بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٣

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي

بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٣

المؤلف:

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي


المحقق: محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٦

ابن الأعرابىّ : الشّورة : الجمال ، وإنه لحسن الصّورة والشّورة.

والمشورة ، والمشورة ، والشّورى ، بمعنى واحد. وأشار عليه بالرّأى. والمشيرة : الإصبع السبّابة.

وشرت العسل واشترته : جنيته ، قال خالد بن زهير الهذلىّ :

وقاسمها بالله جهدا لأنتم

ألذّ من السّلوى إذا ما نشورها (١)

__________________

(١) انظر ديوان الهذليين ١ / ١٥٨.

٣٦١

٢٨ ـ بصيرة فى شوظ وشوك وشوى وشيع

الشواظ : اللهب الذى لا دخان معه.

والشّوك : ما يدقّ رأسه من النبات. ويعبّر بالشّوك ، والشّوكة ، والشّكّة ، عن السّلاح ، وعن الشدّة. قال تعالى : (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ)(١)

وشوّك ثديها : نهد. والبعير : طال أنيابه.

وشويت اللّحم واشتويته. والشوى : الأطراف ؛ كاليدين والرّجلين. ورماه فأشواه : أصاب شواه

والشّاة أصلها شاهة ، بدليل قولهم : شياه ، وشويهة.

والشيع : الانتشار والتقوية ، يقال : شاع الحديث ، أى كثر وقوى. وشاع القوم : انتشروا وكثروا. وشيّعت النار بالحطب. والشّيعة : من يتقوّى بهم الإنسان وينتشرون عنه.

__________________

(١) الآية ٧ سورة الأنفال.

٣٦٢

٢٩ ـ بصيرة فى الشىء

قيل : هو ما صحّ أن يعلم ويخبر عنه. وعند كثير من المتكلّمين : اسم مشترك المعنى ؛ إذ استعمل فى الله وفى غيره ، ويقع على الموجود والمعدوم. وعند بعضهم عبارة عن الموجود. وأصله مصدر شاء ، فإذا وصف الله تعالى به فمعناه شاء ، وإذا وصف به غيره فمعناه المشيء. وعلى الثّانى قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)(١) فهذا على العموم بلا مثنويّة (٢) ؛ إذ كان الشىء هاهنا مصدرا فى معنى المفعول. وقوله : (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً)(٣) هو بمعنى الفاعل.

والمشيئة عند أكثر المتكلّمين كالإرادة سواء ، وعند بعضهم أنّ المشيئة فى الأصل إيجاد الشىء وإصابته ، وإن كان قد يستعمل فى التعارف موضع الإرادة. فالمشيئة من الله تعالى الإيجاد ، ومن الناس الإصابة. والمشيئة من الله تقتضى وجود الشىء ، ولذلك قيل : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، والإرادة لا تقتضى وجود المراد لا محالة ؛ ألا ترى أنّه قال : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(٤) ، وقال : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ)(٥) ، ومعلوم أنّه قد يحصل العسر والتظالم فيما بين النّاس.

__________________

(١) الآية ١٦ سورة الرعد.

(٢) أى استثناء.

(٣) الآية ١٩ سورة الأنعام.

(٤) الآية ١٨٥ سورة البقرة.

(٥) الآية ٣١ سورة غافر.

٣٦٣

قالوا : و [من](١) الفرق بينهما أنّ إرادة الإنسان قد تحصل من غير أن تتقدّم إرادة الله ؛ فإنّ الإنسان قد يريد ألّا يموت ويأبى الله ذلك ، ومشيئته لا تكون إلّا بعد مشيئته ، كقوله : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)(٢). وروى أنه لمّا نزل قوله تعالى : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ)(٣) قال الكفّار : الأمر إلينا ، إن شئنا استقمنا ، وإن شئنا لم نستقم ، فأنزل الله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ). وقال بعضهم : لو لا أنّ الأمور كلّها موقوفة على مشيئة الله ، وأن أفعالنا متعلّقة بها ، وموقوفة عليها ، لما أجمع النّاس على تعليق الاستثناء به فى جميع أفعالنا ؛ نحو : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)(٤) ونحوه من الآيات.

والشىء تصغيره شيىء وشيىء بكسر الشين. ولا تقل : شوىء. والجمع : أشياء غير مصروفة. قال الخليل : إنّما ترك صرفها لأنّ أصلها فعلاء [جمعت](٥) على غير واحدها ؛ كما أنّ الشّعراء جمعت على غير واحدها ؛ لأنّ الفاعل لا يجمع على فعلاء ، ثمّ استثقلوا الهمزتين فى آخرها ، فنقلوا الأولى إلى أوّل الكلمة ، فقالوا : أشياء ، كما قالوا : عقاب بعنقاة (٦) ، وأينق ، وقسىّ ، فصار تقديرها : لفعاء. يدل على صحّة ذلك أنها لا تصرف ، وأنّها تصغّر على أشيّاء ، وأنّها تجمع على أشاوى وأصلها أشاييئ ،

__________________

(١) زيادة من الراغب.

(٢) الآية ٣٠ سورة الانسان والآية ٢٩ سورة التكوير.

(٣) الآية ٢٨ سورة التكوير.

(٤) الآية ١٠٢ سورة الصافات.

(٥) زيادة يقتضيها السياق والتنظير بشعراء. ونسبة الجمع الى الخليل جاءت فى كلام الجوهرى وردها المؤلف فى القاموس فان أشياء عند الخليل اسم جمع لا جمع ، كما يأتى فى كلامه هنا.

(٦) أى ذات مخالب حداد.

٣٦٤

فقلبوا الهمزة ياء ، فاجتمعت ثلاث ياءات ، فحذفت الوسطى ، وقلبت الأخيرة ألفا ، فأبدلت من الأولى كما قالوا : أتيته أتوة. وحكى الأصمعىّ أنّه سمع رجلا من فصحاء العرب يقول لخلف الأحمر : إن عندك لأشاوى ، مثال الصّحارى. ويجمع أيضا على أشايا وأشياوات.

قال الأخفش : هى أفعلاء ، فلهذا لم تصرف ؛ لأنّ أصلها أشيئاء ، حذفت الهمزة الّتى بين الياء والألف للتخفيف. قال له المازنىّ : كيف تصغّر العرب أشياء؟ فقال : أشيّاء. فقال له : تركت قولك ؛ لأنّ كلّ جمع كسّر على غير واحده وهو من أبنية الجمع فإنّه يردّ فى التصغير إلى واحده ؛ كما قالوا : شويعرون فى تصغير الشعراء. وهذا القول لا يلزم الخليل ؛ لأنّ فعلاء ليس من أبنية الجمع.

وقال الكسائىّ : أشياء أفعال ؛ مثل فرخ وأفراخ ، وإنّما تركوا صرفها ، لكثرة استعمالهم إيّاها لأنّها شبّهت بفعلاء. وهذا القول يدخل عليه ألّا يصرف أبناء وأسماء. وقال الفرّاء : أصل شىء شيّئ مثل شيّع ، فجمع على أفعلاء ؛ مثل هيّن وأهوناء (١) ، وليّن وأليناء ، ثمّ خفف فقيل شىء ، كما قالوا : هين ولين. وقالوا : أشياء ، فحذفوا الهمزة الأولى. وهذا القول يدخل عليه ألّا يجمع على أشاوى.

والشّيئة : الإرادة. وكلّ شىء بشيئة الله ، مثال شيعة ، أى بمشيئته. وقد شئت الشىء أشاؤه. وأشاءه : ألجأه.

__________________

(١) فى الاصلين. «أهيناء» والكثير هان يهون واويا. فأما هان يهين يائيا فقد أثبتها بعضهم ، الأولى التمثيل بما هو ثابت عند الجميع.

٣٦٥

الباب الخامس عشر

فى بصائر الكلمات المفتتحة بحرف الصّاد

وهى : الصّاد ، وصبّ ، وصبح ، وصبر ، وصبغ ، وصبى ، وصحب ، وصحف ، وصحّ ، وصدّ ، وصدر ، وصدف ، وصدق ، وصدى ، وصرى ، وصرّ ، وصرح ، وصرف ، وصرم ، وصرع ، وصعد ، وصعق ، وصعر ، وصعو ، وصف ، وصفح ، وصفد ، وصفر ، وصفن ، وصفو ، وصلّ ، وصلب ، وصلح ، وصلد ، وصلا ، وصم ، وصمد ، وصمع ، وصنع ، وصنف ، وصنم ، وصوب ، وصوت ، وصور ، وصوع ، وصوف ، وصوم ، وصهر ، وصيف ، وصيصى.

٣٦٦

١ ـ بصيرة فى الصاد

وهى ترد فى لغة العرب وفى القرآن على أوجه :

الأوّل : حرف هجاء ، يظهر من طرف اللسان جوار مخرج السّين ، يذكّر ويؤنّث. ويجمع على أصواد وصادات.

الثّانى : اسم لعدد التّسعين.

الثالث : الصّاد الكافية الّتى يختصر (١) عليها من الكلمة ، كقوله : المص (٢) كهيعص ، والصّاد من صمد ، ومن صانع ، وصادق.

الرابع : الصّاد المكرّرة ؛ مثل قصّ وقصص.

الخامس : المدغمة فى مثل قصّ.

السّادس : صاد الضرورة ؛ فبعض النّاس يجعلها ثاء لعجزه عن النطق بها.

السّابع : صاد أصل الكلمة ؛ صدق ، ونصر ، وحرص.

الثّامن : المبدلة من السّين ؛ مثل السّويق (٣) والصّويق لغتان.

__________________

(١) كذا. والأولى : «يقتصر». ويتكرر منه هذا الاستعمال.

(٢) هذا على أن هذه الحروف اختصارات لكلمات ، فقوله : المص ، أى أنا الله أعلم وأصدق مثلا وكهيعص أى كاف هاد عالم صادق مثلا.

(٣) السويق : طعام يعمل من الحنطة والشعير.

٣٦٧

التّاسع : صاد ، فعل ماض من الصّيد.

العاشر : الصّاد اللغوى. قال الخليل : الصّاد عندهم : الدّيك ، وقدر النّحاس. وأنشد على الدّيك قول ابن قيس الرقيّات :

وإنّى إذا ما غبت عنّى متّيم

كأنّى صاد فى النّقا أتمرّغ

وقال حسّان فى القدر :

رأيت قدور الصّاد حول بيوتنا

قنابل دهما فى المباءة صيّما (١)

أى قدور النحاس.

__________________

(١) القنابل هنا طوائف الخيل ، والدهم : السود و (صيما) : ممسكات عن الأكل شبه القدور بالخيل السود التى لا تأكل ، وشرط عدم الأكل لان القدور لا تأكل. والمباءة : المنزل وفى التاج والأساس والديوان : «المحلة» بدل «المباءة».

٣٦٨

٢ ـ بصيرة فى صب وصبح

صببت الماء : سكبته. وماء صبّ وسكب. وقوله تعالى : (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ)(١) ، أى عذّبهم.

ورجل صبّ ، أى عاشق مشتاق. وقد صببت يا رجل تصبّ. قال الكميت :

وأنت تصبّ إلى العاشقين

إذا ما خليلك لم يصبب

والصّبابة : رقّة الشوق وحرارته.

والصّبّ ـ بالضمّ ـ : كلّ ما صببته من طعام أو غيره مجتمعا. والصبّة ـ بهاء ـ : مثل الصّبابة من الماء. وصبّة من الليل : طائفة.

والصّبب : ما انحدر من الأرض ، والجمع : أصباب.

والصّبح والصّباح : أوّل النّهار ، وهو وقت ما احمرّ الأفق بحاجب الشمس. والتصبّح : النوم بالغداة ، وكذا الصّبحة. والصّبوح : شرب الصّباح. يقال : صبحته : سقيته صبوحا. والصّبحان : المصطبح.

والمصباح : ما يسقى منه ، ومن الإبل : ما يبرك فلا ينهض حتى يصبح ، وما يجعل فيه المصباح ، قال تعالى : (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ.) ويقال للسّراج

__________________

(١) الآية ١٣ سورة الفجر.

٣٦٩

مصباح. والمصباح : مقرّ السّراج أيضا. والمصابيح : أعلام الكواكب ؛ قال تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ)(١).

وصبّحتهم ماء كذا : أتيتهم (٢) به صباحا.

والصبح ـ محرّكة ـ : شدّة حمرة فى الشعر ، تشبيها بالصّبح أو المصباح.

__________________

(١) الآية ٥ سورة الملك.

(٢) عبارة القاموس : «سريت بهم حتى أوردتهم أياه صباحا». وهى ظاهرة.

٣٧٠

٣ ـ بصيرة فى صبر

الصّبر فى اللغة : الحبس والكفّ فى ضيق ، ومنه قيل : فلان صبر : إذا أمسك وحبس للقتل. قال تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ)(١) ، أى احبس نفسك معهم.

فالصّبر : حبس النّفس عن الجزع والسّخط ، وحبس اللسان عن الشكوى ، وحبس الجوارح عن التشويش. قال الإمام أحمد ـ رحمه‌الله ـ : ذكر الله تعالى الصّبر فى القرآن فى نحو من تسعين موضعا ، وهو واجب بإجماع الأمّة. وهو نصف الإيمان ؛ فإنّ الإيمان نصفان : نصف صبر ، ونصف شكر.

وهو فى القرآن على ستّة عشر نوعا :

الأوّل : الأمر به نحو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)(٢) ، وقوله تعالى : (اصْبِرُوا وَصابِرُوا)(٣) ، وقوله تعالى : (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٤) ، (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ)(٥).

__________________

(١) الآية ٢٨ سورة الكهف.

(٢) الآية ١٥٣ سورة البقرة.

(٣) الآية ٢٠٠ سورة آل عمران.

(٤) الآية ٤٦ سورة الأنفال.

(٥) الآية ١٢٧ سورة النحل.

٣٧١

الثانى : النّهى عن ضدّه كقوله : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ)(١) ، وقوله : (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ)(٢) ، فإن تولية الأدبار ترك الصّبر والمصابرة.

الثالث : الثّناء على أهله كقوله : (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ)(٣) ، وقوله : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)(٤). وهو كثير النّظائر فى التنزيل.

الرّابع : إيجاب معيّة لهم المعيّة التى تتضمّن حفظهم ونصرهم وتأييدهم ، ليست معيّة عامّة ، أعنى معيّة العلم والإحاطة ، كقوله : (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٥).

الخامس : إيجاب محبّته لهم ، كقوله : (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)(٦) ، وقوله : (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ)(٧).

السّادس : إخباره بأنّ الصبر خير لهم ، كقوله : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)(٨) ، وقوله : (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ)(٩).

__________________

(١) الآية ٣٥ سورة الأحقاف.

(٢) الآية ١٥ سورة الأنفال.

(٣) الآية ١٧ سورة آل عمران.

(٤) الآية ١٧٧ سورة البقرة.

(٥) الآية ٤٦ سورة الأنفال.

(٦) الآية ١٤٦ سورة آل عمران.

(٧) الآية ٢٥ سورة النساء.

(٨) الآية ١٢٦ سورة النحل.

(٩) الآية ٢٥ سورة النساء

٣٧٢

السّابع : إيجابه (١) الجزاء لهم بأحسن ما كانوا يعملون.

الثامن : إيجابه الجزاء لهم بغير حساب ، كقوله : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٢).

التاسع : إطلاق البشرى لأهل الصّبر ، كقوله : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)(٣).

العاشر : ضمان النّصر والمدد لهم ، كقوله : (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ)(٤) وفى الحديث : «إنّ النّصر مع الصبر».

الحادى عشر : الإخبار أنّ أهل الصّبر مع أهل العزائم ، كقوله تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(٥).

الثانى عشر : الإخبار أنّه ما يلقّى الأعمال الصّالحة وجزاءها إلّا أهل الصّبر ، كقوله : (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ)(٦) ، وقوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)(٧).

__________________

(١) من أمثلته ما ورد فى الآية ٩٦ سورة النحل : (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

(٢) الآية ١٠ سورة الزمر.

(٣) الآية ١٥٥ سورة البقرة.

(٤) الآية ١٢٥ سورة آل عمران.

(٥) الآية ٤٣ سورة الشورى.

(٦) الآية ٨٠ سورة القصص.

(٧) الآيتان ٣٤ ، ٣٥ سورة فصلت.

٣٧٣

الثالث عشر : الإخبار أنّه ينتفع بالآيات والعبر أهل الصّبر ؛ كقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)(١) ، وقوله فى أهل سبإ : (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)(٢) ، وقوله فى سورة الشورى : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ ، فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)(٣)

الرّابع عشر : الإخبار بأنّ الفوز بالمطلوب ، والنجاة من المرهوب ، ودخول الجنّة إنّما نالوه بالصّبر ؛ كقوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)(٤).

الخامس عشر : يورث صاحبه الإمامة. وإنّ بالصبر واليقين ينال الإمامة فى الدّين ، كقوله : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ)(٥).

السّادس عشر : اقترانه بمقامات الإسلام والإيمان ؛ كما قرنه سبحانه باليقين وبالتّقوى والتوكّل والشكر. ولهذا كان الصبر من الإيمان بمنزلة

__________________

(١) الآية ٥ سورة ابراهيم.

(٢) الآية ١٩ سورة سبأ.

(٣) الآية ٣٣ سورة الشورى.

(٤) الآيتان ٢٣ ، ٢٤ سورة الرعد.

(٥) الآية ٢٤ سورة السجدة.

٣٧٤

الرأس من الجسد. ولا إيمان لمن لا صبر له ، كما أنّه لا جسد لمن لا رأس له. قال عمر بن الخطّاب : خير عيش ما أدركناه بالصّبر. وفى الحديث : «الصّبر ضياء (١)». وفيه : «من يتصبّر يصبّره الله» (٢). وأمر بالصّبر عند المصيبة ، وأخبر أنه عند الصّدمة الأولى (٣) ، وأمر المصاب بأنفع الأمور له وهو الاحتساب (٤) ، فإنّ ذلك يخفّف مصيبته ويوفّر أجره. والجزع والسّخط والتشكّى (٥) يزيد المصيبة ، ويذهب الأجر.

والصّبر على ثلاثة أنواع : صبر على طاعة الله ، وصبر عن معصية الله ، وصبر على امتحان الله.

فالأولان : الصّبر على ما يتعلق بالكسب. والثالث : الصّبر على ما لا كسب للعبد فيه.

وقال بعض المشايخ : كان صبر يوسف عن طاعة امرأة العزيز أكمل من صبره على إلقاء إخوته إيّاه فى الجبّ ، وبيعهم [إيّاه] ، وتفريقهم بينه وبين أبيه ، فإنّ هذه أمور جرت عليه بغير اختياره ، لا كسب له فيها ، ليس للعبد فيها حيلة غير الصّبر. وأمّا صبره عن المعصية فصبر اختيار ورضا ،

__________________

(١) هو قطعة من حديث فى مسلم ، كما فى رياض الصالحين.

(٢) فى أ ، ب : «يصبر» وما أثبت من حديث متفق عليه أى فى الصحيحين ، نقله فى رياض الصالحين.

(٣) من حديث متفق عليه ، كما فى رياض الصالحين.

(٤) فى أ ، ب : «والاحتساب». وفى هامش ب : «الاحسان». والاحتساب أن يدخر ثواب ما قدم عند الله سبحانه.

(٥) فى ب : «التبكى» وذكر «التشكى» فى الهامش.

٣٧٥

ومحاربة للنّفس ، ولا سيّما مع أسباب تقوى معها داعية الموافقة ؛ فإنّه كان شابّا ، وداعية الشابّ إليها قوّته ؛ وكان عزبا (١) ليس له ما يعوّضه ويردّ شهوته ؛ وغريبا ، والغريب لا يستحى فى بلد غربته ممّا يستحى منه بين أصحابه وأهله ؛ ويحسبونه مملوكا ، والمملوك ليس وازعه كوازع الحرّ ؛ والمرأة جميلة وذات منصب ، وقد غاب الرّقيب ، وهى الدّاعية له إلى نفسها ، والحريصة على ذلك أشدّ الحرص ، ومع ذلك توعّدته بالسجن إن لم يفعل. فمع هذه الدّواعى كلّها صبر اختيارا ، وإيثارا لما عند الله. وأين هذا من صبره فى الجبّ على ما ليس من كسبه؟!

والصّبر على أداء الطّاعات أكمل من الصّبر على اجتناب المحرّمات ؛ فإنّ مصلحة فعل الطّاعة أحبّ إلى الشّارع من مصلحة ترك المعصية ، ومفسدة عدم الطاعة أبغض وأكره من مفسدة وجود المعصية.

ثمّ الصّبر ينقسم بنوع آخر من القسمة على ثلاثة أنواع : صبر بالله ، وصبر لله ، وصبر مع الله.

فالأوّل : الاستعانة به ، ورؤية أنّه هو المصبّر ، وأنّ صبر العبد بربّه لا بنفسه ، كما قال تعالى : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ)(٢) ، يعنى إن لم يصبّرك هو لم تصبر.

__________________

(١) ب : «عزما» وهو تصحيف.

(٢) الآية ١٢٧ سورة النحل.

٣٧٦

والثّانى : أن يكون الباعث على الصّبر محبّة الله وإرادة وجهه ، والتقرّب إليه ، لا إظهار قوّة النفس ، والاستحماد إلى الخلق ، وغير ذلك من الأغراض.

والثالث : دوران العبد الذى (منى (١) مع) الأحكام الدينيّة صابرا نفسه معها ، سائرا بسيرها ، مقيما بإقامتها ، يتوجّه معها أينما توجّهت ركائبها ، وينزل معها حيث استقلّت مضاربها. فهذا معنى كونه صابرا مع الله ، قد جعل نفسه وقفا على أوامره ومحابّه. وهو أشدّ أنواع الصّبر وأصعبها. وهو صبر الصدّيقين.

قال ذو النّون : الصبر (٢) : التباعد من المخالفات ، والسّكون عند تجرّع غصص البليّات ، وإظهار الغنى مع طول (٣) الفقر بساحات المعيشة. وقيل : الصبر : الوقوف مع البلاء بحسن الأدب. وقيل : هو الفناء فى البلوى ، بلا ظهور شكوى. وقيل : إلزام النّفس الهجوم على المكاره. وقيل : المقام (٤) مع البلاء بحسن الصّحبة كالمقام مع العافية.

وقال عمرو بن عثمان : هو الثبات مع الله ، وتلقّى بلائه بالرّحب والسّعة (٥). وقال الخوّاص : هو الثبات على أحكام الكتاب والسنة

__________________

(١) فى الأصلين : «منه وضع» ولم يظهر المعنى معها. والظاهر أن هذا تحريف عما أثبت و (منى) : ابتلى واختبر.

(٢) انظر الرسالة ١١٠.

(٣) فى الرسالة : «حلول».

(٤) فى الأصلين : «المقامة» وما أثبت من الرسالة ١١٠.

(٥) كذا فى الأصلين. وفى الرسالة : «الدعة» وهو انسب.

٣٧٧

وقال يحيى بن معاذ : صبر المحبّين أشدّ من صبر الزاهدين. واعجبا كيف يصبرون! وأنشد (١).

والصّبر يحمد فى المواطن كلّها

إلّا عليك فإنّه مذموم (٢)

وقيل : الصّبر هو الاستعانة بالله. وقيل : هو ترك الشكوى. وقيل :

الصّبر مثل اسمه مرّ مذاقته

لكن عواقبه أحلى من العسل

وقيل : الصّبر أن ترضى بتلف نفسك فى رضا من تحبّه ، كما قيل :

سأصبر كى ترضى وأتلف حسرة

وحسبى أن ترضى ويقتلنى صبرى (٣)

وقيل : مراتب الصّبر خمسة : صابر ، ومصطبر ، ومتصبّر ، وصبور ، وصبّار.

فالصّابر أعمّها. والمصطبر : المكتسب للصبر ، المبتلى به. والمتصبّر : متكلّف الصّبر حامل نفسه عليه. والصّبور : العظيم الصّبر الّذى صبره أشدّ من صبر غيره. والصّبّار : الشديد الصّبر ، فهذا فى القدر والكمّ ، والّذى قبله فى الوصف والكيف.

وقال علىّ بن أبى طالب : الصّبر مطيّة لا تكبو.

وقف رجل على الشّبلىّ فقال : أىّ الصّبر أشدّ على الصّابرين؟ فقال : الصّبر فى الله. فقال السّائل : لا. قال : مع الله. قال : لا. قال : فأيش؟

__________________

(١) فى الرسالة «أنشدوا».

(٢) فى الرسالة : «لا يجمل» فى مكان «مذموم».

(٣) نسبه صاحب الرسالة الى ابن عطاء.

٣٧٨

قال : الصّبر عن الله. فصرخ الشّبلىّ صرخة كادت نفسه تتلف

وقال الجريرىّ (١) : الصّبر ألّا تفرق بين حال النعمة وحال المحنة ، مع سكون الخاطر فيهما. والتصبّر : السّكون مع البلاء ، مع وجدان أثقال المحنة (٢)

وقال أبو على الدّقّاق : فاز الصّابرون بعز الدّارين ؛ لأنهم نالوا مع (٣) الله معيّته ؛ فإنّ الله مع الصّابرين.

وقيل فى قوله : (اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا)(٤) ، انتقال من الأدنى إلى الأعلى. فالصبر دون المصابرة ، والمصابرة دون المرابطة : مفاعلة من الرّبط وهو الشدّ. وسمّى المرابط مرابطا لأنّ المرابطين يربطون خيولهم ينتظرون الفزع (٥). ثمّ قيل لكلّ منتظر ، قد ربط نفسه لطاعة ينتظرها : مرابط. وقيل فى تفسيره : اصبروا بنفوسكم ، وصابروا بقلوبكم على البلوى فى الله ، ورابطوا بأسراركم على الشوق إلى الله. وقيل : اصبروا فى الله ، وصابروا بالله ، ورابطوا مع الله لعلكم تفلحون فى دار البقاء. فالصبر مع نفسك ، والمصابرة بينك وبين عدوّك ، والمرابطة : الثبات وإعداد العدّة ؛ كما أن الرّباط ملازمة الثغر (٦) لئلّا يهجمه العدوّ. فكذلك المرابطة أيضا : لزوم ثغر القلب ؛ لئلّا يهجم عليه الشيطان فيملكه ، أو يخربه أو يشعّثه.

__________________

(١) فى الأصلين : «الحريرى» وما أثبت من الرسالة ١١١. وهو من أصحاب الجنيد مات سنة ٣١٠ ه‍ كما فى الرسالة ٢٩.

(٢) فى الأصلين : «المحبة» وما أثبت من الرسالة.

(٣) فى الرسالة : «من».

(٤) الآية ٢٠٠ سورة آل عمران.

(٥) الفزع : الخوف. ويطلق على ما يدعو الى الخوف من هجوم عدو ونحوه. وهو المراد هنا.

(٦) هو من البلاد الموضع الذى يخاف منه هجوم العدو.

٣٧٩

وقيل : تجرّع الصّبر ، فإن قتلك قتلك شهيدا ، وإن أحياك أحياك عزيزا حميدا. وقيل : الصّبر لله عناء ، وبالله بقاء ، وفى الله بلاء ، ومع الله وفاء ، وعن الله جفاء. والصّبر على الطّلب عنوان الظّفر ، وفى المحن عنوان الفرج.

وفى كتاب الأدب للبخارىّ : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإيمان فقال : «الصّبر والسّماحة». وهذا من أجمع الكلام ، وأعظمه برهانا ، وأوعاه لمقامات الإيمان من أوّلها إلى آخرها ؛ فإن النّفس يراد منها شيئان : بذل ما أمرت به وإعطاؤه ، فالحامل عليه السّماحة ؛ وترك ما نهيت عنه والبعد عنه ، فالحامل عليه الصّبر. وقد أمر الله سبحانه فى كتابه بالصّبر الجميل الذى لا شكوى معه ، والصّفح الجميل الّذى لا عتاب معه ، والهجر الجميل الذى لا أذى معه.

وقال ابن عيينة فى قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا)(١) : أخذوا برأس الأمر فجعلهم (٢) رءوسا.

واعلم أنّ الشكوى إلى الله عزوجل لا تنافى الصّبر ؛ فإنّ يعقوب ـ عليه‌السلام ـ وعد بالصّبر الجميل ، والنبىّ إذا وعد لا يخلف ، ثمّ قال : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ)(٣) ، وكذلك أيّوب عليه‌السلام أخبر الله عنه أنه وجده صابرا مع قوله : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(٤) ، وإنّما ينافى

__________________

(١) الآية ٢٤ سورة السجدة.

(٢) فى الأصلين : «فجعله» وما أثبت من الرسالة.

(٣) الآية ٨٦ سورة يوسف.

(٤) الآية ٨٣ سورة الأنبياء.

٣٨٠