بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٣

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي

بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٣

المؤلف:

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي


المحقق: محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٦

٧ ـ بصيرة فى الرجف والرجل

رجف لازم ومتعدّ ، رجف رجفا ورجفانا ورجوفا : تحرّك. ورجفه رجفا : حرّكه. ورجفت الأرض وأرجفت : زلزلت. و (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ)(١) ، فالراجفة : النفخة الأولى ـ والرّادفة : النفخة الثانية. والرّجّاف : يوم القيامة ، والبحر لاضطرابه. والإرجاف : إيقاع الرّجفة إمّا بالفعل وإما بالقول. وأرجف القوم : خاضوا فى الأخبار السّيّئة من أمر الفتن ونحوها.

والرّجل : مختص بالذّكر من النّاس ، ويقال : الرّجلة للمرأة إذا كانت متشبّهة بالرّجل فى بعض أحوالها ، و [هو] بيّن الرّجولة والرّجولية والرّجلة والرّجليّة والرّجوليّة.

وقوله تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ)(٢) فالأولى به / الرّجوليّة والجلادة. وقيل : لا يسمّى الإنسان رجلا إلّا إذا احتلم وشبّ ، وقيل : يسمّى رجلا ساعة تلده أمّه. تصغيره : رجيل ورويجل ، وجمعه : رجال ورجالات ، ورجلة ، ومرجل ، وأراجل. وهو أرجل الرّجلين : أشدّهما.

وورد الرّجل فى القرآن على وجوه :

__________________

(١) الآيتان ٦ ، ٧ سورة النازعات.

(٢) الآية ٢٨ سورة غافر.

٤١

الأول : بمعنى الشخص (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ)(١) أى لشخص من البشر.

الثانى : بمعنى ابن مسعود (٢) الثقفى : (عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)(٣).

الثالث : بمعنى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ)(٤) ، (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ)(٥).

الرّابع : بمعنى حزبيل مذكّر قوم فرعون : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ)(٦).

الخامس : بمعنى رجلين من بنى إسرائيل مؤمن وكافر ، يهودا (٧) وفطروس (٨) : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما)(٩).

السّادس : بمعنى يوشع بن نون وكالب بن يوفنا (١٠) من قرابة موسى الكليم (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ)(١١).

__________________

(١) الآية ٤ سورة الأحزاب.

(٢) عروة بن مسعود ، وقد أسلم ، ودعا قومه إلى الاسلام فقتلوه ، وله ترجمة فى الإصابة.

(٣) الآية ٣١ سورة الزخرف. والمراد بالقريتين مكة والطائف.

(٤) الآية ٢ سورة يونس.

(٥) الآية ٧ سورة سبأ.

(٦) الآية ٢٨ سورة غافر.

(٧) فى شهاب البيضاوى ٦ / ٩٩ : «فطروس بضم الفاء أو القاف ، كما فى شرح الكشاف ، وبعدها طاء وراء وواو وسين مهملات. ويهوذا بذال معجمة أو مهملة بعدها ألف».

(٨) فى شهاب البيضاوى ٦ / ٩٩ : «فطروس بضم الفاء أو القاف ، كما فى شرح الكشاف ، وبعدها طاء وراء وواو وسين مهملات. ويهوذا بذال معجمة أو مهملة بعدها ألف».

(٩) الآية ٣٢ سورة الكهف.

(١٠) كذا فى تفسير الطبرى ١٥ / ١١٢. وفى حاشية الجمل على الجلالين فى تفسير الآية : «يوقنا».

(١١) الآية ٢٣ سورة المائدة.

٤٢

السّابع : بمعنى حبيب النّجار : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى)(١).

الثامن : بمعنى حزبيل مخبر (٢) موسى من مكر فرعون : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى)(٣).

التّاسع : بمعنى الصّنم : (مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ)(٤).

العاشر : بمعنى المؤمن والكافر : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً)(٥) يعنى المؤمن والكافر.

والرّجل ـ بالكسر ـ : العضو المخصوص بأكثر الحيوان. واشتق (٦) من الرّجل ، راجل ، ورجل ، ورجيل ، ورجل ، ورجلان : إذا لم يكن له ظهر يركبه ، بل يمشى على رجليه ، وقد رجل. والجمع : رجال ، ورجّالة ، ورجّال ورجالى ، ورجالى ، ورجلان ، ورجلة ، ورجلة ، وأرجلة ، وأراجل ، وأراجيل. ورجلت الشاة : علّقتها بالرّجل. واستعير الرّجل للقطعة من الجراد ، ولزمان الإنسان ، يقال : كان ذلك على رجل فلان ، كقولك : على رأس فلان.

__________________

(١) الآية ٢٠ سورة يس.

(٢) كذا فى ب ، وكأنه محرف عن (محذر) أو ضمن معنى (محذر) حتى عدى بمن فى قوله : (من مكر فرعون

(٣) الآية ٢٠ سورة القصص.

(٤) الآية ٧٦ سورة النحل.

(٥) الآية ٢٩ سورة الزمر.

(٦) جاء من مشتقات الرجل قوله تعالى فى الآية ٦٤ من سورة الاسراء : (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) ، وقوله تعالى فى الآية ٢٣٩ من سورة البقرة : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) وقوله تعالى فى الآية ٢٧ من سورة الحج : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ).

٤٣

٨ ـ بصيرة فى الرجم (والرجا)

والرّجام : الحجارة. والرّجم : الرّمى بالرّجام ، يقال : رجم فهو مرجوم. والرّجم أيضا : القتل ، والقذف ، والغيب ، والظنّ ، واللّعن ، والشّتم ، والخليل ، والنّديم ، والهجران ، والطّرد ، واسم ما يرجم به. والجمع رجوم.

والرّجم ـ بالتّحريك ـ : البئر ، والتّنوّر ، والقبر كالرّجمة ، والإخوان واحدهم رجم.

والرّجم ـ بضمتين ـ : النّجوم يرمى بها كالرّجوم ، وحجارة تنصب على القبر.

وقد ورد فى القرآن على خمسة معان.

الأوّل : بمعنى القتل : (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ)(١) أى المقتولين أقبح قتلة ، (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ)(٢) أى لنقتلنكم.

الثانى : بمعنى السّبّ والشّتم : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ)(٣) أى لأشتمنّك.

الثالث : بمعنى الرّمى بالحجارة : (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ)(٤).

__________________

(١) الآية ١١٦ سورة الشعراء.

(٢) الآية ١٨ سورة يس.

(٣) الآية ٤٦ سورة مريم.

(٤) الآية ٥ سورة الملك.

٤٤

الرّابع : بمعنى الظّنّ : (رَجْماً بِالْغَيْبِ)(١).

الخامس : بمعنى [الطرد] : (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ)(٢)(فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ)(٣) قيل : سمّى رجيما لكونه مطرودا ملعونا مسبوبا ، وقيل : لكونه مطرودا عن الخيرات وعن منازل الملأ الأعلى.

وقوله صلّى (٤) الله عليه وسلّم : «لا ترجموا قبرى» أى لا تضعوا عليه رجاما.

ورجا البئر والسّماء وغيرهما : جانبها. والجمع أرجاء.

والرّجاء : ظن يقتضى حصول ما فيه مسرّة. وقوله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً)(٥) قيل : ما لكم لا تخافون. وأنشد :

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها

وحالفها فى بيت نوب عوامل (٦)

ووجه ذلك أن الرجاء والخوف يتلازمان ، قال تعالى : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ)(٧).

__________________

(١) الآية ٢٢ سورة الكهف.

(٢) الآية ١٧ سورة الحجر.

(٣) الآية ٩٨ سورة النحل.

(٤) فى التاج أن هذا من حديث عبد الله بن مغفل المزنى الصحابى رضى الله عنه ، لا من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد قال عبد الله فى وصيته : لا ترجموا قبرى. وأراد بذلك تسوية قبره بالأرض ، والا يكون مسنما مرتفعا. وقيل : بل معناه : لا تنوحوا عند قبرى ، اى لا تقولوا عنده كلاما قبيحا ، من الرجم وهو السب والشتم. وراجع التاج فى المادة.

(٥) الآية ١٣ سورة نوح.

(٦) البيت لأبى ذؤيب الهذلى. وقوله : «حالفها» أى لزمها. والنوب : النحل تذهب وتجىء ، و «عوامل» يروى (عواسل) وانظر ديوان الهذليين ١ / ١٤٣.

(٧) الآية ١٠٦ سورة التوبة. وقد تبع المؤلف فى ايراد هذه الآية هنا الراغب. والأصل فيها الهمز وهو الارجاء بمعنى التأخير وليس من الرجاء.

٤٥

٩ ـ بصيرة فى الرجاء (١)

رجا البئر والسّماء وغيرهما : جانبهما. والجمع / أرجاء.

والرجاء : الاستبشار بوجود فضل الربّ تعالى ، والارتياح لمطالعة كرمه ، وقيل : هو الثّقة بوجود الربّ. وقيل : الرّجاء ظن يقتضى حصول ما فيه مسرّة. وهو من أجلّ منازل السّالكين وأعلاها وأشرفها ، وقد مدح الله تعالى أهله وأثنى عليهم فقال : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ)(٢). وأخبر تعالى عن خواصّ عباده الذين كان المشركون يزعمون أنهم يتقربون بهم إلى الله أنهم كانوا راجين له خائفين منه فقال : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً)(٣) ، وفى الحديث الصّحيح فيما يروى عن ربّه تعالى : «ابن آدم إنك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى».

فالرّجاء عبوديّة وتعلق بالله من حيث اسمه البرّ المحسن. فذلك التعبد

__________________

(١) تقدم شىء من هذه البصيرة فى سابقتها ، كما لا يخفى. وكان الأولى به الا يذكر شيئا مما هنا فى البصيرة السابقة.

(٢) الآية ٢١ سورة الأحزاب.

(٣) الآيتان ٥٦ ، ٥٧ سورة الاسراء.

٤٦

والتعلق بهذا الاسم والمعرفة بالله هو الّذى أوجب للعبد الرّجاء من حيث يدرى ومن حيث لا يدرى. فقوّة الرّجاء على حسب قوّة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وغلبة رحمته على غضبه. ولو لا روح الرّجاء لعطّلت عبوديّة القلب والجوارح ، وهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا. بل لو لا روح الرّجاء لما تحرّكت الجوارح بالطّاعة ، ولو لا ريحه الطّيبة لما جرت سفن الأعمال فى بحر الإرادات ، قال بعض مشايخنا :

لو لا التعلّق بالرجاء تقطّعت

نفس المحبّ تحسّرا وتمزّقا

وكذاك لو لا برده لحرارة ال

أكباد ذابت بالحجاب تحرّقا

أيكون قطّ حليف حبّ لا يرى

برجائه لحبيبه متعلّقا

أم كلّما قويت محبّته له

قوى الرّجاء فزاد فيه تشوّقا

لو لا الرّجا يحدو المطىّ لما سرت

بحمولها لديارهم ترجو اللّقاء

وعلى حسب المحبّة وقوّتها يكون الرّجاء. وكلّ محبّ راج وخائف بالضرورة ، فهو أرجى ما يكون بحبيبه أحبّ ما كان إليه. وكذلك خوفه فإنّه يخاف سقوطه من عينه وطرد محبوبه له وإبعاده واحتجابه عنه ، فخوفه أشدّ خوف. فكلّ محبّة مصحوبة بالخوف والرّجاء ، وعلى قدر تمكّنها من قلب المحبّ يشتدّ خوفه ورجاؤه. ولكن خوف المحب لا يصحبه خشية بخلاف خوف المسىء ، ورجاء المحبّ لا يصحبه غاية بخلاف

٤٧

رجاء الأجير. فأين رجاء المحبّ من رجاء الأجير؟! بينهما كما بين حاليهما.

وبالجملة فالرّجاء ضرورىّ للسّالك والعارف ، ولو فارقه لحظة لتلف أو كاد ، فإنّه دائر بين ذنب يرجو غفرانه ، وعيب يرجو إصلاحه ، وعمل صالح يرجو قبوله ، واستقامة يرجو حصولها أو دوامها ، وقرب من الله ومنزلة عنده يرجو وصوله إليها. ولا ينفكّ أحد من السّالكين من هذه الأمور أو من بعضها.

والفرق بين الرّجاء والتّمنّى (١) أن التمنى (٢) يكون مع الكسل ، ولا يسلك بصاحبه طرق / الجدّ والاجتهاد ، والرّجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التّوكّل ، ولهذا أجمع العارفون على أنّ الرّجاء لا يصحّ إلّا مع العمل.

والرّجاء ثلاثة أنواع : نوعان محمودان ، ونوع غرور مذموم. فالأولان رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله ، فهو راج لثوابه ، ورجل أذنب ذنبا ثم تاب منه ، فهو راج لمغفرته. والثالث رجل متماد فى التفريط والخطايا يرجو رحمة الله بلا عمل ، فهذا هو الغرور والتّمنّي (٣) والرّجاء الكاذب.

__________________

(١) فى الأصلين : «النهى» والتصويب من الرسالة ٨٠.

(٢) فى الأصلين : «النهى».

٤٨

وللسّالك نظران : نظر إلى نفسه وعيوبه وآفات عمله يفتح عليه باب الخوف ، ونظر إلى سعة فضل ربّه وكرمه وبرّه يفتح عليه باب الرّجاء ، «وهما كجناحى الطائر إذا استويا استوى الطّائر وتمّ طيرانه (١)».

واختلفوا أىّ الرّجاءين أكمل ، رجاء المحسن ثواب إحسانه ، أو رجاء المذنب التائب عفو ربّه وعظيم غفرانه؟ فطائفة رجّحت رجاء المحسن لقوّة أسباب الرّجاء معه. وطائفة رجّحت رجاء المذنب ، لأنّ رجاءه مجرّد عن علّة رؤية العمل ، مقرون برؤية ذلّة الذّنب. قال يحيى بن معاذ : «إلهى أحلى العطايا فى قلبى رجاؤك ، وأعذب الكلام على لسانى ثناؤك ، وأحبّ السّاعات إلىّ ساعة يكون فيها لقاؤك». وقال أيضا : «يكاد رجائى لك مع الذّنوب يغلب على رجائى لك مع الأعمال ؛ لأنى أجدنى أعتمد فى الأعمال على الإخلاص ، وكيف أحرزها (٢) وأنا بالآفات معروف ، وأجدنى فى الذنب أعتمد على عفوك ، وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف».

فإن قلت : ما تقول فى قول من جعل الرّجاء من أضعف [منازل] المريدين؟ قلت : إنما أرادوا بالنسبة إلى ما فوقه من المنازل ، كمنزلة (٣) المحبّة والمعرفة والإخلاص والصّدق والتّوكّل والرّضا ، لا أن مرادهم ضعف هذه المنزلة فى نفسها وأنها منزلة ناقصة. فافهم ، فقد أوضحنا لك أنّها من أجلّ المنازل وأعلاها وأشرفها. والله أعلم.

__________________

(١) هذا من مقال لأبى على الروذبارى فى الرسالة ٨١. وتتمة المقال : «واذا نقص احدهما وقع فيه النقص ، واذا ذهبا صار الطائر فى حد الموت».

(٢) فى ب : «اجورها» وهو محرف عن «أحوزها» ، وما هنا موافق لما فى الرسالة ٨١. هذا وكان الظاهر : أحرزه أى الاخلاص. وكأنه يريد الأعمال التى فيها اخلاص.

(٣) فى الأصلين : «المنزلة» وهو محرف عما أثبت.

٤٩

وقال بعض المفسّرين : ورد الرّجاء فى القرآن على ستّة أوجه :

أوّلها : بمعنى الخوف : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً)(١) ، أى ما لكم لا تخافون. قال :

إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها

وخالفها فى بيت نوب عوامل (٢)

ومنه : (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً)(٣) ، وقوله : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ)(٤).

الثانى : بمعنى الطمع : (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ)(٥) ، (أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ)(٦).

الثالث : بمعنى توقّع الثواب : (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ)(٧).

الرّابع : الرّجا المقصور بمعنى الطّرف : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها)(٨).

الخامس : الرّجاء (٩) المهموز : (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ)(١٠) أى احبسه.

السّادس : بمعنى التّرك والتأخير : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ)(١١) : تؤخّره ، (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ)(١٢).

__________________

(١) الآية ١٣ سورة نوح.

(٢) سبق الكلام على هذا البيت. والرواية هنا «خالفها» أى اختلف إليها وتردد عليها.

(٣) الآية ٢٧ سورة النبأ.

(٤) الآية ١١٠ سورة الكهف ، والآية ٥ سورة العنكبوت.

(٥) الآية ٥٧ سورة الاسراء.

(٦) الآية ٢١٨ سورة البقرة.

(٧) الآية ٢٩ سورة فاطر.

(٨) الآية ١٧ سورة الحاقة.

(٩) كذا فى الأصلين ، والمعروف الارجاء ، ولم أقف على الثلاثى فى هذه المادة.

(١٠) الآية ١١١ سورة الأعراف.

(١١) الآية ٥١ سورة الأحزاب.

(١٢) الآية ١٠٦ سورة التوبة.

٥٠

١٠ ـ بصيرة فى الرحب والرحق والرحل

رحب المكان ورحب ، ككرم وسمع ، رحبا ورحابة ، فهو رحب ورحيب ورحاب : اتّسع ، كأرحب. ومرحبا وسهلا ، أى صادفت سعة وسهولة. ومرحبك الله ومسهلك ، ومرحبا بك الله ومسهلا.

ورحّب به : دعاه إلى الرّحب (١).

والرّحيق : الخمر ، وقيل : أطيب الخمور وأفضلها / ، وقيل : الخمر الصّافى ، وقيل : الخالص ، والشهد. والرّحاق : لغة فى الكلّ. والرّحيق أيضا : ضرب من الطّيب (٢).

والرّحل : ما يوضع على البعير المركوب ، ثم يعبّر به تارة عن البعير ، وتارة عمّا يجلس عليه فى المنزل ، وجمعه : رحال ، وأرحل. والراحول : لغة فى الرّحل. والرّحل أيضا : مسكنك وما تستصحبه من الأثاث.

والرّحالة : السرج ، وقيل : سرج من جلود لا خشب فيه ، يتّخذ للرّكض الشديد.

__________________

(١) ورد من هذه المادة قوله تعالى فى الآية ٢٥ سورة التوبة : (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) ، وقوله تعالى فى الآية ٥٩ من سورة ص : (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ)

(٢) (ورد من هذا قوله تعالى فى الآية ٢٥ سورة المطففين : (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ).

٥١

رحل البعير وارتحله : حطّ عليه الرحل ، فهو مرحول ورحيل. والمرحّلة : إبل عليها رحالها ، والّتى وضعت عنها رحالها ، ضدّ.

وارتحل البعير : سار فمضى. والقوم عن المكان : انتقلوا كترحّلوا. والاسم الرّحلة والرّحلة ، وقيل : بالكسر : الارتحال ، وبالضمّ : الوجه الذى يأخذه.

والرّاحلة : البعير الذى يصلح للارتحال.

وراحله : عاونه [على رحلته (١)].

__________________

(١) زيادة من الراغب والقاموس. هذا وقد جاء من هذه المادة قوله تعالى فى الآية ٧٠ من سورة يوسف : (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) ، وقوله تعالى فى الآية ٦٢ من سورة يوسف : (وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) ، وقوله تعالى فى الآية ٢ من سورة قريش : (رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ).

٥٢

١١ ـ بصيرة فى الرحمة والرحمن والرحيم

الرّحمة : رقّة تقتضى الإحسان للمرحوم. وقد تستعمل تارة فى الرقّة المجرّدة ، وتارة فى الإحسان المجرّد عن الرقّة ، نحو : رحم الله فلانا. وإذا وصف به البارئ تعالى فليس يراد به إلّا الإحسان المجرّد دون الرّقة. وعلى هذا روى أنّ الرحمة من الله إنعام وإفضال ، ومن الآدميّين. رقّة وتعطّف.

وقوله صلّى الله [عليه وسلم] مخبرا عن ربّه ـ سبحانه : «لمّا خلق الرّحم قال تعالى : أنا الرحمن (١) وأنت الرّحم ، شققت اسمك من اسمى ، فمن وصلك وصلته ، ومن قطعك قطعته» ويروى بتتّه. وذلك إشارة إلى ما تقدم ، وهو أنّ الرّحمة منطوية على معنيين : الرقة والإحسان ، فركّب (٢) تعالى فى طباع النّاس الرّقّة ، وتفرّد بالإحسان.

ولا يطلق الرّحمن إلّا على الله تعالى لا مطلقا ولا مضافا ، وقولهم : رحمان اليمامة لمسيلمة الكذّاب فباب من تعنّتهم فى كفرهم. ولا يصحّ الرّحمن إلّا له تعالى ؛ إذ هو الّذى وسع كلّ شىء رحمة وعلما. والرّحيم يستعمل فى غيره ، وهو الّذى كثرت رحمته. وقيل : الرّحمن عامّ والرّحيم خاصّ ، فالرحمن العاطف بالرّزق للمؤمنين والكافرين ، والرّحيم

__________________

(١) فى كشف الخفاء والالباس : «انا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمى ..» رواه الامام أحمد والبخارى فى الأدب المفرد.

(٢) فى التاج نقلا عن الراغب : «فركز».

٥٣

خاصّ بالمؤمنين. وقيل : رحمان الدنيا ورحيم الآخرة ، وقيل : رحمان المعاش ورحيم المعاد ، وقيل : رحمان الأغنياء ورحيم الفقراء ، وقيل : رحمان الأصحّاء ورحيم المرضى. وقيل : رحمان المصطفين ورحيم العاصين. وقيل : رحمان الأشباح ورحيم الأرواح. وقيل : رحمان بالنعماء ورحيم بالآلاء. وقيل : الرّحمن : الذى الرّحمة وصفه ، والرّحيم : الرّاحم لعباده ، ولهذا يقول تعالى : (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً)(١) ، (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٢) ، ولم يجئ رحمان بعباده ولا رحمان بالمؤمنين ، مع ما (٣) فى اسم الرّحمن الذى هو على زنة فعلان ، ألا ترى أنهم يقولون : غضبان للممتلئ غضبا ، وندمان وحيران وسكران ولهفان لمن ملئ بذلك ، فبناء فعلان للسّعة والشمول ، ولهذا يقرن استواؤه على عرشه بهذا الاسم كثيرا ، كقوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)(٤) ، (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ (٥) الرَّحْمنُ)(٦) ، فاستوى على عرشه باسم الرّحمن ؛ لأنّ العرش محيط بالمخلوقات قد وسعها / والرّحمة محيطة بالخلق واسعة لهم ، كما قال تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)(٧) ، وفى الصّحيح عن أبى هريرة يرفعه : «لما قضى الله الخلق كتب فى كتاب ، فهو موضوع على العرش : رحمتى تغلب على غضبى» وفى لفظ : «سبقت رحمتى على غضبى» وفى لفظة : «فهو عنده وضعه على العرش».

__________________

(١) الآية ٤٣ سورة الأحزاب.

(٢) الآية ١١٧ سورة التوبة.

(٣) أى من السعة والشمول ، كما سيشرحه.

(٤) الآية ٥ سورة طه.

(٥) الآية ٥٩ سورة الفرقان.

(٦) الآية ١٥٦ سورة الأعراف.

٥٤

فتأمّل اختصاص هذا الكتاب بذكر الرّحمة ووضعه عنده على العرش ، وطابق بين ذلك وبين قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ، وقوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) ينفتح لك باب عظيم من معرفة الرّب تبارك وتعالى ، لا يغلقه عنك التعطيل والتّجسيم.

واعلم أنّ صفات الجلال أخصّ باسم الله ، وصفات الإحسان والجود والبرّ والحنان والرّأفة واللّطف أخصّ باسم الرّحمن. وكرّره فى الفاتحة إيذانا بثبوت الوصف ، وحصول أثره ، وتعلّقه بمتعلّقاته.

والرّحمة سبب واصل بين الله وبين عباده ، بها أرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، وبها هداهم ، وبها أسكنهم دار ثوابه ، وبها رزقهم وعافاهم.

وقد ورد الرّحمة فى القرآن على عشرين وجها :

الأوّل : بمعنى منشور القرآن : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)(١).

الثانى : بمعنى سيّد الرسل : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)(٢) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّما أنا رحمة مهداة» (٣).

الثالث : بمعنى توفيق الطّاعة والإحسان : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ)(٤)

__________________

(١) الآية ٨٢ سورة الاسراء.

(٢) الآية ١٠٧ سورة الأنبياء.

(٣) رواه ابن سعد فى الطبقات عن أبى صالح مرسلا والحاكم فى المستدرك عنه عن أبى هريرة. كما فى الفتح الكبير.

(٤) الآية ١٥٩ سورة آل عمران.

٥٥

الرّابع : بمعنى نبوّة المرسلين : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ)(١).

الخامس : بمعنى الإسلام والإيمان : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ)(٢).

السّادس : بمعنى نعمة العرفان : (وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ)(٣) أى معرفة.

السّابع : بمعنى العصمة من العصيان : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ)(٤).

الثامن : بمعنى أرزاق الإنسان والحيوان : (لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي)(٥).

التاسع : بمعنى قطرات ماء الغيثان (٦) : (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ)(٧).

العاشر : بمعنى العافية من الابتلاء والامتحان : (أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ)(٨).

الحادى عشر : بمعنى النجاة من عذاب النيران : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ)(٩).

الثانى عشر : بمعنى النصرة على أهل العدوان : (أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً)(١٠).

__________________

(١) الآية ٣٢ سورة الزخرف.

(٢) الآية ١٠٥ سورة البقرة

(٣) الآية ٢٨ سورة هود.

(٤) الآية ٤٣ سورة هود.

(٥) الآية ١٠٠ سورة الاسراء.

(٦) فى الأصلين : «العينان» ، والظاهر أنه محرف عما أنبت ، والغيثان : جمع غيث وان كان المعروف فى جمعه الغيوث والأغياث. والمراد : المطر.

(٧) الآية ٢٨ سورة الشورى.

(٨) الآية ٣٨ سورة الزمر

(٩) الآيات ١٠ ، ١٤ ، ٢٠ ، ٢١ سورة النور.

(١٠) الآية ١٧ سورة الأحزاب.

٥٦

الثالث عشر : بمعنى الألفة والموافقة بين أهل الإيمان : (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً)(١).

الرابع عشر : بمعنى الكتاب المنزل على موسى بن عمران : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً)(٢).

الخامس عشر : بمعنى الثناء على إبراهيم والولدان : (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ)(٣).

السّادس عشر : بمعنى إجابة دعوة زكريا مبتهلا إلى الله المنّان : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا)(٤).

السّابع عشر : بمعنى العفو عن ذوى العصيان : (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ)(٥)

الثامن عشر : بمعنى فتح أبواب الرّوح والرّيحان : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها)(٦).

التاسع عشر : بمعنى الجنّة دار السّلام والأمان : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)(٧).

__________________

(١) الآية ٢٧ سورة الحديد.

(٢) الآية ١٧ سورة هود.

(٣) الآية ٧٣ سورة هود.

(٤) الآية ٢ سورة مريم.

(٥) الآية ٥٣ سورة الزمر.

(٦) الآية ٢ سورة فاطر.

(٧) الآية ٥٦ سورة الأعراف.

٥٧

العشرون : بمعنى / صفة الرّحيم الرحمن : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)(١). وفى الخبر : «إنّ الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة ، وقدّر الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة ، وكتب الرّحمة على نفسه قبل الأرزاق بأربعة آلاف سنة. ولهذا قال : سبقت رحمتى غضبى ، وعفوى عقابى».

والرّحم : رحم المرأة. وامرأة رحوم : تشتكى رحمها. ومنه استعير الرّحم للقرابة لكونهم خارجين من رحم واحدة ، ويقال : رحم ورحم ، قال تعالى : (وَأَقْرَبَ رُحْماً)(٢) ، وقال : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ)(٣).

__________________

(١) الآية ٥٤ سورة الأنعام.

(٢) الآية ٨١ سورة الكهف.

(٣) الآية ٧٥ سورة الأنفال.

٥٨

١٢ ـ بصيرة فى الرخاء والرد

شىء رخو ـ بالكسر ـ أى ليّن. ومنه اشتقّت الرّخاء ، وهى الريح اللّيّنة ، يقال : نقيم (١) فى رخاء ونسيم رخاء (٢).

والردّ : صرف الشىء بذاته أو بحالة من حالاته ، يقال : رددته فارتدّ. فمن الردّ بالذّات قوله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ)(٣). ومن الردّ إلى حالة كان عليها قوله تعالى : (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ)(٤) ، وقوله : (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ)(٥) ، أى لا دافع ولا مانع له. والرد كالرجع (٦). ومنهم من قال : فى الردّ قولان : أحدهما : ردّهم إلى ما أشار إليه بقوله : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ)(٧) ، والثّانى : ردّهم إلى الحياة المشار إليها بقوله : (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى)(٨) ، فذلك نظر منهم إلى حالتين كلتاهما داخلة فى عموم اللفظ.

وقوله تعالى : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ)(٩) قيل : عضّوا الأنامل غيظا ، وقيل : أومئوا إلى السّكوت ، فأشاروا باليد إلى الفم ، وقيل : ردّوا أيديهم

__________________

(١) فى الأصلين : «نعيم» وهو محرف عما أثبت.

(٢) ورد من هذه المادة فى الكتاب العزيز قوله تعالى فى الآية ٣٦ من سورة ص : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ).

(٣) الآية ٢٨ سورة الأنعام.

(٤) الآية ١٤٩ سورة آل عمران.

(٥) الآية ١٠٧ سورة يونس.

(٦) فى الأصلين : «كالوضع» ، وما أثبت من الراغب.

(٧) الآية ٥٥ سورة طه.

(٨) الآية ٥٥ سورة طه.

(٩) الآية ٩ سورة ابراهيم.

٥٩

فى أفواه الأنبياء فأسكتوهم. واستعمال الردّ فى ذلك تنبيه أنّهم فعلوا ذلك مرّة بعد مرّة أخرى. وقوله : (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ)(١) ، أى يرجعونكم إلى حال الكفر بعد أن فارقتموه.

والارتداد والردّة : الرّجوع فى الطريق الّذى جاء منه ، لكن الردّة تختصّ بالكفر ، والارتداد فيه وفى غيره ، قال تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ)(٢) ، وقال : (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً)(٣). وقوله : (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ)(٤) ، أى إذا تحققتم أمرا وعرفتم خبرا فلا ترجعوا عنه. وقوله : (فَارْتَدَّ بَصِيراً)(٥) ، أى عاد إليه البصر.

ويقال : رددت الحكم فى كذا إلى فلان : فوّضته إليه. وفى الحديث الصّحيح : يقول الله تعالى ما تردّدت فى شىء أنا فاعله ما تردّدت فى قبض روح عبدى المؤمن ، يكره الموت وأنا أكره مساءته». وعن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (من ردّ سائلا خائبا لم ترد الملائكة ذلك البيت سبعة أيّام) (٦) ، وقال : «لو لا أنّ السّؤّال يكذبون ما قدّس من ردّهم (٧)» ، وقال :

__________________

(١) الآية ١٠٠ سورة آل عمران.

(٢) الآية ٢١٧ سورة البقرة.

(٣) الآية ٦٤ سورة الكهف.

(٤) الآية ٢١ سورة المائدة.

(٥) الآية ٩٦ سورة يوسف.

(٦) قال العقيلى فى الضعفاء : لا يصح فى هذا الباب شىء.

(٧) أخرجه الطبرانى برواية : «لو لا أن المساكين يكذبون ما أفلح من ردهم» كما فى اللآلى المصنوعة للسيوطى.

٦٠