بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٣

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي

بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٣

المؤلف:

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي


المحقق: محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٦

فمدخل الصّدق ومخرج الصّدق أن يكون دخوله وخروجه حقّا ثابتا لله تعالى ومرضاته ، متّصلا بالظّفر ببغيته. وحصول المطلوب ، ضدّ مخرج الكذب ومدخله الّذى لا غاية له يوصّل إليها. ولا له ساق ثابتة يقوم عليها ؛ كمخرج أعدائه يوم بدر. ومخرج الصّدق كمخرجه هو وأصحابه فى ذلك الغزو. وكذلك مدخله المدينة كان مدخل صدق بالله ولله وابتغاء مرضاة الله ، فاتّصل به التّأييد ، والظفر ، والنّصر ، وإدراك ما طلبه فى الدّنيا والآخرة ؛ بخلاف مدخل الكذب الذى رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب ؛ فإنّه لم يكن بالله ولا لله بل محادّة لله ورسوله ، فلم يتّصل به إلّا الخذلان والبوار. وكذلك مدخل من دخل من اليهود والمحاربين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حصن بنى قريظة ؛ فإنّه لمّا كان مدخل كذب أصابهم منه (١) ما أصابهم. وكلّ مدخل ومخرج كان بالله ولله وصاحبه ضامن على الله ، فهو مدخل صدق ومخرج صدق ، ولذلك فسّر مدخل الصّدق ومخرجه بخروجه من مكة ، ودخوله المدينة. ولا ريب أنّ هذا على سبيل التّمثيل ؛ فإنّ هذا المدخل والمخرج من أجلّ مداخله ومخارجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلّا فمداخله ومخارجه كلها مداخل صدق ومخارج صدق. إذ هى بالله ، ولله ، وبأمره ، ولابتغاء مرضاته. وما خرج أحد من بيته أو دخل سوقا أو مدخلا آخر إلّا بصدق أو كذب. فمدخل كلّ أحد مخرجه لا يعدو الصّدق والكذب والله المستعان.

__________________

(١) فى الأصلين : «أصابه منهم» والمناسب ما أثبت.

٤٠١

وأمّا لسان الصّدق فهو الثناء الحسن من سائر الأمم بالصّدق ليس بالكذب ؛ كما قال عن أنبياء : (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)(١) ، والمراد باللسان هاهنا الثناء الحسن ، فلمّا كان باللسان وهو محلّه عبّر عنه به ؛ فإنّ اللسان يراد به ثلاثة (٢) معان : هذا ، واللغة كقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ)(٣) ، (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ)(٤) ، (وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌ)(٥) ، ويراد به الجارحة نفسها كقوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ)(٦).

وأمّا قدم الصّدق ففسّر بالجنة ، وفسّر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفسّر بالأعمال الصّالحة. وحقيقة القدم : ما قدّموه ، ويقدمون عليه يوم القيامة ، وهم قدّموا الأعمال والإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويقدمون على الجنة ؛ ومن فسّر بالأعمال وبالنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلأنّهم قدّموها ، وقدّموا الإيمان به بين أيديهم.

وأمّا مقعد صدق فهو الجنّة عند ربّهم تبارك وتعالى.

ووصف ذلك كلّه بالصّدق مستلزم ثبوته واستقراره ، وأنّه حقّ ، ودوامه ونفعه وكمال عائدته ؛ فإنّه متّصل بالحقّ سبحانه ، كان به وله.

__________________

(١) الآية ٥٠ سورة مريم.

(٢) فى الأصلين : «ثلاث» والمعنى مذكر.

(٣) الآية ٤ سورة ابراهيم.

(٤) الآية ٢٢ سورة الروم.

(٥) الآية ١٠٣ سورة النحل.

(٦) الآية ١٦ سورة القيامة.

٤٠٢

فهو صدق غير كذب ، وحقّ غير باطل ، ودائم غير زائل ، ونافع غير ضارّ ، وما للباطل ومتعلقاته إليه سبيل ولا مدخل.

ومن علامات الصّدق طمأنينة القلب إليه ، ومن علامات الكذب حصول الرّيبة ؛ كما فى الترمذىّ مرفوعا : «الصّدق طمأنينة ، والكذب ريبة» ، وفى الصّحيحين : «إنّ الصّدق يهدى إلى البرّ ، وإنّ البرّ يهدى إلى الجنّة ، وإنّ الرّجل ليصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا ، وإنّ الرّجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذّابا» ، فجعل الصّدق مفتاح الصّدّيقيّة ومبدأها ، وهى غايته ، فلا ينال درجتها كاذب البتّة ، لا فى قوله ، ولا فى عمله ، ولا فى حاله. ولا سيّما كاذب على الله فى أسمائه وصفاته ، بنفى ما أثبته لنفسه ، أو بإثبات ما نفاه عن نفسه ، فليس فى هؤلاء صدّيق أبدا. وكذلك الكذب عليه فى دينه ، وشرعه بتحليل ما حرّمه ، وتحريم ما أحلّه ، وإسقاط ما أوجبه ، وإيجاب ما أسقطه ، وكراهة ما أحبّه ، واستحباب ما لم يحبّه ، كلّ ذلك مناف للصّدّيقيّة. وكذلك الكذب معه فى الأعمال بالتّحلّى بحلية الصّادقين المخلصين ، الزاهدين المتوكّلين وليس منهم. وكانت الصّدّيقيّة كمال الإخلاص ، والانقياد والمتابعة فى كلّ الأمور ؛ حتى إنّ صدق المتبايعين يحلّ البركة فى بيعهما ، وكذبهما يمحى بركة بيعهما ؛ كما فى الصّحيحين : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا ، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما بيعهما ، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما».

٤٠٣

وقد تنوّعت كلمات السّادة فى حقيقة الصّدق. فقال عبد الواحد ابن زيد رحمه‌الله : الصّدق الوفاء لله بالعمل. وقيل : موافقة السرّ النطق وقيل : استواء السرّ والعلانية ، يعنى أنّ الكاذب علانيته خير من سريرته ، كالمنافق الذى ظاهره خير من باطنه. وقيل : الصّدق : القول بالحقّ فى مواطن الهلكة. وقيل : كلمة الحقّ عند من يخافه ويرجوه.

وقال الجنيد : الصادق يتقلّب فى اليوم أربعين مرّة ، والمرائى يثبت على حالة واحدة أربعين سنة. وذلك لأنّ العارضات والواردات التى ترد على الصّادق لا ترد على الكذّاب المرائى ، بل فارغ منهما لا يعارضه الشّيطان كما يعارض الصّادق ، وهذه الواردات توجب تقلّب قلب الصّادق بحسب اختلافها وتنوّعها ، فلا تراه إلّا هاربا من مكان إلى مكان ، ومن عمل إلى عمل. ومن حال إلى حال ؛ لأنّه يخاف فى كلّ ما يطمئنّ إليه أن يقطعه عن مطلوبه.

وقال بعضهم : لم يشمّ روائح الصّدق من داهن نفسه أو غيره.

وقال بعضهم : الصّادق : الّذى يتهيّأ له أن يموت ولا يستحى من سرّه لو كشف. قال تعالى : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١).

وقال إبراهيم الخوّاص : الصّادق لا يرى إلّا فى فرض يؤدّيه ، أو فضل يعمل فيه.

__________________

(١) الآية ٩٤ سورة البقرة.

٤٠٤

وقال الجنيد مرّة : حقيقة الصّدق أن تصدق فى مواطن لا ينجيك [منها](١) إلا الكذب.

وفى أثر إلهىّ : من صدقنى فى سريرته صدقته فى علانيته عند خلقى

وقال سهل : أوّل خيانة الصّديقين حديثهم مع أنفسهم.

وقال يوسف بن أسباط : لأن أبيت ليلة أعامل الله بالصّدق أحبّ إلىّ من أن أحارب بسيفى فى سبيل الله.

وقال الحارث المحاسبىّ : الصّادق : هو الذى لا يبالى لو خرج كلّ قدر له فى قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه ، ولا يحبّ اطّلاع النّاس على مثاقيل الذّر من حسن عمله ، ولا يكره أن يطّلع النّاس على السّيئ من عمله ، فإن كراهته له دليل على أنه يحبّ الزيادة عندهم ، وليس هذا من علامات الصّدّيقين. هذا إذا لم يكن له مراد سوى عمارة حاله عندهم ، وسكناه فى قلوبهم تعظيما له. وأمّا لو كان مراده بذلك تنفيذا لأمر الله ، ونشرا لدينه ، ودعوة إلى الله ، فهذا الصادق حقّا ، والله يعلم سرائر القلوب ومقاصدها.

وقال بعضهم : من لم يؤدّ الفرض الدائم لا يقبل منه الفرض الموقّت. قيل : وما الفرض الدّائم؟ قال : الصّدق. وقيل : من يطلب الله بالصدق

__________________

(١) الزيادة من الرسالة ١٢٧.

٤٠٥

أعطاه مرآة يبصر فيها الحقّ والباطل. وقيل : عليك بالصّدق حيث تخاف أنّه يضرّك ، ودع الكذب حيث تراه أنّه ينفعك ؛ فإنّه يضرّك.

وقال الشيخ عبد الله الأنصارى : الصّدق اسم لحقيقة الشىء ، حصولا ووجودا. والصّدق : هو حصول الشىء وتمامه ، وكمال قوّته واجتماع أجزائه كما يقال : عزيمة صادقة إذا كانت قويّة تامّة ، وكذلك محبّة صادقة ، وإرادة صادقة. وكذلك حلاوة صادقة إذا كانت قويّة تامة ثابتة الحقيقة ، لم ينقص منها شىء. ومن هذا أيضا صدق الخبر ؛ لأنّه وجود المخبر [به] بتمام حقيقته فى ذهن السّامع.

وهو على ثلاث درجات :

الأولى : صدق القصد ، وبه يصحّ الدّخول فى هذا الشأن ، ويتلافى كلّ تفريط ويتدارك كلّ فائت ، ويعمر كلّ خراب. وعلامة هذا الصادق ألّا يحتمل داعية يدعو إلى نقض عهد ، ولا يصبر على صحبة ضدّ ، ولا يقعد عن الجدّ بحال.

والدّرجة الثّانية : ألّا يتمنّى الحياة إلّا للحقّ ، ولا يشهد من نفسه إلّا أثر النقصان ، ولا يلتفت إلى ترفيه الرّخص ، أى لا يحب أن يعيش إلّا فى طلب رضا محبوبه ، ويقوم بعبوديّته ، ويستكثر من الأسباب الّتى تقرّبه منه ، ولا يلتفت إلى الرفاهية التى فى الرّخص ، بل يأخذ بها اتّباعا

٤٠٦

وموافقة ، وشهودا لنعمة الله على عبده ، وتعبّدا باسمه : اللطيف المحسن الرّفيق ، وأنّه رفيق يحبّ الرّفق.

الدّرجة الثالثة : الصّدق فى معرفة الصّدق. يعنى أنّ الصّدق المحقّق إنما يحصل لمن صدق فى معرفة الصدق ، أى لا يحصل حال للصّادق إلّا بعد معرفة الصّدق ، ولا يستقيم الصّدق فى علم أهل الخصوص إلّا على حرف واحد ، وهو أن يتّفق رضا الحقّ بعمل العبد وحاله ووقته ، وإيقانه وقصده. وذلك أنّ العبد إذا صدق الله رضى الله بفعله [و] بعمله ، وحاله ويقينه وقصده ، لا أن رضا الله نفس الصّدق ، وإنما يعلم الصّدق بموافقة رضاه سبحانه. ولكن من أين يعلم العبد رضاه؟! فمن هاهنا كان الصّادق مضطرّا أشدّ ضرورة إلى متابعة الأمر والتسليم للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ظاهره وباطنه ، والتّعبّد به فى كلّ حركة وسكون ، مع إخلاص القصد لله ؛ فإنّ الله سبحانه لا يرضيه من عبده إلّا ذلك.

وقوله : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ)(١) ، أى يسأل من صدّق بلسانه عن صدق فعله. وقوله : (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ)(٢) أى حقّقوا العهد بما أظهروه من أفعالهم.

والصّداقة : صدق الاعتقاد فى المودّة ، وذلك مختصّ بالإنسان. وقوله :

__________________

(١) الآية ٨ سورة الأحزاب.

(٢) الآية ٢٣ سورة الأحزاب.

٤٠٧

(وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ)(١) إشارة إلى قوله : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)(٢).

والصّدقة : ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة ، كالزّكاة. لكن الصّدقة فى العرف تقال للمتطوّع به ، والزكاة للواجب. وقيل : سمّى الواجب صدقة إذا تحرّى صاحبه الصّدق فى فعله ، قال تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً)(٣). يقال : صدّق وتصدّق. ويقال لما تجافى عنه الإنسان من حقه : تصدّق ؛ نحو قوله تعالى : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ)(٤) / أى من تجافى عنه. وقوله : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ)(٥) ، أجرى ما يسامح به المعسر مجرى الصّدقة ، وعلى هذا قوله تعالى : (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا)(٦) ، فسمّى إعفاءه صدقة.

وقوله : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ)(٧) من الصّدق أو من الصّدقة.

وصداق المرأة وصداقها ـ بالكسر ـ وصدقتها ـ بضم الدّال ـ : ما تعطى من مهرها. وقد أصدقتها.

__________________

(١) الآية ١٠١ سورة الشعراء.

(٢) الآية ٦٧ سورة الزخرف.

(٣) الآية ١٠٣ سورة التوبة.

(٤) الآية ٤٥ سورة المائدة.

(٥) الآية ٢٨٠ سورة البقرة.

(٦) الآية ٩٢ سورة النساء.

(٧) الآية ١٠ سورة المنافقين.

٤٠٨

١١ ـ بصيرة فى صدى وصرح وصر وصرف

الصّدى : صوت يرجع من مكان صقيل. والتصدية : كلّ صوت يجرى مجرى الصّدى فى أن لا غناء فيه. وقوله تعالى : (إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً)(١) ، أى غناء ما يوردونه غناء الصّدى ومكاء الطير. والتّصدّى : أن يقابل الشىء مقابلة الصّدى ، أى الصّوت الرّاجع من الجبل.

والصّرح : بيت عال مروّق (٢) سمّى بذلك اعتبارا بكونه صريحا عن البيوت ، أى خاليا.

والإصرار : لزوم الذّنب ، والامتناع عن الإقلاع منه. وأصله من الصّرّ ، أى الشدّ ، قال تعالى : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا)(٣). والصرّة : ما يعقد فيه الدّراهم. والصرورة : من لم يحجّ بعد ، ومن لا يريد التّزوّج.

والصّرّة : الجماعة المنضمّ بعضهم إلى بعض ؛ كأنّهم صرّوا أى جمعوا فى وعاء ، قال تعالى : (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ)(٤) ، وقيل : الصرّة : الصّيحة الصّرف : ردّ الشىء من حالة إلى حالة أو إبداله بغيره. وصرفه فانصرف

__________________

(١) الآية ٣٥ سورة الانفال. وقد تقدم هذا فى مادة (صدد).

(٢) أى له رواق. وفى الراغب : «مزوق» وكأنه الصواب ، فان الرواق فى الخباء.

(٣) الآية ١٣٥ سورة آل عمران.

(٤) الآية ٢٩ سورة الذاريات.

٤٠٩

وقوله تعالى : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ)(١) يجوز أن يكون دعاء عليهم ، وأن يكون إشارة إلى ما فعل بهم ، وقوله : فما يستطيعون صرفا ولا نصرا (٢) أى لا يقدرون أن يصرفوا عن أنفسهم العذاب ، وأن يصرفوا عن أنفسهم النار (٣) ، أو يصرفوا الأمر عن حالة إلى حالة.

وقوله : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ)(٤) ، أى أقبلنا بهم إليك وإلى الاستماع منك.

وصرف الحديث : أن يزاد فيه ويحسّن ، من الصّرف فى الدّراهم ، وهو فضل بعضه على بعض فى القيمة. وله عليه صرف ، أى شفّ وفضل ، وهو من صرفه يصرفه ، لأنّه إذا فضّل صرف عن أشكاله.

والصّرف : اللّيل والنّهار ، وهما صرفان ، ويكسر. وصرف الدّهر : حدثانه ونوائبه.

وتصريف الرّياح : ردّها من حال إلى حال ، ومنه تصريف الكلام.

والصرفان : الرّصاص ، كأنّه صرف من أن يبلغ درجة الفضّة.

__________________

(١) الآية ١٢٧ سورة التوبة.

(٢) الآية ١٩ سورة الفرقان. هذا والمثبت (يستطيعون) بياء الغيبة ، وهى قراءة غير حفص ، فانه يقرأ بتاء الخطاب ، كما فى الاتحاف.

(٣) فى الراغب : «أنفسهم عن النار» وهو أولى.

(٤) الآية ٢٩ سورة الأحقاف.

٤١٠

١٢ ـ بصيرة فى صرم ، وصرط ، وصرع

صرمه يصرمه صرما وصرما : قطعه قطعا بائنا ، والرّجل غيره : قطع كلامه.

والصّريم : أرض سوداء لا تنبت شيئا ، قال تعالى : (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ)(١) ، وقيل : الصّريم : الأشجار المصروم (٢) حملها. والصّريم : اللّيل. وقيل : القطعة من اللّيل. وبه فسّره بعضهم ، أى أصبحت كاللّيل ؛ لأنّ اللّيل أسود مظلم ، أى أصبحت سوداء مظلمة كاللّيل لاحتراقها.

وقوله : (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ)(٣) أى يجتنونها ويتناولونها. والصّرمة : [القطعة (٤)] من السّحاب.

والأصرمان : اللّيل والنّهار ، والصّرد والغراب ، وقيل : الذئب والغراب.

والصيرم : المحكم الرّأى ، والوجبة (٥). والأصرم والمصرم : الفقير المعول.

والصّراط : الطريق المستقيم ، كأنه يصطرط المارّة.

__________________

(١) الآية ٢٠ سورة القلم.

(٢) فى الأصلين : «المصرومة» وما أثبت من الراغب.

(٣) الآية ١٧ سورة القلم.

(٤) زيادة من القاموس.

(٥) فى ب : «الوجيه» وهو تصحيف. يقال : هو يأكل الصيرم أى يأكل فى اليوم مرة واحدة ، كما فى التاج.

٤١١

والصّرع والصّرع ، الفتح لتميم والكسر لقيس ، والمصرع بفتح الرّاء الطرح بالأرض ، قال (١) :

لمصرعنا النعمان يوم نألّبت

علينا تميم من شظى وصميم

والمصرع : أيضا موضع الصّرع. / قال أبو ذؤيب يرثى بنيه :

سبقوا هوىّ وأعنقوا لهواهم

فتخرّموا ولكلّ جنب مصرع (٢)

والصّرعة : من يصرعه النّاس. والصرعة : من يصرع الناس.

والصّريع : المصروع ، والجمع صرعى. قال تعالى : (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى)(٣) والصّريع أيضا : القوس لم ينحت منها شىء.

والصّرّيع كسكّيت : كثير الصّرع لأقرانه.

والصّرع : المثل ، وهما صرعان أى مثلان.

__________________

(١) أى هوبر الحارثى ، كما فى التاج. وفيه : (بمصرعنا). والشظى : الأتباع والدخلاء. وانظر الأساس فى (صمم).

(٢) من مرثيته المشهورة فى ديوان الهذليين والمفضليات.

(٣) الآية ٧ سورة الحاقة.

٤١٢

١٣ ـ بصيرة فى صعد

الصعود : الذهاب فى مكان عال ، صعد فى السّلّم صعودا.

والصّعود : خلاف الهبوط. قال تعالى : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً)(١) ، قال اللّيث : يعنى مشقة من العذاب. ويقال : هو جبل فى النّار يكلّف الكافر ارتقاءه. والصّعود : العقبة الشّاقّة. وجمع الصّعود : صعد ، مثل عجوز وعجز ، وصعائد كعجائز.

والصّعيد : التراب ، كقوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)(٢). وقيل : الصعيد : الغبار الّذى يصعد ، من الصّعود. وقال ثعلب : وجه الأرض ؛ كقوله : (فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً)(٣).

والصّعيد : الطريق ، والجمع صعد ، ثمّ صعدات ، مثل : طريق وطرق وطرقات. وفى الحديث (٤) : «إيّاكم والقعود بالصّعدات». وقال الشاعر :

ترى السّود القصار الزّلّ منهم

على الصّعدات أمثال الوبار (٥)

وقيل : هى جمع صعدة ، كظلمات وظلمة.

__________________

(١) الآية ١٧ سورة المدثر.

(٢) الآيتان ٤٣ سورة النساء ، ٦ سورة المائدة.

(٣) الآية ٤٠ سورة الكهف.

(٤) فى اللسان نسبته الى على رضى الله عنه.

(٥) الزل : جمع الأزل ، وهو الخفيف الوركين. والوبار : جمع الوبر ، وهو دويبة على هيئة السنور يكون بالحجاز.

٤١٣

وقوله تعالى : (عَذاباً صَعَداً)(١) أى شديدا شاقّا.

والاصّعاد (٢) والاصّعّد (٣) والاصّاعد (٤) : الصّعود ، قال تعالى : (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ)(٥) ، قرأ أبو بكر بن عيّاش : يصّاعد.

والإصعاد ، قيل : هو الإبعاد فى الأرض ، سواء كان ذلك صعودا أو حدورا ، وأصله من الصّعود ، وهو الذهاب إلى الأمكنة المرتفعة ؛ كالخروج من البصرة إلى نجد ، ثم استعمل فى الإبعاد وإن لم يكن فيه اعتبار الصعود ؛ كقولهم : تعال ، فى أنّه فى الأصل دعاء إلى العلوّ ، ثمّ صار طلبا للمجيء ؛ وسواء كان إلى أعلى أو إلى أسفل. قال تعالى : (إِذْ تُصْعِدُونَ)(٦) ، قيل : لم يقصد بقوله : إذا تصعدون إلى الإبعاد فى الأرض ، وإنّما أشار به إلى علوّهم فيما تحرّوه وأتوه ؛ كقولهم : أبعدت فى كذا ، وارتقيت فيه كلّ مرتقى. وكأنّه قال : إذ أبعدتم فى استشعار الخوف ، والاستمرار على الهزيمة (٧).

واستعير الصّعود لما يصل من العبد إلى الله ، والنزول (٨) لما يصل من الله إلى العبد ، فقال تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)(٩).

__________________

(١) الآية ١٧ سورة الجن.

(٢) الاصعاد اصله الاصتعاد. ويقال فيه الاصطعاد ، افتعال من الصعود. والاصعد : أصله التصعيد ، يقال : اصعد. وأصله تصعد ، فأبدلت التاء صادا وأدغمت فى الصاد واجتلبت همزة الوصل. والاصاعد : أصله التصاعد يقال. اصاعد وأصله تصاعد ، فجرى فيه من الأبدال والادغام ما جرى فى سابقه.

(٣) الآية ١٢٥ سورة الأنعام.

(٤) الآية ١٥٣ سورة آل عمران.

(٥) أ ، ب «العزيمة» تحريف.

(٦) فى الأصلين : «الزول».

(٧) الآية ١٠ سورة فاطر.

٤١٤

١٤ ـ بصيرة فى صعر وصعق وصغر وصغو

فى عنقه وخدّه صعر : ميل (١) من الكبر. يقال : لأقيمنّ صعرك. وتقول : فى عينه صور (٢) ، وفى خدّه صعر. وهو أصعر. وصعّر خدّه وصاعره ، وقرئ بهما قوله تعالى : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ)(٣) (ولا تصاعر (٤)). والنّعام صعر خلقة. والإبل تصاعر فى البرى (٥)

وصعق الرّعد فهو صاعق ، وسمعت صعاق الرعد ، وهو صوته إذا اشتدّ. والصّاعقة والصّاقعة : نار لا تمرّ بشيء إلّا أحرقته ، مع وقع شديد. وقد صعقتهم السّماء ، وأصعقتهم : أصابتهم بها. قال تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ)(٦) ، أى من هولها وشدّتها.

وصعق الرّجل وصعق : إذا غشى عليه من هدّة أو صوت شديد يسمعه. و (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ)(٧) فسّر بهما.

__________________

(١) فى الأصلين : «مثل» والتصحيح من الأساس.

(٢) أى ميل.

(٣) الآية ١٨ سورة لقمان.

(٤) هذه قراءة نافع وأبى عمرو والكسائى. وقرأ بقية السبعة بالقراءة الأولى كما فى الاتحاف.

(٥) فى الاصلين. «البرك» والتصحيح من الأساس. والبرى : جمع البرة وهى حلقة فى أنف البعير. وتصاعرها فى البرى. تمايلها فيها.

(٦) الآية ١٩ سورة البقرة.

(٧) الآية ٦٨ سورة الزمر.

٤١٥

صغر وصغر ضدّ كبر ، وهو صاغر بيّن الصّغر والصغار. وتصاغرت إليه نفسه : صارت صغيرة الشأن ذلّا ومهانة. وصغر فى عيون النّاس. وأصغر فعله ، واستصغره.

والصّغر والكبر من الأمور النّسبيّة. فالصغير قد يكون كبيرا بالنسبة إلى ما هو أصغر منه ، والكبير كذلك يكون صغيرا بالنسبة إلى ما هو أكبر منه. وقد يكون تارة بالزمان (١) ، وباعتبار الجثّة ، وباعتبار القدر والمنزلة.

وقوله تعالى : (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ)(٢) ، وقوله : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها)(٣) ، وقوله : (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ)(٤) كلّ ذلك بالقدر والمنزلة من الخير والشرّ.

والصّاغر : الرّاضى بالمنزلة الدنيئة ، (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ)(٥)

صغوت إلى فلان وصغا فؤادى إليه : مال. وصغوى معه. وصغت النجوم للغروب ، وهنّ صواغ. وأصغى الإناء للهرّة. وأصغى إلى حديثه :

__________________

(١) «فيقال : فلان صغير وفلان كبير اذا كان له من السنين أقل مما للآخر» من الراغب.

(٢) الآية ٥٣ سورة القمر.

(٣) الآية ٤٩ سورة الكهف.

(٤) الآية ٦١ سورة يونس.

(٥) الآية ٢٩ سورة التوبة.

٤١٦

مال بسمعه إليه. ورجل أصغى ، وقد صغى ، وهو ميل فى الحنك وإحدى الشفتين. وأقام صغاه : ميله. ويقال : من عرض له فلّ صفاه (١) ، وأقام صغاه. ويقال : الصّغا فى الأديان أقبح من الشغا (٢) فى الأسنان. وصاغية الرّجل : قومه ؛ لما يميلون إليه.

__________________

(١) الصفا : الحجارة الصلبة. وفل الصفا : كناية عن الايذاء وأصابته بالسوء.

(٢) الشغا : اختلاف نبتة الاسنان بالطول والقصر ، والدخول والخروج.

٤١٧

١٥ ـ بصيرة فى صف

الصّفّ : واحد الصّفوف. ومنه قول النّبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سوّوا صفوفكم ، فإنّ تسوية الصّفوف من تمام الصّلاة (١)». وقوله تعالى : (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا)(٢) قال الأزهرى معناه : ثم ائتوا الموضع الذى تجتمعون فيه لعيدكم ، وصلاتكم. يقال : أتيت الصّفّ ، أى المصلّى. قال : ويجوز ثمّ ائتوا صفّا أى مصطفّين ليكون أنظم لكم ، وأشدّ لهيبتكم. وقال ابن عرفة فى قوله تعالى : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا)(٣) : يجوز أن يكونوا كلهم صفّا واحدا ، ويجوز أن يقال فى مثل هذا : صفّا يراد به الصّفوف ؛ فيؤدّى الواحد عن الجميع.

وقوله : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا)(٤) ، هى الملائكة المصطفّون فى السّماء يسبّحون. ومنه قوله : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ)(٥) ، وذلك أنّ لهم مراتب يقومون عليها صفوفا ، كما يصطفّ المصلّون.

وصفّت الإبل قوائمها فهى صافّة وصوافّ. قال تعالى : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ)(٦) : مصفوفة ، فواعل بمعنى مفاعل (٧). وقيل : مصطفّة.

__________________

(١) ورد فى رياض الصالحين ، وقال النووى فيه : «متفق عليه ، وفى رواية للبخارى : فان تسوية الصفوف من اقامة الصلاة».

(٢) الآية ٦٤ سورة طه.

(٣) الآية ٤٨ سورة الكهف.

(٤) صدر سورة الصافات.

(٥) الآية ١٦٥ سورة الصافات.

(٦) الآية ٣٦ سورة الحج.

(٧) كذا فى الأصلين. وكأن الصواب : مفاعيل أى جمع مفعول.

٤١٨

وصفّ الطائر : إذا بسط جناحيه. ومنه الحديث : «كأنّهما حزقان (١) من طير صوافّ».

والصّفصف : المستوى من الأرض ، فإنّه على صفّ واحد. قال تعالى : (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً)(٢). قال العجاج :

من حبل وعساء تناصى صفصفا

وقال الشّماخ :

غلباء رقباء علكوم مذكّرة

لدفّها صفصف قدّامه ميل

قيل : ورد الصّف وما يشتقّ منه على عشرة أوجه فى التّنزيل :

بمعنى صفّ الجماعة : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا).

وبمعنى المصلّى : (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا)(٣).

وبمعنى صفّ الغزاة : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا)(٤).

وبمعنى صفوف الملائكة فى السّماوات : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ)(٥).

وبمعنى صفوفهم فى عرصات الحشر : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)(٦).

__________________

(١) مثنى حزق ، وهو الطائفة والقطعة من الشىء.

(٢) الآية ١٠٦ سورة طه.

(٣) الآية ٦٤ سورة طه.

(٤) الآية ٤ سورة الصف.

(٥) الآية ١٦٥ سورة الصافات.

(٦) الآية ٢٢ سورة الفجر.

٤١٩

وبمعنى صفّ جمال النحر بعرفة : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ)(١).

وبمعنى المستوى من الأرض : (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً)(٢) ، والأصل صفّفا لكن لمّا توالت ثلاث فاءات جعلوا الأوسط / صادا.

وبمعنى صفّ الطير فى الهواء : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ)(٣).

وبمعنى صفوف أهل التّوحيد فى روضات الجنّات : (مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ)(٤).

وبمعنى صفوف المرافق (٥) والنمارق (٦) ، وفى غرفات الفرادس (٧) : (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ)(٨).

__________________

(١) الآية ٣٦ سورة الحج.

(٢) الآية ١٠٦ سورة طه.

(٣) الآية ١٩ سورة الملك.

(٤) الآية ٢٠ سورة الطور.

(٥) المرافق. جمع مرفقة ـ بكسر الميم ـ وهى المخدة. والنمارق : جمع نمرقة ، وهى الطنفسة وهى كالسجادة.

(٦) كذا ، وجمع الفردوس الفراديس ، وكأنه راعى وزن (النمارق).

(٧) الآية ١٥ سورة الغاشية.

٤٢٠