بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٣

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي

بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - ج ٣

المؤلف:

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي


المحقق: محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٦

الثّانى : بمعنى الحيّات : (كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ)(١) أى الحيّات.

الثالث : بمعنى دعاة الضّلال : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ)(٢).

الرّابع : بمعنى إبليس وأولاده : (أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ)(٣)(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ)(٤) ، (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا)(٥) ، (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ)(٦). وله نظائر.

__________________

(١) الآية ٦٥ سورة الصافات.

(٢) الآية ١١٢ سورة الأنعام.

(٣) الآية ٩٧ سورة المؤمنين.

(٤) الآية ٢٦٨ سورة البقرة.

(٥) الآية ٢٠١ سورة الأعراف.

(٦) الآية ٩٨ سورة النحل.

٣٢١

١٣ ـ بصيرة فى شطا وشعب

شاطئ الوادى : جانبه. وشطء فروع الزرع : هو ما خرج منه وتفرّع فى شاطئه ، أى جانبه ، وجمعه : أشطاء. وقوله تعالى : (أَخْرَجَ شَطْأَهُ)(١) أى فراخه.

والشّعب من الوادى : ما اجتمع منه طرف وتفرّق (٢) طرف. فإذا نظرت إليه من الجانب الّذى يتفرّق أخذت فى وهمك واحدا ، وإذا نظرت إليه من جانب الاجتماع أخذت فى وهمك اثنين اجتمعا ، فلذلك قيل : شعبت الشىء : إذا جمعته ، وشعبته : إذا فرّقته ، فهو من الأضداد.

وشعيب : تصغير شعب ، الّذى هو مصدر أو الّذى هو اسم ، أو تصغير شعب (٣).

والشعيب : المزادة الخلق الّتى قد أصلحت وجمعت.

وقوله تعالى : (إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ)(٤).

__________________

(١) الآية ٢٩ سورة الفتح.

(٢) ب : «يقال».

(٣) كذا فى ب. وفى أ : «شعيب» وفى التاج عن الصاغانى أن الوجه الاخسر أن يكون تصغير أشعب تصغير ترخيم ، وقد يكون ما هنا محرفا عنه.

(٤) الآية ٣٠ سورة المرسلات. هذا ولم يأت فى الكتاب خبر عن (قوله تعالى ..). وفى الراغب بعد الآية : «يختص بما بعد هذا الكتاب». يريد الراغب ان السر فى هذا التعبير يتكفل به كتاب يزمع أن ينشئه بعد (المفردات) فى أسرار القرآن.

٣٢٢

١٤ ـ بصيرة فى الشعر

الشّعر : الكلام الموزون المنظوم المقصود ، وجمعه : أشعار. وهو فى الأصل العلم ، لكن غلب على منظوم القول ، لشرفه بالوزن والقافية ؛ كما غلب الفقه على علم الشرع ، والعود على المندل ، والنجم على الثّريّا ، وغير ذلك من نمطه. وربّما سمّوا البيت الواحد شعرا ، قاله الأخفش. وليس بقوىّ ، إلّا أن يكون على تسمية الجزء باسم الكلّ ، كقولك : الماء للجزء من الماء ، والأرض للقطعة من الأرض. / والشاعر جمعه الشّعراء على غير قياس. وسمّى شاعرا لفطنته. وما كان شاعرا ولقد شعر ـ بالضّمّ ـ فهو يشعر شعارة.

قال يونس بن حبيب : يقال للشاعر المفلق : خنذيذ ، ولمن دونه : شاعر ، ولمن دونه : شويعر ، ولمن دونه شعرور.

وشعرت بالشىء ـ بالفتح ـ أشعر به ـ بالضمّ ـ شعرا وشعرة وشعرى ، بكسرهنّ ، وشعرة ـ بالفتح ـ وشعورا ومشعورا ومشعورة : علمت به وفطنت له ، ومنه قولهم : ليت شعرى فلانا ما صنع ، ولفلان ، وعن فلان.

وقوله تعالى عن الكفار : (بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ)(١) حمله (٢) كثير من المفسّرين على أنّهم رموه بكونه آتيا بشعر منظوم مقفّى ، حتى تأوّلوا ما جاء فى القرآن من كلّ كلام يشبه الموزون من نحو : (وَجِفانٍ

__________________

(١) الآية ٥ سورة الأنبياء

(٢) فى الأصلين : «حمل»

٣٢٣

كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ)(١). وقال بعض المحصّلين : لم يقصدوا هذا المقصد فيما رموه به ؛ وذلك أنّه ظاهر من هذا أنّه ليس على أساليب الشعر ، ولا يخفى ذلك على الأغتام من العجم ، فضلا عن بلغاء العرب. وإنّما رموه [بالكذب](٢) فإن الشعر يعبّر به عن الكذب ، والشّاعر : الكاذب ، حتى سمّوا الأدلّة الكاذبة الأدلة الشعريّة ، ولهذا قال تعالى فى وصف عامّة الشعراء : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ)(٣) إلى آخر السورة. ولكون الشعر مقرّا للكذب قيل : أحسن الشعر أكذبه. وقال بعض الحكماء : لم ير متديّن صادق اللهجة مفلقا فى شعره. قال.

أرى الشعر يحيى الجود والنّاس والذى

يبقّيه أرواح له عطرات

وما المجد لو لا الشعر إلّا معاهد

وما النّاس إلّا أعظم نخرات

والمشاعر : الحواسّ. وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)(٤) ونحو ذلك معناه : لا تدركونه بالحواسّ. ولو قال فى كثير ممّا جاء فيه (لا يَشْعُرُونَ لا يَعْقِلُونَ) لم يكن يجوز ، إذ كان كثير ممّا لا يكون محسوسا قد يكون معقولا.

ومشاعر الحج : معالمه الظّاهرة للحواسّ ، الواحد مشعر. ويقال : شعائر الحجّ ، والواحدة شعيرة وشعارة. قال الأزهرى : الشعائر.

__________________

(١) الآية ١٣ سورة سبأ.

(٢) زيادة من الراغب.

(٣) الآية ٢٢٤ سورة الشعراء.

(٤) الآية ٥٥ سورة الزمر ، والآية ٢ سورة الحجرات.

٣٢٤

المعالم التى ندب الله إليها ، وأمر بالقيام بها. وقوله تعالى : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ)(١) ، أى ما يهدى إلى بيت الله. وسمّى بذلك لأنّها تشعر أى تعلّم بأن تدمى بشعيرة ، أى حديدة يشعر بها.

والشّعار : الثّوب الذى يلى الجسد ؛ لمماسّة الشّعر. والشّعار أيضا : ما يشعر به الإنسان نفسه فى الحرب ، أى يعلم. وأشعره الحبّ نحو ألبسه.

والأشعر : الطويل الشعر. وداهية شعراء عظيمة ؛ كقولك : داهية وبراء

والشّعرى : نجم يطلع بعد الجوزاء ، وطلوعه فى شدّة الحرّ. وهما شعريان : الشعرى العبور التى فى الجوزاء ، والشعرى الغميصاء الّتى فى الذراع. تزعم العرب أنّهما أختا سهيل. وتخصيصه فى قوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى)(٢) لكونها معبودة لقوم منهم.

__________________

(١) الآية ٢ سورة المائدة.

(٢) الآية ٤٩ سورة النجم

٣٢٥

١٥ ـ بصيرة فى شعف وشعل وشغف

شعفة القلب : رأسه عند معلّق النّياط ، ولذلك يقال : شعفنى حبّ فلان ، وشعفت به وبحبّه ، أى غشى الحبّ القلب من فوقه. وقرأ الحسن البصرىّ وقتادة وأبو رجاء والشّعبىّ وسعيد بن جبير وثابت البنانىّ ومجاهد والزّهرىّ والأعرج وابن كثير وابن محيصن وعوف بن أبى جميلة ومحمد ابن اليمانى (١) وزيد بن قطيب : قد شعفها حبا (٢) ، قال أبو زيد : أى أمرضها وأداءها. وقرأ ثابت البنانىّ أيضا : (قد شعفها) بكسر العين ، أى علقها حبّا وعشقها.

والشعفة ـ بالتّحريك ـ أيضا : رأس الجبل ، وجمعه : شعف وشعوف وشعاف. وفى الحديث الصّحيح «خير النّاس رجل ممسك بعنان فرسه فى سبيل الله كلّما سمع هيعة (٣) طار إليها ، أو رجل فى شعفة فى غنيمة له حتى يأتيه الموت (٤)»

والشّعل : التهاب النّار. يقال : شعلة من نار ، وقد أشعلها. وأجاز

__________________

(١) سقط فى أ.

(٢) الآية ٣٠ سورة يوسف وقراءة الجمهور : شغفها بالغين المعجمة.

(٣) الهيعة : الصيحة تفزع منها وتخافها من عدو.

(٤) من حديث رواه مسلم ببعض اختلاف ، كما فى رياض الصالحين فى «باب استحباب العزلة عند فساد الناس ..»

٣٢٦

أبو زيد شعلتها. والشعيلة : الفتيلة إذا كانت مشتعلة. وقيل : بياض يشتعل.

وقوله : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ)(١) تشبيها بالاشتعال من حيث اللّون. واشتعل فلان غضبا تشبيها به من حيث الحركة. ومنه أشعلت (٢) الخيل فى الغارة ؛ نحو أو قدتها وهيّجتها وأضرمتها.

الشّغاف : غلاف القلب. وشغفه : أصاب شغافه ؛ ككبده : أصاب كبده. وقال اللّيث : الشّغاف : مولج البلغم. وقوله تعالى : (قَدْ شَغَفَها حُبًّا)(٣) أى أصاب حبّه شغافها. وقيل : الشّغاف : سويداء القلب. وقرأ أبو الأشهب : (شغِفها حبّا) بكسر الغين كقراءة ثابت البنانىّ (شعِفها) بكسر المهملة. وشغف القلب وشغفه مثل شغافه.

__________________

(١) الآية ٤ سورة مريم.

(٢) فى الأصلين اشتعلت وما أثبت من الراغب.

(٣) الآية ٣٠ سورة يوسف.

٣٢٧

١٦ ـ بصيرة فى شغل وشفع

الشغل ، والشّغل ، والشغل ، والشّغل ، أربع لغات ، والجمع : أشغال. وقد شغلت فلانا فأنا شاغل. ولا يقال : أشغلته ؛ فإنّها لغة رديئة. وشغل شاغل توكيد كليل لائل. وشغلت عنه بكذا واشتغلت. والمشغلة : ما يشغلك.

والشفع : ضمّ الشىء إلى مثله. ويقال للمشفوع : شفع. وقوله تعالى : (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ)(١) قيل : الشفع : المخلوقات ، من حيث إنّها مركّبات ؛ كما قال تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ)(٢) ، والوتر : هو الله ، من حيث ما له الوحدة من كلّ وجه. وقيل : الشّفع : يوم النحر ، من حيث إنّ له نظيرا ثلاثة (٣) ، والوتر يوم عرفة. وقيل : الشفع : ولد آدم عليه‌السلام ، والوتر : آدم ؛ لأنّه لا عن والد.

والشفاعة : الانضمام إلى آخر ناصرا له ومسائلا عنه. وأكثر ما يستعمل فى انضمام من هو أعلى مرتبة إلى من هو أدنى. ومنه الشّفاعة فى القيامة ، قال تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ)(٤) أى لا تشفع لهم. وقوله :

__________________

(١) الآية ٣ سورة الفجر.

(٢) الآية ٤٩ سورة الذاريات.

(٣) كأنه يريد أيام التشريق ، وفى الراغب : «يليه».

(٤) الآية ٤٨ سورة المدثر.

٣٢٨

(مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها)(١) الآية ، أى من انضمّ إلى غيره وعاونه وصار شفعا له أو شفيعا فى فعل الخير أو الشرّ وقوّاه ، شاركه فى نفعه وضرّه. وقيل الشفاعة ، هاهنا : أن يشرع الإنسان لآخر طريق خير أو طريق شرّ ، فيقتدى به ، فصار كأنّه شفع له ، وذلك كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها (٢)» الحديث.

وقوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ)(٣) ، أى يدبّر الأمر وحده لا ثانى له فى فصل الأمر ، إلّا أن يأذن للمدبّرات والمقسّمات من الملائكة فيفعلون ما يفعلونه بعد إذنه.

واستشفعت بفلان على فلان فتشفّع لى إليه. وشفّعه : أجاب شفاعته. ومنه الحديث : «القرآن شافع مشفّع (٤)». وإن فلانا ليستشفع [به]. (٥) قال :

مضى زمن والناس يستشفعون بى

فهل لى إلى ليلى الغداة شفيع

/ وامرأة مشفوعة. وأصابتها شفعة : عين.

والشّفعة : طلب مبيع فى شركته بما بيع به (٦) ، فيضمّه إلى ملكه. فهو من الشّفع.

__________________

(١) الآية ٨٥ سورة النساء.

(٢) من حديث رواه مسلم ، كما فى رياض الصالحين فى «باب من سن سنة حسنة أو سيئة».

(٣) الآية ٣ سورة يونس.

(٤) رواه ابن حبان فى صحيحه. كما فى الترغيب والترهيب فى «كتاب قراءة القرآن».

(٥) زيادة من الأساس.

(٦) فى الأصلين «منه» وما أتيت من الراغب.

٣٢٩

١٧ ـ بصيرة فى الشفا والشفق والشق

شفا البئر والنّهر : طرفه (١). ويضرب به المثل فى القرب من الهلاك. وأشفى فلان على الهلاك ، أى حصل على شفاه ، قال تعالى : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها)(٢). ومنه استعير : ما بقى من كذا إلا شفا ، أى قليل كشفا البئر ، وهما شفوان ، والجمع : أشفاء.

والشفاء من المرض : موافاة شفا السّلامة. وصار اسما للبرء ، قال تعالى : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)(٣). وأشفاه : وهب له ما يشفيه. ومواعظه لقلوب الأولياء أشاف ، وفى أكباد الأعداء أشاف ، الأولى جمع [جمع] الشفاء (٤) ، والثّانى جمع الإشفى (٥).

والشّق : الخرم الواقع فى شىء ، يقال : شقّه نصفين. قوله تعالى : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)(٦) كان انشقاقه فى زمن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : انشقاق يعرض فيه حين تقرب القيامة. وقيل ، معناه : وضح الأمر.

والشقّة : القطعة المنشقّة كالنصف.

والشقّ ـ بالكسر ـ المشقّة والانكسار الذى يلحق النّفس والبدن.

__________________

(١) فى الراغب : «حرفه».

(٢) الآية ١٠٣ سورة آل عمران.

(٣) الآية ٨٠ سورة الشعراء.

(٤) زيادة من الأساس يريد أن الشفاء جمع على أشفية ككساء وأكسية وجمع الأشفية على الأشافى.

(٥) الاشفى : المثقب.

(٦) الآية ١ سورة القمر.

٣٣٠

وذلك كاستعارة الانكسار لها. قال تعالى : (لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ)(١).

والشّقة : الناحية التى تلحقك (٢) المشقّة فى الوصول إليها ، قال تعالى : (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ)(٣). والشّقاق : المخالفة ، وكونك فى شقّ غير شقّ صاحبك ، أو من شقّ العصا بينك وبينه.

وقوله : (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ)(٤) ، أى [صار (٥)] فى شقّ غير شقّ أوليائه. وفلان شقّ نفسى ، وشقيق نفسى ، أى كأنّه شقّ منّى لمشابهة بعضنا بعضا.

والشقّة : نصف الثوب ، وإن كان قد يسمّى الثّوب شقّة كما هو. والشّقيقة لناب البعير لما فيها من الشقّ.

الشفق : اختلاط ضوء النّهار بسواد اللّيل عند الغروب.

والإشفاق : عناية مختلطة بخوف ؛ لأنّ المشفق يحبّ المشفق عليه ويخاف ما يلحقه. فإذا عدّى بمن فمعنى الخوف فيه أظهر ، وإذا عدّى بعلى فمعنى العناية فيه أظهر.

__________________

(١) الآية ٧ سورة النحل.

(٢) فى الاصلين «تلحق» وما أثبت عن الراغب.

(٣) الآية ٤٢ سورة التوبة.

(٤) الآية ١٣ سورة الأنفال.

(٥) زيادة من الراغب.

٣٣١

١٨ ـ بصيرة فى شقو وشك

الشّقاوة معروف (١) ، وقد شقى يشقى شقوة ـ بالكسر ـ وشقاوة وشقاء. فالشقوة كالرّدّة. والشقاوة كالسّعادة من حيث الإضافة ، وكما أنّ السّعادة فى الأصل ضربان : سعادة أخرويّة ، وسعادة دنيويّة ، ثم السعادة الدّنيويّة ثلاثة أضرب : نفسيّة ، وبدنيّة ، وخارجية ، كذلك الشقاوة على هذه الأضرب. وفى الشّقاوة الأخرويّة قال تعالى : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى)(٢). وفى الدنيويّة قال : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى)(٣). وقيل : قد وضع (٤) الشقاء موضع التعب ، نحو شقيت فى كذا ، وكلّ شقاوة تعب ، وليس كلّ تعب شقاوة.

والشّكّ : اختلاف (٥) النقيضين عند الإنسان وتساويهما. وذلك قد يكون لوجود أمارتين متساويتين عنده فى النّقيضين ، أو لعدم الأمارة فيهما. والشكّ ربّما كان فى الشىء هل هو موجود أو غير موجود ، وربّما كان فى جنسه ، أى من أىّ جنس هو ، وربّما كان فى بعض صفاته ، وربّما كان فى الغرض الذى لأجله أوجد. والشكّ ضرب من الجهل. وهو أخصّ

__________________

(١) ب : «م» وهو رمز لمعروف.

(٢) الآية ١٢٣ سورة طه.

(٣) الآية ١١٧ سورة طه.

(٤) كذا فى ب. وفى أ : «يوضع».

(٥) فى الراغب : «اعتدال» وهو أولى.

٣٣٢

منه ؛ لأنّ الجهل قد يكون عدم العلم بالنّقيضين رأسا. وكل شكّ جهل ، وليس كلّ جهل شكّا.

وأصله إمّا من شككت الشىء : خزقته (١). قال (٢) :

وشككت بالرّمح الأصمّ لهاته

ليس الكريم على القنا بمحرّم

وكأنّ الشكّ الخزق فى الشىء ، وكونه بحيث لا يجد الرّأى مستقرّا يثبت فيه ، ويعتمد عليه. ويجوز أن يكون مستعارا من الشكّ وهو لصوق العضد بالجنب ، وذلك أن يتلاصق النقيضان فلا مدخل للفهم والرّأى ليتخلّل ما بينهما ، ويشهد لهذا قولهم : التبس الأمر ، واختلط ، وأشكل ، ونحو ذلك من الاستعارات.

__________________

(١) فى الأصول : «خرقته» وما أثبت عن التاج فى نقله عبارة الراغب ، والخزق : الطعن.

(٢) أى عنترة فى معلقته. والمعروف فى الرواية «ثيابه» فى مكان «لهاته». واللهاة : اللحمة المشرفة على الحلق.

٣٣٣

١٩ ـ بصيرة فى الشكر

وهو تصوّر النعمة وإظهارها. وقيل : هو الثناء على المحسن بما أولى من المعروف ، يقال : شكرته ، وشكرت له. وتعديته باللّام أفصح ، قال الله تعالى : (وَاشْكُرُوا لِي)(١) ، وقال جلّ ذكره : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ)(٢).

وقوله تعالى : (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً)(٣) يحتمل أن يكون مصدرا مثل قعد قعودا ، ويحتمل أن يكون جمعا ، مثل برد وبرود ، وكفر وكفور (٤).

والشّكران : خلاف الكفران. والشكور : الشّاكر. والشّكور من الدّواب : الّذى يجتزئ بالعلف القليل ويسمن عليه. قال الأعشى :

ولا بدّ من غزوة فى الربيع

رهب تكلّ الوقاح الشكورا (٥)

وقيل : الشكر مقلوب الكشر أى الكشف. وقيل : أصله من عين شكرى : ممتلئة. والشكر على هذا : الامتلاء من ذكر المنعم.

والشكر على ثلاثة أضرب : شكر بالقلب ؛ وهو تصوّر النّعمة. وشكر باللسان ؛ وهو الثناء على المنعم. وشكر بسائر الجوارح ؛ وهو مكافأة النعمة بقدر استحقاقه.

__________________

(١) الآية ١٥٢ سورة البقرة.

(٢) الآية ١٤ سورة لقمان.

(٣) الآية ٩ سورة الانسان.

(٤) المعروف فى الكفور أنه مصدر مفرد.

(٥) الصبح المنير : ٧٢ ق / ١٢ ، ب / ٥١) ، والرواية فيه : فى المصيف ـ رهب مذللة ، وهى فى الديوان : حت أى سريعة.

٣٣٤

وقوله تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً)(١) انتصابه على التمييز (٢) ومعناه : اعملوا ما تعملونه شكرا لله. وقيل : (شُكْراً) مفعول لقوله : (اعْمَلُوا). ولم يقل : اشكروا لينبّه على التزام الأنواع الثلاثة من الشكر بالقلب واللسان وسائر الجوارح. وقوله تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)(٣) فيه تنبيه أنّ توفية شكر الله صعب. ولذلك لم يثن بالشكر من (٤) أوليائه إلّا على اثنين ، قال فى وصف إبراهيم عليه‌السلام : (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ)(٥) ، وقال فى نوح عليه‌السلام : (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً)(٦).

وإذا وصف الله بالشكر فى قوله : (وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ)(٧) فإنما يعنى به إنعامه على عباده ، وجزاؤه بما أقامه من العبادة.

واعلم أنّ الشكر أعلى منازل السّالكين ، وفوق منزلة الرّضا ، فإنّه يتضمّن الرّضا وزيادة ، والرّضا مندرج فى الشكر ؛ إذ يستحيل وجود الشكر بدونه. وهو نصف (٨) الإيمان. وقد أمر الله به ، ونهى عن ضدّه ، وأثنى على أهله ، ووصف [به] خواصّ خلقه ، وجعله غاية خلقه وأمره ، ووعد أهله

__________________

(١) الآية ١٣ سورة سبأ.

(٢) هذا الوجه غير ظاهر فى الآية ، ولم أقف عليه لغيره ، وقد تبع فيه الراغب والذى ذكروه أنه مفعول لأجله ، أو مفعول به ، وقد ذكره المؤلف ، أو مفعول مطلق ، أو وصف لمصدر محذوف أى عملا شكرا على التأويل بالوصف ، أو حال أى شاكرين.

(٣) الآية ١٣ سورة سبأ.

(٤) كذا. والأولى : «على أحد من أوليائه».

(٥) الآية ١٢١ سورة النحل.

(٦) الآية ٣ سورة الاسراء.

(٧) الآية ١٧ سورة التغابن.

(٨) والنصف الآخر الصبر.

٣٣٥

بأحسن جزائه ، وجعله سببا للمزيد من فضله ، وحارسا وحافظا لنعمته. وأخبر أنّ أهله هم المنتفعون بآياته (١) ، واشتقّ لهم اسما من أسمائه. فإنّه سبحانه هو الشّكور ، وهو موصّل الشّاكر إلى مشكوره ، بل يعيد الشّاكر مشكورا. وهو غاية رضا الربّ عن (٢) عبده ، وأهله هم القليل من عباده ، قال تعالى : (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)(٣) ، وقال : (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ)(٤). وقال عن خليله إبراهيم : (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ)(٥) ؛ وعن نبيّه نوح : (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً). وقال : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٦) وقال : (أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ)(٧) ، وقال : (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ)(٨) وقال : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ)(٩) ، وقال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)(١٠).

وسمّى نفسه شاكرا ، وشكورا. وحسبك بهذا محبّة للشاكرين وفضلا.

__________________

(١) كذا فى ب. وقد يكون : «بآلائه» أى بنعم الشكر

(٢) فى الاصلين : «من» ، والمناسب ما أثبت

(٣) الآية ١٧٢ سورة البقرة.

(٤) الآية ١٥٢ سورة البقرة.

(٥) الآية ١٢١ سورة النحل.

(٦) الآية ٧٨ سورة النحل.

(٧) الآيتان ١٥١ ، ١٥٢ سورة البقرة.

(٨) الآية ١٤٤ سورة آل عمران.

(٩) الآية ٧ سورة ابراهيم.

(١٠) الآية ٥ سورة ابراهيم.

٣٣٦

وأعاد به الشكر مشكورا ؛ كقوله : (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً)(١). ورضى الرّبّ عن عبده كقوله : (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)(٢). وقلّة أهله فى العالمين على أنّهم من خواصّه.

وفى الصّحيح عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنّه قام حتى تورّمت قدماه. فقيل له : تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك [وما تأخّر]؟ قال : أفلا أكون عبدا شكورا (٣)»!. وقال لمعاذ : «يا معاذ إنّى أحبك. فلا تنس أن تقول فى دبر كلّ صلاة : اللهمّ أعنّى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك (٤)». وفى الترمذى من بعض دعائه المشهور : «ربّ اجعلنى لك شكّارا ، لك ذكّارا ، لك رهّابا لك مطواعا ، لك مخبتا ، إليك أوّاها منيبا (٥)».

والشكر مبنىّ على خمس قواعد : خضوع الشاكر للمشكور ، وحبّه له ، واعترافه بنعمته ، والثناء عليه بها ، وألا يستعملها فيما يكره. هذه الخمسة هى أساس الشكر ، وبناؤه عليها. فمتى عدم منها واحدة اختلّت قاعدة من قواعد الشكر. وكلّ من تكلم فى الشكر فكلامه إليها يرجع ، وعليها يدور.

__________________

(١) الآية ٢٢ سورة الانسان.

(٢) الآية ٧ سورة الزمر.

(٣) ورد فى البخارى وغيره من عائشة رضى الله عنها. كما فى رياض الصالحين فى باب المجاهدة.

(٤) رواه أبو داود باسناد صحيح ، كما فى رياض الصالحين فى كتاب فضل الذكر والحث عليه.

(٥) باب الدعوات رقم ١٠٢. وورد أيضا فى مسند أحمد عن ابن عباس كما فى الفتح الكبير.

٣٣٧

فقيل حدّه : أنّه الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع. وقيل : الثناء على المحسن بذكر إحسانه. وقيل : هو عكوف القلب على محبّة المنعم ، والجوارح على طاعته ، وجريان اللسان بذكره ، والثناء عليه. وقيل : هو مشاهدة المنّة ، وحفظ الحرمة.

وما ألطف ما قال حمدون القصّار : شكر النعمة : أن ترى نفسك طفيليّا. وقال أبو عثمان : الشكر : معرفة العجز عن الشكر. وقيل : الشكر إضافة النّعم إلى موليها. وقال الجنيد : الشكر : ألّا ترى نفسك أهلا للنعمة. وهذا معنى قول حمدون : أن ترى نفسك فيها طفيليّا. وقال رويم : الشكر : استفراغ الطّاقة ، يعنى فى الخدمة. وقال الشّبلىّ : الشكر : رؤية المنعم لا رؤية النعمة. ويحتمل كلامه أمرين : أحدهما أن يفنى برؤية المنعم عن رؤية النعمة ، الثّانى ألّا تحجبه رؤية النعمة ومشاهدتها عن رؤية المنعم بها ، وهذا أكمل ، والأوّل أقوى عندهم. والكمال أن يشهد النعمة والمنعم ، لأنّ شكره بحسب شهوده للنعمة ، وكلّما كان أتمّ كان الشّكر أكمل ، والله يحبّ من عبده أن يشهد نعمه ، ويعترف بها ، ويثنى عليه بها ، ويحبّه عليها ، لا أن يفنى عنها ، ويغيب عن شهودها. وقيل : الشكر قيد النّعم الموجودة ، وصيد النّعم المفقودة. وشكر العامّة على المطعم والملبس وقوة الأبدان ، وشكر الخاصّة على التّوحيد والإيمان وقوّة القلوب.

وقال داود عليه‌السلام : يا ربّ كيف أشكرك وشكرى نعمة علىّ من عندك تستوجب بها شكرا؟. فقال : الآن شكرتنى يا داود.

٣٣٨

وفى أثر إسرائيلىّ ، قال موسى : يا ربّ خلقت آدم بيدك ، ونفخت فيه من روحك ، وأسجدت له ملائكتك ، وعلّمته أسماء كلّ شىء ، وفعلت وفعلت ، فكيف أطاق شكرك؟ فقال الله عزوجل : علم أنّ ذلك منى ، فكانت معرفته بذلك شكرا لى.

وقيل : التلذّذ بثنائه على ما لم يستوجب من عطائه.

وقال الجنيد ـ وقد سأله سرّى عن الشكر ، وهو صبىّ بعد ـ : الشكر ألّا يستعان بشيء من نعم الله على معاصيه. قال من أين لك هذا؟ قال : من مجالستك.

وقيل : من قصرت يداه (١) عن المكافأة فليطل لسانه بالشكر.

والشكر مع المزيد أبدا ؛ لقوله تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)(٢). فمتى لم تر حالك فى مزيد فاستقبل الشكر. وفى أثر إلهىّ ، يقول الله : أهل ذكرى أهل مجالستى ، وأهل شكرى أهل زيادتى ، وأهل طاعتى أهل كرامتى ، وأهل معصيتى لا أقنّطهم من رحمتى ، إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم عن المعايب.

وقيل : من كتم النعمة فقد كفرها ، ومن أظهرها ونشرها فقد شكرها. قال (٣) :

__________________

(١) فى الرسالة القشيرية فى مبحث الشكر : «يده».

(٢) الآية ٧ سورة ابراهيم.

(٣) أى أبو تمام فى مجموعة المعانى ٩٥.

٣٣٩

ومن الرزيّة أنّ شكرى صامت

عمّا فعلت وأنّ برّك ناطق.

أأرى الصنيعة منك ثم أسرّها

إنّى إذا لندى (١) الكريم لسارق

وتكلم النّاس فى الفرق بين الحمد والشكر [و] أيّهما أفضل. وفى الحديث : «الحمد رأس الشكر ، فمن لم يحمد الله لم يشكره». والفرق بينهما أنّ الشكر أعمّ من جهة أنواعه وأسبابه ، وأخصّ من جهة متعلّقاته فيه. والحمد أعمّ من جهة المتعلّقات ، وأخصّ من جهة الأسباب. ومعنى هذا أنّ الشكر يكون بالقلب خضوعا واستكانة ، وباللسان ثناء واعترافا ، وبالجوارح طاعة وانقيادا ؛ ومتعلّقه النعم (٢) دون الأوصاف الذاتيّة ، فلا يقال : شكرنا الله على حياته وسمعه وبصره وعلمه ، وهو المحمود بها ، كما هو محمود على إحسانه وعدله. والشكر يكون على الإحسان والنّعم. فكلّ ما يتعلّق به الشكر يتعلّق به الحمد من غير عكس. وكل ما يقع به الحمد يقع به الشكر من غير عكس ، فإنّ الشكر يقع بالجوارح ، والحمد باللسان.

__________________

(١) فى الرسالة : «ليد».

(٢) فى الاصل : «المنعم» والمناسب ما أثبت.

٣٤٠