بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٣

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي

بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٣

المؤلف:

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي


المحقق: محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٦

«إذا أتاكم السّؤّال فأعطوهم يسيرا أو ردّوهم ردّا جميلا ، فإنّه يأتيكم من ليس بإنس ولا جانّ يختبرونكم فيما خوّلتم من الدّنيا). قال الشاعر (١) :

إلى كم ذا التخلّف والتوانى

وكم هذا التّمادى فى التّمادى

فما ماضى الشّباب بمستردّ

ولا يوم يمر بمستعاد

وفى الحديث : (البيّعان يترادّان (٢)) ، أى / يردّ كلّ واحد منهما ما أخذ.

__________________

(١) أى المتنبئ فى مدح على بن ابراهيم التنوخى.

(٢) أورده الطبرانى عن ابن مسعود بلفظ : «البيعان اذا اختلفا فى البيع ترادا البيع» انظر الفتح الكبير.

٦١

١٣ ـ بصيرة فى الردف

قال تعالى : (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ)(١) ، قال ابن عرفة : أى دنا لكم ، وقال غيره : جاء بعدكم. وقيل معناه : ردفكم وهو الأكثر. وقال الفرّاء : دخلت اللام لأنّه بمعنى [قرب](٢) لكم ، واللام صلة كقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ)(٣). وقال (٤) الأعرج : (ردف لكم) بفتح الدال.

والرّدف ـ بالكسر ـ : المرتدف ، وهو الذى يركب خلف الراكب. وكلّ ما تبع شيئا فهو ردفه. والرّدف أيضا : الكفل.

لها خصور وأرداف تنوء بها

رمل النقا وأعالى متنها رود (٥)

وأرداف النجوم : تواليها. والرّدفان : اللّيل والنهار.

وردف الملك : الّذى يجلس عن يمينه ، فإذا شرب الملك شرب الرّدف قبل النّاس ، وإذا غزا الملك قعد الرّدف موضعه. والرّديف : المرتدف كالرّدف. والرّدافة : فعل ردف الملك كالخلافة. وكانت الرّدافة لبنى يربوع فى الجاهليّة ، لأنّه لم يكن فى العرب أحد أكثر غارة على ملوك الحيرة من بنى يربوع

__________________

(١) الآية ٧٢ سورة النمل.

(٢) زيادة من التاج.

(٣) الآية ٤٣ سورة يوسف.

(٤) كذا فى الأصلين. والأولى : «قرأ» ، وقد ذكر هذه القراءة أبو حيان فى البحر المحيط ٧ / ٩٥ ، والاعرج هو ابن هرمز.

(٥) «رمل النقا» أى ترتج كرمل النقا. ورود : أصلها رؤد بالهمز ، يقال غصن رؤد : ناعم رخص.

٦٢

فصالحوهم على أن جعلوا لهم الرّدافة ويكفّوا عن أهل العراق.

وردفه ـ بالكسر ـ أى تبعة. والرّادفة فى قوله تعالى : (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ)(١) : النفخة الثانية. وأردفته معه أى أركبته معه. وأردفه أمر : لغة فى ردفه ، مثال تبعه وأتبعه.

وقوله تعالى : (مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ)(٢) ، قال الفرّاء : أى متتابعين. وقال غيره : أى جائين بعد. وقال بعضهم : معناه مردفين ملائكة أخرى ، فعلى هذا يكونون ممدّين بألفين من الملائكة. وقيل : عنى بالمردفين المتقدّمين للعسكر يلقون فى قلوب العدا الرّعب. وقال (٣) أبو جعفر ونافع ، ويعقوب ، وسهل : (مردفين) بفتح الدّال ، أى فعل ذلك بهم ، أى أردفهم الله بغيرهم. وقيل : مردفين أى أردف كلّ إنسان ملكا. قال خزيمة (من بنى (٤)) نهد :

إذا الجوزاء أردفت الثريّا

ظننت بآل فاطمة الظّنونا (٥)

ظننت بها وظنّ المرء حوب

وإن أوفى وإن سكن الحجونا

وحالت دون ذلك من همومى

هموم تخرج الداء الدّفينا

__________________

(١) الآية ٧ سورة النازعات.

(٢) الآية ٩ سورة الأنفال.

(٣) كذا ، والأولى قرأ

(٤) ب : «بن». وفى اللسان والتاج : «خزيمة بن مالك بن نهد»

(٥) «أردفت» فى البيت بمعنى ردفت أى تبعت. وظاهر كلام المؤلف يوهم خلاف ذلك. وفاطمة هى بنت يذكر بن عنزة أحد القارظين. ومعنى البيت : أن القوم يجتمعون على المياه ، حتى اذا جاء الحر جفت المياه ، وذلك حين تتبع الجوزاء الثريا وتردفها ، وحينئذ يتفرق القوم فى طلب المياه فى جهات يعرفونها ، ويأخذ كل فريق وجها ، فيذكر الشاعر أن عشيرة فاطمة محبوبته تذهب فى وجه غير وجه عشيرته ، فلا يدرى أين مضت ولا أين نزلت ، وتكثر ظنونه فى هذا الأمر.

٦٣

قال الخليل : سمعت رجلا بمكّة ، يزعمون (١) أنه من القرّاء ، وهو يقرأ (مُرُدّفين) بضمّ الميم والرّاء وكسر الدّال المشدّدة ، وعنه فى هذا الوجه كسر الراء. فالأولى أصلها مرتدفين ، لكن بعد الإدغام حركت الرّاء بحركة الميم. وفى الثانية حرّكت الرّاء السّاكنة بالكسر. وعنه فى هذا الوجه [و](٢) عن غيره فتح الراء ، كأن (٣) حركة التاء ألقيت عليها. وعن الجحدرىّ : بسكون الراء وتشديد الدّال جمعا بين الساكنين.

يقال : أتينا فلانا فارتدفناه ، أى أخذناه من ورائه أخذا. واستردفه : سأله أن يردفه. وترادفا : تعاونا.

__________________

(١) فى التاج : «يزعم».

(٢) زيادة من التاج.

(٣) فى الأصلين : «كأنه». وما أثبت عن التاج.

٦٤

١٤ ـ بصيرة فى الردم والردء والرذالة والرزق

الرّدم : ما يسقط من الجدار المتهدّم. والرّدم أيضا : السّد الذى بيننا وبين يأجوج ومأجوج. وردم الباب والثلمة وردّمه (١) : سدّه كلّه ، وقيل : سدّ ثلثه أو هو أكثر من السدّ. والاسم الرّدم بالتّحريك (٢).

وتردّم ثوبه : رقعه. والمتردّم : الموضع الّذى يرقع من / الثّوب.

والرّدء ـ بالكسر ـ : العون ، وردأه به : جعله له ردءا وقوّة وعمادا. والرّديء فى الأصل مثله ، لكن تعورف فى المتأخّر المذموم والفاسد ، وقد ردؤ ـ ككرم ـ رداءة ، فهو ردىء من أردئاء.

والرّذل والرّذيل والرّذال والأرذل : الدّون المرغوب عنه لرداءته. والجمع : أرذال ورذلاء ورذول ورذال والأرذلون ، وقد رذل ورذل ـ ككرم وعلم ـ رذالة ورذولة. ورذله غيره وأرذله. والرّذال والرّذالة : ما انتقى جيّده.

والرّزق ـ بالكسر ـ : ما ينتفع به. ويقال للعطاء الجارى تارة ، دنيويّا كان أو أخرويّا ، وللنصيب تارة ، ولما يصل إلى الجوف ويتغذّى به تارة. والجمع : أرزاق.

__________________

(١) فى القاموس ذكر صيغة الترديم فى معنى الترقيع ، ففيه : ثوب مردم : مرقع.

(٢) فى التاج : «ووقع فى البصائر للمصنف : والاسم الردم بالتحريك وهو غلط» اى أن الصحيح أن الاسم بسكون الراء كما جاء فى متن القاموس.

٦٥

والرّزق ـ بالفتح المصدر الحقيقى ، والمرّة الواحدة رزقة ، والجمع رزقات ، وهى أطماع ، يقال : أعطى السّلطان رزق الجند ، ورزقت علما. قال تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ)(١) أى من المال والجاه والعلم.

وقوله : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)(٢) أى أتجعلون نصيبكم من النّعمة تحرّى الكذب. وقوله : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ)(٣) قيل : عنى به المطر الّذى به حياة الحيوان ، وقيل : هو كقوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً)(٤) ، وقيل : تنبيه أنّ الحظوظ بالمقادير. وقوله : (فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ)(٥) أى بطعام يتغذّى به. وقوله : (رِزْقاً لِلْعِبادِ)(٦) ، قيل عنى به الأغذية ، ويمكن أن يحمل على العموم فيما يؤكل ويلبس ويستعمل. وقال فى العطاء الأخروىّ : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ)(٧) أى يفيض عليهم النّعم الأخروية. وقوله : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ)(٨) محمول على العموم.

__________________

(١) الآية ١٠ سورة المنافقين.

(٢) الآية ٨٢ سورة الواقعة ، وقوله فى تفسير الآية : «أتجعلون» فى الراغب : «وَتَجْعَلُونَ» وكأنه أخذ الاستفهام من العطف على ما قبله.

(٣) الآية ٢٢ سورة الذاريات.

(٤) الآية ١٨ سورة المؤمنين.

(٥) الآية ١٩ سورة الكهف.

(٦) الآية ١١ سورة ق.

(٧) الآيتان ١٦٩ ، ١٧٠ سورة آل عمران.

(٨) الآية ٥٨ سورة الذاريات.

٦٦

والرازق يقال لخالق الرّزق ومعطيه والمسبّب له ، وهو الله تعالى ، ويقال للإنسان الّذى يصير سببا فى وصول الرّزق. والرزّاق لا يقال إلّا لله تعالى. وقوله : (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ)(١) أى بسبب فى رزقه ولا مدخل لكم فيه. (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً)(٢) الآية أى ليسوا بسبب فى رزقهم بوجه من الوجوه ، وبسبب من الأسباب.

وارتزق الجند : أخذوا أرزاقهم. والرّزقة : ما يعطونه دفعة واحدة

__________________

(١) الآية ٢٠ سورة الحجر.

(٢) الآية ٧٣ سورة النحل.

٦٧

١٥ ـ بصيرة فى الرسخ والرس والرسل

رسخ رسوخا : ثبت. ورسخ الغدير : نشّ (١) ماؤه ونضب فذهب ، والمطر : نضب نداه فى الأرض فالتقى الثريان (٢). وأرسخه : أثبته. والرّاسخ فى العلم : المتحقّق به الّذى لا يعترضه شبهة. والراسخون فى العلم : هم الموصوفون بقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا)(٣).

والرّسّ : واد بأذربيجان فيه أربعة آلاف نهر جار (٤) ، قال (٥) :

* فهو لوادى الرسّ كاليد للفم*

وأصل الرسّ : الأثر القليل الموجود فى الشىء ، يقال : سمعت رسّا من خبر. ورسّ الحديث فى نفسه (٦). ووجد رسّا من الحمّى. ورسّ

__________________

(١) أى أخذ فى الجفاف.

(٢) اى بلل المطر من فوق ، وبلل الأرض من تحت.

(٣) الآية ١٥ سورة الحجرات.

(٤) ذكر بعده شعر زهير ، وظاهره أن الرس فى شعره هو الوادى بأذربيجان. وهذا غير صحيح ، فانه عند زهير فى بلاد العرب ، وأين هى من أذربيجان.

(٥) أى زهير فى معلقته. وصدره : بكرن بكورا واستحرن بسحرة* يصف ظعائن النساء ـ وهن النساء فى الهوادج ـ فارقنه ، ويذكر أنهن لا يخطئن هذا الوادى ، وادى الرس ، كما لا تجاوز اليد الفم.

(٦) فى الاصلين : «نفسى» وما أثبت موافق لما فى التاج ، ففيه : «ريس الحديث فى نفسه يرسه رسا : حدثها به» ، وفيه فى موضع آخر : «ورس الحديث فى نفسه : اذا عاود ذكره».

٦٨

الميّت : دفن وجعل أثرا بعد عين (١).

والرّسل ـ بالكسر ـ والرّسلة : الرفق والتؤدة ، والانبعاث على مهل. والرّسل / ـ بالفتح ـ : السّهل من السّير ، وقد رسل ـ بالكسر ـ رسلا ورسالة. والإرسال : التّسليط ، والإطلاق ، والإهمال ، والتّوجيه. والاسم الرّسالة ، والرّسالة ، والرّسول ، والرّسيل. والرسول : المرسل أيضا ، والجمع : أرسل ورسل ورسلاء. والرّسول أيضا : الموافق (٢) لك فى النّضال ونحوه. وإبل مراسيل : منبعثة انبعاثا سهلا ، ومنه الرّسول : المنبعث. وتصوّر منه تارة الرّفق فقيل : على رسلك : إذا أمرته بالرّفق. وتارة الانبعاث فاشتقّ منه الرّسول.

والرّسول تارة يقال للقول المتحمّل كقوله (٣) :

ألا أبلغ أبا حفص رسولا

__________________

(١) جاء من مادة الرس فى الكتاب العزيز قوله تعالى : (وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) فى الآية ٣٨ من سورة الفرقان ، وقوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ) فى الآية ١٢ سورة ق. وفى تبيين الرس فى الكتاب أقوال. ويقول البيضاوى فى آية الفرقان فى بيان أصحاب الرس : «قوم كانوا يعبدون الأصنام ، فبعث الله تعالى اليهم شعيبا ، فكذبوه ، فبينما هم حول الرس ـ وهى البئر الغير المطوية ـ فانهارت فخسف بهم وبديارهم. وقيل الرس : قرية بفلج اليمامة ، كان فيها بقايا ثمود ، فبعث اليهم نبى فقتلوه فهلكوا. وقيل : الأخدود. وقيل : بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار. وقيل : هم أصحاب حنظلة ابن صفوان النبى ، ابتلاهم الله تعالى بطير عظيم كان فيها من كل لون ، وسموها عنقاء ، لطول عنقها ، وكانت تسكن جبلهم الذى يقال له : فتح أو دمخ وتنقض على صبيانهم فتخطفهم اذا أعوزها الصيد ، ولذلك سميت : مغربا ، فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة. ثم انهم قتلوه فأهلكوا. وقيل : قوم كذبوا نبيهم ورسوه أى دسوه فى بئر».

(٢) كذا ورد فى القاموس. وفى التاج : «الذى صرح به صاحب اللسان وغيره أنه من معانى الرسيل كأمير».

(٣) أى قول نفيلة الأشجعى ، فى مقطوعة يخاطب فيها عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى قصة جاءت فى اللسان فى (أزر). وعجز البيت :

* فدى لك من أخى ثقة إزارى*

وقد عنى بازاره نفسه.

٦٩

وتارة لمتحمّل القول. والرّسول يقال للواحد والجمع ، قال تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ)(١) ، وقال : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٢) ، ولم يقل رسل (٣) لأنّ فعولا وفعيلا يستوى فيهما المذكّر والمؤنّث والواحد والجمع ؛ مثل عدوّ وصديق. وقيل : معناه : إنّا ذوو (٤) رسالة ربّ العالمين ، لأنّ الرّسول يذكر ويراد به الرّسالة كما تقدّم ، قال كثيّر :

لقد كذب الواشون ما بحت عندهم

بليلى ولا أرسلتهم برسول (٥)

أى برسالة. وأمّا الرّسول بمعنى الرّسل فكقول أبى ذؤيب :

ألكنى إليها وخير الرسو

ل أعلمهم بنواحى الخبر (٦)

أى وخير الرّسل.

وقوله : (ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ)(٧) أى على ألسنة رسلك.

والمراسيل : الإبل الخفاف التى تعطيك ما عندها عفوا ، الواحدة (٨) رسلة. قال كعب بن زهير :

أمست سعاد بأرض لا تبلّغها

إلّا العتاق النّجيبات المراسيل (٩)

__________________

(١) الآية ١٢٨ سورة التوبة.

(٢) الآية ١٦ سورة الشعراء.

(٣) المناسب : «رسولا» فان التلاوة : «فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ والحديث عن موسى وهارون. وجاء فى سورة طه : فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ.

(٤) كذا ، وهو جار على ما تقدم. والمناسب : «ذو رسالة».

(٥) فى التاج انه يروى «بسر» فى مكان «بليلى».

(٦) انظر ديوان الهذليين ١ / ١٤٦.

(٧) الآية ١٩٤ سورة آل عمران.

(٨) كذا. وفى القاموس واللسان أن الواحدة مرسال ، كما يقضى به القياس.

(٩) هذا البيت من بردته المشهورة.

٧٠

وقوله تعالى : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً)(١) [أى الرياح (٢)] أرسلت كعرف الفرس ، وقيل : الملائكة ، وقيل : الخيل.

والرّسل ـ بالتّحريك ـ من الإبل والغنم ما بين عشر إلى خمس وعشرين ، وقيل : القطيع من الإبل والغنم.

والرّسل ـ بالكسر ـ اللبن لنزوله على تؤدة ، وهو من القول : الليّن الخفيض ، قال الأعشى :

فقال للملك سرّح منهم مائة

رسلا من القول مخفوضا وما رفعا (٣)

ورسل الله تارة يراد بها الملائكة ، وتارة يراد بها الأنبياء ، فمن الملائكة قوله تعالى : (إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ)(٤) ، ومن الأنبياء قوله تعالى : (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ)(٥). وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ)(٦) ، قيل : عنى به الرّسول وصفوة أصحابه ، فسمّاهم رسلا لضمّهم إليه ، كتسميتهم المهلّب وأولاده المهالبة.

والإرسال يقال فى الإنسان وفى الأشياء المحبوبة والمكروهة. وقد يكون ذلك بالتسخير كإرسال الريح والمطر ، وقد يكون ببعث من يكون له اختيار ، نحو إرسال الرّسل ، وقد يكون ذلك بالتخلية وترك المنع نحو : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ)(٧).

__________________

(١) الآية ١ سورة المرسلات.

(٢) زيادة عن التاج.

(٣) من قصيدة له فى مدح هوذة بن على. وانظر الصبح المنير ٨٧.

(٤) الآية ٨١ سورة هود.

(٥) الآية ٩ سورة ابراهيم.

(٦) الآية ٥١ سورة المؤمنين.

(٧) الآية ٨٣ سورة مريم.

٧١

والإرسال يقابل بالإمساك قال تعالى : (وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ)(١). قال :

يا حبيبى وخليلى

ومنى قلبى ورسولى

فتبيّن وتيقّن

أنا فى إثر الرسول

والرسول فى القرآن ورد على اثنى عشر وجها :

الأوّل : بمعنى جبريل وميكائيل والمصطفين منهم : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً)(٢).

الثانى : بمعنى الأنبياء : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)(٣).

الثّالث : بمعنى صالح النبى : (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ)(٤).

الرّابع : بمعنى نوح : (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي)(٥).

الخامس : بمعنى هود : (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ)(٦).

السادس : بمعنى موسى الكليم : (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ)(٧).

السّابع : بمعنى شعيب : (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ)(٨) ، (يا قَوْمِ لَقَدْ / أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي)(٩).

__________________

(١) الآية ٢ سورة فاطر.

(٢) الآية ٧٥ سورة الحج.

(٣) الآية ١٦٥ سورة النساء.

(٤) الآية ١٣ سورة الشمس.

(٥) الآية ٦٢ سورة الأعراف.

(٦) الآية ٦٨ سورة الأعراف.

(٧) الآية ١٦٢ سورة الشعراء.

(٨) الآية ٨٧ سورة الأعراف.

(٩) الآية ٩٣ سورة الأعراف.

٧٢

الثامن : بمعنى يوسف الصّدّيق : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ)(١) إلى قوله : (مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً).

التّاسع : بمعنى رسل بلقيس إلى سليمان : (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)(٢)

العاشر : بمعنى شخص غير معيّن : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً)(٣)

الحادى عشر : بمعنى عيسى : (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ)(٤).

الثانى عشر : بمعنى سيّد المرسلين : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ)(٥) ، (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً)(٦) ، (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ)(٧) ، (ما لِهذَا الرَّسُولِ)(٨). وله نظائر.

__________________

(١) الآية ٣٤ سورة غافر.

(٢) الآية ٣٥ سورة النمل.

(٣) الآية ٥١ سورة الشورى.

(٤) الآية ٦ سورة الصف.

(٥) الآية ٦ سورة الصف.

(٦) الآية ٧٩ سورة النساء.

(٧) الآية ١٥٣ سورة آل عمران.

(٨) الآية ٧ سورة الفرقان.

٧٣

١٦ ـ بصيرة فى الرسو والرشد والرص

رسا رسوا ورسوّا ، وأرسى : ثبت. والسّفينة : وقفت على البحر (١) ، وأرسيته (٢) أنا.

قوله تعالى : (رَواسِيَ شامِخاتٍ)(٣) أى جبالا ثابتات. وقوله : (وَالْجِبالَ أَرْساها)(٤) إشارة إلى قوله : (وَالْجِبالَ أَوْتاداً)(٥)

قال (٦) :

* ولا جبال إذا لم ترس أوتاد*

وألقت السّحاب مراسيها : استقرّت وجادت ، وقيل : ألقت طنبها (٧).

وقوله تعالى : (أَيَّانَ مُرْساها)(٨) : متى وقوعها ومتى زمان ثبوتها. وقوله : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها)(٩) بضم ميميهما وفتحهما من أجريت وأرسيت

__________________

(١) كذا فى نسخة القاموس التى كتب عليها الشارح ، وقال : «كذا فى النسخ ، والصواب : اللنجر ، كما هو نص الصحاح. وفى التهذيب : الأنجر ، وهو الصحيح. قلت : واللنجر معرب لنكر ، وهو المرساة». وقد فسر فى القاموس هذه المرساة فى (نجر) فقال : «خشبات يفرغ بينها الرصاص المذاب فتصير كصخرة اذا رست رست السفينة».

(٢) كذا فى القاموس. وكتب فى هامشه : الأولى وأرسيتها ليعود على السفينة».

(٣) الآية ٢٧ سورة المرسلات.

(٤) الآية ٣٢ سورة النازعات.

(٥) الآية ٧ سورة النبأ.

(٦) أى الأفوه الأودى من داليته المشهورة. والبيت فى الطرائف الادبية ١٠ :

والبيت لا يبتنى الا له عمد

ولا عماد اذا لم ترس أوتاد

(٧) الطنب : حبل طويل يشد به الخباء.

(٨) الآية ١٨٧ سورة الأعراف ، والآية ٤٢ سورة النازعات.

(٩) الآية ٤١ سورة هود.

٧٤

أو من جرت ورست. وقرئ : مجراها ومرسيها على النّعت لله عزوجل. ورسوت بين القوم ، أى أثبتّ بينهم الصّلح (١).

والرّشد ـ بالضمّ ـ والرّشد ـ بالتّحريك ـ : خلاف الغىّ. ويستعمل استعمال الهداية ، رشد كعلم ورشد كنصر. وقيل : المحرّك أخصّ من المضموم ؛ فإنّ المضموم يقال فى الأمور الدّنيوية والأخروية ، والمتحرّك يقال فى الأمور الأخرويّة لا غير (٢)

ورصّ الشىء : إلصاق بعضه ببعض وضمّه. ومنه قيل للبخيل : الرّصّاصة.

والمرصوصة : البئر المطويّة بالرّصاص.

وتراصّوا : تلاصقوا ، قال تعالى : (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ)(٣) أى محكم متقن كأنما بنى بالرّصاص.

__________________

(١) فى الراغب : ايقاع الصلح».

(٢) مما جاء فى الكتاب من مادة الرشد قوله تعالى : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) فى الآية ١٨٦ سورة البقرة ، وقوله : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) فى الآية ٢٥٦ سورة البقرة ، وقوله تعالى : (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) فى الآية ١٠ سورة الكهف ، وقوله تعالى : (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) فى الآية ٢٩ سورة غافر ، وقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) فى الآية ٧ سورة الحجرات.

(٣) الآية ٤ سورة الصف.

٧٥

١٧ ـ بصيرة فى الرصد والرضاع

وهو اسم للرّاصد وللمرصود ، وللرّاصدين والمرصودين ، يستوى فيهما (١) الواحد والجمع. وقوله تعالى : (يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً)(٢) يحتمل كلّ ذلك.

والمادّة موضوعة للتّرقّب أو لاستعداد للتّرقّب (٣) ، رصد له وترصد (٤) وأرصدته أنا. وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ)(٥) : إنّه لا ملجأ ولا مهرب من الله إلا إليه. والمرصاد والمرصد : موضع الرّصد. وقوله : (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً)(٦) تنبيه أنّ عليها مجاز النّاس.

رضع الصّبى أمّه ، ورضع ـ كسمع وضرب ـ رضاعا ورضعا ورضاعة ، وأرضعته أمّه. وقوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ)(٧) أى تسوموهنّ (٨) إرضاع أولادكم.

ورضع ـ ككرم ـ ورضع ـ كمنع ـ رضاعة : لؤم ، فهو راضع ورضيع. ورضّاع : نهاية فى اللّؤم. وأصله رجل كان يرضع إبله لئلا يسمع صوت حلبه فيسأل. وسمّى الثنيّتان من الإنسان الراضعتين لاستعانة الطفل بهما فى المسترضع (٩).

__________________

(١) كذا فى الأصلين. والمناسب : «فيه» أى فى الرصد. وقد يوجه ما هنا على أن المراد : يستوى الرصد فيهما. وقوله : «الواحد والجمع» بالجر بدل من الضمير فى «فيهما».

(٢) الآية ٢٧ سورة الجن.

(٣) فى الأصلين : «الترقب» والوجه ما أثبت ، لأنه يقال : استعد له ، ولا يقال : استعده.

(٤) فى القاموس : رصده وترصده.

(٥) الآية ١٤ سورة الفجر.

(٦) الآية ٢١ سورة النبأ.

(٧) الآية ٢٣٣ سورة البقرة.

(٨) فى أ : «تسرفوهن» ، وفى ب : «تسوقوهن» ، وما أثبت عن الراغب.

(٩) كذا فى أ. وفى ب : «المترضع» ، وفى الراغب : «الرضع».

٧٦

١٨ ـ بصيرة فى الرضا

رضى الله عنه ، ورضى عليه ، يرضى رضا ورضوانا ورضا ورضوانا ومرضاة : ضد سخط ، فهو راض من رضاة ، و [ورضىّ] من أرضياء ورضاة ، ورض من رضين.

وأرضاه : أعطاه ما يرضيه. واسترضاه وترضّاه : طلب رضاه. ورضيته وبه ، فهو مرضوّ ومرضىّ.

ورضا العبد عن الله تعالى ألّا يكره ما يجرى به قضاؤه. ورضا الله تعالى عن العبد أن يراه مؤتمرا لأمره منتهيا عن نهيه. والرّضوان : الرّضا الكبير (١). ولما كان أعظم الرضا رضا الله تعالى خصّ لفظ الرّضوان فى القرآن بما كان من الله تعالى.

وقوله : (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ)(٢) أى أظهر كلّ واحد منهم الرّضا بصاحبه ورضيه. قال تعالى : (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)(٣) وقال : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ)(٤) ، وقال : (مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى)(٥) ، وقال : (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ)(٦)

__________________

(١) كذا فى الأصلين. وفى الراغب : «الكثير».

(٢) الآية ٢٣٢ سورة البقرة.

(٣) الآية ٧ سورة الزمر.

(٤) الآية ٢٧ سورة الجن.

(٥) الآية ٢٦ سورة النجم.

(٦) الآية ٥٥ سورة النور.

٧٧

وقال : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)(١) ، وقال : (وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا)(٢) ، وقال : (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى)(٣) ، وقال : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ)(٤) وقال لنبيّه : (لَعَلَّكَ تَرْضى)(٥). قال : (وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ)(٦) وقال : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى)(٧) ، وقال : (لِسَعْيِها راضِيَةٌ)(٨) وقال : (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ)(٩) أى مرضيّة. وقال : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً)(١٠) وقال : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)(١١)

واعلم أنّ العلماء قد أجمعوا على أنّ الرّضا (١٢) مستحبّ ، مؤكد استحبابه. واختلفوا فى وجوبه على قولين ، والأكثر على تأكّد استحبابه ، فإنه لم يرد الأمر به كما ورد فى الصبر ، وإنّما جاء [الثناء] على أصحابه. وأمّا ما يروى من الأثر : «من لم يرض بقضائى ، ولم يصبر على بلائى ، فليتّخذ ربّا سواى» فهذا أثر إسرائيلىّ لم يصحّ عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا سيّما عند من يرى أنّه من جملة الأحوال الّتى ليست مكتسبة ، وأنه موهبة محضة ، فكيف يؤمر به وليس مقدورا!

وهذه مسألة اختلف فيها السّالكون على طرق ثلاث : فقال شيوخ خراسان : إنّه من جملة المقامات وهو نهاية التوكل ، وقال آخرون :

__________________

(١) الآية ٦ سورة مريم.

(٢) الآية ٥٥ سورة مريم.

(٣) الآية ٨٤ سورة طه.

(٤) الآية ١٨ سورة الفتح.

(٥) الآية ١٣٠ سورة طه.

(٦) الآية ٥١ سورة الأحزاب.

(٧) الآية ٥ سورة الضحى.

(٨) الآية ٩ سورة الغاشية.

(٩) الآية ٢١ سورة الحاقة ، والآية ٧ سورة القارعة.

(١٠) الآية ٢٨ سورة الفجر.

(١١) الآية ١١٩ سورة المائدة ، وورد فى آيات أخر.

(١٢) أى الرضا بقضاء الله.

٧٨

هو من جملة الأحوال ، يعنى هذا لا يمكن أن يتوصّل إليه العبد ، بل هو نازلة تحلّ بالقلب كسائر الأحوال. والفرق بين المقامات والأحوال ، أن المقامات عندهم من المكاسب ، والأحوال مجرّد المواهب.

وحكمت فرقة ثالثة بين الطّائفتين ، منهم الشيخ القدوة صاحب (١) الرّسالة وغيره ، فقالوا (٢) : يمكن الجمع بينهما بأن يقال : مبدأ الرّضا مكتسب للعبد فهو من جملة المقامات ، ونهايته من جملة الأحوال ، فليست مكتسبة.

واحتج شيوخ خراسان ومن قال بقولهم بأنّ الله تعالى مدح أهله وأثنى عليهم وندبهم إليه ، فدلّ على أنّه مقدور لهم ، وقال النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا (٣)». ورأيت من أصحابنا من نزّل هذا الحديث على جميع معانى سورة الأنبياء حرفا حرفا. وقال : «من قال حين يسمع النّداء : رضيت بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمّد رسولا غفرت له ذنوبه». وهذا الحديثان عليهما مدار مقامات الدّين ، وقد تضمّنا الرّضا بربوبيّته سبحانه وألوهيته ، والرّضا برسوله والانقياد له ، والرّضا بدينه والتسليم له. ومن اجتمعت له هذه الأربعة فهو الصّدّيق حقّا. وهى سهلة بالدّعوى واللّسان ، ومن أصعب الأمور عند الحقيقة والامتحان ، ولا سيّما إذا ما خالف هوى النّفس ومرادها ، فحينئذ يتبين أنّ الرّضا كان على رسالة لا على حالة.

__________________

(١) هو أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيرى ، صاحب الرسالة فى رجال الطريقة فى التصوف ، وكانت وفاته سنة ٤٦٥ ه‍ بمدينة نيسابور ، كما فى ابن خلكان.

(٢) انظر الرسالة ص ١١٥.

(٣) رواه أحمد فى المسند ومسلم عن العباس بن عبد المطلب ، كما فى الجامع الصغير.

٧٩

فالرّضا بإلاهيّته متضمّن. للرّضا بمحبّته وحده ، وخوفه ورجائه والإنابة إليه ، والتبتّل إليه ، وانجذاب قوى الإرادة والحبّ كلّها إليه ، فعل (١) الرّاضى بمحبوبه كلّ الرّضا ، وذلك يتضمّن عبادته والإخلاص له. والرضا بربوبيته / يتضمّن الرضا بتدبيره لعبده ،. ويتضمن إفراده بالتّوكّل عليه والاستعانة والثقة به والاعتماد عليه ، وأن يكون راضيا بكلّ ما يفعله. فالأوّل يتضمن رضاه بما يأمر به ، والثّانى يتضمّن رضاه بما يقدّره عليه.

وأمّا الرّضا بنبيّه رسولا فيتضمّن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه ، بحيث يكون أولى به من نفسه ، فلا يتلقّى الهدى إلّا من مواقع كلماته ، ولا يحاكم إلّا إليه ، ولا يحكّم عليه غيره ، ولا يرضى بحكم غيره البتة ، لا [فى] شىء من أسماء الرّب وصفاته وأفعاله ، ولا فى شىء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته ، ولا فى شىء من أحكامه (٢) ظاهره وباطنه ، ولا يرضى إلّا بحكمه. فإن عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاء المضطرّ إذا لم يجد ما يقيت (٣) إلّا من الميتة والدّم ، وأحسن أحواله أن يكون من باب التراب الّذى إنما يتيمّم به عند العجز من استعمال الماء للطّهور.

وأمّا الرضا بنبيّه فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى رضى كلّ الرضا ، ولم يبق فى قلبه حرج من حكمه ، وسلّم لله (٤) تسليما ولو كان مخالفا لمراد

__________________

(١) فى الأصلين ، «فعلى» ، والوجه ما أثبت.

(٢) ب : «أحكام».

(٣) كذا. واقات : قدر ، وحافظ ، ويقال : قاته أعطاه قوته. والمراد هنا : ما يقوم بقوته.

(٤) فى الأصلين. «الله» ، والوجه ما أثبت.

٨٠