بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٣

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي

بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٣

المؤلف:

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي


المحقق: محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٦

إذا لم تستطع أمرا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع

وقوله تعالى : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ)(١) ، أى هل يقدر. وقرأ الكسائىّ : (هل تستطيع ربّك) بالتّاء ونصب الباء ، أى هل تستدعى إجابته فى أن ينزل علينا مائدة من السّماء ، أو هل تستطيع سؤال ربّك ، وهو استفعال (٢) من قولك : طاع لى يطوع.

وأصل الاستطاعة الاستطواع ، فلمّا أسقطت الواو جعلت الهاء بدلا منها. والمطّوّعة : الذين يتطوّعون بالجهاد ، قال تعالى : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ)(٣) ، أى المتطوّعين فأدغم.

والاستطاعة عند المحققين ، اسم للمعانى التى بها يتمكّن الإنسان ممّا يريده من إحداث الفعل ، وهى أربعة أشياء : بنية مخصوصة للفاعل ، وتصوّر للفعل ، ومادّة قابلة للتأثير / وآلة : إن كان الفعل آليّا ؛ كالكتابة ، فإنّ الكاتب يحتاج إلى هذه الأربعة فى إيجاده للكتابة ، ولذلك يقال : فلان غير مستطيع للكتابة إذا فقد واحدا من هذه الأربعة فصاعدا. ويضادّه العجز ، وهو ألّا يجد أحد هذه الأربعة فصاعدا. ومتى وجدها فمستطيع مطلقا ، ومتى فقدها فعاجز مطلقا. ومتى وجد بعضه دون بعض فمستطيع من وجه عاجز من وجه آخر ، ولأن يوصف بالعجز أولى. والاستطاعة أخصّ من القدرة.

__________________

(١) الآية ١١٢ سورة المائدة.

(٢) هذا أنسب للمعنى الأول.

(٣) الآية ٧٩ سورة التوبة.

٥٢١

وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١) فإنه يحتاج إلى هذه الأربعة. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الاستطاعة الزّاد والراحلة» فإنه بيان لما يحتاج إليه من الآلة ، وخصّه بالذّكر دون الأخر إذ كان معلوما من حيث العقل ومقتضى الشرع أن التكليف من دون تلك الأخر لا يصحّ.

قوله : (لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ)(٢) ، الإشارة بالاستطاعة هاهنا إلى عدم الآلة من المال والظّهر (٣). وقد يقال : فلان لا يستطيع كذا لما يصعب عليه فعله لعدم الرّياضة ، وذلك يرجع إلى افتقاد الآلة وعدم التصوّر ، وقد يصحّ معه التّكليف ولا يصير به الإنسان معذورا. وعلى هذا الوجه قال : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً)(٤) ، وقد حمل على هذا قوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ)(٥).

وقوله : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ)(٦) قيل : إنّهم قالوا ذلك قبل أن قويت معرفتهم بالله. وقيل : إنّهم لم يقصدوا قصد القدرة. وإنما قصدوا أنه : هل تقتضى الحكمة أن يفعل ذلك. وقيل : يستطيع ويطيع بمعنى واحد ، ومعناه : هل يجيب ، كقوله : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ)(٧) أى يجاب.

__________________

(١) الآية ٩٧ سورة آل عمران.

(٢) الآية ٤٢ سورة التوبة.

(٣) المراد ما يحمل عليه الأثقال ويركب من الدواب.

(٤) الآيات ٦٧ ، ٧٢ ، ٧٥ سورة الكهف.

(٥) الآية ١٢٩ سورة النساء.

(٦) الآية ١١٢ سورة المائدة.

(٧) الآية ١٨ سورة غافر.

٥٢٢

١٥ ـ بصيرة فى طوف وطوق

الطّوف : المشى حول الشىء. طاف حول الكعبة يطوف طوفا وطوافا وطوفانا. والمطاف : موضعه. ورجل طاف : كثير الطواف قال تعالى (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ)(١).

والطائفة من الشىء : القطعة منه. وقوله عزوجل : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٢) ، قال ابن عبّاس : الطائفة : الواحد فما فوقه ، فمن أوقع الطّائفة على الواحد يريد النفس الطائفة. وقال مجاهد : الطائفة : الرّجل الواحد إلى الألف. وقال عطاء : أقلها رجلان.

وقوله تعالى : (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ)(٣). قال الفرّاء : إنما هم خدمكم. وقال أبو الهيثم : الطوّاف : الخادم الذى يخدمك برفق وعناية ، وجمعه : الطوّافون. وفى الحديث : «الهرّة ليست بنجسة ، إنما هى من الطوّافين عليكم والطوّافات» ، جعلها بمنزلة المماليك من قوله تعالى : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ)(٤).

والطوفان : المطر الغالب ، والماء الغالب يغشى كل شىء ، قال تعالى : (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ)(٥) ، وقيل : هو الموت الذريع الجارف ، وقيل : السيل. وقيل : القتل

__________________

(١) الآية ٢٦ سورة الحج.

(٢) الآية ٢ سورة النور.

(٣) الآية ٥٨ سورة النور.

(٤) الآية ١٧ سورة الواقعة.

(٥) الآية ١٤ سورة العنكبوت.

٥٢٣

الذريع. وقيل الطوفان من كل شىء : ما كان كثيرا مطيفا بالجماعة. وقيل كلّ حادثة تحيط بالإنسان ، ثم صار متعارفا فى الماء المتناهى فى الكثرة وقال الأخفش : الواحد فى القياس طوفانة ، وأنشد :

غيّر الجدّة من آياتها

خرق الريح وطوفان المطر (١)

وطوّف تطويفا : أكثر من الطوفان (٢). قال (٣) :

أطوّف ما أطوّف ثمّ آوى

إلى بيت قعيدته لكاع

والطّوق / ما يعلّق فى العنق ، خلقة كطوق الحمام. أو صنعة كطوق الغلام. ويتوسّع فيه فيقال : طوّقته كذا ، كقولك : قلّدته ، قال تعالى : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(٤) ، وذلك على التشبيه كما فى الحديث : «من أخذ قدر شبر من الأرض ظلما طوّقه يوم القيامة إلى سبع أرضين (٥)». وفيه : «يأتى أحدكم يوم القيامة شجاع أقرع له زبيبتان فيتطوّق به فيقول : أنا الزكاة التى منعتنى (٦)».

__________________

(١) خرق : جمع خريق. هى الريح الباردة الشديدة الهبوب.

(٢) ب : «الطواف».

(٣) أى أبو الغريب النصرى. كما فى اللسان «لكع». ولكاع أى حمقاء ، ويريد بقعيدته امرأته.

(٤) الآية ١٨٠ سورة آل عمران.

(٥) ورد الحديث فى الجامع الصغير عن المسند لابن حنبل وعن البخارى ومسلم بلفظ : من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين.

(٦) ورد فى معناه حديثان فى الترغيب والترهيب. ولفظ أحدهما : «من ترك بعده كنزا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يتبعه فيقول : من أنت؟ فيقول : أنا كنزك الذى خلفت فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ثم ينبعه سائر جسده ، قال صاحب الكتاب : «رواه البزار وقال : اسناده حسن ، والطبرانى وابن خزيمه فى صحيحهما». والشجاع : الحية والزبيبة نكتة سوداء فوق عين الحية ، وفسرت بغير ذلك.

٥٢٤

والإطاقة : القدرة على الشىء ، طاقه ، طوقا وأطاقه وأطاق عليه. والاسم الطاقة. وذلك تشبيه بالطوق المحيط بالشىء. وقوله تعالى : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ)(١) أى ما يصعب علينا مزاولته ، وليس معناه : لا تحمّلنا ما لا قدرة لنا به ، وذلك لأنّه تعالى قد يحمّل الإنسان ما يصعب عليه ، [كما قال](٢) : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ)(٣) ، (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ)(٤) أى خفّفنا عنك العبادات الصّعبة التى فى تركها الوزر. وقد يعبّر بنفى الطاقة عن نفى القدرة.

وقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ)(٥) ، ظاهره أنّ المطيق له يلزمه فدية أفطر (٦) أو لم يفطر ، وقرئ : (وعلى الذين يطوّقونه) ، أى يحملون على أن يتطوّقوا (٧).

__________________

(١) الآية ٢٨٦ سورة البقرة.

(٢) زيادة من الراغب

(٣) الآية ١٥٧ سورة الأعراف.

(٤) الآية ٢ سورة الشرح.

(٥) الآية ١٨٤ سورة البقرة.

(٦) فى الراغب بعد هذا : «لكن أجمعوا أنه لا يلزمه الا مع شرط آخر» يريد الافطار.

(٧) كذا. والأولى يتطوقوه.

٥٢٥

١٦ ـ بصيرة فى طول وطوى

الطول والقصر من الأسماء المتضايفة. ويستعمل فى الأعيان والأعراض. قال تعالى : (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ)(١).

والطّول ـ بالفتح ـ : الفضل والمنّ ، قال تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً)(٢) كناية عما يصرف إلى المهر والنّفقة.

طوى الصّحيفة يطويها فاطّوى (٣) وانطوى. وإنه لحسن الطّيّة ـ بالكسر ـ وطوى الحديث : كتمه. وطوى كشحه عنى : أعرض مهاجرا.

وقوله تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ)(٤) أى كطىّ الدّرج (٥). ويعبّر بالطىّ عن مضىّ العمر ، تقول : طوتهم خطوب دهرهم. وقوله تعالى : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)(٦) ، يصبحّ أن يكون من كلا (٧) المعنيين.

__________________

(١) الآية ١٦ سورة الحديد.

(٢) الآية ٢٥ سورة النساء.

(٣) أى الشىء المطوى ولا يريد الصحيفة

(٤) الآية ١٠٤ سورة الأنبياء.

(٥) هو ما يكتب فيه.

(٦) الآية ٦٧ سورة الزمر.

(٧) المعنى الأول أنها نعت وطويت بعد نشر ، والثانى انها افنيت وأزيلت صورتها ، وهما متلازمان

٥٢٦

وطوى ـ بالضمّ والكسر ـ وينوّن (١) أيضا : اسم واد ، قال تعالى : (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً)(٢). وقيل : هو اسم أرض. وقيل : ذلك إشارة إلى حالة حصلت له على طريق الاجتباء ، فكأنه قال : طوى عليه مسافة لو احتاج أن ينالها بالاجتهاد لبعد عليه. وقيل : هو مصدر طويت.

__________________

(١) والتنوين قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائى.

(٢) الآية ١٢ سورة طه.

٥٢٧

١٧ بصيرة فى طهر

طهر وطهر واطّهّر وتطهّر بمعنى. وطهرت المرأة طهرا وطهارة وطهورا وطهورا ، وطهرت ، والفتح أقيس (١) ، وما عندى طهور أتطهّر به : وضوء أتوضّأ به.

والطهارة ضربان : جسمانيّة ، ونفسانيّة. وحمل عليهما عامّة الآيات.

وقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)(٢) ، أى استعملوا الماء أو ما يقوم مقامه. وقال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ)(٣) ، فدلّ باللفظين على عدم جواز وطئهن إلّا بعد الطهارة ، والتطهير (٤). ويؤكّد ذلك قراءة من (٥) قرأ : حتّى يطّهّرن ، أى يفعلن الطهارة التى هى الغسل وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)(٦) ، يعنى به تطهير النّفس. وقوله : (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)(٧) ، أى مخرجك من جملتهم ومنزّهك أن تفعل فعلهم (٨). وقيل فى قوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)(٩) ، يعنى به تطهير النّفس [أى](١٠) أنّه لا يبلغ حقائق معرفته إلّا من

__________________

(١) فى الراغب : «لأنها خلاف طمث ولأنه يقال : طاهرة وطاهر مثل قائمة وقائم وقاعدة وقاعد».

(٢) الآية ٦ سورة المائدة.

(٣) الآية ٢٢٢ سورة البقرة.

(٤) كذا فى الأصلين. والأولى : «التطهر»

(٥) هم أبو بكر عن عاصم ، وحمزة ، والكسائى ، كما فى الاتحاف

(٦) الآية ٢٢٢ سورة البقرة.

(٧) الآية ٥٥ سورة آل عمران.

(٨) ب : «بفعلهم».

(٩) الآية ٧٩ سورة الواقعة.

(١٠) زيادة من الراغب.

٥٢٨

يطهّر نفسه من درن الفساد والجهالات والمخالفات. وقوله : (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ)(١) ، قالوا ذلك تهكّما حيث قال : (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ)(٢).

وقوله : (لَهُمْ فِيها / أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ)(٣) ، أى مطهّرات من درن الدّنيا وأنجاسها. وقيل : من الأخلاق السيّئة ، بدلالة قوله : (عُرُباً أَتْراباً)(٤).

وقوله : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ)(٥) قيل معناه : نفسك نزّهها عن المعايب. وقيل : طهّره (٦) عن الأغيار.

وقوله : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ)(٧) ، حثّ (٨) على تطهير القلب لدخول السكينات فيه المذكورة فى قوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ)(٩).

والطّهور ، قد يكون مصدرا على فعول فيما حكى سيبويه من قولهم : تطهّرت طهورا ، وتوضّأت وضوءا. ومثله وقدت وقودا ، وقد يكون اسما غير مصدر كالفطور اسما لما يفطر به ، والسّحور ، والوجور (١٠) ، والسّعوط والذّرور (١١). وقد يكون صفة كالرّسول ، وعلى ذلك قوله تعالى : (وَسَقاهُمْ

__________________

(١) الآية ٨٢ سورة الأعراف ، والآية ٥٦ سورة النمل.

(٢) الآية ٧٨ سورة هود.

(٣) الآية ٥٧ سورة النساء.

(٤) الآية ٣٧ سورة الواقعة.

(٥) الآية ٤ سورة المدثر.

(٦) كان المراد : طهر القلب.

(٧) الآية ٢٦ سورة الحج.

(٨) هذا اشارة صوفية. والا فالمراد تطهير الكعبة من نجاسة الأوثان.

(٩) الآية ٤ سورة الفتح.

(١٠) هو الدواء يصب فى الحلق.

(١١) هو نوع من الطيب.

٥٢٩

رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً)(١) تنبيها أنّه بخلاف ما ذكر فى قوله : (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ)(٢).

وقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً)(٣) ، قال أصحاب الشّافعىّ : الطّهور بمعنى المطهّر. قال بعضهم : هذا لا يصحّ من حيث اللفظ ، لأن فعولا لا يبنى من أفعل وفعّل ، وإنما يبنى من فعل (٤). أجاب بعضهم أن ذلك اقتضى التطهّر من حيث المعنى ، وذلك أنّ الطاهر ضربان : ضرب لا يتعدّاه الطهارة ، كطهارة الثوب فإنه طاهر غير مطهّر به ، وضرب تتعدّاه فيجعل غيره طاهرا به ، فوصف الله الماء بأنّه طهور تنبيها على هذا المعنى ، ويقال : التوبة طهور للمذنب.

وتطهّر من الإثم : تنزّه منه. وهو طاهر الثياب : نزه من مدانس الأخلاق.

__________________

(١) الآية ٢١ سورة الانسان.

(٢) الآية ١٦ سورة ابراهيم.

(٣) الآية ٤٨ سورة الفرقان.

(٤) فى الأصلين : «أفعل» وما أثبت من الراغب.

٥٣٠

١٨ ـ بصيرة فى طيب

الطيّب : ما يستلذّه الحواسّ من الأطعمة والأشربة وغيرها. قال تعالى : (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً)(١) ، أى من المباحات المأكولة والمشروبة ، ونحوه : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ)(٢) ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ)(٣) أى من الحلال. وقوله : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ)(٤) ، أى الشحوم واللحوم التى كانت محرّمة على اليهود بنصّ التوراة أحلّها الله بنصّ القرآن.

وقوله : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ)(٥) أى الصّيد والذبائح. (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً)(٦) ، أى الغنائم ، ونحوه : (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ)(٧).

وقوله : (وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ)(٨) ، تنبيه أن الأعمال الطيّبة تكون من الطّيبين ، كما روى : إن المؤمن أطيب من عمله ، والكافر أخبث من عمله.

وقوله : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ)(٩) ، أى الأعمال السيّئة بالأعمال الصّالحة.

__________________

(١) الآية ١٦٨ سورة البقرة.

(٢) الآية ٥٧ سورة البقرة. وورد فى آيات أخر.

(٣) الآية ٥١ سورة المؤمنين.

(٤) الآية ١٥٧ سورة الأعراف

(٥) الآية ٥ سورة المائدة.

(٦) الآية ٦٩ سورة الأنفال.

(٧) الآية ٢٦ سورة الأنفال.

(٨) الآية ٢٦ سورة النور.

(٩) الآية ٢ سورة النساء.

٥٣١

وقوله : (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ)(١) أى طاهرة زكيّة مستلذّة.

وقوله : (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)(٢) ، قيل : إشارة (٣) إلى الجنّة وإلى جوار ربّ العالمين.

وقوله : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ)(٤) إشارة إلى الأرض الزكيّة ، وقيل : إشارة إلى نفس المؤمن وكلمة الشهادة.

وقوله : (صَعِيداً طَيِّباً)(٥) ، أى ترابا لا نجاسة فيه. وسمّى الاستنجاء استطابة لما فيه من التطيّب والتطهير.

(طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)(٦) ، قيل : اسم شجرة فى الجنّة معروفة. وقيل : بل إشارة إلى كلّ مستطاب فى الجنّة : من بقاء بلا فناء ، وعزّ بلا ذلّ ، وغنى بلا فقر.

والأطيبان : الأكل والنكاح. قال نهشل بن حرّىّ :

إذا فات منك الأطيبان فلا تبل

متى جاءك اليوم الذى كنت تحذر

__________________

(١) الآية ٧٢ سورة التوبة ، والآية ١٢ سورة الصف.

(٢) الآية ١٥ سورة سبأ.

(٣) أى أن هذا اشارة وليس هو معنى الآية ، فالبلدة فى الآية هى سبأ ، والاشارات بابها واسع وراء المعانى الحقيقية للكتاب.

(٤) الآية ٥٨ سورة الأعراف.

(٥) الآية ٦ سورة المائدة.

(٦) الآية ٢٩ سورة الرعد.

٥٣٢

١٩ ـ بصيرة فى طير (وطين)

طار يطير طيرانا. وجمع الطائر : طير ، كراكب / وركب ، قال تعالى : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ)(١) ، وقد يجمع على طيور وأطيار. وطيّرت الحمام ، وأطرته.

وقوله : (يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ)(٢) ، أى يتشاءمون بهم ، (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ)(٣) ، أى شؤمهم وما قد أعدّ الله لهم بسوء أعمالهم.

وقوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ)(٤) ، أى عمله الذى طار عنه من خير أو شرّ. ويقال : تطايروا : إذا أسرعوا ، وإذا تفرّقوا. واستطار البرق ، واستطار الغبار : كثر وفشا.

والفجر فجران : فجر مستطير ، وفجر مستطيل. واستطار الصّدع فى الحائط : ظهر وانتشر. قال تعالى : (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً)(٥). وفرس مطار. وكاد يستطار من شدّة عدوه.

والطين : التراب المختلط بالماء. وقد يسمّى به وإن زال عنه أثر الماء ، والقطعة منه طينة. وطيّن البيت الطيّان ، وهو الجاهر فى طيانته. وطنت الكتاب : جعلت عليه طينة الختم ، فهو مطين. وطانه الله على الخير : جبله الله عليه. ومكان طان : كثير الطّين.

__________________

(١) الآية ٢٠ سورة النمل.

(٢) الآية ١٣١ سورة الأعراف.

(٣) الآية ١٣ سورة الاسراء

(٤) الآية ٧ سورة الانسان

٥٣٣

الباب الثّامن عشر

فى الكلمات المفتتحة بحرف الظاء

وهى : الظاء ، وظعن ، وظفر ، وظلّ ، وظلم ، وظمأ ، وظن ، وظهر.

١ ـ بصيرة فى الظاء

ويرد على وجوه :

١ ـ حرف من حروف الهجاء ، لثوىّ ، مخرجه من أصول الأسنان جوار مخرج الذال ، يمدّ ويقصر ، ويذكّر ويؤنّث. فعله من اللفيف المقرون ظيّيت ظاء حسنا وحسنة ، جمعه على التذكير أظواء ، وعلى التأنيث ظاءات.

٢ ـ اسم لعدد التسعمائة فى حساب الجمّل.

٣ ـ الظاء الكافية : وهى التى تقتصر عليها من ذكر الظّلام.

٤ ـ الظاء المدغمة ، فى مثل : كظّ الطعام بطنه : إذا ملأه حتى لا يطيق النّفس. والكظّة : شىء يعترى من الامتلاء.

٥ ـ ظاء العجز والضرورة ، كما أن بعض النّاس ينطق به فى صورة الذال

٥٣٤

٦ ـ الظاء : اسم موضع.

٧ ـ الظاء الأصلىّ ؛ فى نحو : ظلم ، ونظر ، ولمظ.

٨ ـ الظّاء المبدلة ، فى نحو : وقيظ (١) ووقيذ.

٩ ـ الظاء اللّغوي ، قال الخليل : الظاء عندهم : العجوز المثنية (٢) ثديها قال :

نكحت من حيّى عجوزا هرمه

ظاء الثدىّ كالحنىّ هذرمه (٣)

__________________

(١) يريد أن وقيظا مبدل من وقيذ. وهو الجريح المثبت لا يقدر على النهوض.

(٢) فى الأصلين : «المشتبه» وما أثبت من التاج.

(٣) الحنى : جمع حنية وهى القوس. والهذرمة : كثرة الكلام ، والمراد : ذات هذرمة.

٥٣٥

٢ ـ بصيرة فى ظعن وظفر

ظعن يظعن ـ كمنع يمنع ـ ظعنا وظعنانا : سار. وأظعنه : سيّره ، قال تعالى : (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ)(١). والظّعينة : الهودج ، فيه امرأة أو لا ، والجمع : ظعن ، وظعن ، وظعائن ، وأظعان. وقد يكنى عن المرأة بالظعينة وإن لم تكن فى الهودج.

والظفر يكون فى الإنسان وفى غيره ، قال تعالى : (حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ)(٢). ويعبّر به عن السّلاح تشبيها (٣). وظفر بعدوّه : غلبه ، وظفّره الله عليه وأظفره. ورجل مظفّر لا يئوب إلّا بالظّفر. وأنشب فيه ظفره وأظفوره وأظافيره. قال :

ما بين لقمتها الأولى إذا ازدردت

وبين أخرى تليها قيس أظفور

ورجل أظفر : طويل الظفر. ورجل ظفر ومظفّر : لا يطلب شيئا إلّا أصابه. قال :

هو الظّفر الميمون إن راح أو غدا

به الرّكب والتّلعابة المتحبّب

__________________

(١) الآية ٨٠ سورة النحل.

(٢) الآية ١٤٦ سورة الأنعام.

(٣) فى الراغب : تشبيها بظفر الطائر ، اذ هو له بمنزلة السلاح.

٥٣٦

٣ ـ بصيرة فى ظل

الظّلّ أعمّ من الفىء فإنه يقال : ظلّ الليل (١) ، وظلّ الجنّة. ويقال لكلّ موضع لم تصل إليه الشمس : ظلّ ، ولا يقال الفىء إلّا لما زال عنه الشمس. وقيل : الظلّ يكون بالغداة. والفىء يكون بالعشىّ ، والجمع : ظلال ، وظلول ، وأظلال. ويعبّر بالظلّ / عن العزّ والمنعة ، وعن الرّفاهة ، قال تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ)(٢). وقد يطلق الفىء ويراد به الظلّ وبالعكس ، قال :

وما دنياك إلّا مثل فىء

أظلّك ثم آذن بالزوال

وقال آخر :

إنّما الدنيا كظلّ زائل

أو كضيف بات ليلا فارتحل

وقيل : مثل الدنيا مثل الظلّ ، إن طلبته تباعد ، وإن تركته تتابع. وفى الحديث : «ما مثلى ومثل الدّنيا إلّا كراكب قال (٣) فى ظلّ شجرة فى يوم حارّ ، ثم راح وتركها (٤)».

__________________

(١) فى الأصلين : «ظليل» وما أثبت من الراغب.

(٢) الآية ٤١ سورة المرسلات.

(٣) هو من القيلولة وهى نوم نصف النهار.

(٤) ورد فى الترمذى حديث بمعناه : «ما أنا فى الدنيا الا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها». وانظر رياض الصالحين فى الزهد.

٥٣٧

وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ)(١) ، وقال : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ)(٢) ، وقال : (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً)(٣) ، قيل : الأوّل : ظلّ الكفاية ، والثانى : ظل الولاية ، والثالث : ظل الرّحمة والمغفرة.

وقوله تعالى : (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ)(٤) : ظلّ العذاب والعقوبة.

وقوله : (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ)(٥) : ظل الذلّ والإهانة.

وقوله : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ)(٦) : ظلّ الامتحان والتجربة.

وقوله : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ)(٧) : ظلّ السجدة والعبادة.

وقوله : (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ)(٨) : ظل الإعزاز والكرامة.

وقوله : (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ)(٩) : ظلّ التبجيل والعناية.

ويقال : أظلّنى فلان ، أى حرسنى وجعلنى فى عزّه ومناعته.

وقيل فى قوله تعالى : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) الآية ، أى إنشاؤه يدلّ على وحدانيّة الله وينبئ عن حكمته. وقوله (وَظِلالُهُمْ

__________________

(١) الآية ٤٥ سورة الفرقان.

(٢) الآية ٣٠ سورة الواقعة.

(٣) الآية ٥٧ سورة النساء.

(٤) الآية ٣٠ سورة المرسلات

(٥) الآية ٤٣ سورة الواقعة.

(٦) الآية ٥٧ سورة البقرة.

(٧) الآية ٤٨ سورة النحل.

(٨) الآية ٢١ سورة فاطر.

(٩) الآية ٢٤ سورة القصص.

٥٣٨

بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ)(١) قال الحسن : أمّا ظلّك فيسجد ، وأمّا أنت فتكفر به.

وظلّ ظليل : فائض. ومكان ظليل ، أى ذو ظلّ ، أو دائم الظلّ ، ومنه : ظلّ ظليل ، وقيل مبالغة. (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) كناية عن غضارة العيش.

والظّلة ـ بالضمّ ـ : سحابة تظلّ. وأكثر ما يقال فيما يستوخم ويكره.

وقوله : (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ)(٢) ، أى يأتيهم عذابه ، جمع ظلّة ، كغرفة وغرف. وقرئ (٣) : (فى ظلال) ، وذلك إمّا جمع ظلّة كعلبة وعلاب ، وجفرة (٤) وجفار ، وإمّا جمع ظلّ.

والظلّة أيضا : شىء يستتر به من الحرّ والبرد ، وهى كالصّفّة. وحمل عليه قوله تعالى : (مَوْجٌ كَالظُّلَلِ)(٥) ، وقيل : موج كقطع السّحاب. وقيل : يقال لكل ساتر ظلّ ، محمودا كان أو مذموما ، فمن المحمود قوله تعالى : (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) ، ومن المذموم قوله : (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ.) وقوله (لا ظَلِيلٍ) أى لا يفيد فائدة الظلّ.

وظلّ نهاره يفعل كذا. وسمع فى الشعر ظلّ ليله يظلّ ـ بالفتح ـ : ظلّا وظلولا. وظللت أنا ـ بالكسر ـ وظلت كلست ، وظلت كملت ، وأصله ظللت.

__________________

(١) الآية ١٥ سورة الرعد

(٢) الآية ٢١٠ سورة البقرة.

(٣) قرأ بذلك أبىّ وابن مسعود وقتادة والضحاك ، ونسب ذلك الى عاصم فى بعض الروايات ، وانظر البحر المحيط ٢ / ١٢٥. وهى قراءة شاذة.

(٤) الجفرة : جوف الصدر. وقيل : جفرة الفرس : وسطه.

(٥) الآية ٣٢ سورة لقمان.

٥٣٩

٤ ـ بصيرة فى ظلم (وظمأ)

الظلمة ـ بالضمّ ـ والظلمة ـ بضمّتين ـ والظّلماء والظّلام : ذهاب النّور. والظّلمات : جمع ظلمة. ويعبّر بها عن الجهل ، والشرك ، والفسق ، كما يعبّر بالنور عن أضدادها ، قال الله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ)(١). وقوله : (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ)(٢) هو كقوله : (كَمَنْ هُوَ أَعْمى)(٣) ، وقوله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ)(٤).

وقوله : (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ)(٥) ، أى البطن ، والرّحم ، والمشيمة. ويجمع على ظلم أيضا ، قال :

أرى الشّيب مذ جاوزت خمسين حجة

يدبّ دبيب الصّبح فى غسق الظلم

هو السّقم إلا أنّه غير مؤلم

ولم أر مثل الشّيب سقما بلا ألم

وفى بعض الآثار : إنّ الله تعالى خلق فى المشرق حجابا من نور ، وخلق فى المغرب حجابا من ظلمة ، ووكّل بهما ملكين ، فإذا قرب النّهار أخذ ملك

__________________

(١) الآية ٢٥٧ سورة البقرة.

(٢) الآية ١٢٢ سورة الأنعام.

(٣) الآية ١٩ سورة الرعد.

(٤) الآية ٣٩ سورة الأنعام.

(٥) الآية ٦ سورة الزمر.

٥٤٠