بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٣

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي

بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٣

المؤلف:

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي


المحقق: محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٦

٢٠ ـ بصيرة فى شكل

هذا شكله ، أى مثاله. وقلّت أشكاله. وهذه الأشياء أشكال وشكول. وهذا من شكل ذلك : من جنسه ، قال تعالى : (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ)(١) ، أى مثل له فى الهيئة وتعاطى الفعل. وهذا أشكل بكذا ، أى أشبه. وهو لا يشاكله ولا يتشاكلان.

وأشكل المريض وشكل ، كما تقول : تماثل. وأشكل النخل : طاب بسره وحلا. وقيل : المشاكلة فى الهيئة والصّورة ، والندّ فى الجنسيّة ، والشبه فى الكيفيّة.

والشّكل ـ بالكسر ـ : الدّلّ. وهو فى الحقيقة : الأنس الّذى بين المتماثلين فى الطّريق ، ومن هذا قيل : النّاس أشكال وألاف.

وأصل المشاكلة من الشّكل أى تقييد الدّابّة ، يقال : شكلت الدّابّة. والشّكال : ما تقيّد به ، ومنه استعير شكلت الكتاب ، كقولك : قيّدته. ودابّة بها شكال : إذا كان تحجيلها بإحدى يديها وإحدى رجليها كهيئة الشّكال. وقوله تعالى : (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ)(٢) أى على سجيّته التى قيّدته. وذلك أن سلطان السّجيّة على الإنسان قاهر ، وهذا كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّ ميسّر لما خلق له (٣)». والإشكال فى الأمر استعارة كالاشتباه. من الشّبه. والأشكلة : الحاجة الّتى تقيّد الإنسان.

__________________

(١) الآية ٥٨ سورة ص.

(٢) الآية ٨٤ سورة الاسراء.

(٣) رواه الطبرانى باسناد صحيح ، كما فى الجامع الصغير.

٣٤١

٢١ ـ بصيرة فى شكو

والشّكو والشّكاة والشّكاية والشّكوة والشكوى : إظهار البثّ. وأصل الشكو : فتح الشكوة ، وإظهار ما فيها ، وهى سقاء صغير يجعل فيه الماء. وكأنه فى الأصل استعارة ؛ كقولهم : بثثت له ما فى وعائى ، ونفضت له ما فى جرابى. وشكوت إليه واشتكيت.

وما شكيّتك؟ : ممّ تشكو ، فتقول : شكيّتى مرض أو غمّ. وهى كالرّميّة ، اسم للمشكوّ كما أنّها اسم للمرمىّ. ويقال : أشكانى فشكوته ، وشكوته فأشكانى. الأوّل حمل على الشكاية وإلجاء إليها ، والثّانى إزالة لها. قال جرير :

أشكو إليك فأشكنى ذرّية

لا يشبعون وأمّهم لا تشبع (١)

وقال آخر :

تمدّ بالأعناق أو تثنيها

وتشتكى لو أنّنا نشكيها (٢)

ونحو أطلبته بمعنى الإحواج إلى الطّلب ، [والإسعاف بالطّلبة](٣)

__________________

(١) الديوان : ٣٥٤ (ط الصاوى).

(٢) انظر الخصائص ٣ / ٧٧ وهو فى وصف الابل.

(٣) زيادة من الأساس.

٣٤٢

وشكوت إليه فلانا فأشكانى منه ، أى أخذ لى ما أرضانى به ، وفى الحديث : «شكونا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرّ الرمضاء فلم يشكنا (١)». وشكّيت شاكى فلان : طيّبت نفسه.

والمشكاة : طريق فى الحائط غير نافذ ، قال تعالى : (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) ، وذلك مثل للقلب ، والمصباح مثل نور الله فيه.

__________________

(١) ورد فى صحيح مسلم (كتاب المساجد) عن خباب برواية : «شكونا الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلاة فى الرمضاء فلم يشكنا»

٣٤٣

٢٢ ـ بصيرة فى شمت وشمخ وشمز وشمس

الشّماتة : الفرح ببليّة العدوّ. شمت يشمت ـ كفرح يفرح ـ شماتة. وبات فلان بليلة الشّوامت ، أى بليلة تشمت الشوامت ، [وبات طوع الشوامت : كما أحبّ من يشمت به (١)]. قال النابغة يصف ثورا وحشيّا :

فارتاع من صوت كلّاب فبات له

طوع الشوامت من خوف ومن صرد

والإشمات : إفراح العدوّ بنكبة من يعاديه. والتشميت : الدّعاء للعاطس ، كأنّه إزالة الشماتة.

والشّموخ : التكبّر. وقد شمخ بأنفه. وجبال شوامخ وشمّخ. قال :

ترى شمّخ الأطواد من شمّ خندف

ذراهنّ فى ضحضاح بحرك تغرق (٢)

قال تعالى : (رَواسِيَ شامِخاتٍ)(٣) ، أى عاليات.

والاشمئزاز : النّفرة ، قال : (اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ)(٤) أى ، نفرت.

__________________

(١) زيادة من الأساس.

(٢) أنشده فى الأساس من غير عزو.

(٣) الآية ٢٧ سورة المرسلات.

(٤) الآية ٤٥ سورة الزمر.

٣٤٤

والشّمس تطلق على القرصة ، وعلى الضوء المنتشر منها. والجمع : شموس. ويوم شامس ومشمس. وقد أشمست الأيّام ، وأقمرت اللّيالى.

ودابّة شموس ، وخيل شمس : لا تكاد تستقرّ ، وقد شمست شماسا.

وكأنّه شمّاس من شمامسة النّصارى ، وهو من بعض رءوسهم ، يحلق وسط رأسه ، ويلزم البيعة.

وشمس لى فلان : أبدى عداوته وكاد يوقع ، قال : (١).

شمس العداوة حتى يستقاد لهم

وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا

__________________

(١) أى الأخطل

٣٤٥

٢٣ ـ بصيرة فى شمل

الشّمال : المقابل لليمين. والجمع : أشمل ، مثل أعنق وأذرع ، وشمائل أيضا على غير قياس (١). قال الله تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ)(٢) وقال : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ)(٣). ويقال للثوب الّذى يغطّى به الشّمال (٤) ، وذلك كتسمية كثير من الثياب باسم العضو الذى يستره ، نحو تسمية كمّ القميص يدا ، وصدره وظهره صدرا وظهرا ، ورجل السّراويل رجلا ، ونحو ذلك.

والاشتمال بالثّوب : أن يلتفّ به فيطرحه على الشّمال (٥). وفى الحديث : نهى عن اشتمال الصّمّاء (٦). والشملة والمشمل : كساء يشتمل به ، مستعار منه.

والشّمال : الخليقة والعادة ، لكونها مشتملة على الإنسان اشتمال الشّمال على الأبدان. والشّمول : الخمر ؛ لاشتمالها على العقل.

__________________

(١) هذا أحد رأيين فى جمع فعال المؤنث على فعائل. والرأى الآخر أنه قياس. وجرى عليه ابن مالك فى الألفية فى قوله :

وبفعائل اجمعن فعاله

وشبهه ذا تاء أو مزاله

وانظر شرح الأشمونى للبيت.

(٢) الآية ٤٨ سورة النحل.

(٣) الآية ١٧ سورة ق.

(٤) تبع فى هذا الراغب ، ولم أجده لغيره.

(٥) الاشتمال بالثوب : الالتفاف ، مطلقا ، طرحه على الشمال أو على اليمين ، وهو يتبع الراغب المولع برد معانى المادة الى معنى واحد ، والتزام هذا تكلف. واشتمال الصماء فى بعض معانيه أن يدير الثوب على جسده كله لا يخرج منه يده.

٣٤٦

والشّمال : الرّيح الهابّة من ناحية القطب ، وقيل : من شمال الكعبة. وقيل : من مطلع بنات نعش إلى مطلع الشمس. وفيها ثمان لغات : شمل مسكّنة ، وشمل محركة ، وشمال ، وشمأل وشأمل ، وربّما جاء بتشديد (١) اللّام ، وشومل ، وشمول كصبور ، وشيمل كحيدر.

وكنى بالمشمل عن السّيف ، كما كنى عنه بالرّداء.

وناقة شملّة وشملال : سريعة كريح الشّمال.

__________________

(١) جعل فى القاموس تشديد اللام فى شمال. وذكر الشارح مما ورد فيه التشديد قول الزفيان :

* تلفّه نكباء أو شمأل*

٣٤٧

٢٤ ـ بصيرة فى شنأ وشهب

الشناءة والشّنأة بالمدّ والفتح : البغض ، وقد شنأته وشنئته شنئا وشناءة ، ومشنأ ، وشنآنا بالتّحريك ، وشنآنا بالتّسكين. وقرأ نافع (١) فى رواية إسماعيل ، وابن عامر وعاصم فى رواية أبى بكر ؛ بالتسكين ، والباقون بالتحريك وهما شاذّان. فالتّحريك شاذّ فى المعنى ؛ لأنّ فعلان إنّما هو من بناء ما كان معناه الحركة والاضطراب ، كالضّربان والخفقان. والتسكين شاذّ فى اللّفظ ، لأنّه لم يجئ شىء من المصادر عليه. قال أبو عبيدة : الشّنان بغير همز مثل الشنآن ، وأنشد للأحوص :

هل العيش إلّا ما تلذّ وتشتهى

وإن لام فيه ذو الشنان وفنّدا

وشنئ الرّجل فهو مشنوء ، أى مبغض وإن كان جميلا. ورجل مشنأ على مفعل ـ بالفتح ـ أى قبيح المنظر ، ورجلان مشنأ ، وقوم مشنأ. والمشناء ـ على مفعال ـ مثله. ورجل شناءة ككرامة ، وشنائية ككراهية : مبغض سيّئ الخلق. وتشاءنوا : تباغضوا. والشّنوءة على فعولة : التقزّز ، وهو التّباعد من الأدناس ، ومنه أزد شنوءة لحىّ من اليمن.

__________________

(١) أى قوله تعالى فى الآيتين ٢ ، ٨ من سورة المائدة : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ).*

٣٤٨

والشّهاب : شعلة نار ساطعة من النار الموقدة ، ومن العارض فى الجوّ والجمع : شهب ، وشهبان عن الأخفش ، مثال حساب وحسبان ، وشهبان بالكسر عن غيره. قال تعالى : (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ)(١).

وإنّ فلانا لشهاب حرب : إذا كان ماضيا فيها شجاعا ، وجمعه : شهبان قال ذو الرمّة :

وإن شاء داعيها أتته بمالك

وشهبان عمرو كلّ شوهاء صلدم (٢)

أى داعى هذه الإبل. يعنى بمالك أبا حنظلة بن زيد مناة ، وشهبان عمرو ، بنى عمرو بن تميم.

__________________

(١) الآية ١٨ سورة الحجر.

(٢) فى اللسان : «وان عم» فى مكان «اذا شاء» وانظر الديوان ٦٣٥ وهو يوافق ما هنا والشوهاء من الخيل : الطويلة الرائعة ، والصلدم : الشديدة الحوافر.

٣٤٩

٢٥ ـ بصيرة فى شهد

الشّهود والشّهادة : الحضور مع المشاهدة ، إمّا بالبصر أو البصيرة. وقد يقال للحضور مفردا ؛ قال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ)(١). لكنّ الشهود بالحضور المجرّد أولى ، والشهادة مع المشاهدة [أولى](٢).

/ ويقال للمحضر مشهد ، وللمرأة التى يحضرها زوجها مشهد : وجمع مشهد : مشاهد ، ومنه مشاهد الحجّ ، وهى مواطنه (٣) الشّريفة التى تحضرها الملائكة والأبرار من النّاس. وقيل : مشاهد الحج : مواضع المناسك.

وقوله : (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ)(٤) ، أى ما حضرنا ، (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)(٥) ، أى لا يحضرونه بنفوسهم ولا بهمّهم وإرادتهم.

والشهادة : قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة.

وقوله : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ)(٦) يعنى شهادة بمشاهدة البصيرة ، ثمّ قال : (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) تنبيها أنّ الشهادة تكون عن شهود. وقوله : (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)(٧) ، أى تعلمون. وقوله :

__________________

(١) الآية ٩ سورة الرعد ، وورد فى مواطن أخرى.

(٢) زيادة من الراغب.

(٣) فى الأصلين «مواطنها» وما أثبت عن الراغب.

(٤) الآية ٤٩ سورة النمل.

(٥) الآية ٧٢ سورة الفرقان.

(٦) الآية ١٩ سورة الزخرف.

(٧) الآية ٧٠ سورة آل عمران.

٣٥٠

(ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ)(١) ؛ أى ما جعلتهم ممّن اطّلعوا ببصيرتهم. وقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ)(٢) ، أى ما يغيب عن حواسّ الناس وبصائرهم ، وما يشهدونه بهما.

وشهدت يقال على ضربين : أحدهما جار مجرى العلم ، وبلفظه تقام الشهادة ، يقال : أشهد بكذا. ولا يرضى من الشّاهد أن يقول أعلم ، بل يحتاج أن يقول : أشهد. والثانى يجرى مجرى القسم ، فيقول : أشهد بالله إنّ زيدا منطلق. ومنهم من يقول : إن قال أشهد ولم يقل بالله يكون قسما. ويجرى علمت مجراه فى القسم فيجاب بجواب القسم كقوله :

* ولقد علمت لتأتينّ منيّتى ) *

ويقال : شاهد ، وشهيد ، وشهداء. ويقال : شهدت كذا ، أى حضرته ، وشهدت على كذا ، قال تعالى : (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ)(٤).

__________________

(١) الآية ٥١ سورة الكهف.

(٢) الآية ٩ سورة الرعد ، وورد فى مواطن أخرى.

(٣) وعجزه :

* ان المنايا لا تطيش سهامها

وهكذا يروى البيت فى النحو فى مبحث تعليق أفعال القلوب. ويقول العينى فى مختصر شرح الشواهد : «قال لبيد بن عامر ، كذا قالوا ، ولكنى لم أجد فى ديوانه الا الشطر الثانى حيث يقول :

صادفن منها غرة فأصبنه

ان المنايا لا تطيش سهامها

قاله فى جملة قصيدة طويلة من الكامل فى وصف بقرة صادفتها الذئاب فأصبن ولدها». هذا وقوله : «منيتى» فى الأصلين : «عشية» وهو تحريف. وقول العينى : «لبيد بن عامر» فقد نسبه الى احد اجداده ، وهو لبيد بن ربيعة ، وهو صاحب المعلقة

(٤) الآية ٢٠ سورة فصلت.

٣٥١

ويعبّر بالشهادة عن الحكم ؛ نحو : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها)(١) ، وعن الإقرار ، نحو : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ)(٢) ، أى (٣) كان ذلك شهادة لنفسه.

[وقوله (٤) : (شَهِدَ اللهُ)(٥) فشهادة الله تعالى بوحدانيته هى إيجاد ما يدلّ على وحدانيته فى العالم وفى نفوسنا ، كما قال الشاعر :

ففى كل شىء له آية

تدلّ على أنّه واحد

قال بعض الحكماء : [إن الله تعالى لمّا شهد لنفسه (٦)] كان شهادته أن أنطق كلّ شىء بالشهادة له ، وشهادة الملائكة بذلك هو إظهارهم أفعالا يؤمرون بها ، وهى المدلول عليها بقوله : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً)(٧). وشهادة أولى العلم اطّلاعهم على تلك الحال وإقرارهم بذلك.

والشهادة تختصّ بأولى العلم ، فأمّا الجهّال فمبعدون عنها ، وعلى هذا نبّه بقوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)(٨) ، وهؤلاء هم المعنيّون بقوله : (وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ)(٩).

__________________

(١) الآية ٢٦ سورة يوسف.

(٢) الآية ٦ سورة النور.

(٣) فى الراغب : «ان».

(٤) زيادة من الراغب.

(٥) الآية ١٨ سورة آل عمران.

(٦) زيادة من الراغب.

(٧) الآية ٥ سورة النازعات.

(٨) الآية ٢٨ سورة فاطر.

(٩) الآية ٦٩ سورة النساء.

٣٥٢

وأمّا الشهيد فقد يقال للشّاهد ، والمشاهد للشىء. وقوله تعالى : (مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ)(١) ، أى من يشهد له وعليه. وقوله : (أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)(٢) ، أى يشهدون ما يسمعونه بقلوبهم ، على ضدّ من قيل فيهم : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ)(٣). وقوله : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً)(٤) ، أى يشهد صاحبه الشفاء والرّحمة والتّوفيق والسّكينة ، والأرواح المذكورة فى قوله : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ)(٥).

وقوله : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ)(٦) قد فسّر بكلّ ما يقتضيه معنى الشهادة. قال ابن عبّاس : معناه : أعوانكم. وقال مجاهد : الذين يشهدون لكم. وقال بعضهم : الذين يعتدّ بحضورهم ، ولم يكونوا كمن قيل فيهم :

مخلّفون ويقضى الناس أمرهم

وهم بغيب وفى عمياء ما شعروا

وقد حمل على هذه الوجوه قوله تعالى : (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً)(٧) ، وقوله : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً)(٨) ، إشارة إلى نحو قوله : (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ)(٩) ، وقوله : (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى)(١٠).

__________________

(١) الآية ٢١ سورة ق.

(٢) الآية ٣٧ سورة ق.

(٣) الآية ٤٤ سورة فصلت.

(٤) الآية ٧٨ سورة الاسراء.

(٥) الآية ٨٢ سورة الاسراء.

(٦) الآية ٢٣ سورة البقرة.

(٧) الآية ٧٥ سورة القصص.

(٨) الآيتان ٧٩ ، ١٦٦ سورة النساء.

(٩) الآية ١٦ سورة غافر.

(١٠) الآية ٧ سورة طه.

٣٥٣

والشهيد الذى هو المحتضر فتسميته بذلك لحضور الملائكة إيّاه. إشارة إلى ما قال : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا)(١) أو لأنّهم يشهدون فى تلك الحالة ما أعدّ لهم من النعيم ، أو لأنّهم تشهد أرواحهم عند الله ، كما قال : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ)(٢) ، وقال : (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ)(٣). وقوله : (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ)(٤) ، قيل (٥) : يوم الجمعة ، وقيل : يوم عرفة ، وقيل : يوم القيامة. وشاهد : كلّ من يشهده. وقوله : (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ)(٦) ، أى مشاهد تنبيها أن لا بدّ من وقوعه.

والتشهّد : هو أن يقول : أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمّدا رسول الله. وصار فى التعارف اسما للتحيّات المقروءة فى الصّلاة للذّكر (٧) الذى يقرأ ذلك فيه.

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)(٨) ، جعل الله سبحانه كلامه ذكرى ينتفع به من جمع هذه الأمور الثّلاثة : أحدها أن يكون له قلب حىّ واع ، فإذا فقد هذا القلب لم ينتفع

__________________

(١) الآية ٣٠ سورة فصلت.

(٢) الآية ١٦٩ سورة آل عمران.

(٣) الآية ١٩ سورة الحديد.

(٤) الآية ٣ سورة البروج.

(٥) أى فى تفسير المشهود.

(٦) الآية ١٠٣ سورة هود.

(٧) فى الأصلين : «للركن» وما أثبت من الراغب.

(٨) الآية ٣٧ سورة ق.

٣٥٤

بكلامه. الثّانى : أن يصغى بسمعه فيميله كلّه نحو المخاطب له ، فإن لم يفعل لم ينتفع بكلامه. الثّالث : أن يحضر قلبه وذهنه عند المكلّم له ، وهو الشهيد أى الحاضر غير الغائب. فإن غاب قلبه ، وسافر فى موضع آخر لم ينتفع بالخطاب. وهذا كما أنّ المبصر لا يدرك حقيقة إلّا إذا كانت له قوّة باصرة وحدّق بها نحو المرئىّ ، ولم يكن قلبه مشغولا بغير ذلك ، فإن فقد القوّة المبصرة ، أو لم يحدّق نحو المرئىّ ، أو حدّق نحوه وقلبه كلّه فى موضع آخر ، فإنّه لا يدركه ؛ كما أنّ كثيرا ما مرّ بك إنسان أو غيره ، وقلبك مشغول بغيره ، ولا تشعر بمروره. فهذا الشّأن يستدعى صحّة القلب ، وحضوره ، وكمال الإصغاء.

والمشاهدة من منازل السّالكين وأهل الاستقامة ، منزلة عالية فوق منزلة المكاشفة. على أنّه ليس للعبد فى الحقيقة مشاهدة ، ولا مكاشفة ، لا للذّات ولا للصّفات ، أعنى مشاهدة عيان وكشف ، وإنّما هو مزيد إيمان. فيجب التّنبيه والتنبّه هاهنا على أمر ، وهو أنّ المشاهد نتائج العقائد ، فمن كان معتقده ثابتا فى أمر من الأمور فإنّه إذا صفت نفسه ، وارتاضت ، وفارقت الشهوات والرّذائل ، وصارت روحانيّة ، تجلّى لها صورة معتقدها كما اعتقدته. وربّما قوى ذلك التّجلّى ، حتى يصير لها كالعيان وليس به ، فيقع الغلط من وجهين : أحدهما أنّ ذلك ثابت فى الخارج وإنّما هو فى الذهن ، لكن لمّا صفا وارتاض ، وانجلت عنه ظلمات الطبع ، وغاب بمشهوده عن

٣٥٥

شهوده ، واستولت عليه أحكام القلب بأحكام الرّوح ، ظنّ أنّ ما ظهر له فى الخارج. ولا تأخذه فى ذلك لومة لائم ، ولو جاءته كلّ آية فى السماوات والأرض. وذلك عنده بمنزلة من عاين الهلاك ببصره جهرة ، فلو قال له أهل السّماوات والأرض : لم تره ، لم يلتفت إليهم. والّذى يتعيّن وينبغى ألّا يكذّب فيما أخبر به عن رؤيته ، ولكن إنّما رأى صورة معتقده فى ذاته ونفسه لا الحقيقة فى الخارج. هذا أحد الغلطين ، وسببه قوّة ارتباط حاسّة البصر بالقلب ، / فالعين مرآة القلب شديدة الإبصار به. وينضمّ إلى ذلك قوّة الاعتقاد وضعف التمييز ، وعليه حكم الحال على العلم. والغلط الثّانى أنّ الأمر كما اعتقده ، وأنّ ما فى الخارج مطابق لاعتقاده ، فتولّد من هذين الغلطين مثل هذا الكشف والشهود.

وهى عندهم على ثلاث درجات : مشاهدة ، ومشاهدة معاينة تلبس نعوت القدس ، وتخرس ألسنة الإشارات ، ومشاهدة جمع تجذب إلى عين الجمع. وبسط هذا الكلام يأتى فى موضعه إن شاء الله تعالى.

٣٥٦

٢٦ ـ بصيرة فى شهر وشهق وشهو

الشهر : مدّة مشهورة بإهلال الهلال ، أو باعتبار جزء من اثنى عشر جزءا من دوران الشّمس (١). وجمع القلّة أشهر ، والكثير ، شهور. والشهر أيضا : الهلال ، سمّى بذلك لشهرته وظهوره. وقال ابن فارس : الشهر فى كلام العرب : الهلال ، ثمّ سمّى كلّ ثلاثين يوما باسم الهلال ، فقيل : شهر. قال : وهذا شىء قد اتّفق فيه العرب والعجم ؛ فإن العجم أيضا يسمّون ثلاثين يوما باسم الهلال فى لغتهم.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صوموا الشّهر وسرّه» ، أى صوموا مستهلّ الشّهر. وسرّه أى آخره ، وقيل : سرّه أى وسطه يعنى أيّام (٢) البيض.

والمشاهرة : المعاملة ، بالشّهر. وأشهر بالمكان : أقام به شهرا. والشهر : العالم ، والجمع : شهور. أنشد بعض الفضلاء :

شهر الصّيام كساحة الحمّام

فيه ظهور صوامع الأيّام

فاظهر به واحذر عثارك إنّما

شرّ المصارع مصرع الحمّام

__________________

(١) تراه يقول بدوران الشمس ، كما ثبت فى العلم الحديث. وهو أحد رأيين للعلماء فى القديم.

(٢) أى أيام الليالى البيض. وهى الثالث عشر ، والرابع عشر ، والخامس عشر.

٣٥٧

ورجل مشهور وشهير : نبيه. (والشهرة : الفضيحة. والشهرة : وضوح الأمر (١)).

والشهيق : طول الزّفير ، وهو ردّ النّفس. والزفير : مدّه. وأصله من جبل شاهق ، أى متناهى الطّول.

والشّهوة : نزوع النّفس إلى ما تريده. وذلك فى الدّنيا ضربان صادقة ، وكاذبة. فالصّادقة : ما يختلّ البدن من دونه ؛ كشهوة الطعام عند الجوع. والكاذبة : ما لا يختلّ من دونه. وقد يسمّى المشتهى شهوة. وقد يقال للقوّة التى بها يشتهى الشىء شهوة.

وقوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ)(٢) يحتمل الشهوتين. وقوله : (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ)(٣) هذا من الشهوات الكاذبة ، ومن المشتهيات المستغنى عنها.

[وقيل](٤) : طعام شهىّ ، ورجل شهوان وشهوانىّ.

__________________

(١) ما بين القوسين ورد فى الأصلين مؤخرا عن الكلام على الشهيق.

(٢) الآية ١٤ سورة آل عمران.

(٣) الآية ٥٩ سورة مريم.

(٤) زيادة من الراغب.

٣٥٨

٢٧ ـ بصيرة فى شوب وشيب وشيخ وشيد وشور

الشوب : العسل. والشوب : القطعة من العجين. ويقال : هو الفرزدقة ، وهى الخبزة الغليظة. والشوب : الخلط ، وقد شبت الشىء. أشوبه ، فهو مشوب. وقول السّليك بن السّلكة :

سيكفيك صرب القوم لحم معرّض

وماء قدور فى القصاع مشيب (١)

إنّما بناه على شيب الّذى لم يسمّ فاعله ، أى مخلوط بالتوابل والصّباغ. (٢) وما عنده شوب ولا روب ، أى لا عسل ولا لبن.

والشّيب والمشيب واحد. وقال الأصمعىّ : الشّيب : بياض الشعر. والمشيب : دخول الرّجل فى حدّ الشيب من الرّجال. قال ابن السّكّيت فى قول الشاعر (٣) :

* والرّأس قد شابه المشيب*

يعنى بيّضه المشيب ، وليس معناه خالطه. وأنشد العرجىّ :

__________________

(١) الصرب : اللبن الحامض. والمعرض : الذى لم ينضج بعد وهو الملهوج ، كما فى التاج فى المادة.

(٢) الصباغ : الادام المائع كالخل ونحوه.

(٣) وهو عبيد بن الأبرص ، كما فى اللسان. وصدر البيت فيه :

* تصبو وأنى لك التصابى*

٣٥٩

قد رابه ولمثل ذلك رابه

وقع المشيب على السواد فشابه

أى بيّض مسودّه.

وقوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً)(١) نصب على التمييز. وقال الأخفش : على المصدر ؛ لأنّه حين قال : اشتعل كأنه قال : شاب ، فقال : شيبا. والأشيب : المبيضّ الرّأس. وقد شاب رأسه شيبا ، وشيبة ، فهو أشيب على غير قياس ؛ لأنّ هذا النّعت إنّما يكون من باب فعل يفعل.

والشّيخ يقال لمن قد طعن فى السّنّ. وقد يعبّر به فيما بيننا عمّن تكثّر علمه ؛ لما كان من شأن الشيخ أن تكثر تجاربه ومعارفه. يقال : شيخ بيّن الشّيخوخة. والشيخون : الشيخ

وقوله تعالى : (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ)(٢) أى مبنىّ بالشّيد. وقيل : معلّى مطوّل. وشيّد قواعده : أحكمها.

والشوار ـ مثلثة الشين ـ : متاع البيت ، ومتاع رحل البعير. وبالفتح والكسر : فرج الرّجل والمرأة. يقال : أبدى الله شواره وشواره ، أى عورته

والشّور ، والشّوار ، والشّارة ، والشّور بالضمّ ، والشّيار بالكسر : الهيئة واللباس ، يقال : ما أحسن شواره وشارته ، وشورته وشياره.

__________________

(١) الآية ٤ سورة مريم.

(٢) الآية ٤٥ سورة الحج.

٣٦٠