بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٣

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي

بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٣

المؤلف:

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي


المحقق: محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٦

الصبر شكوى الله لا الشكوى إلى الله ؛ كما رأى بعضهم رجلا يشكو إلى آخر فاقة وضرورة ، فقال : يا هذا ، تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك! ثمّ أنشده :

وإذا اعترتك بليّة فاصبر لها

صبر الكريم فإنّه بك أرحم

وإذا شكوت إلى ابن آدم إنّما

تشكو الرّحيم إلى الّذى لا يرحم (١)

وقال الشيخ عبد الله الأنصارىّ : الصّبر حبس النفس على المكروه ، وعقل (٢) اللّسان عن الشكوى.

وهو على ثلاث درجات :

الأولى : الصّبر عن المعصية بمطالعة الوعيد. وأحسن منها (٣) الصّبر عن المعصية حياء.

الثانية : الصّبر على الطاعة بالمحافظة عليها دواما ، وبرعايتها إخلاصا ، وبتحسينها علما.

الثالثة : الصّبر فى البلاء بملاحظة حسن الجزاء ، وانتظار روح الفرج ، وتهوين البليّة بعدّ أيادى المنن ، وتذكّر سوالف النّعم.

__________________

(١) فى أ : «كمالا» فى مكان «انما». وفى ب : «لا كما» ويبدو أن كليهما محرف عما أثبت.

(٢) فى أ : «عقد».

(٣) أى من هذه الدرجة.

٣٨١

وأضعف الصّبر ، الصّبر لله وهو صبر العامة. وفوقه الصبر بالله وهو صبر المريدين. وفوقه الصبر على الله وهو صبر السّالكين. ومعنى كلامه أنّ صبر العامّة لله ، أى رجاء ثوابه وخوف عقابه ، وصبر المريدين بالله ، أى بقوّة الله ومعونته ، فهم لا يرون لأنفسهم صبرا ولا قوّة عليه ، بل حالهم التّحقّق بلا حول ولا قوّة إلّا بالله علما ومعرفة وحالا. وفوقها الصّبر على الله ، أى على أحكامه. هذا تقرير كلامه رحمه‌الله.

والصّواب أنّ الصّبر لله فوق الصّبر بالله ، وأعلى درجة ، وأجلّ شأنا ؛ فإنّ الصّبر لله متعلق بالإلهية ، والصّبر به متعلق بربوبيّته ، وما تعلق بالإلهية أكمل وأعلى مما تعلق بربوبيّته ، ولأنّ الصّبر له عبادة ، والصّبر به استعانة ، والاستعانة وسيلة ، والعبادة غاية ، والغاية مرادة لنفسها ، والوسيلة مرادة لغيرها ؛ ولأنّ الصّبر به مشترك ، بين المؤمن والكافر ، والبرّ والفاجر ، فكلّ من شهد الحقيقة الكونيّة صبر به ، وأمّا الصّبر له فمنزلة الرّسل والأنبياء والصّدّيقين ؛ ولأنّ الصّبر له صبر فيما هو حقّ له ، محبوب له ، مرضىّ له ، والصّبر [به] قد يكون فى ذلك ، وقد يكون فيما هو مسخوط له ، وقد يكون فى مكروه أو مباح. فأين هذا من هذا؟!

وأمّا تسمية الصّبر على أحكامه صبرا عليه فلا مشاحّة فى العبارة بعد معرفة المعنى. والله أعلم.

وقد يعبّر عن الانتظار بالصبر لمّا كان حق الانتظار ألّا ينفكّ عن

٣٨٢

الصّبر ، بل هو نوع من الصّبر ؛ قال تعالى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ)(١) أى انتظر حكمه لك على الكافرين.

وقيل : الصّبر لفظ عامّ ، وربّما خولف بين أسمائه بسبب اختلاف مواقعه. فإن كان حبس النّفس لمصيبة سمّى صبرا لا غير ، ويضادّه الجزع. وإن كان فى محاربة سمّى شجاعة ، ويضادّه الجبن. وإن كان فى نائبة مضجرة سمّى رحب الصّدر ، ويضادّه الضّجر. وإن كان فى إمساك الكلام سمّى كتمانا ، ويضادّه المذل (٢). وقد سمّى الله تعالى كلّ ذلك صبرا لقوله : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ)(٣) ، (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ)(٤).

__________________

(١) الآية ٤٨ سورة القلم.

(٢) يقال : مذل بسره ـ كنصر وعلم وكرم ـ مذلا ومذالا : أفشاه.

(٣) الآية ١٧٧ سورة البقرة.

(٤) الآية ٣٥ سورة الحج.

٣٨٣

٤ ـ بصيرة فى صبغ وصبى

الصّبغ ، والصّبغ ـ مثال شبع وشبع ، والصّبغة : ما يصبغ به. قال عذافر الكندىّ :

واصبغ ثيابى صبغا تحقيقا

من جيّد العصفر لا تشريقا (١)

والصّبغ أيضا : ما يصطبغ به ، أى يؤتدم ، ومنه قوله تعالى : (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ)(٢). والجمع : صباغ ؛ قال :

تزجّ من دنياك بالبلاغ

وباكر المعدة بالدّباغ

بكسر ليّنة المضاغ

بالملح أو ما خفّ من صباغ (٣)

ويقال : الصّبغ والصّباغ واحد ، كدبغ ودباغ ، ولبس ولباس.

وصبغت الثوب أصبغه وأصبغه وأصبغه ـ الكسر عن الفرّاء ـ صبغا ، وصبغا كعنب عن الأصمعى.

وقوله : (صِبْغَةَ اللهِ)(٤) ، أى فطرة الله ، أى قل يا محمّد :

__________________

(١) العصفر : نبت يصبغ به. وقوله : «تشريقا» فالتشريق : الصبغ بالزعفران غير المشبع.

(٢) من الآية ٢٠ سورة المؤمنين.

(٣) يقال : تزجيت بكذا : اكتفيت به. والبلاغ : الكفاية ، والدباغ : ما يدبغ به الجلد ويصلح. وأراد به ما يصلح المعدة. وقوله : «بكسر» فى الصحاح : «بكسرة».

(٤) الآية ١٣٨ سورة البقرة.

٣٨٤

بل نتّبع صبغة الله ، ردّا على قوله : (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ)(١) ونتّبع صبغة الله. وقيل : اتّبعوا (٢) صبغة الله.

وإنّما سمّيت الملّة صبغة لأنّ النّصارى امتنعوا من تطهير أولادهم [إلا بصبغهم](٣) بالماء الأصفر ، من قولهم : صبغت النّاقة مشافرها فى الماء : إذا غمستها فيه صبغا. وقال أبو عمرو : الصّبغة : الدّين. وقيل : صبغة الله هى الّتى أمر الله بها محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهى الختانة ، اختتن إبراهيم عليه‌السلام ، فهى الصّبغة ، فجرت الصّبغة على الختانة.

والصّبىّ : من لم يفطم بعد. وقيل : من لم يبلغ الحلم. والجمع : أصبية وأصب ، وصبوة ، وصبية ، وصبوان ، وصبيان ، ويضمّ الثلاثة الأخيرة. وصبى كرضى : فعل فعله. وصبا إليه صبوة وصبوّا وصبا : حنّ.

أصبته المرأة وتصبّته : شاقته ودعته إلى الصّبا فحنّ إليها. وتصبّاها وتصاباها : خدعها وفتنها.

والصّبا : ريح مهبّها من مطلع الثريّا إلى بنات نعش. وتثنّى صبوان أو صبيان. والجمع : صبوات وأصباء. وصبت صباء (٤) وصبوّا : هبّت. وصبى القوم ـ كعنى ـ : أصابتهم الصّبا. وأصبوا : دخلوا فيها.

__________________

(١) الآية ١٣٥ سورة البقرة. وفى الأصلين : (بل نتبع ملة ابراهيم) وليس هكذا التلاوة بل هو ما أثبت. ويريد بالرد أنه بدل.

(٢) يريد أن (صِبْغَةَ اللهِ) مفعول لفعل محذوف هو : اتبعوا.

(٣) زيادة اقتضاها السياق. أى أنهم امتنعوا من تطهير أولادهم بالختان ، كما كانت السنة قبلهم ، ذهبوا فى التطهير الى الصبغ بالماء الأصفر.

(٤) كتب شارح القاموس على هذه الكلمة : «هكذا فى النسخ بالمد. وفى المحكم بالقصر».

٣٨٥

٥ ـ بصيرة فى صحب

صحبه يصحبه ، صحبة ـ بالضمّ ـ وصحابة بالفتح ، وصحابة بالكسر عن الفرّاء. وجمع الصّاحب : صحب ، كراكب وركب ، وصحبة كفاره وفرهة ، وصحاب كجائع وجياع ، وصحبان ـ بالضمّ ـ كشابّ وشبّان.

والأصحاب : جمع صحب ، كفرخ وأفراخ. والصّحابة : الأصحاب. وهو فى الأصل مصدر. وجمع الأصحاب : أصاحيب.

/ وقولهم فى النداء : يا صاح ، معناه يا صاحبى. ولا يجوز ترخيم المضاف إلّا فى هذا وحده. سمع من العرب مرخّما.

والصاحب : الملازم ، إنسانا كان أو حيوانا أو مكانا أو زمانا. ولا فرق بين أن يكون مصاحبته بالبدن ـ وهو الأكثر ـ أو بالعناية والهمّة. ولا يقال فى العرف إلّا لمن كثرت ملازمته. ويقال لمالك الشىء : هو صاحبه. وكذلك لمن يملك التصرّف فيه.

قوله تعالى : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً)(١) ، أى الموكّلين بها لا المعذّبين بها.

__________________

(١) الآية ٣١ سورة المدثر.

٣٨٦

وقد يضاف الصّاحب إلى مسوسه ؛ نحو صاحب الجيش ، وإلى سائسه. نحو صاحب الأمير.

والمصاحبة والاصطحاب أبلغ من الاجتماع ؛ لأنّ المصاحبة تقتضى طول لبثه. وكلّ اصطحاب اجتماع دون العكس.

وقوله تعالى : (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ)(١) سمّى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم صاحبهم تنبيها [أنكم صحبتموه (٢)] وجرّبتموه ، وعرفتم ظاهره وباطنه ، فلم تجدوا به خبلا ولا جنّة.

والإصحاب للشىء : الانقياد له. وأصله أن يصير له صاحبا. ويقال : أصحب فلان : إذا كبر ابنه فصار له صاحبا. وأصحب فلان فلانا : جعل صاحبا له. قال تعالى : (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ)(٣).

__________________

(١) الآية ٤٦ سورة سبأ.

(٢) زيادة من الراغب.

(٣) الآية ٤٣ سورة الأنبياء. ومعنى الآية أى لا يجعل من جهتنا أصحاب وأولياء يجيرونهم ويمنعونهم.

٣٨٧

٦ ـ بصيرة فى صحف وصخ

الصّحيفة : الكتاب. والجمع : صحف وصحائف. وقال الليث : الصّحف جماعة الصّحيفة ، وهذا من النّوادر أن يجمع فعيلة على [فعل] ، مثل صحيفة وصحف ، وسفينة وسفن ، وكان قياسه صحائف وسفائن. وقول الله تعالى : (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى)(١) ، يعنى الكتب المنزلة عليهما.

وصحيفة الوجه بشرته قال :

* إذا بدا من وجهه (٢) الصّحيف*

والصحيفة : المبسوطة من كلّ شىء.

وقوله تعالى : (صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ)(٣) ، [قيل : أريد بها القرآن. وجعله صحفا فيها كتب](٤) من أجل تضمّنه زيادة ممّا فى كتب الله المتقدّمة.

والمصحف ـ بتثليث الميم ـ ما جعل جامعا للصحف المكتوبة.

والتصحيف : قراءة المصحف وروايته على غير ما هو ، لاشتباه حروفه.

__________________

(١) الآية ١٩ سورة الأعلى.

(٢) فى التاج : (وجهك).

(٣) الآيتان ٢ ، ٣ سورة البينة.

(٤) زيادة من الراغب.

٣٨٨

والصّحفة كالقصعة. وقال الكسائىّ : أعظم القصاع الجفنة ، ثم القصعة تليها تشبع العشرة ، ثمّ الصّحفة تشبع الخمسة ، ثمّ المئكلة تشبع الرّجلين والثلاثة ، ثمّ الصّحيفة تشبع الرّجل.

والصّاخّة : شدّة (١) صوت ذى النّطق. صخّ يصخّ صخّا. قال تعالى : (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ)(٢) ، وهى عبارة عن القيامة ، حسب المشار إليه بقوله : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ)(٣).

__________________

(١) تراه جعلها مصدرا ، وهى فى ذلك كالعاقبة والعافية.

(٢) الآية ٣٣ سورة عبس.

(٣) الآية ٧٣ سورة الأنعام. وورد فى آيات أخرى.

٣٨٩

٧ ـ بصيرة فى صد

الصّدود : الإعراض ، وقد صدّ عنه ، يصدّ صدّا وصدودا. قال تعالى : (يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً)(١). وصدّه عن الأمر صدّا : صرفه ومنعه. قال تعالى : (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ)(٢) ، أى صدّ بلقيس عن الإيمان العادة الّتى كانت عليها من عبادة الشمس.

وصدّ يصدّ ويصدّ ، أى ضجّ (٣) ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ، وعاصم غير الأعشى ، والبرجمىّ ، ويعقوب ، وسهل ، وحمزة : (إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ)(٤) بكسر الصاد.

ويقال لكلّ جبل : صدّ وصدّ ، وسدّ وسدّ. والصّدّان ، والصدّان : ناحيتا الوادى.

والصّديد : الحميم أغلى حتى خثر. وصديد الجرح : ماؤه الرّقيق المختلط بالدّم قبل أن يغلظ المدّة. والصّديد فى قوله تعالى : (وَيُسْقى

__________________

(١) الآية ٦١ سورة النساء.

(٢) الآية ٤٣ سورة النمل.

(٣) فى أ «صيح» وما أثبت عن ب. وهو الموافق لما فى اللغة.

(٤) الآية ٥٧ سورة الزخرف.

٣٩٠

مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ)(١) : ما يسيل من أهل النار من الدّم والقيح. والصّديد : ما حال بين اللّحم والجلد من القيح.

والتصديد : التّصفيق. والتصدّد : التعرّض هذا هو الأصل ، ثمّ يبدل من الدّال الثانية ياء فيقال : التّصدية والتّصدّى ، قال تعالى : (إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً)(٢) ، وقال عزّ من قائل : (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى)(٣).

__________________

(١) الآية ١٦ سورة ابراهيم.

(٢) الآية ٣٥ سورة الأنفال.

(٣) الآية ٦ سورة عبس.

٣٩١

٨ ـ بصيرة فى صدر

الصّدر : الجارحة. والجمع : صدور. ثم استعير لمقدّم الشىء ؛ مثل صدر القناة ، وصدر السّهم ، وهو ما فوق نصفه إلى المراش (١). وسهم مصدّر : غليظ الصّدر. وأخذ الأمر بصدره : بأوّله. والأمور بصدورها. وهؤلاء صدرة القوم : مقدّموهم.

وصدّر فلان فتصدّر : قدّم فتقدّم. وصدره : أصاب صدره ، أو قصد قصده (٢) ؛ نحو ظهره وكتفه. ومنه رجل مصدور : يشتكى صدره. فإذا عدّى صدّ بعن اقتضى الانصراف ؛ نحو صدرت الإبل عن الماء صدرا.

والمصدر يقال فى مصدر صدر عن الماء ، ولموضع الصّدر ، ولزمانه. وقد يقال فى عرف النّحاة للفظ الذى روعى فيه صدور الفعل الماضى والمستقبل عنه.

وقال بعض العلماء : حيثما ذكر الله القلب فإشارة إلى العقل والعلم ؛ نحو قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ)(٣) ، وحيثما ذكر الصّدر فإشارة إلى ذلك وإلى سائر القوى : من الشهوة ، والهوى ، والغضب ونحوها.

__________________

(١) فى بعض عبارات اللغة : «الى مستدقه» وكانه يراد بالمراش ما يلزق عليه الريش من السهم ، وهو المستدق. فتستوى العبارتان.

(٢) أى قصد ظهره وجهته.

(٣) الآية ٣٧ سورة ق.

٣٩٢

وقوله : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي)(١) سؤال لإصلاح قواه ، وكذا قوله : (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ)(٢) إشارة إلى اشتفائهم ، و (٣) قوله : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(٤) ، أى العقول التى هى مندسّة (٥) فيما بين سائر القوى ، وليست بمهتدية (٦). والله أعلم.

__________________

(١) الآية ٢٥ سورة طه.

(٢) الآية ١٤ سورة التوبة.

(٣) فى الأصلين : «من» وما أثبت من الراغب.

(٤) الآية ٤٦ سورة الحج.

(٥) فى الأصلين : «مندرسة» وما أثبت من الراغب.

(٦) فى الراغب : «بمهذبة».

٣٩٣

٩ ـ بصيرة فى صدع

اللّيث : الصّدع : الشقّ فى شىء له صلابة. قال حسّان رضى الله عنه يهجو الحارث (١) بن عوف المرّىّ.

وأمانة المرّىّ حيث لقيته

مثل الزجاجة صدعها لم (٢) يجبر

وقوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ)(٣) أى شقّ جماعاتهم بالتّوحيد. وقيل : اجهر بالقرآن. وقيل : أظهر ، وقيل : احكم بالحقّ ، وافصل بالأمر. قال ثعلب : قال أعرابىّ ممّن كان يحضر مجلس أبى عبد الله (٤) ، وكان أبو عبد الله ربّما يأخذ عنه : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) أى اقصد بما تؤمر. قال والعرب تقول : صدعت فلانا ، أى قصدته لأنّه كريم. وقال ابن عرفة : أراد افرق به بين الحقّ والباطل. قال جرير يمدح يزيد بن عبد الملك :

هو الخليفة فارضوا ما قضى لكم

بالحقّ يصدع ما فى قوله جنف

ومنه اشتقّ الصّداع لأنّه شبه انشقاق فى الرّأس.

وقيل فى قول أبى ذؤيب الهذلىّ يصف الحمار والأتن :

__________________

(١) كان قائد بنى مرة من الأحزاب فى غزوة الخندق. وانظر سيرة ابن هشام.

(٢) ب : «لا» والقافية مكسورة كما فى الديوان.

(٣) الآية ٩٤ سورة الحجر.

(٤) يريد ابن الأعرابى. وهو من أئمة اللغويين من الكوفيين ، توفى سنة ٢٣٠ ه‍ وقيل غير ذلك.

٣٩٤

وكأنّهنّ ربابة وكأنّه

يسر يفيض على القداح ويصدع (١)

أى يفرق ويبيّن بالحكم ، ويخبر بما يجىء. وقال الخليل : يصدع أى يقول بأعلى صوته : هذا قدح فلان. وقال معمر : يصدع ، أى يفرق ، على القداح ، أى بالقداح من قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) أىّ افرق به بين الحق والباطل. وإن كان (يصدع) للرجل فإنه يقول : فاز قدح فلان. ويقال : صدعت بالحقّ : إذا تكلّمت به جهارا.

وانصدع : انشقّ. ومنه الصديع (٢) للصّبح ؛ لأنّه يصدع اللّيل أى يشقّه. والتّصديع : التّفريق. وتصدّعوا : تفرّقوا. واصّدّع بتشديد الصّاد والدّال ، أى تصدّع. قال تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ)(٣) ، أى يتفرّقون ، ففريق فى الجنّة وفريق فى النّار. والله أعلم.

__________________

(١) الربابة : رقعة تجمع فيها قداح الميسر ، والمراد : القداح. واليسر : صاحب الميسر. والبيت من مرثيته المشهورة. وهى فى المفضليات وديوان الهذليين.

(٢) أ : «الصدع».

(٣) الآية ٤٣ سورة الروم.

٣٩٥

١٠ ـ بصيرة فى صدف وصدق

الصّدف كجبل ، والصّدف كعنق ، و (الصّدف كثغر) (١) ، والصّدف كعضد : منقطع الجبل. وقرئ (٢) بالجميع. وصدف عنه يصدف : أعرض. وصدف فلانا صدفا : صرفه وأماله. وكذا أصدفه وصدف فلان صدفا وصدوفا : انصرف. والصّدوف : المرأة الّتى تعرض وجهها عليك ، ثمّ تصدف.

والصّدق والكذب أصلهما فى القول ، ماضيا كان أو مستقبلا ، وعدا كان أو غيره. ولا يكونان بالقصد الأوّل إلّا [فى القول ، ولا يكونان فى القول إلا](٣) فى الخبر دون غيره من أنواع الكلام. ولذلك قال تعالى : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً)(٤) ، وقوله : (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ)(٥).

وقد يكونان بالعرض فى غيره من أنواع الكلام كالاستفهام ، والأمر ، والدّعاء ، وذلك نحو قول القائل : أزيد فى الدّار ؛ فإن فى ضمنه إخبارا

__________________

(١) الذى فى القاموس : «الصدف كصرد» أى بضم الأول وفتح الثانى. ولم أقف على هذه. اللغة التى ذكرها هنا.

(٢) أى فى قوله تعالى : (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا) فى الآية ٩٦ سورة الكهف. وفى التاج أن الأولى قراءة أبى جعفر ونافع وعاصم وحمزة والكسائى وخلف. والثانية قراءة ابن كثير وابن عامر وأبى عمرو ويعقوب وسهل. والرابعة قراءة يعقوب بن الماجشون. فأما الثالثة هنا فلم أرها ، كما ذكرت. والثالثة فى القاموس قراءة قتادة والأعمش والخليل.

(٣) سقط ما بين القوسين فى أ.

(٤) الآية ٨٧ سورة النساء.

(٥) الآية ٥٤ سورة مريم.

٣٩٦

بكونه جاهلا بحال زيد ، وكذا إذا قال : واسنى ، فى ضمنه أنّه محتاج إلى المواساة. وإذا قال : لا تؤذنى ، ففى ضمنه أنّه يؤذيه.

والصّدق : مطابقة القول الضّمير والمخبر عنه معا. ومتى انخرم شرط من ذلك لا يكون صدقا [تامّا](١) ، بل إمّا ألّا يوصف بالصّدق ، وإمّا أن يوصف تارة بالصّدق وتارة بالكذب ، على نظرين مختلفين ؛ كقول الكافر من غير اعتقاد : محمّد رسول الله ، فإن هذا يصحّ أن يقال : صدق لكون المخبر عنه كذلك ، ويصح أن يقال : كذب لمخالفة قوله ضميره. وبالوجه الثانى إكذاب الله تعالى المنافقين حيث قالوا : إنّك لرسول الله فقال : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)(٢).

والصّدّيق : الرّجل الكثير الصّدق. وقيل : الصّدّيق : من لم يصدر منه الكذب أصلا. وقيل : من لا يتأتّى منه الكذب لتعوّده الصّدق. وقيل : من صدق بقوله واعتقاده ، وحقّق صدقه ، قال تعالى فى حقّ إبراهيم. (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا)(٣) ، وقال : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ)(٤) ، فالصّدّيقون : قوم دون الأنبياء فى الفضيلة ، ولكن درجتهم ثانى (٥) درجة النبيّين.

__________________

(١) زيادة من الراغب.

(٢) فى أول سورة المنافقين.

(٣) الآية ٤١ سورة مريم.

(٤) الآية ٦٩ سورة النساء.

(٥) كذا. والأولى «ثانية».

٣٩٧

وفى الجملة ، منزلة الصّدق من أعظم منازل القوم ، الذى نشأ منه جميع منازل السّالكين. وهو الطريق الأقوم الّذى من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين. وبه تميّز أهل النفاق من أهل الإيمان ، وسكان الجنان من أهل النيران. وهو سيف الله فى أرضه الذى ما وضع على شىء إلّا قطعه. ولا واجه باطلا إلّا أزاله وصرعه. فهو روح الأعمال ، ومحلّ الأحوال ، والحامل على اقتحام الأهوال ، والباب الذى دخل منه الواصلون إلى حضرة ذى الجلال.

وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان أن يكونوا مع الصّادقين ، وخصّص المنعم عليهم بالنّبيّين والصّدّيقين والشهداء والصّالحين ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(١) ، وقال : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ)(٢) ، فهم أهل الرّفيق الأعلى ، / (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ،) ولا يزال الله يمدّهم بنعمه وألطافه ، ويزيد إحسانا منه وتوفيقا ، ولهم مزيّة المعيّة مع الله ، فإن (٣) الله تعالى مع الصّادقين. ولهم منزلة القرب منه ؛ إذ درجتهم منه ثانى (٤) درجة النبيّين ، وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم : من الإيمان ، والإسلام ، والصّدقة ، والصّبر ، [و] بأنّهم أهل الصّدق فقال :

__________________

(١) الآية ١١٩ سورة التوبة.

(٢) الآية ٦٩ سورة النساء.

(٣) فى الأصلين : «قال».

(٤) كذا : والأولى «ثانية».

٣٩٨

(وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ)(١) إلى قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ،) وهذا صريح فى أنّ الصّدق بالأعمال الظاهرة والباطنة ، وأنّ الصّدق هو مقام الإسلام والإيمان.

وقسّم سبحانه النّاس إلى صادق ومنافق ، فقال : (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)(٢).

والإيمان أساسه الصّدق ، والنفاق أساسه الكذب ، فلا يجتمع كذب وإيمان إلّا وأحدهما يحارب الآخر. وأخبر سبحانه أنّه فى القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلّا صدقه ، فقال تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٣) ، وقال : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)(٤) فالذى جاء بالصّدق هو من شأنه الصّدق فى قوله ، وعمله ، وحاله. فالصّدق فى الأقوال : استواء اللسان على الأقوال ؛ كاستواء السّنبلة على ساقها. والصّدق فى الأعمال : استواء الأفعال على الأمر والمتابعة ؛ كاستواء الرّأس على الجسد. والصّدق فى الأحوال : استواء أعمال القلب والجوارح على

__________________

(١) الآية ١٧٧ سورة البقرة.

(٢) الآية ٢٤ سورة الأحزاب.

(٣) الآية ١١٩ سورة المائدة.

(٤) الآيات ٣٣ ـ ٣٥ سورة الزمر.

٣٩٩

الإخلاص ، واستفراغ الوسع ، وبذل الطاقة ؛ فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصّدق. وبحسب كمال هذه الأمور فيه ، وقيامها به تكون صدّيقيّته ، ولذلك كان لأبى بكر الصّدّيق ذروة الصّدّيقيّة ، حتى سمّى الصّدّيق على الإطلاق. والصّدّيق أبلغ من الصّدوق ، والصّدوق أبلغ من الصّادق ، فأعلى مراتب الصدق مرتبة الصدّيقيّة ، وهى كمال الانقياد للرّسول ، مع كمال الإخلاص للمرسل.

وقد أمر سبحانه رسوله أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصّدق ، فقال : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً)(١).

وأخبر عن خليله إبراهيم عليه‌السلام أنّه سأله أن يجعل له لسان صدق فى الآخرين. وبشّر عباده أنّ لهم قدم صدق ، ومقعد صدق ؛ فقال : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ)(٢) ، وقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ)(٣). فهذه خمسة أشياء : مدخل الصّدق ، ومخرج الصدق ، ولسان الصّدق ، ومقعد الصّدق ، وقدم الصّدق. وحقيقة الصّدق فى هذه الأشياء هو الحقّ الثّابت المتّصل بالله ، الموصّل إلى الله ، وهو ما كان به وله من الأعمال والأقوال. وجزاء ذلك فى الدّنيا والآخرة.

__________________

(١) الآية ٨٠ سورة الاسراء.

(٢) الآية ٢ سورة يونس.

(٣) الآيتان ٥٤ ، ٥٥ سورة القمر.

٤٠٠