفّر عليكم ماله (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) مصدر مؤكد ، أي فرض ذلك فريضة (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بالمصالح (حَكِيماً) فيما فرض.

[١٢] ـ (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) وان نزل ذكرا أو أنثى ، منكم أو من غيركم (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) في الصورتين (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ) ولو من غيرهن (فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) وتستوي الواحدة والعدد منهن في الربع والثمن (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ) وهو الميت (يُورَثُ) من «ورث» أي يورث منه ، صفة ل «رجل» (كَلالَةً) خبر «كان» أو الخبر «يورث» ، و «كلالة» حال من الضمير فيه ، وهو من لم يخلف ولدا ولا والدا ، ويحتمل كون الرجل الوارث ويورث من أورث.

وكلالة من ليس بولد ولا والد ، وهي في الأصل مصدر بمعنى الكلال ،

__________________

(١) حجة القراءات : ١٩٢.

(٢) حجة القراءات : ١٩٣.

٣٠٠